الجزء الأول - كتاب اليتيمة في النسب - أخبار أبي مهدية الأعرابي

أخبار أبي مهدية الأعرابي

أبو عثمان المازني قال‏:‏ قال أبو مَهْدئة‏:‏ بلغنيِ أن الأعراب والأعزاب هجاؤها واحد قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فاقرأ الأعزاب أشدّ كُفْراً ونفاقاً ولا تقرأ‏:‏ الأعراب ولا يَغُرُّك العَزَب وإن صام وصلَّى‏.‏

وتُوفّي بُني لأبي مهدية صغير فقيل له‏:‏ أبشر أبا مَهدية فإنا نرجو أن يكون شَفِيع صِدْق يومَ القيامة قال‏:‏ لا وَكلنا اللّه إلى شَفاعته إذاً واللّه يَكون أعيانا لساناً وأضعَفَنا حُجة ليته المِسْكينَ كَفَانا نَفْسه‏.‏

وقيل لأبي مهديّة‏:‏ أكُنتم تتوضئون بالبادية قال‏:‏ نعم واللّه لقد كُنا نتوضّأ فتكفي التَوْضئة الرجل منّا الثلاثة الأيام والأربعة حتى دخلتْ علينا هذه الحمراء - يعني الموالي - فجعلت تُليق أستاهها كما تُلاق الدَّواة‏.‏

وقيل لأبي مَهديّة‏:‏ أتقرأ من كتاب اللهّ تعالى شيئاً قال‏:‏ نعمِ ثم افتتح يقرأ‏:‏ ‏"‏ والضُّحَى واللَيْل إذا سَجَى ‏"‏ حتى انتهى إلى ‏"‏ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهَدَى ‏"‏ فالتفت إلى صاحب له فقال‏:‏ إنَ هؤلاء العُلوج يقولون‏:‏ وَوَجدك ضَالاً فهدى واللّه لا أقولها أبداً‏.‏

ولما أسَن أبو مهديّة وَلي جانباً من اليمامة وكان به قَوْمٌ من اليهود أهلُ عَطاء وجِدَة فأرسل إليهم فقال‏:‏ مَا عندكم في المَسِيح قالوا‏:‏ قَتلناه وصَلَبْناه قال‏:‏ فهل غَرِمْتُم دِيَته قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ إذاً واللهّ لا تَبْرحوا حتى تَغْرموا دِيتَه فأرْضوه حتى كَف عنهم‏.‏

وقيل لأبي مهدية ما أصْبَرَكم معشرَ العرب على البَدْو قال‏:‏ كيف لا يَصْبر على البدو مَن طعامُه الشمس وشرابه الرٌيح‏.‏

ونظر أبو مَهْديّة إلى رجل يسْتَنجي ويُكثر من الماء فقال له‏:‏ إلى كم تَغْسلها ويحك‏!‏ أتريد أن تَشرَب فيها سَويقاً‏.‏

ومات طفل لأبي مهدية فقيل له‏:‏ اصبر يا أبا مهديّة فإنه فَرَط افترطته وخير قدَمته وذُخْر أحْرزته فقال‏:‏ بل وَلد دفنته وثُكل تُعجِّلته واللّه لئن لمِ أجْزع للنَّقص لا أفْرَح بالمَزيد‏.‏

قال أبو عُبيدة‏:‏ سمع أبو مَهْدِيَّة رجلاً يقول بالفارسيَّة‏:‏ ذود ذود فقال‏:‏ ما يقول هذا فقيل له‏:‏ يقول عَجِّل عَجِّل فقال‏:‏ أفلا يقول‏:‏ حَيّهَلاَ خبر أبي الزهراء المُعلى بن المُثَنَّى الشّيبانيّ قال‏:‏ حَدّثنا سُويد بن مَنْجوف قال‏:‏ أقبل أعرابيّ من بنى تميم حتى دخل الكوفة من ناحية جَيّانة السُّبيع تحته أتان له تَخُبّ وعليه ذلاذل وأطمار من سَحْق صُوف وقد اعتمّ بما يًشْبه ذلك من أشْوه الناس مَنْظراً وأقْبحهم شَكلاً وهو يَهْدر كما يَهْدر البعيرُ وهو يقوله‏:‏ ألا سَبَد ألا لَبَد ألا مُؤْوٍ ألا سَعْديّ ألا يَربوعي ألا دارمي هَيهات هَيهات وما يُغْنى أصْلُ حَوْض الماء صادياً مُعَنّى قال سُويد‏:‏ فَدَخل علينا في دَرْب الكُنَاسة فلم يجد مَنْفذاً وقد تَبعه صِبْيان كثيرون وسَواد من سَواد الحيّ فسمعتُ سوادياً يقول له‏:‏ يا عَماه يا إبليس متى أذن لك بالظِّهور فالتفت إليهم فقال‏:‏ منذ سَرَق آباؤكم وفَسَقت أمهاتكم‏.‏

قال‏:‏ وكانَ معنا أبو حمَاد الخيَّاط وكانَ من أطلب الناس لكلام الأعراب وأصبرهم على الإنفاق على أعرابي يدخل علينا وكان مع ذلك مَوْلى لبني تميمٍ فأتيتُه فأخبرته فخرج مبَادراً كأنّي قد أفدتُه فائدة عظيمة وقد نَزل الأعرابي عن الأتان واستند إلى بعض الحِيطان وأخذ قَوْسَه بيده فتارة يُشير بها إلى الصبيان وتارةً يَذُب بها الشَذا عن الأتان وهو يقول لأتانه‏:‏ قد كُنتِ بالأمْعَز في خِصْب خَصِبْ ما شِئْتِ من حَمْض وماء مُنْسَكِبْ فرَبُّكِ اليومَ ذليل قد نَصِب يَرَى وجوهاً حوله ما تُرْتَقب ولا عليها نُورُ إشراق الحَسَب كأنها الزَنج وعُبْدان العَرَب إلى عُجَيْل كان كالرَّغْل السرَّب ولو أمنْتُ اليومَ من هذا اللَجَبْ رَمَيْتُ أفواقاً قَوِيماتِ النصُب الريشُ أولاها وأخراها العَقَب قال‏:‏ فلم يزل أبو حمّاد يُلْطِفه ويتَلطَف به ويُبخله إلى أن أدخله منزله فمهَّد له وحطَه عن أتانه ودعا بالعَلَف فجعل الأعرابيّ يقول‏:‏ أين اللَيف والنَّئِيف والوِساد والنِّجاد‏.‏

يعني باللِّيف‏:‏ الحَصير وبالنَّئِيف‏:‏ عُشبَة عندهم يقال لها البُهْمَى‏.‏

وبالوِساد‏:‏ جِلْد عَنْز يُسْلخ ولا يُشَق ويُحْشى وَبراً وشَعراً ويُتّكأ عليه وبالنِّجَاد مِسْح شَعر يستظل تحته‏.‏

قال‏:‏ فلما نَزَع القَتب عن إن تُنْحَضي أو تَدْبَرِي أو تَزْحَرِي فذاك من دُؤوب ليل مُسْهِرِ أنا أبو الزهراء من آل السري مُشَمَّخ الأنْفِ كريم العُنْصُرِ إذا أتيت خُطَة لم أفسَرِ وكان يُسَمى الأعرابيّ صَلَتان بن عَوْسجة من بني سَعْد بن دارم ويُكْنَى بأبي الزَهرِاء‏.‏

وما رأيتُ أعرابياً أعجبَ منه كان أكثر كلامه شِعْراً وأمْثَلَ أعرابي سمعتُه كلاماً إلا أنه ربما جاء باللَفظة بعد الأخرى لا نَفهمها وكان من أضْجَر الناس وأسْوأهم خُلقاً وإذا نحن سألناه عن الشيء قال رُدوا عليّ القَوس والأتان يظُنّ أنا نَتلاعب به وكُنّا نجتمع معه في مجلس أبي حمّاد وما مِنا إلا من يأتيه بما يشتهيه فلا يُعْجبه ذلك حتى أتيناه يوماً بخِرْبِز وكانت أمامه فلما أبصرها تأمّلها طويلاً وجعل يقول‏.‏

بُدِّلْتً والدَهْرُ قديماً بَدّلَا من قَيْض بَيْض القفْر فَقْعاً حَنْظلا أخْبَثُ ما تُنْبت أرْضٌ مأكلا فكنا نقول له‏:‏ يا أبا الزًهراء إنه ليس بحَنْظَل ولكنه طعام هنيء مريء ونحن نَبْدؤك فيه إنْ شئتَ قال‏:‏ فخُذوا منه حتىِ أرى‏.‏

فبدأنا نأكل وهو يَنظر لا يَطْرف فلما رأى ذلك بَسَط يده فأخذ واحدةً فنزع أعلاها وقوَّر أسْفَلها فقُلنا لها‏:‏ ما تُريد أن تَصْنع يا أبا الزهراء فقال‏:‏ إن كان السم يا بنِ أخي ففيما تَرَوْن‏.‏

فلما طَعِمه استخفّه واستعذبه واستَحلاه فلم يكن يُؤْثِرُ عليه شيئاً وما كنا نأتيه بعدُ بغَيره وجَعل في خِلال ذلك يقول‏:‏ هذا طَعام طَيِّب يَلينُ في الجَوْف والحَلْق لهُ سُكُونُ الشَّهدُ والزّبد به مَعْجُونُ فلما كان إلى أيام قلتُ له‏:‏ يا أبا الزهراء هل لك في الحَمّام دال‏:‏ وما الحمام يا بن أخي قلنا له‏:‏ دارٌ فيها أبيات حارّ وفاتر وبارد تكون في أيها شئت تُذْهب عنك قَشَفَ السَّفَر ويَسْقط عنك هذا الشَّعر‏.‏

قال‏:‏ فلم نَزل به حتى أجابنا فأتينا به الحمَّام وأمرنا صاحب الحمّام أن لا يُدْخل علينا أحداً فَدَخل وهو خائف مترقّب لا يَنزع يده من يد أحدنا حتى صار في داخل الحمَّام فأمرنا مَن طَلاه بالنّورة وكان جِلْده أشْعَر كجِلد عَنْز فَقَلِق ونازَعَ للخُروج وبدأ شَعره يَسْقط فقلنا‏:‏ أحين طاب الحمَّام وبدأ شعرك يسقط تخرُج قال‏:‏ يا بن أخي وهل بقي إلا أن أنْسَلخ كما يَنْسلخ الأديم في احتدام القَيْظ وجعل يقول‏:‏ وهل يَطيب الموتُ يا إخْواني هل لكُم في القَوْس والأتانِ خذُوهما مِنِّي بلا أثمان وخَلَصوا المًهْجَة يا صِبياني فاليومَ لو أبْصَرَني جيراني عُرْيان بل أعرَى من العرْيان قال‏:‏ ثم خرج مُبادراً وأتْبعَه أحداثٌ لنا لولاهم لَخَرَج بحاله تلك ما يستره شيء ولحقناه في وَسط البيوت فأتيناه بماء بارد فشرب وصبَ على رأسه فارتاح واستراح وأنشأ يقول‏:‏ الحمدُ للمُستَحْمد القهار أنْقَذَني من حَر بيت النَّارِ إلى ظَليل ساكن الأوَار من بعد ما أيقنت بالدَمار قال‏:‏ فدعونا بكُسوة غير كُسوته فألبسناه وأتينا به مجلس أبي حماد وكان أبو حَماد يبيع الحِنْطة والتمرِ وجميع الحبوب وكان يُجاوره قومٌ يَبيعون أنبِذَة التمر وكان أبو الحسن التمّار ماهراً فإذا خُضنا في النحو وذكرنا الرُّواسي والكِسائي وأبا زيد جعل يَنْظر بفقه الكلام ولا يفهم التأويل فقلنا له‏:‏ ما تقول يا أبا الزَّهْراء فقال‏:‏ يا بن أخي إن كلامكم هذا لا يسد عوزا مما تتعلمونه له فقال أبو الحسن‏:‏ إن بهذا تعرف العرب صوابَها من خَطئها فقال له‏:‏ ثَكلْتَ وأثْكلت وهل تُخْطىء العرب قال‏:‏ بلى قال‏:‏ على أولئك لعنة الله وعلى الذين أعتَقوا مثلَك قال سُويد‏:‏ وكنت أحدثَهم سنًّاً قالت‏:‏ فقلت‏:‏ جُعِلت فداك أنا رجل من بني شَيْبان وربيعة ما نعلم أنِّا على مثل الذي أنتَ عليه من الإنكار عليهم فقال فيهم‏:‏ يُسائلني بيَّاع تَمْرٍ وَجَرْدقٍ ومازِج أبْوَال له في إنائِه عن الرَّفع بعد الخَفْض لا زال خافضاً ونَصْب وجَزْم صِيغ من سُوء رائه فقال بهذا يُعْرَف النحْو كلُّه يرى أنّني في العُجْم من نُظرائه فأما تَميم أو سُلَيم وعامر ومَن حَل غَمْر الضَال أو في إزائه ففيهم وعنهم يُؤثر العلم كُلُّه ودَع عنك من لا يهتدي لخطائه فمن ذا الرُّؤاسيّ الذي تَذْكرونه ومن ذا الكِسَائي سالحٌ في كِسائه ومَن ثالثٌ لم أسمع الدهرَ باسمه يُسمونه من لُؤمه سيبوائه فكيف يُحيل القوم من كان أهلَه ويهْدِي له من ليس من أوْليائه فَلَستُ لبيَّاع التُّميرات مُغْضِياً على الضيم إن واقفتُ بعد عَشائه ولقد قلنا له‏:‏ يا أبا الزَّهراء هل قرأتَ من كتاب الله شيئاً قال‏:‏ أي وأبيك آيات مُفَصلات أرَدِّدهن في الصَلوات أباء وأمهات وعمات وخالات ثم أنشأ يقول‏:‏ قرأتُ قَوْلَ اللّه في الكتاب ما أنزل الرحمنُ في الأحزاب لعُظم ما فيها من الثوَابِ الكُفْر والغِلْظة في الأعراب وأنا فاعلم من ذوي الألباب أومن بالله بلا ارتياب وجاحِم يَلْفح بالتهاب أوْجُه أهل الكُفْرو والتَّباب ودَفْع رَحْل الطارق المنتاب في ليلة ساكنة الكِلاب ولما أحضرناه ذات يومٍ جِنازة قلنا له‏:‏ يا أبا الزهراء كيف رأيت الكوفة فقال‏:‏ يا بن أخي حَضَراً حاضراً ومَحلاً أهلاً أنكرتُ من أفعالكم الأكيال والأوزان وشَكْل النِّسوان ثم نظر إلى الجبَّانة فقال‏:‏ ما هذه التِّلال يا بن أخي قلت له‏:‏ أجداثُ الموتى‏:‏ فقال‏:‏ أماتوا أم قُتلوا فقلت‏:‏ قد ماتوا بآجالهم مِيتات مخُتلفات قال‏:‏ فماذا نَنْتظر نحن يا بن أخي قلت‏:‏ مثل الذي صاروا إليه فاستعبر وبَكى وجعل يقول‏:‏ يا لَهفَ نَفسي أنْ أموتَ في بَلَد قد غابَ عنِّي الأهْلُ فيه والوَلدْ وكل ذي رحْم شفيق مُعْتَقدْ يكون ما كنتُ سقيماً كالرمد يا ربّ يا ذا العرْش وَفِّق للرشدْ وَيسرِ الخيرَ لشيخ مُنْحَصِدْ ثم لم يَلْبث إلا يسيراً حتى أخذتْه الحُمَّى والبِرْسام فكنًا لا نُبارحه عائدين متفقدين فبينا نحن عنده ذات يوم وقد اشتد كَرْبه وأيقنى بالموت جعل يقول‏:‏ أبْلِغ بناتي اليومَ أبلغ بالصُّوَى قد كُنَّ يأمُلْنَ إيَابي بالغِنَى وقر تَمنَّينَ وما تُفْنى المنى بأنّ نَفْسي وردت حَوْض الرَّدى ومن صلاتي في صباح ومِسَا فَعُدْ على شيخ كبير ذي انحِنا كفاه ما لاقاه في الدُنيا كَفى قلنا له‏:‏ يا أبا الزَهراء ما تأمرنا في القَوْس والأتان وفيما قَسَم الله لك عندنا من رزق فقال‏:‏ يا بن أخي أما ما قَسم اللّه لي عندكم فمردود إليكم وأما القَوْس والأتان فَبِيعوها وتَصدَقوا بثمنهما في فقراء صَلِبَة بني تميم وما بَقي ففي مَوَاليهم ثم جعل يقول‏:‏ اللهم اسمع دُعاء عَبدك إليك وتضرعه بين يديك وأعرف له حَقَّ إيمانه بك وتَصْديقه برُسلك الذين صَليت عليهم وسلمْت اللهم إني جانٍ مُقْترف وهائبٌ مُعْترف لا أدَعي بَراءة ولا أرجو نجاة إلا برحمتك إياي وتجاوزك عنَي اللهم إنك كتبت علي في الدنيا التّعب والنَّصب وكان في قَضَائك وسابق علمك قبضُ روحي في غير أهلي وولدي اللهم فبدِّل لي التَّعب والنَّصب رَوْحاً وريحانا وجنة نعيم فْضل كريم‏.‏

ثم صار يتكلم بما لا نَفْقَهه ولا نَفْهمه حتىِ مات رحمه اللّه‏.‏

فما سمعتُ دُعاء أبلغ من دُعائه ولا شهدتُ جنازة أكثرَ باكياَ وداعياً من جنازته رحمه الله‏.‏