القاهرة

القاهرة كما جاءت في الاعمال الكاملة للدكتور نفولا زيادة --الجزء الثالث عشر

القاهرة هي عاصمة
جمهورية مصر العربية وإحدى المراكز الرئيسة للحياة الدينية والثقافية والسياسية في العالمين العربي والإسلامي. شيدت على ضفتي النيل في الموقع الذي يمتد فيه جبل المقطم حتى يبلغ النهر.  

يعود تاريخ مدينة القاهرة إلى الفتح الإسلامي لمصر على يد
عمرو بن العاص عام 21هـ /642 م. وكان المسلمون قد جروا في فتوحاتهم على أن يؤسسوا في الأقطار التي يفتتحونها عواصم جديدة يختارون موقعها بما يتفق ومصالحهم العامة والخاصة. فأسس عمرو بن العاص مدينة القاهرة في المكان الفسيح الذي يقع إلى الشمال من حصن بابليون حيث عسكرت قوات المسلمين للمرة الأولى وأسماها الفسطاط. وقد اختار لها عمرو رأس دلتا النيل وهو موقع له أهميته من الناحية العمرانية والحربية وبذلك تكون الفسطاط في مأمن من هجمات العدو وتكون في الوقت نفسه قريبة من الأراضي الزراعية، مما يسهل وصول المؤن والأقوات. وراعى عمرو بن العاص في اختياره لموقع المدينة أن يكون لها جانب يمكن أن يَطرد فيه اتساعها وهو الجهة الشمالية الشرقية التي بنيت فيها مدينة العسكر والقطائع والقاهرة فيما بعد.

ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس، أسسوا حاضرة أخرى جديدة لدولتهم الناشئة إلى الشمال الشرقي من الفسطاط، في مكان عرف في صدر الإسلام باسم الحمراء القصوى. وفي ذلك المكان أقام العباسيون دورهم واتخذوا مسكنهم. وبنى صالح بن علي دار الإمارة وثكنات الجند ثم شيّد الفضل بن صالح العسكر في وسط المدينة. وبمرور الأيام، اتصلت العسكر بالفسطاط وأصبحت مدينة كبيرة. وقد ظل أمراء مصر يقيمون في دار الإمارة في العسكر.

لما قامت الدولة الطولونية وجد أحمد بن طولون أن الفسطاط ضاقت بساكنيها، فأسس مدينة القطائع عام 256هـ / 870 م وأقام في وسطها مسجدا جامعا سمي باسمه. وتعتبر مدينة القطائع، أول مدينة ملوكية أنشئت في وادي النيل في العهد الإسلامي، إذ كانت مقرا للحاكم مستقلة استقلالا تاما، لا تربطها بالحاكم العباسي ببغداد غير التبعة الدينية. وقد تأثر أحمد بن طولون، عند تأسيسه للعاصمة الجديدة، بتخطيط مدينة سامراء التي نشأ فيها قبل مجيئه إلى مصر. فقد كانت كل منهما مقسمة إلى خطط أو قطائع، تضم كل قطيعة منها، جماعة من السكان، تربط بينهم رابطة الجنس أو العمل. ومن ثم أصبح اسم القطائع علما على مدينة ابن طولون. وقد كان هذا الاسم يطلق في سامراء على كل أحياء المدينة، فيما عدا القصور الملكية.

ثم قام الفاطميون بالاستيلاء على مصر وأسس جوهر الصقلي قائد جيوش الحاكم الفاطمي المعز لدين الله مدينة القاهرة عام 359هـ / 970 م، بعد استيلائه على مصر بعام واحد، وبنى حولها سوراً من اللبن على شكل مربع. وكانت مساحة الأرض التي حددها السور تبلغ 340 فدانا. وفي وسط هذه المساحة، بنى جوهر قصرا كبيرا، بلغت مساحته 70 فدانا، وجعل خمسة وثلاثين فدانا للبستان الكافوري، ومثل هذه المساحة للميادين، والباقي وزعت مساحته على الفرق العسكرية.

أنشأ جوهر الصقلي مسجدا بالقرب من قصر الحاكم عند الجهة الغربية من ميدان باب الشعرية. ولم يكن قصد جوهر الصقلي من إنشائه مدينة القاهرة، في بادئ الأمر، أن تكون قاعدة أو دارا للحكم، بل لتكون سكنا للحاكم ، وحرمه، وجنده، وخواصه. فنشأت القاهرة مدينة متواضعة للدولة الفاطمية الناشئة، واستمرت حينا بعد قيامها مدينة ملكية عسكرية، تشتمل على قصور الحكام ومساكن الأمراء ودواوين الحكومة وخزائن المال والسلاح. ثم أصبحت بعد إنشائها بأربع سنوات، أي في عام 363هـ / 974 م، عاصمة للدولة الفاطمية. وانتقل المعز وأسرته من المغرب واتخذ مصر موطنا له. ولم يكن لقاطني مصر أن يدخلوا المدينة الملكية إلا بعد أن يؤذن لهم. وكان مفوضو الدولة الأجنبية الذين يحضرون الحفلات الرسمية يترجلون عن جيادهم ويسيرون نحو القصر بين صفين من الجنود على النحو المتبع في البلاط البيزنطي. وسرعان ما اتسعت المدينة الناشئة ونمت نمواً ملحوظا وتبوأت مكانتها المرموقة في ظل الحكام الفاطميين واتصلت مبانيها بمباني الفسطاط، وصارتا تؤلفان معا أكبر المدن الإسلامية في العصور الوسطى.

تميزت القاهرة منذ إنشائها بجمال مبانيها. فقد تناوب حكام الفاطميين والأيوبيين والمماليك على تعميرها فكانت على أحسن ما يكون. وكان النيل آنذاك يحدها غربا. وكان مجراه حتى عام 688هـ/ 1289 م يمر من فم الخليج إلى شارع نوبار إلى أن يلتقي بشارع الشيخ ريحان حاليا، ثم ينعطف شرقا نحو شارع عماد الدين حيث تنتهي حدود القاهرة عند قرية أم دنين، التي كانت تقع عند موقع جامع أولاد عنان.
كان ثغر النيل في ميدان رمسيس محاطاً بالمصانع والترسنات التي بنيت فيها أساطيل المعز لدين الله وصلاح الدين الأيوبي والتي قضى بها على الصليبيين. وكان النهر يمر بعد ذلك بمحطة سكة الحديد الحالية ثم بالشرابية ومنية السيرج إلى مبدأ ترعة الإسماعيلية. ونشأت شبرا على شكل جزيرة تراكمت حول مركب غرقت في الثغر في عهد الدولة الفاطمية، وكان اسمها الفيل، فسميت جزيرة الفيل، وزرعت فيها البساتين، وتردد عليها الأمراء والمماليك للتنزه في روضتها ولممارسة الرماية وغيرها من أنواع الرياضة. أما بولاق فقد نشأت في عهد الفاطميين ثم امتدت فيما بعد حتى بركة الفيل. كما ظهرت أرض اللوق في عهد الفاطميين والأيوبيين نتيجة لطرح البحر. واسمها معناه الأرض اللينة.  

حتى عهد الملك الصالح نجم الدين الأيوبي كان هناك ساحل على الخليج استعمله السقاءون، وكان يسمى باب الخرق الذي حرّف إلى باب الخلق. والخرق هي الأرض التي تخترقها الرياح. وكان الموسكي في ذلك العهد قنطرة على الخليج أنشأها الأمير عز الدين موسك في عام 584هـ/ 1189 م. في عهد السلطان صلاح الدين. كما قام حي السيدة زينب حول جسر شيده الظاهر بيبرس على الخليج وعرف بقناطر السباع، نسبة إلى رنك بيبرس الذي كان يمثل سبعا. أما حي الحسينية فقد أنشأته جماعة من الأشراف قدموا من الحجاز وبنوا المدابغ وصنعوا الأديم المسمى الطائفي نسبة إلى الطائف بالحجاز.

كانت القاهرة دائبة النشاط في التوسع والبناء في عهد الفاطميين والمماليك. وقد اجتهد صلاح الدين كثيرا في تعميرها وبنى قلعة الجبل وسور القاهرة الممتد إلى أثر النبي. كما أنشأ البيمارستان الناصري أو الصلاحي نسبة إليه. أما الملك الظاهر بيبرس فقد عمّر الجامع الكبير خارج الحسينية وكان فيه مساحة يلعب فيها المماليك لعبة القبق. وجدد الملك الظاهر جامع الأزهر وأعاد فيه الخطبة وأنشأ ضيعة على فم وادي العباسية سماها الظاهرية.

أكثر ما يميز القاهرة ذلك الكم الهائل من الآثار الإسلامية. ومن هذه الآثار سور جوهر الصقلي الذي أنشأه مع إنشاء المدينة، ولكن تهدم هذا السور بعد إنشائه بثمانين عاما. ولم يكن للقاهرة سور في أول عهد المستنصر. لذا كان أول عمل قام به بدر الجمالي، وزير الحاكم المستنصر، هو تحصين القاهرة ضد الغزوات الخارجية، وضد ثورات الجند الداخلية، فأحاطها بسور عام 480هـ / 1088 م. وحدود سور بدر الجمالي اعتماداً على البقايا التي لا تزال تحتل مكانها الأصلي، هي الأبواب الثلاثة: باب النصر وباب الفتوح في الشمال وباب زويلة في الجنوب. وهي تعد من أروع الأمثلة للاستحكامات الحربية في العصور الوسطى. ويعتبر باب الفتوح خير مثال على ذلك حيث يتكون من برجين مستديرين مصممين إلى ثلثيهما. أما الثلث العلوي، فيحتوي على غرف للجند وفتحات لرمي السهام. ويتوسط البرجين مدخل معقود تعلوه فتحة تُصب منها السوائل الكاوية على العدو المقتحم.

تعد قلعة الجبل أول امتداد كبير خارج السور الفاطمي. فقد بدأ صلاح الدين في بنائها عام 572هـ / 1176 م، ولم يكن هدفه تقوية المدينة ولكن ليتخذه مكانا يلتجأ إليه. وكانت قلعة الجبل تتزود بمياه النيل عن طريق قناطر ترجع في حالتها الراهنة إلى زمن سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الذي قام في عام 712هـ / 1312 م ببناء أربع سواق على النيل بغرض رفع المياه إلى مستوى القناطر التي تمد القلعة بالمياه. وفي عام 741هـ / 1341 م أدمج فيها بقايا سور صلاح الدين الذي صمم ليضم "خرائب" الفسطاط. وقد تم ترميم وتمديد هذه القناطر مرات متكررة في القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، وعلى الأخص في فترة سلطنة قايتباي وقانصوه الغوري، التي ترجع إليها على الأرجح خزان توزيع المياه المعروف بـ "السبع سواقي" الموجود على النيل.

هناك قلعة أخرى ضاعت كل معالمها اليوم. كانت قد هدمت ثم أعيد بناؤها أكثر من مرة خلال عصر المماليك وهي المعروفة بقلعة الروضة التي شيدها الملك الصالح نجم الدين أيوب.

 

انتشر بالقاهرة عدد كبير من الحدائق لكن معظمها لا وجود له اليوم بسبب التزايد العمراني الكبير. فمن حدائق القاهرة الشهيرة حديقة قصر محمد علي باشا الكبير بشبرا الخيمة التي أنشئت على النمط التركي وكانت تضم أندر النباتات في العالم. وكذلك حديقة الفردوس بالجزيرة. وهناك حديقة الأزبكية التي لم تحظ حديقة في مصر كلها بالاهتمام الذي حظيت به، وقد اقتطع جزء كبير منها وأقيم فيه ميدان الأوبرا المعروف بميدان إبراهيم باشا. وظلت حديقة الأزبكية تتباهى بجمالها منذ إعادة تجميلها عام 1295هـ / 1878 م حتى تعرضت لضياع أكثر من ثلثي مساحتها بسبب المشروعات التعميرية. وعلى مسطحات الحديقة الخضراء أقيمت مباني سنترال الأوبرا ومسرح الأزبكية ومسرح العرائس ومبنى نادى السلاح ومبنى شرطة النجدة.

من الحدائق الشهيرة أيضا حدائق الأورمان بالجيزة التي أنشئت في عام 1875 م. وكانت تتبع قصر الجيزة وتسلمتها وزارة الزراعة عام 1917 م. وكانت تعرف بحديقة الأمير حسين كمال وتحيط بقصره. وتوجد فيها مجموعة نادرة وقيّمة من أشجار الفيكس والبامبو ومجموعات من النباتات المائية والصبار. وتضم الحديقة بحيرة صناعية جميلة تربط شاطئيها قنطرة بديعية صنعت من جذوع وسيقان الأشجار.

انتشرت أيضا بالقاهرة البيمارستانات. فقد كانت عمليات الاستشفاء من الأمور التي شغلت بال حكام المماليك على فترة حكمهم التاريخية. ومن أجل ذلك حرصوا على إنشاء البيمارستانات وتزويدها بكل الأدوات والأدوية التي تتطلبها. ويعد بيمارستان قلاوون أحد البيمارستانات القليلة التي ما زالت آثارها قائمة. ويعود السبب في إنشاء هذا البيمارستان إلى نذر من الأمير قلاوون، أحد أمراء نور الدين زنكي، وكان قد أصابه مرض وهو في دمشق عام 1276م. فوجد بعض الأدوية في بيمارستان نور الدين الدمشقي، وبعد أن شفي نذر أن يقيم مثله في القاهرة. ولما تولى البلاد أوفى بوعده فأقام هذا البيمارستان الذي عرف باسمه واختار له موقعا قريبا من موقع القصر الغربي الفاطمي. وقد ظل هذا البيمارستان مستخدما حتى عام 1856 م حيث اقتصر استخدامه على مرضى العقول.

اشتهرت القاهرة على مر العصور بالعديد من المساجد. فهي أول مدينة دخلها الإسلام في إفريقيا. وكان الاهتمام المتزايد بإنشاء المساجد فيها لدرجة أنه أطلق عليها مدينة الألف مئذنة. وقد خلّف الملوك والأمراء الذين تعاقبوا على حكم مصر العديد من المساجد التي ما يزال الكثير منها موجودا حتى الآن.

من المعالم الأثرية المهمة في القاهرة مسجد عمرو بن العاص الذي بناه بعد انتهائه من تأسيس مدينة الفسطاط، وأقام في وسطها جامعه العتيق. وكان في بادئ الأمر بسيطا يتألف من بيت للصلاة يشغل مساحة صغيرة. وكان سقفه مطاطا جدا، ولا صحن له ولا مئذنة. ومازال الولاة والحكام يتناولونه بالإضافة والتجديد على مر السنين حتى اتسعت أرجاءه أضعاف الجامع العتيق الذي لم يبق منه سوى قطعة الأرض التي شيدت عليها. فقد زيد فيه وأعيد بناؤه ست عشرة مرة أولها زيادة مسلمة بن مخلد الأنصاري عام 673 م فأضاف إليه أربع مآذن تعد أقدم مآذن الإسلام. وآخر زيادة فيه كانت تلك التي قام بها مراد بك عام 1798 م. وفي هذه الزيادة بنيت عقود رواق القبلة في غير موضعها الأصلي، فجاءت عمودية على حائط القبلة، وكانت في الأصل موازية له. والجامع يتوسطه صحن تحيط به الأروقة من جهاته الأربع، تهدم منها الرواقان البحري والقبلي، ولم يبق منها إلا آثار الأعمدة. ومع هذا فقد احتفظ جامع عمرو ببعض العناصر المعمارية التي ترجع إلى أصوله الأولى التي نجدها في شبابيكه الجصية، وبعض رواق الطواقي الزخرفية التي تعلو الحينات التي نقشت بين شبابيك الجدار الجنوبي.

من المساجد الأثرية المهمة الباقية أيضا جامع أحمد بن طولون وهو من أكبر مساجد العالم الإسلامي التي شيدت في منتصف القرن الثالث للهجرة / التاسع الميلادي، إذ تبلغ مساحته مع الزيادة، أي الفضاء الذي يحيط به من جميع جهاته عدا جهة القبلة، ستة أفدنة ونصف الفدان. وهو مشيّد فوق الربوة الصخرية المعروفة بجبل يشكر في الطرف الجنوبي لمدينة القطائع. وهو من الجوامع المعلقة، إذ يُصعد إلى أبوابه بدرجات دائرية الشكل.

ومن المعالم الأثرية والحضارية الباقية أيضا
الجامع الأزهر ويرجع تاريخ بنائه إلى سنة 359-361 هـ / 970 -972م. وقد أمر ببنائه المعز لدين الله الفاطمي وشيد على طراز قريب من طراز جامع ابن طولون. ويعد هذا المسجد من أهم معالم الفاطميين الباقية حتى اليوم، وأول عمل فني معماري أقامه الفاطميون في مصر، ولا يزال قائما حتى اليوم. ويقع الأزهر في الجنوب الشرقي من قاهرة المعز، على مقربة من القصر الكبير، الذي كان موجودا حينذاك بين حي الديلم وحي الترك في الجنوب. وقد زاد كثير من الحكام الفاطميين في بناء هذا المسجد وأعيد تجديد أجزاء كثيرة منه خلال القرون الماضية، كما أضيفت إليه زيادات عدة، مما جعل معرفة التخطيط الأصلي للجامع، من الأمور الصعبة. وإذا كان الجامع لا يزال يحتفظ ببقية من النقوش والكتابات الكوفية والعقود الفارسية التي تعد من مميزات العمارة الفاطمية، فإن كل أجزائه الحالية هي من عصور متأخرة. وقد كان المسجد يتألف من صحن تحيط به أروقة تتعدد بوائكها تجاه القبلة. ولم يبق من الجامع الأصلي سوى قسم صغير. وأصبح الأزهر موضع إعادة تنظيم وترميم وإضافات من جانب أغلب كبار حكام القاهرة منذ الحافظ حتى قايتباي الذي أضاف إليه محرابا ومئذنة وكذلك بوابة. كما أضاف إليه السلطان الغوري مئذنة ثانية. وعندما أضاف قايتباي بوابة المزينين أصبحت المدرستان الطيبرسية والأقبغاوية المجاورتان للجامع ضمن مجموع مباني الجامع، علما بأن البوابة الحالية ترجع إلى العصر العثماني وتنسب إلى عبد الرحمن كتخدا الذي أضاف الكثير إلى مساحة الجامع في ذلك العصر.

تتمتع القاهرة بالعديد من الحمامات. ويذكر أن أول من بنى الحمامات في القاهرة العزيز بالله نزار بن معز الدين. ومن أشهر حمامات القاهرة القديمة حمام الملاطيلي وأقيم بشارع مرجوش بالقرب من جامع الغمري، وحمام المقاصيص الذي يقع بأول عطفة المقاصيص. وقد صار هذا الحمام حماما لدار الوزير المأمون بن البطائحي. وكذلك حمام قلاوون الذي يقع في شارع النحاسين، ويعرف أيضا بحمام المارستان المنصوري.

ضمت القاهرة منذ إنشائها العديد من الأسواق، إلا أن أغلبها شيد في نهاية العهد المملوكي. وكانت هذه الأسواق تثير إعجاب التجار الأجانب بسبب أنشطتها وثرائها. ومن أشهر هذه الأسواق سوق خان الخليلي وهو على هيئة قصر مهيب متسع للغاية مبني من الحجر المشذب، ويرتفع ثلاث طبقات، توجد في الأدوار السفلى حوانيت تحيط بميدان مربع الشكل يقع في الوسط. وفي مواجهتها يوجد صف من العقود المتكررة المرفوعة على أعمدة رائعة الجمال والمحيطة بها من جميع الجهات. وفي هذا المكان يعقد التجار صفقاتهم. أما الميدان الذي في الوسط فإنه يستخدم كإطار لبيع البضائع بالمزاد، ولعقد صفقات البيع والشراء بالجملة. وليس مسموحا بالإقامة في هذا المكان إلا للتجار ذوي السمعة الطيبة. وفي أعلى هذا المبنى يقيم علية التجار. ومن الأسواق الشهيرة الأخرى سوق الفحامين وهو مقر لتجار الفحم البسطاء منذ أمد بعيد، ومع ذلك ظل محتفظا بهذا الاسم بالرغم من تحويله لمقر لتجار المنسوجات الموسرين. وهناك سوق باب الفتوح وهو في داخل باب الفتوح وبه حوانيت اللحامين والخضريين والفاميين.

عُرفت القاهرة منذ تأسيسها بمكانتها العلمية المتميزة. فموقعها كحلقة وصل بين المشرق الإسلامي والمغرب الإسلامي جعل منها مركزاً هاماً.

تميزت القاهرة أيضا بوجود العديد من المدارس. ففي عهد الدولة الفاطمية أنشأ الوزير الكردي ابن السلار الذي كان يعمل في خدمة الدولة مدرسة ابن السلار. وقد أنشئت هذه المدرسة عام 1152م وكان يقوم على إدارتها إمام عظيم من أئمة المسلمين وعالم كبير من علماء الحديث، هو الحافظ السِلفي. وفي عام 1171 م أنشأ صلاح الدين مدرستين قامت إحداهما على آثار دار تسمى دار المعونة كان يحبس فيها من يراد حبسه، فهدمها صلاح الدين وبناها مدرسة للشافعية. وقد عرفت هذه المدرسة باسم المدرسة الناصرية نسبة إلى الملك الناصر صلاح الدين. أما المدرسة الثانية، فقد كانت للمالكية، وسميت باسم المدرسة القمحية نسبة إلى القمح الذي كانت تحصل عليه من ضيعة بجهة الفيوم وقفها صلاح الدين على هذه المدرسة التي عرفت كذلك بدار الغزل. وبعد سقوط الحكم الفاطمي زاد صلاح الدين على المدرستين السابقتين ثلاث مدارس أخر: مدرسة للفقهاء الحنفية وهي المدرسة السيوفية ومدرسة بجوار الإمام الشافعي وأخرى بجوار المشهد الحسيني.

استمر سلاطين الدولة الأيوبية في بناء المدارس. فكانت هناك المدرسة الكاملية "دار الحديث"، وهي المدرسة التي أنشأها السلطان الملك الكامل محمد الأيوبي. وتعتبر الدار الثانية في الترتيب بين الدور التي تخصصت في الشرق الإسلامي لدراسة الحديث. أما الدار الأولى فهي التي بناها نور الدين زنكي بدمشق.

وهناك المدرسة الصالحية التي بناها الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1242 م، وكانت أشبه شيء بجامعة كبرى ذات كليات أربع تختص كل واحدة منها بمذهب من المذاهب الأربعة المعروفة. وكانت هناك المدرسة الفاضلية نسبة إلى القاضي الفاضل، بناها عام 1185 م. ولهذه المدرسة شهرة في التاريخ، ومرجع ذلك إلى المكتبة العظيمة التي ألحقها القاضي الفاضل بها وجمع فيها من كتب العصر الفاطمي وحده مائة ألف مجلد. وكذلك مدرسة الظاهر بيبرس التي أسسها عام 1262 م وزودها بمكتبة هائلة، وجعلها تعني بسائر العلوم، ووقف عليها أوقافا عظيمة. وأسس الظاهر مدرسته هذه على نمط المدارس الأيوبية ولم يكتف بها، بل بنى بجوارها مكتبا لتعليم القراءة والكتابة ليتامى أبناء المسلمين.

لعل أهم المراكز العلمية شهرة بالقاهرة كانت دار الحكمة التي أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي بإنشائها عام 1005م، حيث أراد لها أن تكون أفضل من بيت الحكمة الذي ببغداد. وقد زود الحاكم هذه الدار بمكتبة عرفت باسم دار العلم وحُملت إليها الكتب من خزائن القصور ومن مصادر متعددة. فكانت فيها كتب نفيسة ومخطوطات نادرة في الدين والآداب والعلوم بفروعها المتعددة، كما أمدها الحاكم بأمر الله بكل مستلزمات النساخين من أقلام ومحابر وورق. وأقيم لها قوام وخدام وفراشون وغيرهم. وكانت دار الحكمة تزخر دائما بالفقهاء والقراء والنحاة والفلكيين والأطباء. وظلت دار العلم مفتوحة ينتفع الجمهور بما فيها من الكتب إلى عام 1123م حيث أمر الوزير الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالي بإغلاقها بسبب ما وصل إليه من أن رجلين يعتنقان عقائد الطائفة المعروفة بالبديعية التي يدين أشياعها بمذاهب السنة الثلاثة وهي الشافعي والحنفي والمالكي يترددان على دار العلم، وأن كثيرين من الناس أصغوا إليهما واعتنقوا هذا المذهب. على أن فترة إغلاق دار العلم لم يطل أمدها، فقد أعادها الحاكم الآمر بالله إلى ما كانت عليه.

اشتهر من أبناء القاهرة علماء أجلاء في مختلف العلوم. ففي العلوم الشرعية اشتهر الإمام الشافعي صاحب أحد أكبر المذاهب الفقهية عند أهل السنة، وسعد بن ليث بن عبد الرحمن الفهمي الفقيه إمام أهل مصر في عصره، وأبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم مؤرخ من أهل العلم بالحديث.

ومن علماء اللغة اشتهر جلال الدين السيوطي وكان من علماء اللغة والشريعة ألف في الفقه والتفسير وعلوم القرآن والحديث، ومحمد بن جلال الدين مكرم بن نجيب الدين المعروف بابن منظور صاحب معجم لسان العرب، وأبو الفضل محمد بن عبد الرازق الزبيدي صاحب معجم تاج العروس. ومن المؤرخين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الأنصاري الشهير بابن هشام.

كما اشتهر من الأطباء داود الأنطاكي وهو صيدلاني وطبيب ولد في أنطاكية بسورية واستقر في القاهرة، وموفق الدين أبو نصر عدنان بن نصر بن منصور الشهير بابن العين الزربي الطبيب وعالم النجوم والرياضيات والمنطق. وأبو المنصور عبد الله بن الشيخ السديد وكان عالما بصناعة الطب خبيرا بأصولها وفروعها.

اشتهر فيها من الرياضيين
أبو علي الحسن بن الهيثم عالم الفيزياء والبصريات والرياضيات وكان مولده البصرة ثم هاجر إلى القاهرة وعاش فيها. ومن الفلكيين أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن يونس . ومن الكيمائيين علي بن محمد أيدمر الجلدكي وكان قد تنقل بين مصر ودمشق وألف بعض كتبه في القاهرة والبعض الآخر في دمشق.

صنفتها منظمة اليونيسكو  مدينة تراثية عالمية عام 1979