غزوة بدر الآخرة

كانت غزوة بدر الآخرة في شعبان سنة 4هـ -يناير 626م، تسمى هذه الغزوة ببدر الآخرة، وبدر الصغرى، وبدر الثانية، وبدر الموعد.

 

سبب الغزوة أن أبا سفينان لما انصرف ومن معه يوم أحد نادى: "إن موعدكم بدر". فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-لرجل من أصحابه قل: "نعم هو بيننا وبينك موعد".

 

لما جاء الموعد استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول الأنصاري ـرضي الله عنه- وخرج -صلى الله عليه وسلم- ومعه ألف وخمسمائة مقاتل، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل اللواء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدراً وأقام فيها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان من مكة على رأس قوة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل، وقيل ألفان وخمسمائة، وقيل ألفا مقاتل، وفي نفسه رغبة ألا يحدث هذا اللقاء الذي ينتظر نتيجته كثير من رجال القبائل والأعراب وأهل المدن؛ إذ قضت المدينة ومكة عاماً في الاستعداد له، وكان في خروج أبي سفيان محاولة لإخافة المسلمين وإرهابهم كي لا يخرجوا فيكونوا هم الذين نكلوا عن الخروج.

 

فبعث أبو سفيان نعيم بن مسعود؛ ليخيف المسلمين في المدينة من كثرة أعداد قريش وقوتها وجعل له عشرين بعيراً إن أدى هذه المهمة ولم يخرج محمد وقال له: "إنه بدا لي أن لا أخرج، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا؛ فيزداد المسلمون جرأة فلأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة وأعلمهم أنا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا، ولك عندي من الإبل عشرون أدفعها لك على يد سهيل بن عمرو".

 

وصل نعيم إلى المدينة وبدا يبث إشاعاته وساعده في ذلك المنافقون واليهود ، وقالوا لا يفلت محمد من هذا الجمع ولعبت هذه الإشاعات دورها، وسار أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا له :"يا رسول الله إن الله مظهر نبيه ومعز دينه ، وقد وعدنا القوم موعدا لا نحب أن نتخلف عنه، فيرون أن هذا جبن ، فسر لموعدهم فوالله إن في ذلك لخيراً، فسُرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مما قاله صاحباه وأعلن أنه في طريقه إلى بدر وقال: "والذي نفسي بيده ؛ لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد".

 

نادى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الناس للخروج، فاجتمع حوله ألف وخمسمائة مقاتل وسار بهم إلى بدر، وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر في جيشه وعسكر هناك، وبقي ثمان ليال ينتظر قريشاً، ولكنها لم تأت، إذ عادت جموعها من عسفان خوفاً من اللقاء حقيقةً، وحجتها في ذلك أن الظروف غير ملائمة للحرب إذ كانت سنوات جدب، قال أبو سفيان: "يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر ، وتشربون اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا"، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون إنما خرجتم تشربون السويق..!، وأثناء وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في انتظاره لأبي سفيان لميعاده أتاه مخشي بن عمرو الضمري، وهو الذي كان وادعه على بني ضمرة في غزوة ودان- فقال: "يا محمد: أجئت لملاقاة قريش على هذا الماء؟ قال: (نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك). قال: لا، والله، يا محمد، ما لنا بذلك منك من حاجة.

كانت نتيجة هذه الغزوة أن فر المشركون يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، وعاد المسلمون يحملون راية الظفر، وهكذا دان عدو المسلمين الأول، وهي أقوى قوة في الجزيرة، وجيشها أكبر الجيوش تنظيماً وعتاداً، وكانت هي المتحدية، وهي الفارَّة من اللقاء، وأدى ذلك إلى خوف القبائل، وإجلاء جزء من اليهود.

 

جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير: " وهي بدر الموعد التي توعدوا إليها من أحد كما تقدم‏. ‏

 

قال ابن إسحاق‏: ‏ ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجباً، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان‏. ‏ قال ابن هشام‏: ‏ واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول‏. ‏ ‏ قال ابن إسحاق‏: ‏ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، وأقام عليه ثمانية ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران، وبعض الناس يقول‏: ‏ قد بلغ عسفان‏. ‏

 

ثم بدا له في الرجوع فقال‏: ‏ يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون‏: ‏ إنما خرجتم تشربون السويق‏. ‏ قال‏: ‏ وأتى مخشي بن عمرو الضمري، وقد كان وادع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ودان على بني ضمرة، فقال‏: ‏ يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ‏؟ ‏ قال‏: ‏ ‏(‏‏(‏نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك‏)‏‏)‏‏.‏ قال‏: ‏ لا والله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيداً‏. ‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد قال عبد الله بن رواحة يعني في انتظارهم أبا سفيان ورجوعه بقريش عامه ذلك، قال ابن هشام‏:‏ وقد أنشدنها أبو زيد لكعب بن مالك‏:‏

 

وعدنا أبا سفيان بدراً فلم نجد * لميعاده صدقاً وما كان وافياً

فأقسمُ لو لاقيتنا فلقِيتَنا * لأبت ذميماً وافتقدت المواليا

تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمراً أبا جهل تركناه ثاوياً

عصيتم رسول الله أف لدينكم * وأمركم السيء الذي كان غاوياً

فإني وإن عنفتموني لقائل * فدى لرسول الله أهلي وماليا

أطعناه لم نعدله فينا بغيره * شهاباً لنا في ظلمة الليل هاديا

 

قال ابن إسحاق‏: ‏ وقال حسان بن ثابت في ذلك‏: ‏

 

دعوا فلجات الشام قد حال دونها *جلاد كأفواه المخاض الأوارك

بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك

إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك

أقمنا على الرس النزوع ثمانياً * بأرعن جرار عريض المبارك

بكل كميت جَوزُه نصف خَلْقه * وقُبٍّ طوال مشرفات الحوارك

ترى العرفج العامي تذري أصوله * مناسم أخفاف المطي الرواتك

فإن تلق في تطوافنا والتماسنا * فرات بن حيان يكن رهن هالك

وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده * يزد في سواد لونه لون حالك

فأبلغ أبا سفيان عني رسالة * فإنك من غر الرجال الصعالك

قال‏:‏ فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وقد أسلم فيما بعد ذلك‏:‏

أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا * وجدَّك نغتال الخروق كذلك

خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا * ولو وألت منا بشد مدارك

إذا ما انبعثنا من مُناخ حسبته * مد من أهل الموسم المتعارك

أقمت على الرس النزوع تريدنا * وتتركنا في النخل عند المدارك

على الزرع تمشي خيلنا وركابنا * فما وطئت ألصقنه بالدكادك

أقمنا ثلاثاً بين سَلع وفارع * بجُرد الجياد والمطي الرواتك

حسبتم جلاد القوم عند فنائكم * كمأخذكم بالعين أرطال آنك

فلاتبعث الخيل الجياد وقل لها * على نحو قول المعصم المتماسك

سعدتم بها وغيركم كان أهلها * فوارس من أبناء فهر بن مالك

فإنك لا في هجرة إن ذكرتها * ولا حرمات دينها أنت ناسك

 

قال ابن هشام‏: ‏ تركنا منها أبياتاً لاختلاف قوافيها، وقد ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري وابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير‏: ‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر الناس لموعد أبي سفيان، وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم، فسلم الله أولياءه، وخرج المسلمون صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وأخذوا معهم بضائع وقالوا‏: ‏ إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر‏.‏

 

ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبي سفيان إلى مجنة ورجوعه، وفي مقاولة الضمري، وعرض النبي صلى الله عليه وسلم المنابذة فأبى ذلك‏.‏ قال الواقدي‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وكان خرجوه إليها في مستهل ذي القعدة يعني سنة أربع، والصحيح قول ابن إسحاق‏:‏ أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة، ووافق قول موسى بن عقبة أنها في شعبان، لكن قال في سنة ثلاث وهذا وهم‏.‏ فإن هذه تواعدوا إليها من أحد، وكان أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم، والله أعلم‏.‏

 

قال الواقدي‏: ‏ فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام، فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين، وقال غيره‏:‏ فانقلبوا كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 174‏]‏‏."