معركة القادسية

معركة القادسية هي معركة وقعت في 13 شعبان 15هـ 635م - وقيل في 16 هـ 636م - بين المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص والفرس بقيادة رستم فرّخزاد في القادسية انتهت بانتصار المسلمين ومقتل رستم.

 

من أسباب المعركة أنه في عام 14 هـ جمع يزدجرد طاقاته ضد المسلمين، فبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني فكتب إلى عمر بن الخطاب فأعلن النفير العام للمسلمين أن يدركوا المسلمين في العراق واجتمع الناس بالمدينة المنورة فخرج عمر معهم إلى مكان يبعد عن المدينة ثلاثة أميال على طريق العراق والناس لا يدرون ما يريد أن يصنع عمر، واستشار عمر الصحابة في قيادته للجيش بنفسه فقرروا أن يبعث على رأس الجيش رجلاً من أصحاب الرسول ويقيم هو ولا يخرج واستشارهم في من يقود الجيش فأشير إلية بسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

 

أستدعى عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص وكان على صدقات هوازن فولاه الجيش وأمره بالسير ومعه أربعة آلاف ثم أمده بألفي يماني وألفي نجديّ وكان مع المثنى ثمانية آلاف ومات المثنى قبل وصول سعد وتتابعت الإمدادات حتى صار مع سعد ستة و ثلاثون ألفاً.

 

كان منهم تسعة وتسعون بدرياً وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كان له صحبة فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك وثلاثمائة ممن شهد الفتح وسبعمائة من أبناء الصحابة فنظم الجيش وجعل على الميمنة عبد الله بن المعتم وعلى الميسرة شرحبيل بن السمط الكندي وجعل خليفته إذا استشهد خالد بن عرفطة وجعل عاصم بن عمرو التميمي وسواد بن مالك على الطلائع وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة وعلى الرجالة حمال بن مالك الأسدي وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمي وجعل داعيتهم سلمان الفارسي والكاتب زياد بن أبيه وعلى القضاء بينهم عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي.

 

أما الفرس فقد أجبر يزدجرد رستم على قيادة الجيش الفارسي بنفسه وأرسل سعد وفداً إلى رستم فيهم: النعمان بن مقرن المزني وبسر بن أبي رهم والمغيرة بن شعبة والمغيرة بن زرارة.

 

وسار رستم وفي مقدمته (الجالينوس) وجعل في ميمنته (الهرمزان) وعلى الميسرة (مهران بن بهرام) ثم سار رستم حتى وصل الحيرة ثم النجف حتى وصل القادسية ومعه سبعون فيلاً.

 

ورد في كتاب "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لابن الجوزي الجزء الرابع"

 

"وذلك أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه خرج في أول يوم من المحرم من سنة أربع عشرة فنزل على ماء يدعى صراراَ فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف وكان عثمان يدعى في زمان عمر رديفًا وكانوا إذا لم يقدر هذان على شيء مما يريدون ثلثوا بالعباس قال‏: ‏ فقال عثمان لعمر‏: ‏ ما بلغك‏. ‏ ما الذي تريد‏. ‏

 

فنادى‏: ‏ الصلاة جامعة فاجتمع الناس فأخبرهم الخبر الذي اقتصصناه في ذكر ما هيج أمر القادسية من اجتماع الناس على يزدجرد وقصد فارس إهلاك العرب فقال عامة الناس‏: ‏ سر وسر بنا فقال‏: ‏ استعدوا فإني سائر إلا أن يجيء رأي هو أمثل من هذا‏. ‏

 

ثم بعث إلى أهل الرأي فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلام العرب فقال‏: ‏ أحضروني الرأي فاجتمع ملؤهم على أن يبعث رجلًا من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويقيم ويرميه بالجنود فإن كان الذي يشتهي من الفتح فهو الذي يريد وإلا أعاد رجلًا وندب جندًا آخر‏. ‏

 

فأرسل إلى عليّ رضي الله عنه وكان قد استخلفه على المدينة وإلى طلحة وكان قد بعثه على المقدمة وجعل على المجنبتين الزبير وعبد الرحمن بن عوف فقال له عبد الرحمن‏: ‏ أقم وابعث جندًا فليس انهزام جندك كهزيمتك فقال‏: ‏ إني كنت عزمت على الخروج فقد رأيت أني أقيم وأبعث رجلًا فمن تَرونه فقالوا‏: ‏ سعد بن مالك وكان سعد على صدقات هوازن فكتب إليه عمر أن ينتخب ذوي الرأي والنجدة فانتخب ألف فارس ثم أرسل إليه فقدم‏. ‏

 

وكتب عمر إلى المثنى‏: ‏ تنح إلى البر وأقم من الأعاجم قريبًا على حدود أرضك وأرضهم حتى يأتيك أمري‏. ‏وعاجلتهم الأعاجم فخرج المثنى بالناس حتى نزل العراق ففرق الناس في مسالحه وكانوا كالأسد ينازعون فرائسهم وكانت فارس منزعجة‏. ‏

 

ولما قدم سعد ولاه عمر حرب العراق وقال‏: ‏ يا سعد لا يغرنك إن قيِل‏: ‏ خال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصاحبه فإنه ليس بين أحد وبين الله نسب إلا الطاعة وإنك تقدم على أمر شديد فالصبر الصبر على ما أصابك‏. ‏ ثم سرحه فيمن اجتمع معه فخرج قاصدًا إلى العراق في أربعة آلاف ثم أمده عمر بثلاثة آلاف‏. ‏

 

وكتب إلى جرير بن عبد اللهّ والمثنى أن يجتمعا إلى سعد وأمره عليهما فمات المثنى من جراحة كان قد جرحها‏. ‏ وبعض الناس يقول‏: ‏ كان أهل القادسية ثمانية آلاف وبعضهم يقول‏: ‏ تسعة آلاف وبعضهم يقول‏: ‏ اثني عشر ألفًا‏. ‏ وخرج سعد في ثمانية آلاف ثم أضيف إليه خلق فشهد القادسية مع سعد بضعة وثلاثون ألفَاَ‏. ‏

 

وكتب عمر إلى سعد‏: ‏ إذا جاءك كتابي هذا فعشر الناس وأمر على أجنادهم وواعد الناس القادسية واكتب إليَّ بما يستقر أمر الناس عليه‏.‏

 

فجاءه الكتاب وهو بشراف ثم كتب إليه‏:‏ أما بعد فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين وتوكل على الله واستعن به على أمرك كله واعلم أنَّك تقدم على قوم علاهم كثير وبأسهم شديد فبادروهم بالضرب ولا يخدعنكم فإنهم خدعة مكرة وإذا انتهيت إلى القادسية والقادسية باب فارس في الجاهلية وهو منزل حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة فلتكن مسالحك على انقابها فإنهم إذا أحسوك رموك بجمعهم فإن أنتم صبرتم لعدوكم ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم وإن تكن الأخرى انصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم حتى يرد الله لكم الكرة‏.‏

 

ثم قدم عليه كتاب جواب عمر‏:‏ أما بعد فتعاهد قلبك وحادث جندك بالموعظة والصبر الصبر فإن المعونة تأتَي من الله على قدر النية والأجر على قدر الحِسْبَة وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وصف لي منازل المسلمين كأني أنظر إليها وقد ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو هزمتموهم فإن منحك اللّه أكتافهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنها خرابها إن شاء الله‏.‏

 

ومضى سعد حتى نزل القادسية وأصاب المسلمون في طريقهم غنائم من أهل فارس عارضوها في طريقهم وجاء الخبر إلى سعد أن الملك قد ولى رستم الأرمَنّي حربه فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر‏:‏ لا يكربنَّك ما يأتيك عنهم واستعن بالله وتوكل عليه‏.‏ فعسكر رستم بصابات دون المدائن وزحف بالخيول والفيول وبعثوا إلى سعد أنه لا بد لكم منا ولا سلاح معكم فما جاء بكم وكانوا يضحكون منهم ومن نبلهم ويقولون هذه مغازل‏.‏ فلما أبوا أن يرجعوا عن حربهم قالوا لهم‏:‏ ابعثوا لنا رجا منكم عاقلًا يبين لنا ما جاء بكم فقال المغيرة بن شعبة‏:‏ أنا فعبر إليهم فقعد مع رستم على السرير فصاحوا عليه فقال‏:‏ إن هذا لم يزدني رفعة ولم ينقص صاحبكم فقال رستم‏:‏ صدق ثم قال‏:‏ ما جاء بكم‏.‏ فقال‏: ‏ إنا كنا قومًا في ضلالة فبعث اللهّ فينا نبي فهدانا اللهّ به فإن قتلتمونا دخلنا الجنة وإن قتلتم دخلتم النار فقال‏:‏ أو ماذا قال‏:‏ أو تؤدون الجزيِة فلما سمعوا نخروا وصاحوا وقالوا‏:‏ لا صلح بيننا وبينكم فقال المغيرة‏:‏ تعبرون إلينا أو نعبر إليكم‏.‏ فقال رستم‏: ‏ بل نعبر إليكم فاستأخر المسلمون حتى عبر منهم من عبر فحملوا عليهم فهزموهم فأصاب المسلمون فيما أصابوا جرابًا و من كافور فحسبوه ملحًا فألقوا منه في الطبيخ فلما ذاقوه قالوا‏: ‏ لا خير في هذا‏. ‏

 

وانهزم القوم حتى انتهوا إلى الصَّراةَ فطلبوهم فانهزموا حتى انتهوا إلى المدائن ثم انهزموا حتى أتوا شاطئ دجلة فمنهم من عبر من كَلْواذىَ ومنهم من عبر من أسفل المدائن فحاصروهم حتى ما يجدون طعامًا يأكلونه إلا كلابهم وسنانيرهم فخرجوا ليلًا فلحقوا بجلولاء فأتاهم المسلمون وعلى مقدمة سعد هاشم بن عتبة وهي الوقعة التي كانت فهزم المشركون حتى ألحقهم سعد بنهاوند‏. ‏

 

وبعث سعد بجماعة من المسلمين إلى يزدجرد يدعونه إلى الإسلام فلما دخلوا عليه قال‏:‏ ما الذي دعاكمِ إلى غزونا والولوع ببلادنا فقال له النعمان بن مقرن‏:‏ إن الله تعالى أرسل إلينا رسولاَ يدلنا على الخير فأمرنا أن ندعو الناس إلى الإنصاف ونحن ندعوكم إلى ديننا فإن أبيتم فالمناجزة فقال يزدجرد‏:‏ إني لا أعلم في الأرض أمة أشقى منكم فقال المغيرة بن زرارة الأسير‏:‏ اختر إن شئت الجزية عن يدٍ وأنت صاغر وإن شئت السيف أو تسلم فقال‏:‏ أتستقبلني بمثل هذا فقال‏:‏ ما استقبلتَ إِلا من كلمني فقال‏:‏ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك لا شيء لكم عندي ثم قال‏:‏ ائتوني بوقر من تراب واحملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن ارجعوا إلى صاحبكم فاعلموه أني مرسل إليهم رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما ثم قال‏:‏ من أشرفكم‏.‏

 

فسكت القوم فقال عاصم بن عمرو‏:‏ فحمله على عنقه فأتى به سعدًا فقال‏:‏ ملكنا اللّه أرضهم تفاؤلًا بأخذ التراب‏.‏ وأقام سعد بالقادسية شهرين وشيئًا حتى ظفر وعج أهل السواد إلى يزدجرد وقالوا‏:‏ العرب قد نزلوا القادسية فلم يبقوا على شيء وأخربوا ما بينهم وبين الفرات ولم يبق إلا أن يستنزلونا فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا‏.‏ فبعث إليهم رستم وجاء الخبر إلى سعد فكتب بذلك إلى عمر وكان من رأي رستم المدافعة والمناهلة فأبى عليه الملك إلا الخروج وقال له‏:‏ إن لم تسر أنت سرت بنفسي فخرج حتى نزل بساباط وجمعِ أداة الحرب وبعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفًا وخرج في ستين ألفاَ واستعمل على ميمنته الهرمزان‏.‏ وعلى ميسرته مهران بن بهرام وعلى ساقته النبدوان في عشرين ألفًا ولهم أتباع فكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف‏.‏ فلما فصل رستم من ساباط أخذ له رجل من أصحاب سعد فقال له‏:‏ ما جئتم تطلبون قال‏:‏ جئنا نطلب موعود اللهّ قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إذ أبيتم أن تَسلموا قال‏:‏ فإن قتلتم قبل ذلك قال‏:‏ في موعود اللهّ أن من قتل منا قبل ذلك دخل الجنة وينجز لمن بقي منا ما قلت لك فقتله‏.‏

 

ثم خرج حتى نزل ببُرس فغصب أصحابه الناس أموالهم ووقعوا على النساء وشربوا الخمور فقام إلى الناس فقال‏: ‏ إن اللهّ كان ينصركم على عدوكم لحسن السيرة وكف الظلم والوفاء بالعهد فأما إذا تحولتم عن هذه الأعمال فلا أرى اللّه إلا مغيرًا ما بكم‏. ‏

 

ثم نزل مما يلي الفرات ودعا أهل الحيرة فقال‏: ‏ فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا وكنتم عونًا لهم علينا وقويتموهم بالأموال فقالوا‏: ‏ واللهّ ما فرحنا بمجيئهم وما هم على ديننا وأما قولك‏: ‏ كنتم عونًا لهم فما يحوجهم إلى ذلك وقد هرب أصحابكم منهم وخلّوا لهم القرى وقولك‏: ‏ ‏"‏ قويناهم بالأموال ‏"‏ فإنا صانعنا هم بالأموال عن أنفسنا‏.‏ فارتحل رستم فنزل النجف وكان بين خروجه من المدائن إلى أن لقي سعدًا أربعة أشهر لا يُقدِم ولا يقاتل رجاء أن يضجروا بمكانهم وأن يجهدوا فينصرفوا وكره قتالهم فطاولهم والملك يستعجله وعهد عمر إلى سعد والمسلمين أن ينزلوا على حدود أرضهم وأن يطاولهم فنزلوا القادسية وقد وطنوا أنفسهم على الصبر والمطاولة فكانوا يغيرون على السواد فانتسفوا ما حولهم وأعدوه للمطاولة‏.‏

 

وكان عمر يمدهم وقال بعض الناس لسعد‏: ‏ قد ضاف بنا المكان فأقدم فزبره وقال‏: ‏ إذا كفيتم الرأي فلا تكلفوه وخرج سواد وحُمْيضة في مائة مائة فأغاروا على النهرين وقد كان سعد نهاهما أن يًمعِنا وبلغ ذلك رستم فبعث خيلًا فبعث سعد إليهم قومًا فغنموا وسلموا‏. ‏

 

ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم وبات فيه يحرسه وينتظر‏. ‏ فلما أدبر الليل أتى أفضل من توسم في ناحية العسكر فإذا فرس لهم لم ير في خيل القوم مثله فانتضى سيفه فقطع مقود الفرس ثم ضمه إلى مقود فرسه ثم حرك فرسه فخرج يعدو ونذر به الرجل والقوم فركبوا الصعب والذلول وخرجوا في طلبه فلحقه فارس فعدل إليه طليحة فقصم ظهره بالرمح ثم لحق به آخر ففعل به مثل ذلك ثم لحق به آخر فكر عليه طليحة ودعاه إلى الأسار فاستأسر فجاء به إلى سعد فأخبره الخبر فقال للأسير‏:‏ تكلم فقال‏:‏ قد باشرت الحروب وغشيتها وسمعت بالأبطال ولقيتها ما رأيت ولا سمعت بمثل هذا أن رجلًا قطع عسكرين لا يجترئ عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفًا فلم يرض أن يخرج حتى سلب فارس الجند وهتك أطناب بيته فطلبناه فأدركه الأول وهو فارس الناس يعدل بألف فارس فقتله ثم أدركه الثاني وهو نظيره فقتله ثم أدركته ولا أظنني خلفت بعدي من يعدلني فرأيت الموت فاستأسرت‏.‏

 

ثم أخبرهم بأن الجند عشرون ومائة ألف وأن الأتباع مثلهم خدام لهم وأسلم الرجل وسماه سعد مسلمًا وعاد إلى طليحة وقال‏: ‏ واللّه لا يهزمون على ما أرى من الوفاء والصدق والإصلاح لا حاجة لي في صحبة فارس فكان من أهل البلاء يومئذ‏.‏ وقال سعد لقيس بن هبيرة‏:‏ أخرج حتى تأتيني بخبر القوم فخرج وسرح عمرو بن معدي كرب وطليحة فإذا خيل القوم فأنشب قيسٌ القتال وطاردهم فكانت هزيمتهم وأصاب منهم اثني عشر رجلاَ وثلاثة أسراء وأسلابًا فأتوا بالغنيمة سعدًا‏.‏ فلما أصبح رستم تقدم حتى انتهى إلى العتيق فتباسر حتى إذا كان بحيال قديس خندق خندقًا بحيال عسكر سعد وكان رستم منجمًا فكان يبكي مما يرى من أسباب تدل على غلبة المسلمين إياهم ومما رأى أن عمر دخل عسكر فارس ومعه ملك فختم على سلاحهم ثم حزمه ودفعه إلى عمر‏.‏

 

وكان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلَاَ في القلب ثمانية عشر وفي المجنبتين خمسة عشر فيلًا منها فيل سابور الأبيض وكان أعظم الفيلة‏. ‏

 

فلما أصبح رستم من ليلته التي بات بها في العتيق ركب في خيله فنظر إلى المسلمين ثم صعد نحو القنطرة وحرز الناس وراسل زُهرة فخرج إليه وأراد أن يصالحهم وجعل يقول‏: ‏ إنكم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا فكنا نحسن جوارهم ونكف الأذى عنهم ونوليهم المرافق الكثيرة فنرعيهم مراعينا ونميرهم من بلادنا وإنما يريد بذلك الصلح ولا يصرح فقال زهرة‏:‏ ليس أمرنا أمر أولئك إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طلبنا الآخرة كنا نضرع إليكم فنطلب ما في أيديكم فبعث الله إلينا رسولًا فأجبناه إلى دين الحق‏.‏

 

فدعا رستم رجال أهل فارس فذكر لهم ذلك فأنفوا فقال‏: ‏ أبعدكم اللّه فمال الرُّفَيل إلى زهرة فأسلم وأسلم‏. ‏ وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة وبسر بن أبي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن وربعي بن عامر وقرفة بن زاهر التيمي ومذعور بن عدي العجلي والمضارب بن يزيد العجلي ومعبد بن مرة العجلي وكان من دهاة العرب فقال‏: ‏ إني مرسلكم إلى هؤلاء القوم فما عندكم‏. ‏ قالوا جميعًا‏: ‏ نتبع ما تأمرنا به وننتهي إليه فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شيء نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس فكلمناهم به‏.‏ فقال سعد‏: ‏ هذا فعل الحَزَمة اذهبوا فتهيَّئوا‏.‏

 

فقال ربعي بن عامر‏: ‏ إن الأعاجم لهم آراء وآداب متى ما نأتهم جميعًا يروا أنا قد احتفلنا لهم فلا تزيد على رجل فسرحوني‏. ‏

 

فخرج ربعي ليدخل على رستم عسكره فاحتبسه الذين على القنطرة وأرسل إلى رستم بمجيئه فاستشار عظماء أهل فارس فقال‏: ‏ ما ترون أنتهاون أم نباهي‏. ‏ قالوا‏: ‏ نباهي فأظهروا الزبرجد وبسطوا البسط والنمارق ووضع لرستم سرير ذهب عليه الوسائد المنسوجة بالذهب‏. ‏

 

وأقبل ربعي وغمد سيفه لفافة ثوب خلق ورمحه معلوب بقِدّ معه حَجَفة من جلود البقر فجاء حتى جلس على الأرض وقال‏: ‏ إنا لا نستحب القعود على زينتكم فكلمه وقال‏: ‏ ما جاء بكم‏.‏ قال‏:‏ اللّه جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللّه من جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام فمن قبل ذلك قبلنا منه ومن أبى قاتلناه حتى نُفْضِيَ إلى موعود اللّه‏.‏ قال‏:‏ وما هو موعود اللهّ‏.‏ قال‏:‏ الجنة لمن مات على قتال من أبى والظَفَر لمن بقي‏.‏

 

فقال رستم‏: ‏ هل لكم أن تؤخروا هذا الأمر لننظر فيه وتنظروا قال‏: ‏ إنا لا نؤجل أكثر من ثلاث‏. ‏ فخلص رستم برؤساء أهل فارس وقال‏: ‏ ما ترون هل رأيتم قط كلامًا أوضح أما ترى إلى ثيابه فقال‏: ‏ ويحكم لا تنظرون إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب‏. ‏ فرجع ربعي إلى أن ينظروا في الأجل فلما كان في الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن فلما جاء إلى البساط قالوا‏: ‏ انزل قال‏:‏ ذاك لو جئتكم في حاجتي الحاجة لكم لا لي فجاء حتى وقف ورستم على سريره فقال له‏:‏ انزل قال‏:‏ لا أفعل فقال‏:‏ ما بالك ولم يجيء صاحبنا بالأمس‏.‏ قال‏:‏ أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي فتكلم بنحو ما تكلم به ربعي ورجع‏.‏

 

فلما كان من الغد أرسلوا‏:‏ ابعث لنا رجلًا فبعث إليهم المغيرة بن شعبة فجاء حتى جلس مع رستم على سريره فترتروه وأنزلوه ومغثوه فقال‏:‏ كانت تبلغنا عنكمِ الأحلام ولا أرى قومًا أسفه منكم إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاَ فظننت أنكَم تواسون قومكم كما نتواسى وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض فقال رستم‏:‏ لم نزل متمكنين من الأرض والبلاد ظاهرين على الأعداء ننصر على الناس ولا ينصرون علينا ولم يكن في الناس أمة أصغر عندنا أمرًا منكم ولا نراكم شيئًا ولا نعدكم وكنتم إذا قحطت أرضكم استعنتم بأرضنا فنأمر لكم بالشيء من التمر والشعير ثم نردكم وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلادكم فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم وآمر لكل رجل منكم بوقرتي تمر وثوبين وتنصرفون عنا فإني لست أشتهي أن أقتلكم ولا آسركم‏.‏

 

فتكلم المغيرة فحمد اللهّ وأثنى عليه وقال‏: ‏ لسنا ننكر ما وصفت به نفسك وأهل بلادك من التمكن في البلاد وسوء حالنا غير أن الأمر غير ما تذهبون إليه إن اللّه تعالى بعث فينا رسولًا فذكر نحو كلام ربعي إلى أن قال‏:‏ فكن لنا عبدًا تؤدي الجزية وأنت صاغر وإلا السيف إن أبيت فنخر نخرة واستشاط غضبًا ثم حلف بالشمس‏:‏ لا يِّرتفع الضحى غدًا حتى أقتلكم أجمعين‏.‏ فانصرف المغيرة وخلص رستم بأشراف فارس فقال‏:‏ إني أرى للّه فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم ثم قال رستم للمسلمين‏:‏ أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم‏.‏ فقالوا‏:‏ لا بل أعبر إلينا فأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم فأراد المشركون العبور على القنطرة فأرسل إليهم سعد ولا كرامة متى قد غلبناكم عليها لن نردها عليكم تكلفوا معبرًا غير القناطر فباتوا يسكرون العتيق والقصب حتى الصباح بأمتعتهم فجعلوه طريقًا"‏.‏

 

وفي كتاب "تـاريخ الأمم والملوك" للطبري ورد:

 

" ففي أول يوم من المحرم سنة أربع عشرة - فيما كتب إلى به السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد إسنادهم - خرج عمر حتى نزل على ماء يدعى صراراً، فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد ؛ أيسير أم يقيم. وكانوا إذا ارادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف؛ وكان عثمان يدعى في إمارة عمر رديفاً -قالوا: والرديف بلسان العرب الرجل الذي بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد رئيسهم -وكانوا إذا لم يقدر هذان على علم شيء مما يريدون، ثلثوا بالعباس، فقال عثمان لعمر: ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إليه، فأخبرهم الخبر. ثم نظر ما يقول الناس، فقال العامة: سر وسر بنا معك؛ فدخل معهم في رأيهم، وكره أن يدعهم حتى يخرجهم منه في رفق، فقال: استعدوا وأعدوا فإني سائر إلا أن يجئ رأى هو أمثل من ذلك. ثم بعث إلى أهل الرأي، فاجتمع إليه وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأعلام العرب، فقال: أحضروني الرأي فإني سائر. فاجتمعوا جميعاً، وأجمع ملؤهم على أن يبعث رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيم، ويرميه بالجنود، فإن كان الذي يشتهي من الفتح، فهو الذي يريد ويريدون؛ وإلا أعاد رجلاً وندب جنداً آخر؛ وفي ذلك ما يغيظ العدو، ويرعوى المسلمون، ويجئ نصر الله بإنجاز موعود الله. فنادى عمر: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إليه، وأرسل إلى على عليه السلام، وقد استخلفه على المدينة، فأتاه، وإلى طلحة وقد بعثه على المقدمة، فرجع إليه، وجعل على المجنبتين الزبير وعبد الرحمن بن عوف، فقام الناس فقال: إن الله عز وجل قد جمع على الإسلام أهله؛ فألف بين القلوب، وجعلهم فيه إخواناً، والمسلمون فيما بينهم كالجسد لا يخلو منه شيء من شيء أصاب غيره ؛ وكذلك يحق على المسلمين أن يكونوا أمرهم شورى بينهم وبين ذوى الرأي منهم؛ فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر ؛ ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعاً لهم، ومن أقام بهذا الأمر تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعاً لهم. با أيها الناس، إني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلاً، وقد أحضرت هذا الأمر؛ من قدمت ومن خلفت. وكان على عليه السلام خليفته على المدينة، وطلحة على مقدمته بالأحوص؛ فأحضرهما ذلك.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عمر بن عبد العزيز، قال: لما انتهى قتل أبي عبيد ابن مسعود إلى عمر، واجتماع أهل فارس على رجل من آل كسرى، ونادى في المهاجرين والأنصار ؛ وخرج حتى أتى صراراً، وقدم طلحة بن عبيد الله حتى بأتية الأعوص، وسمى لميمنته عبد الرحمن بن عوف، ولميسرته الزبير بن العوام، واستخلف علياً رضى الله عنه على المدينة، واستشار الناس، فكلهم أشار عليه بالسير إلى فارس، ولم يكن استشار في الذي كان حتى نزل بصرار ورجع طلحة، فاستشار ذوى الرأي فكان طلحة ممن تابع الناس، وكان عبد الرحمن ممن نهاه، فقال عبد الرحمن: فما فديت أحداً بأبي وأمي بعد النبي صلى الله عليه وسلم قبل يومئذ ولا بعده ؛ فقلت: يا بأبي وأمي، اجعل عجزها بي وأقم وابعث جنداً، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبل وبعد، فإنه إن يهزم جيشك ليس كهزيمتك ؛ وإنك إن تقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت ألا يكبر المسلمون وألا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبداً وهو في ارتياد من رجل ؛ وأتى كتاب سعد ليحفف كشورتهم ؛ وهو على بعض صدقات نجد، فقال عمر: فأشيروا على برجل، فقال عبد الرحمن: وجدته، قال: من هو ؟ قال: الأسد في براثنه ؛ سعد بن مالك ؛ ومالأه أولو الرأي.

 

كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة، عن أبيه، قال: كتب المثنى إلى عمر باجتماع فارس على يزد جرد وببعوثهم، وبحال أهل الذمة. فكتب إليه عمر؛ أن تنح إلى البر، وادع من يليك، وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم؛ حتى يأتيك أمري. وعاجلتهم الأعاجم فزاحفتهم الزحوف، وثار بهم أهل الذمة ؛ فخرج المثنى بالناس حتى ينزل الطف، ففرقهم فيه من أوله إلى آخره، فأقام ما بين غضى إلى القطقطانه مسالحه، وعادت مسالح كسرى وثغوره، واستقر أمر فارس وهم في ذلك هائبون مشفقون، والمسلمون متدفقون قد ضروابهم كالأسد ينازع فريسته ثم يعاودوا  الكر ؛ وأمراؤهم يكفكفونهم بكتاب عمر وأمداد المسلمين.

 

كتب إلى السري بن يحيى، عن شعيب بن ابراهيم، عن سيف بن عمر، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: قد كان أبو بكر استعمل سعداً على صدقات هوازن بنجد، فأقره عمر، وكتب إليه فيمن كتب إليه من العمال حين استنفر الناس أن ينتخب أهل الخيل والسلاح ممن له رأى ونجدة. فرجع إليه كتاب سعد بمن جمع الله له من ذلك الضرب؛ فوافق عمر وقد استشارهم في رجل، فشاروا عليه به عند ذكره.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما، قالا: كان سعد بن أبي وقاص على صدقات هوزان، فكتب إليه عمر فيمن كتب غليه بانتخاب ذوى الرأي والنجدة ممن كان له سلاح أو فرس، فجاءه كتاب سعد: إني قد انتخبت لك ألف فارس مؤذ كلهم له نجدة ورأى، وصاحب حيطة يحوط حريم قومه، ويمنع ذمارهم، إليهم انتهت أحسابهم ورأيهم، فشأنك بهم. ووافق كتابه مشورتهم، فقالوا: قد وجدته، قال: فمن؟ قالوا: الأسد عادياً، قال: من؟ قالوا: سعد، فانتهى إلى قولهم فأرسل إليه، فقدم عليه، فأمره على حرب العراق وأوصاه. فقال: يا سعد، سعد بنى وهيب؛ لا يغرنك من الله أن عز وجل لا يمحو السيئ ؛ ولكنه يمحو السيئ بالحسن ؛ فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته ؛ فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء ؛ الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمة فإنه الأمر. هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك ؛ وكنت من الخاسرين.

 

ولما أراد أن يسرحه دعاه، فقال: إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق، فعود نفسك ومن معك الخير، واستفتح به. واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر؛ فالصبر على ما أصابك أو نابك؛ يجتمع لك خشية الله. واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته؛ وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة؛ وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء؛ منها السر، ومنها العلانية؛ فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس؛ فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم؛ وإن الله إذا أحب عبداً حببه ؛ وإذا أبغض عبداً بغضه. فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس، ممن بشرع معك في أمرك. ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين. فخرج سعد بن أبي وقاص من المدينة قاصداً العراق في أربعة آلاف؛ ثلاثة ممن قدم عليه من اليمن والسراة؛ وعلى أهل السروات حميضة بن النعمان بن حميضة البارقي؛ وهم بارق وألمع وغامد وسائر إخوانهم؛ وفي سبعمائة من أهل السراة، وأهل اليمن ألفان وثلاثمائة؛ منهم النخع بن عمرو، وجميعهم يومئذ أربعة آلاف؛ مقاتليهم وذرارتهم ونساؤهم؛ وأتاهم عمر في عسكرهم؛ فأرادهم جميعاً على العراق، فأبوا إلا الشام، وأبى إلا العراق، فسمح نصفهم فأمضاهم نحو العراق، وأمضى النصف الآخر نحو الشام.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن حنش النخعي، عن أبيه وغيره منهم، أن عمر أتاهم في عسكرهم؛ فقال: إن الشرف فيكم يا معشر النخع لمتربع، سيروا مع سعد. فنزعوا إلى الشام، وأبى إلا العراق، وأبوا إلا الشام؛ فسرح نصفهم إلى الشأم؛ فسرح نصفهم إلى الشأم ونصفهم إلى العراق.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمستنير وحنش؛ قالوا: وكان فيهم من حضرموت والصدف ستمائة؛ عليهم شداد بن ضمعج، وكان فيهم ألف وثلاثمائة من مذحج، على ثلاثة رؤساء: عمرو بن معد يكرب على بني منبه، وأبو سبرة بن ذؤيب على جعفي ومن في حلف جعفي من إخوة جزء وزبيد وأنس الله ومن لفهم، ويزيد بن الحارث الصدائي على صداء وجنب ومسلية في ثلاثمائة؛ هؤلاء شهدوا من مذحج فيمن خرج من المدينة مخرج سعد منها، وخرج معه من قيس عيلان ألف بشر بن عبد الله الهلالي.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن ابراهيم، قال: خرج أهل القادسية من المدينة، وكانوا أربعة آلاف؛ ثلاثة آلاف منهم من أهل اليمن وألف من سائر الناس.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وسهل، عن القاسم، قالوا: وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص، ثم قام في الناس خطيباً، فقال: إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول، ليحيى به القلوب؛ فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله؛ من علم شيئاً فلينتفع به ؛ وإن للعدل أمارات وتباشير ؛ فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين، وأما التباشير فالرحمة وقد جعل الله لكل أمر باباً ويسر لكل باب مفتاحاً، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد. والاعتبار. ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق. ولا تصانع في ذلك أحداً، واكتف بما يكفيك من الكفاف؛ فإن من لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء. إني بينكم وبين الله؛ وليس بيني وبينه أحد؛ وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه، فأنهوا شكاتكم إلينا؛ فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع. وأمر سعداً بالسير، وقال: إذا انتهت إلى زرود فانزل بها؛ وتفرقوا فيما حولها، واندب من حولك منهم، وانتخب أهل النجدة والرأي والقوة والعدة.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن رجل، قال: مرت السكون مع أول كندة مع حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن حديج في أربعمائة؛ فاعترضهم؛ فإذا فيهم فتية دلم سباط مع معاوية بن حديج، فأعرض عنهم، ثم أعرض، ثم أعرض ؛ حتى قبل له: مالك ولهؤلاء! قال: إني عنهم لمتردد، وما مر بي قوم من العرب أكره إلى منهم. ثم أمضاهم، فكان بعد يكثر أن يتذكرهم بالكراهية، وتعجب الناس من رأى عمر. وكان منهم رجل يقال له سودان بن حمران، قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه ؛ وإذا منهم حليف لهم يقال له خالد بن ملجم ، قتل علي بن أبي طالب رحمه الله ؛ وإذا منهم معاوية بن حديج ؛ فنهض في قوم منهم يتبع قتلة عثمان يقتلهم ؛ وإذا منهم قوم يقرون قتلة عثمان.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، عن ماهان، وزياد بإسناده، قالوا: وأمد عمر سعداً بعد خروجه بألفي يماني وألفى نجدي مؤد من غطفان وسائر قيس، فقدم سعد زرود في أول الشتاء، فنزلها وتفرقت الجنود فيما حولها من أمواه بني تميم وأسد، وانتظر اجتماع الناس، وأمر عمر، وانتخب من بني تميم والرباب أربعة آلاف ؛ ثلاثة آلاف تميمي وألف ربي ؛ وانتخب من بني أسد ثلاثة آلاف ، وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة، فأقاموا هنالك بين سعد بن أبي وقاص وبين المثنى بن حارثة، وكان المثنى في ثمانية آلاف ؛ من ربيعة ستة آلاف من بكر بن وائل، وألفان من سائر ربيعة أربعة آلاف ممن كان النحت بعد فصول خالد أربعة آلاف كانوا معه ممن بقي يوم الجسر وكان معه من أهل اليمن ألفان من بحيلة، وألفان من قضاعة وطيء ممن النتخبوا إلى ما كان قبل ذلك ، على طيء عدي بن حاتم، وعلى قضاعة عمرو بن وبرة، وعلى بجيلة جرير بن عبد الله، فبينا الناس لذلك سند يرجو أن عليه المثنى، والمثنى يرجو أن يقدم عليه سعد، مات المثنى من جراحته التي كان جرحها يوم الجسر، انتفضت به؛ فاستخلف المثنى على الناس بشير بن الخصاصة، وسعد يومئذ بزرود، ومع بشير يومئذ وجوه أهل العراق، ومع سعد وفود أهل العراق الذين كانوا قدموا على عمر، منهم فرات بن حيان العجلي وعتيبة، فردهم مع سعد.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بإسناده، وزياد عن ماهان، قالا: فمن أجل ذلك اختلف الناس في عدد أهل القادسية، فمن قال: اربعة آلاف فلمخرجهم مع سعد من المدينة، ومن قال: ثمانية آلاف فلاجتماعهم يزرود، ومن قال: تسعة آلاف فللحاق القيسيين، ومن قال: اثنا عشر ألفاً فلدفوف بني أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف. وأمر سعداً بالإقدام، فأقام ونهض إلى العراق وجموع الناس بشراف، وقدم عليه مع قومه شراف الأشعث بن قيس في ألف وسبعمائة من أهل؛ فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفاً، وجميع من قسم عليه فيء القادسية نحو من ثلاثين ألفاً.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد، عن جرير، قال: كان أهل اليمن ينزعون إلى الشأم؛ وكانت مضر تنزع إلى العراق، فقال عمر: أرحامكم أرسخ من أرحامنا! ما بال مضر لا تذكر أسلافها من أهل الشام! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سعد بن المرزبان، عمن حدثه، عن محمد بن حذيفة بن اليمان، قال: لم يكن أحد من العرب أجرأ على فارس من ربيعة، فكان المسلمون يسمونهم ربيعة الأسد إلى ربيعة الفرس، وكانت العرب في جاهليتها تسمى فارس الأسد ولا روم الأسد.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: قال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب ؛ فلم يدع رئيساً، ولا ذا رأي، ولا ذا شرف، ولا ذا سلطة ولا خطيباً ؛ ولا شاعراً ؛ إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان عمر قد كتب إلى سعد مرتحله من زرود؛ أن ابعث إلى فرج الهند رجلاً ترضاه يكون بحياله، ويكون ردءاً لك من شيء إن أتاك من تلك التخوم؛ فبعث المغيرة بن شعبة في خمسمائة؛ فكان بحيال الأبلة من أرض العرب؛ فأتى غضياً، ونزل على جرير؛ وهو فيما هنالك يومئذ. فلما نزل سعد بشراف، كتب إلى عمر بمنزله وبمنازل الناس فيما بين غضى إلى الجبانة، فكتب إليه عمر: إذا جاءك كتابي هذا فعشر الناس وعرف عليهم، وأمر على أجنادهم، وعبهم، ومرو رؤساء المسلمين فليشهدوا، وقدر هم وهم شهود؛ ثم وجههم إلى اصحابهم، وواعدهم القادسية؛ واضمم إليك المغيرة بن شعبة في خيل واكتب إلى بالذي يستقر عليه أمرهم.

 

فبعث سعد إلى المغيرة ؛ فانضم إليه وغلى رؤساء القبائل، فأتوه، فقدر الناس وعباهم بشراف، وأمر أمراء الأجناد، وعرف العرفاء ؛ فعرف على كل عشرة رجلاً، كما كانت العرافات أزمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء، وأمر على الرايات رجالاً من أهل السابقة، وعشر الناس، وأمر على الأعشار رجالاً من الناس لهم وسائل في الإسلام، وولى الحروب رجالاً، فولى على مقدماتها ومجنباتها وساقتها ومجرداتها وطلائعها ورجلها وركبناها، فلم بفصل إلا على تعبية، ولم بفصل منها إلا بكتاب عمر وإذنه ؛ فأما أمراء التعبية، فاستعمل زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الحوية بن مرثد بن معاوية بن معن بن مالك بن أرتم بن جشم بن الحارث الأعرج ؛ وكان ملك هجر قد سوده في الجاهلية، ووفده على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقدمه، ففصل بالمقدمات بعد الإذن من شراف ؛ حتى انتهى إلى العذيب، واستعمل على الميمنة عبد الله بن المعتم، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة ؛ فكانوا عرافة، واستعمل على الميسرة شرحبيل بن السمط بن شرحبيل الكندي - وكان غلاماً شاباً، وكان قد قاتل أهل الردة، ووفى الله ، فعرف ذلك له، وكان قد غلب الأشعث على الشرف فيما بين المدينة ؛ إلى أن اختلطت الكوفة وكان أبوه ممن تقدم إلى الشأم مع أبي عبيدة بن الجراح - وجعل خليفة خالد أبن عرفطة، وجعل عاصم بن عمرو التيمي ثم العمري على الساقة، وسواد بن مالك التيمي على الطلائع، وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة، وعلى الرجل حمال بن مالك الأسدي، وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الخثعمي، فكان أمراء التعبية يلون الأمير، والذين يلون أمراء الأعشار، والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات، والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رءوس القبائل وقالوا جميعاً: لا يستعين أبو بكر في الردة ولا على الأعاجم بمرتد، واستنفارهم عمر ولم يول منهم أحداً.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وعمرو بإسنادهم، وسعيد بن المرزبان، قالوا: بعث عمر الأطبة، وجعل على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور، وجعل إليه الأقباص وقسمة الفيء، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أبي عثمان النهدي؛ قال: والترجمان هلال الهجري والكاتب زياد بن أبي سفيان. فملا فرغ سعد من تعبيته، وعد لكل شيء من أمره جماعاً ورأساً، كتب بذلك إلى عمر، وكان من أمر سعد فيما بين كتابه إلى عمر بالذي جمع عليه الناس وبين رجوع جوابه ورحله من شراف إلى القادسية قدوم المعنى بن حارثة وسلمى بنت خصفة التيمية؛ تيم اللات، إلى سعد بوصية المثنى، وكان قد أوصى بها، وأمرهم أن يعجلوها على سعة بزرود، فلم يفرغوا لذلك وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر؛ وذلك أن الآزاذمرد بن الآزاذبه بعثه إلى القادسية، وقال له: ادع العرب، فأنت على من أجابك، وكن كما كان آباؤك . فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعيداً. فملا انتهى إلى المعنى خبره، اسرى المعنى من ذي قار حتى بيته، فأنامه ومن معه، ثم رجع إلى ذي قار، وخرج منها هو وسلمى إلى سعد بوصية المثنى بن حارثة ورأيه، فقدموا عليه وهو بشراف، يذكر فيها أن رأيه لسعد ألا يقاتل عدوه وعدوهم - يعني المسلمين - ومن أهل فارس ؛ إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم ؛ فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم ؛ وإن تكن الأخرى فاءوا إلى فئة، ثم يكونوا أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم ؛ إلى أن يرد الله الكرة عليهم.

 

فلما انتهى إلى سعد رأى المثنى ووصيته ترحم عليه، وأمر المعنى على عمله، وأوصى بأهل بيته خيراً، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها ؛ وكان في الأعشار كلها بضعة وسبعون بدرياُ، وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة، فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك، وثلاثمائة ممن شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة، في جميع أحياء العرب. وقدم على سعد وهو بشراف كتاب عمر بمثل رأى المثنى ؛ وقد كتب إلى أبي عبيدة مع كتاب سعد ؛ ففصل كتاباهما إليهما، فأمر أبا عبيدة في كتابه بصرف أهل العراق وهم ستة آلاف، ومن اشتهى أن يلحق بهم ؛ وكان كتابه إلى سعد: أما بعد، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين ؛ وتوكل على الله، واستعن به على أمرك كله ؛ واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع - وإن كان سهلا - كؤود لبحوره وفيوضه ودآدئه ؛ إلا أن توافقوا غيضاً من فيض، وإذا لقيم القوم أو أحد منهم فأبدوهم الشدة والضرب ، وإياكم والمناظرة لجموعهم ولا يخدعنكم ؛ فإنهم خدعة مكرة ؛ أمرهم غير أمركم ؛ إلا أن تجادوهم، وإذا انتهت إلى القادسية - والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي أجمع تلك الأبواب لمادتهم، ولما يريدونه من تلك الآصل ؛ وهو منزل رغيب خصيب حصين دونه قناطر، وأنهار ممتنعة - فتكون مسالحك على أنقابها ، ويكون الناس بين الحجر والمدر على حافات الحجر وحافات المدر، والجزاع بينهما ؛ ثم الزم مكانك فلا تبرحه ؛ فإنهم إذا أحسوك أغضبتهم ورموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم ؛ فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم لقتاله ونويتم الأمانة؛ رجوت أن تنصروا عليهم ؛ ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبداً إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم ؛ فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم ؛ ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل ؛ حتى يأتي الله بالفتح عليهم، ويرد لكم الكرة.

 

وكتب إليه أيضاً باليوم الذي يرتحل فيه من شراف: فإذا كان يوم كذا وكذا فارتحل بالناس حتى تنزل فيما بين عذيب الهجانات وعذيب القوادس، وشرق بالناس وغرب بهم.

 

ثم قدم عليه كتاب جواب عمر: أما بعد، فتعاهد قبلك، وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما؛ والصبر الصبر ؛ فإن المعونة تأتى من الله على قدر النية؛ والأحر على قدر الحسنة. والحذر الحذر على من أنت عليه وما أنت بسبيله، واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، واكتب إلى أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؛ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم؛ فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وارجه، ولا تدل بشئ. واعلم أن الله قد وعدكم. وتوكل لهذا الأمر بما لا خلف له؛ فاحذر أن تصرفه عنك، ويستندل بكم غيركم.

 

فكتب إليه سعد بصفة البلدان: إن القادسية بين الخندق والعتيق، وإن ما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين؛ فأما أحدهما فعلى الظهر، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يدعى الحضوض؛ يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة؛ وما عن يمين القادسية إلى الولجة فيض من فيوض مياههم. وإن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلي ألب لأهل فارس قد خفوا لهم، واستعدوا لنا . وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال منهم ؛ فهم يحاولون انغاضنا وإقحامنا ؛ ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم ؛ وأمر الله بعد ماض؛ وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا ؛ فنسأل الله خير القضاء، وخير القدر في عافية.

 

فكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك؛ واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن؛ فإنه خرابها إن شاء الله.

 

وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، ويدعون له معه، وللمسلمين عامة، فقدم زهرة سعد حتى عسكر بعذيب الهجانات، ثم خرج في أثره حتى ينزل على زهرة بعذيب الهجانات، وقدمه، فنزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة؛ وقديس يومئذ أسفل منها بميل.

 

كتب إلىالسرى، عن شعيب، عن سيف، عن القعقاع بإسناده، قال: وكتب عمر إلى سعد: إني قد أقي في روعي أنكم إذا لقيم العدو هزكم، فاطرحوا الشك، وآثروا التقية عليه؛ فإن لاعب أحد منكم أحداً من العجم بأمان أو قرفة بإشارة أو بلسان، فكان لا يدري الأعجمي ما كلمه به، وكان عندهم أماناً؛ فأجروا ذلك له مجرى الأمان. وإياكم والضحك؛ والوفاء الوفاء! فإن الخطأ بالوفاء بقية وإن الخطأ بالغدر الهلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم، وذهاب ريحكم، وإقبال ريحكم. واعلموا أنى أحذركم أن تكونوا شيئاً على المسلمين وسبباً لتوهينهم.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن مسلم العكلي والمقدام بن أبي المقدام، عن أبيه، عن كرب بن أبي كرب العكلي - وكان في المقدمات أيام القادسية - قال: قدمنا سعد من شراف، فنزلنا بعذيب الهجانات ثم ارتحل ؛ فلما نزل علينا بعذيب الهاجانات وذلك في وجه الصبح خرج زهرة بن الحوية في المقامات، فلما رفع لنا العذيب - وكان من مسالحهم - استبناً على بروجه ناساً، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلاً أو بين شرفتين إلا رأيناه، وكنا في سرعان الخيل ، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ونحن نرى أن فيها خيلاً، ثم أقدمنا على العذيب، فلما دنونا منه، خرج رجل يركض نحو القادسية، فانتهينا إليه، فدخلناه فإذا ليس فيه أحد ؛ وإذا ذلك الرجل هو الذي كان يتراءى لنا على البروج وهو بين الشرف مكيدة، ثم انطلق بخبرنا، فطلبناه فأعجزنا، وسمع بذلك زهرة فاتبعنا، فلحق بنا وخلفنا واتبعه. وقال: إن أفلت الربيء أتاهم الخبر. فلحقه بالخندق فطعنه فجد له فيه، وكان أهل القادسية يتعجبون من شجاعة ذلك الرجل، ومن علمه بالحرب، لم يلحق به، ولم يصبه زهرة، ووجد المسلمون في العذيب رماحاً ونشاباً وأسفاطاً من جلود وغيرها، انتفع بها المسلمون.

 

ثم بث الغازات، وسرحهم في جوف الليل، وأمرهم بالغارة على الحيرة، وأمر عليهم بكير بن عبد الله الليثي - وكان فيها الشماخ الشاعر القيسي في ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس - فسروا حتى جازوا السلحين، وقطعوا جسرها يريدون الحيرة، فسمعوا جلبة وأزفلة، فأحجموا عن الإقدام، وأٌكموا كميناً حتى يتبينوا، فما زالوا كذلك حتى جازوا بهم، فإذا خيول تقدم تلك الغوغاء، فتركوها فنفذت الطريق إلى الصنين، وإذا هم لم يشعروا بهم ؛ وإنما ينتظرون ذلك العين لا يردينهم، ولا يأبهون لهم، إنما همتهم الصنين ؛ وإذا أخت آزاذ مردين أزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين - وكان من أشرف العجم - فسار معها من يبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا ؛ فلما انقطعت الخيل عن الزواف، والمسلمون كمين في النخل، فقصم صلبه، وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة أزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع، ومعهم مالا يدري قيمته، ثم عاج واستاق ذلك، فصبح سعداً بعذيب الهجانات بما أفاء الله على المسلمين، فكبروا تكبيرة شديدة. فقال سعد: أقسم بالله لقد كبرتم تكبيرة قوم عرفت فيهم العز، فقسم ذلك سعد على المسلمين فالخمس نفله، وأعطى المجاهدين بقيته، فوقع منهم موقعاً، ووضع سعد بالعذيب خيلاً تحوط الحريم، وانضم إليها حاطه كل حريم، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي، ونزل سعد القادسية، فنزل بقديس، ونزل زهرة بحيال قنطرة العتيق في موضع القادسية اليوم ؛ وبعث بخبر سرية يكبر، وبنزوله قديساً، فأقام بها شهراً، ثم كتب إلى عمر: لم يوجه القوم غلينا أحداً، ولم يسندوا حرباً إلى أحد علمناه، ومتى ما يبلغنا ذلك نكتب به ؛ واستنصر الله، فإنا بمنحاة دنيا عريضة ؛ دونها بأس شديد ؛ قد تقدم إلينا في الدعاء إليهم، فقال: (ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد).

 

وبعث سعد في مقامه ذلك إلى أسفل الفرات عاصم بن عمرو فسار حتى أنى ميسان فطلب غنماً أو بقراً فلم يقدر عليها، وتحصن منه من في الأفدان، ووغلوا في الآجام، ووغل حتى أصاب رجلاً على طف أجمة، فسأله واستد له على البقر والغنم، فحلف له وقال: لا أعلم ؛ وإذا هو راعى ما في تلك الأجمة، فصاح منها ثور كذب والله وها نحن أولاء ؛ فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر، فقسم ذلك سعد على الناس فأخصبوا أياماً ؛ وبلغ ذلك الحجاج في زمانه، فأرسل إلى نفر ممن شهدها أحدهم نذير بن عمرو والوليد بن عبد شمس وزاهر، فسألهم فقالوا: نعم، نحن سمعنا ذلك، ورأيناه واستقناها، فقال: كذبتم! فقالوا: كذلك ؛ إن كنت شهدتها وغبنا عنها، فقال: صدقتم، فما كان الناس يقولون في ذلك ؟ قالوا: آية تبشير يستدل بها على رضا الله، وفتح عدونا ؛ فقال: والله ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء، قالوا: والله ما ندري ما أجنت قلوبهم ؛ فأما ما رأينا فإنا لم نر قوماً قط أزهد في دنيا منهم، ولا أشد لها بغضاً؛ ما اعتد على رجل منهم في ذلك اليوم بواحدة من ثلاث ؛ لا بجبن ولا بغدر ولا بغلول ؛ وكان هذا اليوم يوم الأباقر ؛ وبث الغازات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما كانوا يستكفون به زماناً، وبعث سعد عيوناً إلى أهل الحيرة وإلى صلوبا، ليعلموا له خبر أهل فارس ؛ فرجعوا إليه بالخبر ؛ بأن الملك قد ولى رستم بن الفرخزاذ الأزمنى حربه، وأمره بالعسكرة. فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به ؛ واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالاً من أهل المنظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم، وفلجاً عليهم ؛ واكتب إلى كل يوم. ولما عسكر رستم بساباط كتبوا بذلك إلى عمر.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة، عن بن سيرين، وإسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، قالا: لما بلغ سعداً فصول رسم إلى ساباط، أقام في عسكره لاجتماع الناس؛ فأما إسماعيل فإنه قال: كتب إليه سعد أن رستم قد ضرب عسكره بساباط دون المدائن وزحف إلينا ؛ وأما أبو ضمرة فإنه قال: كتب إليه أن رستم قد عسكر بساباط، وزحف إلينا بالخيول والفيول وزهاء فارس، وليس شئ أهم إلى ولا أنا له أكثر ذكراً منى لما أحببت أن أكون عليه ؛ ونستعين بالله، ونتوكل عليه، وقد بعثت فلاناً وفلاناً وهم ما وصفت.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والمجالد بإسنادهما، وسعيد بن المرزبان ؛ أن سعد بن أبي وقاص حين جاءه أمر عمر فيهم، جمع نفراً عليهم نجار، ولهم آراء، ونفراً لهم منظر ؛ وعليهم مهابة ولهم آراء ؛ فأما الذين عليهم نجار لهم آراء ولهم اجتهاد فالنعمان بن مقرن وبسر بن أبي رهم وحملة بن جوية الكناني وحنظلة بن الربيع التميمي وفرات بن حيان العجلي وعدي بن سهيل والمغيرة بن زرارة بن البناش بن حبيب ؛ وأما من لهم منظر لأجسامهم ؛ وعليهم مهابة ولهم آراء ؛ فعطارد بن حاجب والأشعث بن قيس والحارث بن حسان وعاصم بن عمرو وعمرو بن معد يكرب والمغيرة بن شعبة والمعنى بن حارثة ؛ فبعثهم دعاة إلى الملك.

 

حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: قال أبو وائل: جاء سعد حتى نزل القادسية، ومعه الناس، قال: لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة آلاف أو نحو من ذلك، والمشركين ثلاثون ألفاً أو نحو ذلك: فقالوا لنا: لا يدى لكم ولا قوة ولا سلاح، ما جاء بكم؟ ارجعوا، قال: قلنا: لا نرجع؛ وما نحن براجعين، فكانوا يضحكون من نبلنا، ويقولون: دوك دوك ، ويشبهونها بالمغازل. قال: فلما أبينا عليهم أن نرجع، قالوا: ابعثوا إلينا رجلاً منكم، عاقلاً يبين لنا ما جاء بكم ؛ فقال المغيرة بن شعبة: أنا، فعبر إليهم، فقعد مع رستم على السرير، فنخروا وصاحوا، فقال: إن هذا لم يزدني رفعة، ولم ينقص صاحبكم، قال رستم: صدقت، ما جاء بكم؟ قال: إنا كنا قوماً في شر وضلالة ؛ فبعث الله فينا نبياً، فهدانا الله به ورزقنا على يديه ؛ فكان مما رزقنا حبة زعمت تنبت بهذا  البلد ؛ فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا قالوا: لا صبر لنا عن هذه، أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبة، فقال رستم: إذاً نقتلكم، فقال: إن قتلتمونا دخلنا الجنة، وإن قتلناكم دخلتم النار ؛ أو أديتم الجزية. قال: فلما قال: أديتم الجزية، نخروا وصالحوا، وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم، فقال المغيرة: تعبرون غلينا أو نعبر إليكم؟ فقال رستم: بل نبد إليكم، فاستأخر المسلمون حتى عبر منهم من عبر، فحملوا عليهم فهزموهم.

 

قال حصين: فحدثني رجل منا يقال له عبيد بن جحش السلمى، قال: لقد رأيتنا وإنا لنطأ على ظهور الرجال، ما مسهم سلاح، قتل بعضهم بعضاً، ولقد رأينا أصبنا جراباً من كافور، فحسبناه ملحاً لا نشك أنه ملح ؛ فطبخنا لحماً، فجعلنا نلقه في القدر فلا نجد له طعماً، فمر بنا عبادي معه قميص فقال: يا معشر المعربين، لا تفسدوا طعامكم ؛ فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه، هل لكم أن تأخذوا هذا القميص به؟ فأخذناه منه، وأعطيناه منا رجلاً يلبسه، فجعلنا نطيف به ونعجب منه، فلما عرفنا الثياب، إذا ثمن ذلك القميص درهمان. قال: ولقد رأيتني أقرب إلى رجل عليه سواران من ذهب، وسلاحه، فجاء فما كلمته حتى صربت عنقه.

 

قال: فانهزموا حتى انتهوا إلى الصراة؛ فطلبناهم فانهزموا حتى انتهوا إلى المدائن؛ فكان المسلمون بكوثى وكان مسلحة المشركين بدير المسلاخ، فأتاهم المسلمون فالتقوا، فهزم المشركون حتى نزلوا بشاطئ دجلة، فمنهم من عبر من كلواذى، ومنهم من عبر من أسفل المدائن، فحصروهم حتى ما يجدون طعاماً يأكلونه، إلا كلابهم وسنانيرهم. فخرجوا ليلاً، فلحقوا بجلولاء فأتاهم المسلمون ؛ وعلى مقدمة سعد هاشم بن عتبة، وموضع الوقعة التي ألحقهم منها فريد. قال أبو وائل: فبعث عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان على أهل الكوفة، ومجاشع بن مسعود على أهل البصرة.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، وطلحة عن المغيرة، قالوا: فخرجوا من العسكر حتى قدموا المدائن احتجاجاً ودعاة ليزدجرد، فطووا رستم، حتى انتهوا إلى باب يزدجرد، فوقفوا على خيول عروات، معهم جنائب، وكلها صهال، فاستأذنوا فحبسوا، وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه يستشيرهم فيما يصنع بهم، ويقوله لهم، وسمع بهم الناس فحضروهم ينظرون إليهم، وعليهم المقطعات والبرود، وفي أيديهم سياط دقاق، وفي أرجلهم النعال. فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فأدخلوا عليه.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن بنت كيسان الضبية، عن بعض سبايا القادسية ممن حسن إسلامه، وحضر هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب. قال: وثاب إليهم الناس ينظرون إليهم؛ فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوعد بعضها بعضاً. وجلع أهل فارس يسوئهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم؛ فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس؛ وكان سيئ الأدب، فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان بينه وبينهم فقال: سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان -وكان على الوفد: ما تسمى رداءك؟ قال: البرد، فتطير وقال بردجهان، وتغيرت ألوان فارس وشق ذلك عليهم. ثم قال: سلهم عن أحذيتهم، فقال: ما تسمون هذه الحذية؟ فقال: النعال، فعاد لمثلها، فقال: ناله في أرضنا، ثم سأله عن الذي في يده فقال: سوط، والسوط بالفارسية الحريق، فقال: أحرقوا فارس أحرقهم الله! وكان تطيره على أهل فارس، وكانوا يجدون من كلامه.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، بمثله وزاد: ثم قال الملك: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم، وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا! فقال لهم النعمان بن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم ؛ ومن شاء آثرته. فقالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا. فتكلم النعمان، فقال: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة؛ فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين؛ فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص. فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب ؛ وبدأ بهم وفعل ؛ فدخلوا معه جميعاً على وجهين: مكروه عليه فاغتبط ؛ وطائع أتاه فازداد ؛ فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كما عليه من العداوة والضيق ؛ ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف ، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء ؛ فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم ؛ وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم ؛ وإلا قاتلناكم.

 

قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم؛ قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونكم. لا تغزون فارس ولا تطعمون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم؛ وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.

 

فأسكت القوم. فقام المغيرة بن زرارة بن النباش الأسدي، فقال أيها الملك، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم ؛ وهم أشراف يستحيون من الأشراف ؛ وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، ويفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك؛ فجاوبني لأكون الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك ؛ إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأنا ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ؛ فنرى ذلك طعامنا. وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم ؛ ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تنال من طعامنا ؛ فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك ؛ فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً، نعرف نسبة، ونعرف وجهه ومولده ؛ فأرضه خير أرضنا، وحسبة خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا ؛ وقبيلته خير قبائلنا ؛ وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي فيها أصدقنا وأحملنا ؛ فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد قبل ترب كان له وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئاً إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه ؛ فصار فيما بيننا وبين رب العالمين ؛ فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله ؛ فقال لنا: إن ربكم يقول: إني أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإلى يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري ؛ دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبي فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوا مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبي فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم. فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه؛ فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر ؛ وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجى نفسك. فقال: أتستقبلني بمثل هذا! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أأستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم؛ لا شيء لكم عندي، وقال: ائتوني بوقر من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن؛ ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنى مرسل إليكم رستم حتى يدفيكم ويدفئه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.

 

ثم قال: من أشرفكم؟ فسكت القوم، فقال عاصم بن عمرو -وافتات ليأخذ التراب: أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملينه، فقال: أكذاك؟ قالوا: نعم فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها ؛ ثم انجذب في السير، فأتوا به سعداً وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه، فقال: بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء الله. ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد، فأخبر الخبر فقال: أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم.

 

وجاء أصحابه وجعلوا يزدادون في كل يوم قوة، ويزداد عدوهم في كل يوم وهناً، واشتد ما صنع المسلمون، وصنع الملك من قبول التراب على جلساء الملك، وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم، وكيف رآهم، فقال الملك: ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا على وما أنتم بأعقل منهم، ولا أحسن جواباً منهم ؛ وأخبره بكلام متكلمهم، وقال: لقد صدقني القوم، لقد وعد القوم أمراً ليدركنه أو ليموتن عليه، على أنى قد وجدت أفضلهم أحمقهم، لما ذكروا الجزية أعطيته تراباً فحمله على رأسه، فخرج به، ولو شاء أتقى بغيره ؛ وأنا لا أعلم . قال: أيها الملك، إنه لأعقلهم، وتطير إلى ذلك، وأبصرها دون أصحابه.

 

وخرج رستم من عنده كئيباً غضبان -وكان منجماً كاهناُ -فبعث في أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا، وإن أعجزوه سلبكم الله أرضكم وأبناءكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك، ما كان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا? فكان ذلك مما زاد الله به فارس غيظاً. وأغاروا بعدما خرج الوفد إلى يزدجرد، إلى أن جاءوا إلى صيادين قد اصطادوا سمكاً، وسار سواد بن مالك التيمي إلى النجاف والفراض إلى جنبها، فاستاق ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور، فأوقروها سمكاً، واستاقوها، فصبحوا العسكر، فقسم السمك بين الناس سعد، وقسم الدواب، ونفل الخمس إلا ما رد على المجاهدين منه، وأسهم على السبي ؛ وهذا يوم الحيتان، وقد كان الآزاذ مرد بن الآزاذبه خرج في الطلب، فعطف عليه سواد وفوارس معه، فقاتلهم على قنطرة السليحين ؛ حتى عرفوا أن الغنيمة قد نجت، ثم اتبعوها فأبلغوها المسلمين، فكانوا قد اكتسبوا منها ما اكتفوا به لو أقاموا زماناً ؛ فكانت السرايا إنما تسرى للحوم، ويسمون أيامها بها، ومن أيام الحم يوم الأباقر ويم الحيتان. وبعث مالك بن ربيعة بم خالد التيمي؛ تيم الرباب، ثم الوائلي ومعه المساور بن النعمان التيمي ثم الربيعي في سرية أخرى ؛ فأغاروا على الفيوم ؛ فأصابا إبلاً لبني تغلب والنمر فشلاها ومن فيها، فغدوا بها على سعد فنحرت الإبل في الناس. وأخصبوا، وأغار على النهرين عمرو بن الحارث، فوجدوا على باب ثوراء مواشي كثيرة، فسلكوا أرض شيلي -وهي اليوم نهر زياد -حتى أتوا بها العسكر.

 

وقال عمرو: ليس بها يومئذ إلا نهران. وكان بين قدوم خالد العراق ونزول سعد القادسية سنتان وشيء. وكان مقام سعد بها شهرين وشيئاً حتى ظفر.

 

وقال -والإسناد الأول - : وكان من حديث فارس والعرب بعد البويب أن الأنوشجان بن الهربذ خرج من سواد البصرة يريد أهل غض، فاعترضه أربعة نفر على أفناء تميم ؛ وهم بإزائهم: المستورد وهو على الرباب، وعبد الله بن زيد يسانده ؛ الرباب بينهما، وجزء بن معاوية وابن النابغة يسانده ؛ سعد بينهما، والحصين بن نيار والأعور بن يشامه يسانده على عمرو، والحصين بن معبد والشبه على حنظلة، فقتلوه دونهم. وقدم سعد فانضموا إليه هم وأهل غضى وجميع تلك الفرق.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: وعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار، وأرسلوا إليه أن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب، وإن فعل العرب مذ نزلوا القادسية لا يبقى عليه شيء؛ وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ؛ وليس فيما هنالك أنيس إلا في الحصون، وقد ذهب الدواب وكل شيء لم تحتمله الحصون من الأطعمة، ولم يبق إلا أن يستنزلونا ، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا. وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطف، وأعانهم عليه، وهيجوه على بعثه رستم.

 

ولما بدا ليزدجرد أن يرسل رستم أرسل إليه، فدخل عليه، فقال له: إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه؛ وإنما يعد للأمور على قدرها، وأنت رجل أهل فارس اليوم ، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم مثله منذ ولى آل أردشير. فأراه أن قد قبل منه، وأثنى عليه.

 

فقال له الملك: قد أحب أن أنظر فيما لديك لأعرف ما عندك، فصف لي العرب وفعلهم منذ نزلوا القادسية، وصف لي العجم وما يلقون منهم.

 

فقال رستم: صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت. فقال: ليس كذلك؛ إني إنما سألتك رجاء أن تعرب صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب، فافهم عنى؛ إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفى على جبل يأوى إليه الطير بالليل، فتبيت في سفحه في أوكارها، فلما أصبحت تجلت الطير، فأبصرته يرقبها، فإن شذ منها شيء اختطفه، فلما أبصرته الطير لم تنهض من مخافته؛ وجعلت كلما شذ منها طائر اختطفه، فلو نهضت نهضة واحدة ردته؛ وأشد شيء يكون في ذلك أن تنجو كلها إلا واحداً؛ وإن اختلفت لم تنهض فرقة إلا هلكت؛ فهذا مثلهم ومثل الأعاجم؛ فاعمل على قدر ذلك. فقال له رستم: أيها الملك، دعني؛ فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضرهم بي ؛ ولعل الدولة أن تثبت بي فيكون الله قد كفى، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب ؛ فإن الرأي فيها والمكيدة أنفع من بعض الظفر. فأبى عليه، وقال: أي شيء بقي! فقال رستم: إن للأناة في الحرب خير من العجلة، والأناة اليوم موضع، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا. فلج وأبى، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط، وجعلت تختلف إلى الملك الرسل ليرى موضعاً لإعفائه وبعثه غيره، ويجتمع إليه الناس. وجاء العيون إلى سعد بذلك من قبل الحيرة وبني صلوبا، وكتب إلى عمر بذلك. ولما كثرت الاستغاثة على يزدجر من أهل السواد على يدى الآزاذ به جشعت نفسه واتقى الحرب برستم، وترك الرأي -وكان ضيفاً لجوجاً -فاستحث رستم، فأعاد عليه رستم القول، وقال: أيها الملك؛ لقد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها؛ ولو أجد من ذلك بداً لم أتكلم به، فأنشدك الله في نفسك وأهلك وملكك؛ دعني أقم بعسكري وأسرح الجالينوس؛ فإن تكن لنا فذلك؛ وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره، حتى إذا لم نجد بداً ولا حيلة صبرنا لهم؛ وقد وهنا هم وحسرناهم ونحن جامون. فأبى إلا أن يسير.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرى الضبي، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم بساباط، وجمع آلة الحرب وأداتها بعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفاً، وقال: ازحف زحفاً، ولا تنجذب إلا بأمري؛ واستعمل على ميمنته الهرمزان، وعلى ميسرته مهران بن بهران الرازي، وعلى ساقته البيرزان، وقال رستم ليشجع الملك: إن فتح الله علينا القوم فهو وجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم، إلى أن يقبلوا المسالمة أو يرضوا بما كانوا يرضون به. فلما قدمت وفود سعد على الملك، ورجعوا من عنده رأى رستم فيما يرى النائم رؤيا فكرهها، وأحس بالشر، وكره لها الخروج ولقاء القوم، واختلف عليه رأيه واضطرب، . وسأل الملك أن يمضى الجالينوس ويقيم حتى ينظر ما يصنعون، وقال: إن غناء الجالينوس كغنائي، وإن كان إسمي أشد عليهم من اسمه، فإن ظفر فهو الذي نريد، وإن تكن الأخرى وجهت مثله، ودفعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما ؛ فإني لا أزال مرجواً في أهل فارس، ما لم أهزم ينشطون، ولا أزال مهيباً في صدور العرب ؛ ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم ؛ فإن باشرتهم احترسوا آخر دهرهم، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم. فبعث مقدمته أربعين ألفاً؛ وخرج في ستين ألفاً، وساقته في عشرين ألفاً.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم؛ قالوا: وخرج رستم في عشرين ومائة ألف، كلهم متبوع، وكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف، وخرج من المدائن في ستين ألف متبوع.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رستم زحف لسعد وهو بالقادسية في ستين ألف متبوع.

 

كتب إلى السرى عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما أبى الملك إلا السير، كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس أهل بلادهم: من رستم إلى البندوان مرزبن الباب، وسهم أهل، الذي كان لكل كون يكون، فيفض الله به كل جند عظيم شديد، ويفتح به كل حصن حصين، ومن يليه؛ فرموا حصونكم، وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب قد وردوا بلادكم، وقارعكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأي مداقتهم ومطاولتهم حتى تعود سعود هم نحوساً؛ فأبى الملك.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن رجل ؛ أن يزدجرد لما أمر رستم بالخروج من ساباط، كتب إلى أخيه بنحو من الكتاب الأول، وزاد فيه: فإن السمكة قد كدرت الماء، وإن النعائم قد حسنت، وحسنت الزهرة ، واعتل الميزان، وذهب بهرام ؛ ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا، ويستولون على ما يلينا. وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن إليهم أو لأسير إليهم أنا بنفسي. فأنا سائر إليهم.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرى، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى، وكان من أهل فرات بادقلي، فأرسل إليه فقال: ما ترى في مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه، وكان رستم يعلم نحواً من علمه، فثقل عليه مسيره لعلمه، وخف على الملك لما غره منه، وقال: إني أحب أن تخبرني بشئ أراه أطمئن به إلى قولك، فقال الغلام لزرنا الهندي: أخبره، فقال: سلنى، فسأله فقال: أيها الملك يقبل طائر فيقع على إيوانك فيقع منه شيء في فيه ها هنا -وخط دارة -فقال العبد: صدق، والطائر غراب، والذي في فيه درهم. وبلغ جابان أن الملك طلبه، فأقبل حتى دخل عليه، فسأله عما قال غلامه، فحسب فقال: صدق ولم يصب؛ هو عقيق، والذي في فيه درهم، فيقع منه على هذا المكان، وكذب زرنا. ينزو الدرهم فيستقر ها هنا - ودور دارة أخرى - فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق، فسقط منه الدرهم في الخط الأول، فنزا فاستقر في الخط الآخر ونافر الهندي جابان حيث خطأه ؛ فأتيا ببقرة نتوج ؛ فقال الهندي: سخلتها غراء سوداء، فقال جابان: كذبت، بل سوداء صبغاء ، فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها، فإذا هي ذنبها بين عينيها، فقال جابان: من ها هنا أتى زرنا، وشجعاه على إخراج رستم، فأمضاه، وكتب جابان إل جشنسماه: إن أهل فارس قد زال أمرهم، وأديل عدوهم عليهم، وذهب ملك المجوسية، وأقبل ملك العرب، وأديل دينهم ؛ فاعتقد منهم الذمة، ولا تخلبنك الأمور، والعجل العجل قبل أن تؤخذ! فلما وقع الكتاب إليه خرج جشنسماه إليهم حتى أتى المعنى؛ وهو في خيل بالعتيق، وأرسله إلى سعد، فاعتقد منه على نفسه وأهل بيته ومن استجاب له ورده، وكان صاحب أخبارهم. وأهدى للمعنى فالودق، فقال لأمرأته: ما هذا؟ فقالت: أظن البائسة امرأته أراغت العصيدة فأخطأتها، فقال المعنى: بؤساً لها! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما فصل رستم من ساباط، لقيه جابان على القنطرة، فشكا إليه، وقال: ألا ترى ما أرى؟ فقال له رستم: أما أنا فأقاد بخشاش وزمام، ولا أجد بداً من الانقياد. وأمر الجالينوس حتى قدم الحيرة؛ فمضى واضطرب فسطاطه بالنجف، وخرج رستم وأمر الجالينوس حتى ينزل بكوني، وكتب إلى الجالينوس والآززاذ مرد: أصيبا لي رجلاً من العرب من جند سعد فركبا بأنفسهما طليعة فأصابا رجلاً، فبعثا به إليه وهو بكوثى فاستخبره، ثم قتله.

 

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرى، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما فصل رستم، وأمر الجالينوس بالتقدم إلى الحيرة، أمره أن يصيب له رجلاً من العرب، فخرج هو والآزاذ مرد سرية في مائة؛ حتى انتهيا إلى القادسية، فأصابا رجلاً دون قنطرة القادسية فاختطفاه، فنفر الناس فأعجزوهم إلا ما أصاب المسلمون في أخرياتهم. فملا انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم، وهو بكوثى، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ قال: جئنا نطلب موعود الله، قال: وما هو؟ قال: ارضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أبيتم أن تسلموا. قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: في موعود الله أن من قتل منا قبل ذلك أدخله الجنة. وأنجز لمن بقي منا ما قلت لك، فنحن على يقين.

 

 فقال رستم: قد وضعنا إذاً في أيديكم؛ قال: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها؛ فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول الإنس؛ وإنما تحاول القضاء والقدر! فاستشاط غضباً؛ فأمر به فضربت عنقه، وخرج رستم من كوثى؛ حتى ينزل ببرس، فغضب أصحابه الناس أموالهم ووقعوا على النساء، وشربوا الخمور. فضج العلوج إلى رستم، وشكوا إليه ما يلقون في أموالهم وأبنائهم. فقام فيهم، فقال: يا معشر أهل فارس، والله لقد صدق العربي؛ والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله للعرب في هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم. إن الله كان ينصركم على العدو، ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء بالعهود والإحسان؛ فأما إذ تحولتم عن ذلك إلى هذه الأعمال، فلا أرى الله إلا مغيراً ما بكم، وما أنا بآمن أن ينزع الله سلطانه منكم. وبعث الرجال؛ فلقطوا له بعض من يشكى فأتى بنفر، فضرب أعناقهم، ثم ركب ونادى في الناس بالرحيل، فخرج ونزل بحيال أهل دير الأعور، ثم انصب إلى المطاط؛ فعسكر مما يلي الفرات بحيال أهل النجف بحيال الخورنق إلى الغريين، ودعا بأهل الحيرة، فأوعدهم وهم بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا اثنتين: أن تعجز عن نصرتنا، وتلومنا على الدفع عن أنفسنا وبلادنا. فسكت.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، والمقدام الحارثي عمن ذكره، قالا: دعا رستم أهل الحيرة وسرادقه إلى جانب الدير، فقال: يا أعداء الله، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا، وكنتم عيوناً لهم علينا، وقويتموهم بالأموال! فاتقوه بابن بقيلة، وقالوا له: كن أنت الذي تكلمه، فتقدم، فقال: أما أنت وقولك: إنا فرحنا بمجيئهم. فماذا فعلوا؟ وبأي ذلك من أمورهم نفرح! إنهم ليزعمون أنا عبيد لهم، وما هم على ديننا ؛ وإنهم ليشهدون علينا أنا من أهل النار. وأما قولك: إنا كنا عيوناً لهم، فما الذي يحوجهم إلى أن نكون عيوناً لهم، وقد هرب أصحابكم منهم، وخلوا لهم القرى! فليس يمنعهم أحد من وجه ارادوه؛ إن شاءوا أخذوا يميناً أو شكالاً. وأما قولك: إنا قويناهم بالأموال؛ فإنا صانعناهم بالأموال عن أنفسنا؛ وإذ لم تمنعونا مخافة أن نسبى وأن نحرب، وتقتل مقاتلتنا -وقد عجز منهم من لقيهم منكم -فكنا نحن أعجز؛ ولعمري لأنتم أحب إلينا منهم؛ وأحسن عندنا بلاء، فامنعونا منهم لكن لكم أعواناً؛ فإنما نحن بمنزلة علوج السواد، عبيد من غلب. فقال رستم: صدقكم الرجل.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: رأى رستم بالدير أن ملكاً جاء حتى دخل عسكر فارس، فختم السلاح أجمع.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وأصحابه؛ وشاركهم النضر بإسناده، قالوا: ولما اطمأن رستم أمر الجالنوس أن يسير من النجف، فسار في المقدمات، فنزل فيما بين النجف والسيلحين، وارتحل رستم، فنزل النجف -وكان بين خروج رستم من المدائن وعسكرته بساباط وزحفه منها إلى أن لقى سعداً أربعة أشهر، ولا يقدم ولا يقاتل -رجاء أن يضجروا بمكانهم، وأن يجهدوا فينصرفوا، وكره قتالهم مخافة أن يلقى ما لقى من قبله. وطالهم لولا ما جعل الملك يستعجله وينهضه ويقدمه؛ حتى أقحمه؛ فملا نزل رستم النجف عادت عليه الرؤيا، فرأى ذلك الملك ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وعمر، فأخذ الملك سلاح أهل فارس، فختمه، ثم دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر. فأصبح رستم، فازداد حزناً، فملا رأى الرفيل ذلك رغب في الإسلام؛ فكانت داعيته إلى اٌسلام، وعرف عمر أن القوم سيطاولونهم، فعهد إلى سعد وإلى المسلمين أن ينزلوا حدود أرضهم، وأن يطالوهم أبداً حتى ينغضوهم، فنزلوا القادسية، وقد وطنوا أنفسهم على الصبر والمطاولة، وأبى الله إلا أن يتم نوره، فأقاموا واطمأنوا، فكانوا يغيرون على السواد، فانتسفوا ما حولهم فحووه وأعدوا للمطاولة؛ وعلى ذلك جاءوا، أو يفتح الله عليهم. وكان عمر يمدهم بالأسواق إلى ما يصيبون؛ فلما رأى ذلك الملك ورستم وعرفوا حالهم، وبلغهم عنهم فعلهم؛ علم أن القوم غير منتهين، وأنه إن أقام لم يتركوه؛ فرأى أن يشخص رستم، ورأى رستم أن ينزل بين العتيق والنجف، ثم يطالولهم مع المنازلة، ورأى أن ذلك أمثل ما هم فاعلون، حتى يصيبوا من الإحجام حاجتهم، أو تدور لهم سعود.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وجعلت السرايا تطوف، ورستم بالنجف والجالنوس بين النجف والسيلحين وذو الحاجب بين رستم والجالنوس، والهرمزان ومهران على مجنبتيه، والبريزان على ساقته وزاد بن بهيش صاحب فرات سريا على الرجالة؛ وكناري على المجردة؛ وكان جنده مائة وعشرين ألفاً، وستين ألف متبوع مع الرجل الشاكرى، ومن الستين ألفاً خمسة عشر ألف شريف متبوع، وقد تسلسلوا وتقارنوا لتدور عليهم رحى الحرب.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بن طريف، قال: قال الناس لسعد: لقد ضاق بنا المكان؛ فأقدم، فزبر من كلمه بذلك، وقال: إذا كفيتم الرأي، فلا تكلفوا؛ فإنا لن نقدم إلا على رأى ذوى الرأي، فاسكتوا ما سكتنا عنكم وبعث طليحة وعمراً في غير خيل كالطليعة، وخرج سواد وحمضية في مائة مائة ؛ فأغاروا على النهرين ؛ وقد كان سعدنها هما أن يمنعا، وبلغ رستم، فأرسل إليهم خيلاً، وبلغ سعداً أن خيله قد وغلت: فدعا عاصم بم عمرو وجابراً الأسدي، فأرسلهما في آثارهما يقتصانها، وسلكا طريقهما، وقال لعاصم: إن جمعكم قتال فأنت عليهم، فلقيهم بين النهرين واصطيمتا ؛ وخيل أهل فارس محتوشتهم، يريدون تخلص ما بين أيديهم؛ وقد قال سواد لحمضية: أختر؛ إما أن تقيم لهم وأستاق الغنيمة، أو أقيم لهم وتستاق الغنيمة. قال: أقم لهم ونهنههم عنى، وأنا أبلغ لك الغنيمة ؛ فأقام لهم سواد ، وانجذب حمضية، فلقيه عاصم بن عمرو، فطن حمضية أنها خيل للأعاجم أخرى، فصد عنها منحرفاً ؛ فلما تعارفوا ساقها ؛ ومضى عاصم إلى سواد - وقد كان أهل فارس تنقذوا بعضها - فلما رأت الأعاجم عاصماً هربوا، وتنقذ سواد ما كانوا ارتجعوا ؛ فأتوا سعداً بالفتح والغنائم والسلامة ؛ وقد خرج طليحة وعمرو ؛ فأما طليحة فأمره بعسكر رستم، وأما عمرو فأمره بعسكر الجالنوس ؛ فخرج طليحة وحده، وخرج عمرو في عدة، فبعث قيس بن هبيرة في آثارهما ؛ فقال: إن لقيت قتالاً فأنت عليهم - وأراد إذلال طليحة لمعصيته، وأما عمرو فقد أطاعه - فخرج حتى تلقى عمراً، فسأله عن طليحة، فقال: لا علم لي به، فلما انتهينا إلى النجف من قبل الجوف، قال له قيس: ما تريد؟ قال: أريد أن أغير على أدنى عسكرهم ؛ قال: في هؤلاء! قال: نعم، قال: لا أدعك والله وذاك! أتعرض المسلمين لما لا يطيقون قال: وما أنت وذاك! قال: إني أمرت عليك؛ ولو لم أكن أميراً لم أدعك طليحة إذا اجتمعتم، فقال عمرو: والله يا قيس؛ إن زماناً تكون على فيه أميراً لزمان سوء! لأن أرجع عن دينكم هذا إلى ديني الذي كنت عليه وأقاتل عليه حتى أموت أحب إلى من أن تتأمر على ثانية. وقال: لئن عاد صاحبك الذي بعثك لمثلها لنفارقه؛ قال: ذاك إليك بعد مرتك هذه، فرده؛ فرجعا إلى سعد بالخبر. وبأعلاج وأفراس، وشكاكل واحد منهما صاحبه؛ أما قيس فشكا عصيان عمرو، وأما عمرو، فشكا غلظة قيس، فقال سعد: يا عمرو، الخبر والسلامة أحب إلى من مصاب مائة بقتل ألف، أتعمد إلى حلبة فارس فتصاد مهم بمائة إن كنت لأراك أعلم بالحرب مما أرى. فقال: إن الأمر لكما قلت؛ وخرج طليحة حتى دخل عسكرهم في ليلة مقمرة، فتوسم فيه، فهتك أطناب بيت رجل عليه، واقتاد فرسه، ثم خرج حتى مر بعسكر ذي الحاجب، فهتك على رجل آخر بيته، وحل فرسه ثم دخل على الجالنوس عسكره فهتك على آخر بيته، وحل فرسه، ثم دخل على الجالنوس؛ فهتك على آخر بيته، وحل فرسه ثم حتى أتى الحرارة وخرج الذي كان بالنجف، والذي كان في عسكر ذي الحاجب فاتبعه الذي كان في عسكر الجالنوس، فكان أولهم لحاقاً به الجالنوس ثم الحاجبي، ثم النجفي ؛ فأصاب الأولين، وأسر الآخر. وأتى به سعداً فأخبره، وأسلم ؛ فسماه سعد مسلماً ؛ ولزم طليحة ؛ فكان معه في تلك المغازي كلها.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أبي عثمان النهدي، قال: كان عمر قد عهد إلى سعد جين بعثه إلى فارس ؛ ألا يمر بماء من المياه بذي قوة ونجدة ورياسة إلا أشخصه ؛ فإن أبي انتخبه، فأمره عمر، فقدم القادسية في أثنى عشر ألفاً من أهل الأيام، وأناس من الحمراء استجابوا للمسلمين، فأعانوهم ؛ أسلم بعضهم قبل القتال، وأسلم بعضهم غب القتال، فأشركوا في الغنيمة، وفرضت لهم فرائض أهل القادسية: ألفين ألفين ؛ وسألوا عن أمنع قبائل العرب، فعادوا تميماً ؛ فلما دنا رستم، ونزل النجف بعث سعد الطلائع ؛ وأمرهم أن يصيبوا رجلا ليسأله عن أهل فارس ؛ فخرجت الطلائع بعد اختلاف ؛ فلما أجمع ملأ الناس أن الطليعة من الواحد إلى العشرة سمحوا فأخرج سعد طليحة في خمسة، وعمرو بن معد يكرب في خمسة ؛ وذلك صبيحة قدم رستم الجالنوس وذا الحاجب ؛ ولا يشعرون بفصولهم من النجف ؛ فلم يسيروا إلا فرسخاً وبعض آخر ؛ حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطفوف قد ملئوها، فقال بعضهم: ارجعوا إلى أميركم فإنه سرحكم ؛ وهو يرى أن القوم بالنجف ؛ فأخبروه الخبر، وقال بعضهم: ارجعوا لا ينذر بكم عدوكم! فقال عمرو لأصحابه: صدقتم، وقال طليحة لأصحابه: كذبتم؛ ما بعثتم لتخبروا عن السرح، وما بعثتم إلا للخبر قالوا: فما تريد؟ قال: أريد أن أخاطر القوم أو أهلك، فقالوا: أنت رجل في نفسك غدر ؛ ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن؛ فاجع بنا فأبى . وأتى سعداً الخبر برحيلهم؛ فبعث قيس بن هبيرة الأسدي، وأمره على مائة، وعليهم إن هو لقيهم. فانتهى إليهم وقد افترقوا، فلما رآه عمرو قال: تجلدوا له، أروه أنهم يريدون الغارة؛ فردهم، ووجد طليحة قد فارقهم فرجع بهم. فأتوا سعداً، فأخبروه بقرب القوم، ومضى طليحة، وعارض المياه على الطفوف ؛ حتى دخل عسكر رستم، وبات فيه يجوسه وينظر ويتوسم ؛ فلما أدبر الليل، خرج وقراتي أفضل من توسم في ناحية العسكر، فإذا فرس له لم ير في خيل القوم مثله، وفسطاط أبيض لم ير مثله ؛ فانتضى سيفه، فقطع مقود الفرس، ثم ضمه إلى مقود فرسه، ثم حرك فرسه، فخرج يعدو به، ونذر به الناس والرجل، فتنادوا وركبوا الصعبة والذلول، وعجل بعضهم أن يسرج، فخرجوا في طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند، فلما غشيه وبوأ له الرمح ليطعنه عدل طليحة فرسه، فندر الفارسي بين يديه، فكر عليه طليحة، فقصم ظهره بالرمح، ثم لحق له آخر، ففعل به مثل ذلك، ثم لحق به آخر؛ وقد رأى مصرع صاحبيه - وهما ابنا عمه - فازداد حنقاً، فلما لحق بطليحة، وبوأ له الرمح، عدل طليحة فرسه، فندر الفارسي أمامه، وكر عليه طليحة أن يركض ؛ ودعاه إلى الإسار، فعرف الفارسي أنه قاتله فاستأسر، وأمره طليحة أن يركض بين يديه؛ ففعل . ولحق الناس فرأوا فأرسى الجند قد قتلا وقد أسرى الثالث، وقد شارف طليحة عسكرهم، فأحجموا عنه، ونكسوا، وأقبل طليحة حتى غشى العسكر، وهم على تعبية، فأفرغ الناس، وجوزوه إلى سعد؛ فلما انتهى إليه، قال: ويحك ما وراءك! قال: دخلت عساكرهم وجسدتها منذ الليلة، وقد أخذت أفضلهم توسماً، وما أدري أصبت أم أخطأت! وها هو ذا فاستخبره.

 

فأقيم الترجمان بين سعد وبين الفارسي، فقال له الفارس: أتؤمننى على دمى إن صدقتك؟ قال: نعم، الصدق في الحرب أحب إلينا من الكذب، قال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي ؛ باشرت الحروب وغشيتها، وسمعت بالأبطال ولقيتها ؛ منذ أنا غلام إلى أن بلغت ما ترى، ولم أر ولم أسمع بمثل هذا ؛ أم رجلاً قطع عسكرين لا يجترى عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفاً ، يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة إلى ما هو دون ؛ فلم يرض أم يخرج كما دخل حتى سلب فارس الجند ؛ وهتك أطناب بيته فأنذروه، فأنذرنا به، فطلبناه، فأدركه الأول وهو فارس الناس، يعدل ألف فارس فقتله، فأدركه الثاني وهو نظيره فقتله، ثم أدركته، ولا أظن أنني خلقت بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين، وهما ابنا عمي، فرأيت الموت فاستأسرت. ثم أخبره عن أهل فارس؛ بأن الجند عشرون ومائة ألف، وأن الأتباع مثلهم خدام لهم. وأسلم الرجل وسماه سعد مسلماً، وعاد إلى طليحة، وقال: لا والله، لا تهزمون ما دمتم على ما أرى من الوفاء والصدق والإصلاح والمؤاساة؛ لا حاجة لي في صحبة فارس؛ فكان من أهل البلاء يومئذ.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بنطريف، قال: قال سعد لقيس بن هبيرة الأسدي: اخرج يا عاقل، فإنه ليس وراءك من الدنيا شيء تحنو عليه حتى تأتيني بعلم القوم. فخرج وسرح عمرو بن معد يكرب وطليحة؛ فلما حاذى القنطرة لم يسر إلا يسيراً حتى لحق، فانتهى إلى خيل عظيمة منهم بحيالها ترد عن عسكرهم، فإذا رستم قد ارتحل من النجف، فنزل منزل ذي الحاجب، فارتحل الجالنوس، فنزل ذو الحاجب منزله، والجالنوس منزله، والجالنوس يريد طيزنا باذ ؛ فنزل بها، وقدم تلك الخيل. وإن ما خمل سعداً على إرسال عمرو وطليحة معه لمقالة بلغته عن عمرو، وكلمة قالها لقيس بن هبيرة قبل هذه المرة، فقال: قاتلوا عدوكم يا معشر المسلمين. فأنشب القتال، وطاردهم ساعة. ثم إن قيساً حمل عليهم، فكانت هزيمتهم، فأصاب منهم اثني عشر رجلاً، وثلاثة أسراء، وأصاب أسلاباً، فأتوا بالغنيمة سعداً وأخبروه الخبر؛ فقال: هذه بشرى إن شاء الله؛ إذا لقيتم جمعهم الأعظم وحدهم؛ فلهم أمثالهم، ودعا عمرا وطليحة، فقال: كيف رأيتما قيساً؟ فقال طليحة: رأيناه أكمانا، وقال عمرو: الأمير أعلم بالرجال منا. قال سعد: إن الله تعالى أحياناً بالإسلام وأحيا به قلوباً كانت ميتة، وأمات به قلوباً كانت حية، وإني أحذركما أن تؤثرا أمر الجاهلية على الإسلام؛ فتموت قلوبكما وأنتما حيان؛ الزما السمع والطاعة والاعتراف بالحقوق؛ فما رأى الناس كأقوام أعزهم الله بالإسلام.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد ؛ وشاركهم المجالد وسعيد بن المرزبان، قالوا: فلما أصبح رستم من الغد من يوم نزل السيلحين قدم الجالنوس وذا الحاجب، فارتحل الجالنوس، فنزل من دون القنطرة بحيال زهرة، ونزل إلى صاحب المقدمة، ونزل ذو الحاجب؛ منزله بطرنا باذ، ونزل رستم منزل ذي الحلجب بالحرارة ثم قدم ذا الحاجب فلما انتهى إلى العتيق تياسر حتى إذا كان بحيال قديس خندق خندقاً، وارتحل الجالنوس فنزل عليه وعلى مقدمته - أعني سعداً - زهرة بن الحوية، وعلى مجنبتيه عبد الله بن المعتم، وشرحبيل بن السمط الكندي، وعلى مجردته عاصم بن عمرو، وعلى المرامية فلان، وعلى الرجل فلان، وعلى الطلائع سواد بن مالك، وعلى مقدمة رستم الجالنوس، وعلى مجنبتيه الهرمزان ومهران وعلى مجردته ذو الحاجب، وعلى الطلائع البيرزان، وعلى الرجالة زاد بن بهيش. فملا انتهى رستم إلى العتيق، وقف عليه بحيال عسكر سعد ؛ ونزل الناس ؛ فما زالوا يتلاحقون وينزلوهم فينزلون ؛ حتى أعتموا من كثرتهم ؛ فبات بها تلك الليلة والمسلمون ممسكون عنهم.

 

قال سعيد بن المرزبان: فلما أصبحوا من ليلتهم بشاطئ العتيق غدا منجم رستم على رستم برؤيا أريها من الليل، قال: رأيت الدلو في السماء؛ دلواً أفرغ ماؤه، ورأيت السمكة؛ سمكة في ضحضاح من الماء تضطرب، ورأيت النعائم والزهرة تزدهر، قال: ويحك! هل أخبرت أحداً؟ قال: لا، قال: فاكتمها.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان رستم منجماً، فكان يبكي مما يرى ويقدم عليه، فلما كان بظهر الكوفة رأى أن عمر دخل عسكر فارس، ومعه ملك، فختم على سلاحهم، ثم حزمه ودفعه إلى عمر.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم -وكان قد شهد القادسية -قال: كان مع رستم ثمانية عشر فيلاً، ومع الجالنوس عشر فيلا.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي؛ قال: كان مع رستم يوم القادسية ثلاثون فيلا.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن رجل، قال: كان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلا ؛ منها فيل سابور الأبيض ؛ وكانت الفيلة تألفه، وكان أعظمها وأقدمها.

 

كتب إلى السري، عن شعيب عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان معه ثلاثة وثلاثون فيلا، معه في القلب ثمانية عشر فيلاً، ومعه المجنبتين خمسة عشر فيلا.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وسعيد وطلحة وعمرو وزياد، قالوا: فلما أصبح رسم من ليلته التي بانها بالعتيق، أصبح راكباً في خيله، فنظر إلى المسلمين، ثم صعد نحو القنطرة، وقد حزر الناس، فوقف بحيالهم دون القنطرة؛ وأرسل إليهم رجلاً؛ إن رستم يقول لكم: أرسلوا إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا، وانصرف فأرسل زهرة إلى سعد بذلك؛ فأرسل إليه المغيرة بن شعبة، فأخرجه زهرة إلى الجالنوس؛ فأبلغه الجالنوس رستم.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم على العتيق وبات به، أصبح غادياً على التصفح والحزر ، فساير العتيق نحو خفان ؛ حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة ؛ فتأمل القوم ؛ حتى أتى على شيء يشرف منه عليهم ؛ فلما وقف على القنطرة راسل زهرة، فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحهم، ويجعل له جعلاً على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول فيما يقول : انتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا ؛ فكنا نحسن جوارهم، ونكف الأذى عنهم، ونوليهم المرافق الكثيرة، نحفظهم في أهل باديتهم ؛ فنزعيهم مراينا، ونميرهم من بلادنا، ولا نمنعهم من التجارة في شيء من أرضنا ؛ وقد كان لهم في ذلك معاش - يعرض لهم بالصلح ؛ وإنما يخبره بصنيعهم، والصلح يريد ولا يصرح - فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر ؛ وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا. إنا لم نأتكم لطلب الدنيا ؛ إنما طلبنا وهمتنا الآخرة ؛ كنا كما ذكرت، يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم. ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولاً، فدعانا إلى ربه، فأجبناه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم ؛ وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز. فقال له رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى. قال: ما أحسن هذا ? وأي شيء أيضاً؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى. قال: حسن، وأي شيء أيضاً؟ قال: والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم، قال: ما أحسن هذا? ثم قال له رستم: أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه ؛ ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون؟ قال: إي والله، ثم لا نقرب بلادكم أبداً إلا في تجارة أو حاجة . قال: صدقني الله، أما إن أهل فارس منذ ولى أردشير لم يدعوا أحداً يخرج من عمله من السفلة، كانوا يقولن إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم. وعادوا أشرافهم. فقال له زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون؛ نطيع الله في السفلة، ولا يضرنا من عصى الله فينا. فانصرف عنه، ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا من ذلك وأنفوا، فقال: ابعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبنا ? فلما انصرف رستم ملت إلى زهرة، فكان إسلامي؛ وكنت له عديداً. وفرض لي فرائض أهل القادسية.

 

كتب إلى السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد بإسنادهم مثله. قالوا: وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة وبسر بن أبلي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن وربعي بن عامر وقرفة بن زاهر التيمي ثم الوائلي ومذعور بن عدي العجلي، والمضارب بن يزيد العجلي ومعبد بن مرة العجلي -وكان من دهاة العرب -فقال: إني مرسلكم إلى هؤلاء القوم؛ فما عندكم؟ قالوا جميعاً: نتبع ما تأمرنا به، وننتهي غليه؛ فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شيء نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس؛ فكلمناهم به. فقال سعد: هذا فعل الحزمة، اذهبوا فتهيئوا، فقال ربعي بن عامر: إن الأعاجم لهم آراء وآداب، ومتى نأتهم جميعاً يروا أنا قد احتفلنا بهم? فلا تزدهم على رجل؛ فمالئوه جميعاً على ذلك، فقال: فسرحوني، فسرحه، فخرج ربعي ليدخل على رستم عسكره، فاحتسبه الذين على القنطرة، وأرسل إلى رستم لمجيئه، فاستشار عظماء أهل فارس، فقال: ما ترون أنباهي أم نتهاون فأجمع ملؤهم على التهاون، فأظهروا الزبرج، وبسطوا البسط والنمارق، ولم يتركوا شيئاً، ووضع لرستم سرير الذهب، وألبس زينته من النماط والوسائد المنسوجة بالذهب. وأقبل ربعي يسير على فرس له رباء قصيرة، معه سيف له، غمده لفلفه ثوب خلق، ورمحه مغلوب بقمعه حجفة من جلود البقر؛ على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف، ومعه قوسه ونبله. فلما غشى الملك، وانتهى إليه وإلى أدنى البسط، قيل له: انزل، فحملها على البساط، فلما استوت عليه، نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه؛ وإنما أرواه التهاون وعرف ما أرادوا، فأراد استحراجهم، وعليه درع له كأنها أضاة ويلمقه عباءة بعيره، قد جابها وتدرعها، وشدها على وسطه بسلب وقد شد رأسه بمعجرته؛ وكان أكثر العرب شعرة، ومعجرته نسعة بعيره؛ ولرأسه أربع ضفائر؛ قد قمن قياماً، كأنهن قرون الوعلة. فقالوا: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني، فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت. فأخبروا رستم؛ فقال: ائذنوا له؛ هل هو إلا رجل واحد? فأقبل يتوكأ على رمحه، وزجه نصل يقارب الخطو، ويزج النمارق والبسط ؛ فما ترك لهم نمرقه ولا بساطاً إلا أفسده وتركه منهتكاً مخرقاً ؛ فملما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض، وركز رمحه بالبسط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه فكلمه، فقال: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عباده العبادة إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه حتى نفضي إلى موعود الله قال: وما موعود الله: قال الجنة لمن مات على قتال من أبي لمن بقي فقال رستم: قد سمعت مقالتكم ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي قاتلناه أبداً ؛ فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا! قال: نعم، كم أحب إليكم؟ أيوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. وأراد مقاربته ودافعته، فقال: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئتمتنا، ألا نمكن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء، فنقبل ونكف عنك ؛ وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجاً منعناك ؛ أو المنابذة في اليوم الرابع ؛ ولسنا نبذؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا ؛ أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ؛ ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض ؛ يجير أدناهم على أعلاهم. فخلص رستم برؤساء أهل فارس، ما تورد؟ هل رأيتم كلاماً قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب! أما ترى إلى ثيابه! فقال: ويحكم لا تنظروا إلى الثبات؛ ولكن انظروا؛ ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة؛ إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم في اللباس، ولا يرون فيه ما ترون. وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه، ويزهدونه فيه، فقال لهم: هل لكم إلى أن تروني فأريكم؟ فأخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار. فقال القوم: اغمد، فغمده؛ ثم رمى ترساً ورموا حجفته، فخرق ترسهم، وسلمت حجفته، فقال: يا أهل فارس ؛ إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب ؛ وإنا صغرناهن. ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل، فلما كان من الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن، فأقبل في نحو من ذلك الزي، حتى إذا كان على أدنى البساط، قيل له: انزل، قال: ذلك لو جئتكم في حاجتي؛ فقولا لملككم: أله الحاجة أم لي؟ فإن قال: لي ؛ فقد كذب ؛ ورجعت وتركتكم ؛ فإن قال: له، لم آتكم إلا على ما أحب. فقال: دعوه، فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره، فقال: انزل، قال: لا أفعل، فلما أبى سأله: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء؛ فهذه نوبتي. قال: ما جاء بكم؟ قال: إن الله وجل من علينا بدينه، وأرانا آياته، حتى عرفناه وكنا له منكرين. ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث؛ فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة فقال: أو الموادعة إلى يوم ما؟ فقال: نعم، ثلاثاً من أمس. فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده وأقبل على أصحابه، فقال: ويحكم! ألا ترون إلى ما أرى! جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به ؛ فهو في يمن الطائر، وذهب بأرضنا وما فيها إليهم، مع فضل عقله. وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا؛ فهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا؛ حتى أغضبهم وأغضبوه. فلما كان من الغد أرسل: ابعثوا إلينا رجلاً، فبعثوا إليهم المغيرة بن شعبة.

 

كتب إلى السرى، عن سيف، عن سيف، عن أبي عثمان النهدي. قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة فعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا شيئاً من شارتهم، تقوية لتهاونهم؛ فأقبل المغيرة بن شعبة، والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم؛ حتى يمشي عليهم غلوة؛ وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي؛ حتى جلس معه على سريره ووسادته؛ فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوا ومغثوه. فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام؛ ولا أرى قوماً أسفه منكم! إنا معشر العرب سواء؛ ولا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محارباً لصاحبه؛ فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى؛ وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر فيكم فلا نصفه، نصنعه، ولم آتكم، ولكن دعوتموني اليوم، علمت أن أمركم لا يستقم فيكم مضمحل، وأنكم مغلوبون؛ وأن ملكاً لا يقول على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.

 

فقال السفلة: صدق والله العربي، وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه ؛ قاتل الله أولينا، ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة ! فمازحه رستم ليمحو ما صنع، وقال له: يا عربي ؛ إن الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك، فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغي من ذلك ؛ فالأمر على ما تحب من الوفاء وقبول الحق ؛ ما هذه المغازل التي معك؟ قال: ما ضر الجمرة ألا تكون طويلة ! ثم راماهم. وقال: ما بال سيفك رثاً! قال: رث الكسوة، حديد المضربة. ثم عاطاه سيفه، ثم قال له رستم: تكلم أم أتكلم؟ فقال المغيرة: أنت الذي بعثت إلينا، فتكلم. فأقام الترجمان بينهما، وتكلم رستم، فحمد قومه، وعظم أمرهم وطوله. وقال: لم نزل متمكنين في البلاد، ظاهرين على الأعداء، أشرافاً في الأمم؛ فليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا، ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين، أو الشهر والشهرين؛ للذنوب؛ فإذا انتقم الله فرضى رد إلينا عزنا، وجمعنا لعدونا شر يوم هو آت عليهم. ثم إنه لم يكن في الناس أمة أصغر عندنا أمراً منكم؛ كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة، لا نراكم شيئاً ولا نعدكم، وكنتم إذا قحطت أرضكم، وأصابتكم السنة استغثتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بالشيء من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلاد، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكل رجل منكم بوقر تمر وبثوبين، وتنصرفون عنا، فإني لست أشتهى أن أقتلكم ولا آسركم.

 

فتكلم المغيرة بن شعبة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن الله خالق كل شيء ورازقه ؛ فمن صنع شيئاً فإنما هو الذي يصنعه هو له . وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك ؛ من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد وعظم السلطان في الدنيا ؛ فنحن نعرفه، ولسنا ننكره ؛ فالله صنعه بكم ؛ ووضعه فيكم وهو له دونكم ؛ وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال، وضيق المعيشة واختلاف القلوب ؛ فنحن نعرفه ؛ ولسنا ننكره ؛ والله ابتلانا بذلك، وصيرنا إليه، والدنيا دول ؛ ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليها ؛ ولم يزل أهل رخاتها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوى شكر، كان شكركم يقصر عما أوتيتم، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ؛ ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر ؛ كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه ؛ أو كنتم تعرفوننا به ؛ إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً....ثم ذكر مثل الكلام الأول ؛ حتى انتهى إلى قوله: وإن احتجت إلينا أن نمنعك فكن لنا عبد تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر، وإلا فالسيف إن أبيت! فنخر نخرة، واستشاط غضباً، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الصبح غداً حتى أقتلكم أجمعين.

 

فانصرف المغيرة؛ وخلص رستم تألفا بأهل فارس، وقال: أين هؤلاء منكم؟ ما بعد هذا! ألم يأتكم الأولان فحسراكم واستخرجاكم، ثم جاءكم هذا، فلم يختلوفا، وسلكوا طريقاً واحداً، ولزموا أمراً واحداً؛ هؤلاء والله الرجال؛ صادقين كانوا أم كاذبين! والله لئن كان بلغ من إربهم وصونهم لسرهم ألا يختلفوا، فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم؛ لئن كانوا صادقين ما يقول لهؤلاء شيء! فلجوا وتجلدوا وقال: والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم؛ وإن هذا منكم رئاء؛ فازدادوا لجاجة.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: فأرسل مع المغيرة رجلاً. وقال له: إذا قطع القنطرة، ووصل إلى أصحابه، فناد: إن الملك كان منجماً قد حسب لك ونظر في أمرك، فقال: إنك غداً تفقأ عينك. ففعل الرسول، فقال المغيرة: بشرتني بخير وأجر؛ ولولا أن أجاهد بعد اليوم أشباهكم من المشركين، لتمنيت أن الأخرى ذهبت أيضاً. فرآهم يضحكون من مقالته، ويتعجبون من بصيرته؛ فرجع إلى الملك بذلك، فقال: أطيعوني يا أهل فارس؛ وإني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم. وكانت خيولهم تلقى على القنطرة لا تلقى إلا عليها، فلا يزالون يبدؤون المسلمين، والمسلمون كافون عنهم الثلاثة الأيام؛ لا يبدؤونهم؛ فإذا كان ذلك منهم صدوهم واردعوهم.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان ترجمان رستم عن أهل الحيرة يدعى عبود.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي وسعيد بن المرزبان، قالا: دعا رستم بالمغيرة، فجاء حتى جلس على سريره، ودعا رستم ترجمانه -وكان عربياً من أهل الحيرة، يدعى عبود -فقال له المغيرة: ويحك يا عبود! أنت رجل عربي؛ فأبلغه عنى إذا أنا تكلمت كما تبلغي عنه. فقال له رستم مثل مقالته، وقال له المغيرة مثل ومقالته، إلى إحدى ثلاث خلال: إلى الإسلام ولكم فيه مالنا وعليكم فيه ما علينا؛ ليس فيه تفاضل بيننا، أو الجزية عن يد وأنتم صاغرون. قال: ما صاغرون؟ قال: أن يقوم الرجل منكم على رأس أحدنا بالجزية يحمده أن يقبلها منه ... إلى آخر الحديث؛ والإسلام أحب إلينا منهما.

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن شقيق، قال: شهدت القادسية غلاماً بعدما احتملت؛ فقدم سعد القادسية في اثنى عشر ألفاً؛ وبها أهل الأيام، فقدمت علينا مقدمات رستم، ثم زحف إلينا في ستين ألفاً، فملا أشرف رستم على العسكر قال: يا معشر العرب، ابعثوا إلينا رجلاً يكلمنا ونكلمه؛ فبعث إليه المغيرة بن شعبة ونفراً، فلما أتوا رستم جلس المغيرة على السرير، فنخر أخو رستم، فقال المغيرة: لا تنخر؛ فما زادني هذا شرفاً ولا نقص أخاك. فقال رستم: يا مغيرة، كنتم أهل شقاء، حتى بلغ؛ وإن كان لكم أمر سوى ذلك، فأخبرونا. ثم أخذ رستم سهماً من كنانته، وقال: لا تروا أن هذه المغازل تغنى عنكم شيئاً؛ فقال المغيرة مجيباً له، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكان مما رزقنا الله على يديه حبة تنبت في أرضكم هذه؛ فلما أذقناها عيالنا، قالوا: لا صبر لما عنها، فجئنا لنطعمهم أو نموت. فقال رستم: إذاً تموتون أو تقتلون، فقال المغيرة: إذاً يدخل من قتل منا الجنة، ويدخل من قتلنا منكم النار، ويظفر من بقى منا بمن بقى منكم؛ فنحن نخيرك بين ثلاث خلال ...إلى آخر الحديث فقال رستم: لا صلح بيننا وبينكم.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: أرسل إليهم سعد بقية ذوى الرأي جميعاً، وحبس الثلاثة، فخرجوا حبى أتوه ليعظموا عليه استقباحاً، فقالوا له: إن أميرنا يقول لك: إن الجوار يحفظ الولاة، وانى أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك، العافية أن تقبل ما دعاك الله إليه، ونرجع إلى أرضنا، وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض؛ إلا أن داركم لكم، وأمركم فيكم ؛ وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا ؛ وكنا لكم عونا على أحد إن ارادكم أو قوى عليكم. واتق الله يا رستم؛ ولا يكونن هلاك قومك على يديك، فإنه ليس بينك وبين أن تغبط به إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك؛ فقال: إني قد كلمت منكم نفراً، ولو أنهم فهموا عنى رجوت أن تكونوا قد فهمتم، وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام، وسأضرب لكم مثلكم تبصروا. إنكم كنتم أهل جهد في المعيشة، وقشف في الهيئة، لا تمتنعون ولا تنتصفون، فلم نسئ جواركم، ولم ندع مواساتكم، تقحمون المرة بعد المرة، فنميركم ثم نردكم ، وتأتوننا أجراء وتجاراً، فنحسن إليكم ؛ فلما تطاعمتم بطعامنا، وشربتم شرابنا، وأظلكم ظلنا، وصفتم لقومكن ؛ فدعوتموهم، ثم أتيتمونا بهم، وإنما مثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له كرم، فرأى فيه ثعلباً، فقال: وما ثعلب ! فانطلق الثعلب، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعن عليه سد عليهن صاحب الكرم الحجر الذي كن يدخلن منه، فقتلهن، وقد علمت أنا الذي حملكم على حملكم على هذا الحرص والطمع والجهد، فارجعوا عنا عامكم هذا، وامتاروا حاجتكم، ولكم العود كلما احتجتم، فإني لا أشتهي أن أقتلكم.

 

كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن رجل من يربوع شهدها، قال: وقال وقد أصاب أناس كثير منكم من أرضنا ما أرادوا، ثم كان مصيركم القتل والهرب، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى ؛ وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئاً أصيب بعضهم ونجا بعضهم ؛ وخرج مما كان أصاب، ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جردان ألفت جرة فيها حب ، وفي الجرة ثقب، فدخل الأول فأقام فيها، وجعل الأخر ينقلن منها ويرجعن ويكلمنه في الرجوع، فيأبى فانتهى سمن الذي في الجرة، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله، فضاق عليه الحجر، ولم يطق الخروج، فشكا القلق إلى أصحابه، وسألهم المخرج، فقلن له: ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل، فكف وجوع نفسه، وبقى في الخوف، حتى إذا عاد كما كان قبل أن يدخلها أتى عليه صاحب الجرة فقتله. فاخرجوا ولا يكونن هذا لكم مثلاً.

 

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: وقال: لم يخلق الله خلقاً أولع من ذباب ولا أضر ؛ ما خلاكم يا معشر العرب ؛ ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع ؛ وسأضرب لكم مثلكم: إن الذباب إذا رأى العسل طار، وقال: من يوصلني إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهنهه أحد إلا عصاه، فإذا دخله غرق ونشب وقال: من يخرجني وله اربعة دراهم؟ وقال أيضاً: إنما مثلكم مثل ثعلب دخل حجراً وهو مهزول ضعيف إلى كرم، فكان فيه يأكل ما شاء الله، فرآه صاحب الكرم، ورأى ما به، فرحمه، فملا طال مكثه في الكرم وسمن، وصلحت حاله، وذهب ما كان به من الهزال أشر، فجعل يبعث بالكرم ويفسد أكثر مما يأكل، فاشتد على صاحب الكرم، فقال: لا أصبر على هذا من أمر هذا، فأخذ له خشبة واستعان عليه غلمانه، فطلبوه وجعل يراوغهم في الكرم، فملا رأى أنهم غير مقلعين عنه، ذهب ليخرج من الحجر الذي دخل منه، فنشب. أتسع عليه وهو مهزول، وضاق عليه وهو سمين؛ فجاءه وهو على تلك الحال صاحب الكرم، فلم يزل يضربه حتى قتله، وقد جئتم وأنتم مهازيل؛ وقد سمنتم شيئاً من سمن ؛ فانظروا كيف تخرجون! وقال أيضاً: إن رجلا وضع سلا، وجعل طعامه فيه؛ فأتى الجرذان، فخرجوا سله، فدخلوا فيه فأراد سده، فقيل له: لا تفعل، إذاً يخرقنه، ولكن انقب بحياله؛ ثم اجعل فيها قصبة مجوفة، فإذا جاءت الجرذان دخلن من القصبة وخرجن منها، فلكما طلع عليكم جرذ قتلتموه. وقد سددت عليكم؛ فإياكم أن تقتحموا القصبة، فلا يخرج منها أحد إلا قتل، وما دعاكم إلى ما صنعتم؛ ولا أرى عدد ولا عدة!

 

كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما وزياد معهما، قالوا فتكلم القوم فقالوا: أما ما ذكرتم من سوء حالنا فيما مضى، وانتشار أمرنا، فلما تبلغ كنهه! يموت الميت منا إلى النار، ويبقى الباقي منا في بؤس؛ فبينا نحن في أسوا ذلك ؛ بعث الله فينا رسولاً من أنفسنا إلى الإنس والجن، رحمة رحم بها من أراد رحمته، ونقمة ينتقم بها من رد كرامته ؛ فبدأ بنا قبيلة قبيلة، فلم يكن أحد أشد عليه ؛ ولا أشد إنكاراً لما جاء به، ولا أجهد على قتله ورد الذي جاء به من قومه، ثم الذين يلونهم، حتى طابقناه على ذلك كلنا، فنصبنا له جميعاً، وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى، فأعطى الظفر علينا، فدخل بعضنا طوعاً، وبعضنا كرهاً، ثم عرفنا جميعاً الحق والصدق لما أتانا به من الآيات المعجزة ؛ وكان مما أتانا به من عند ربنا جهاد الأدنى فالأدنى، فسرنا بذلك فيما بيننا، نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا يخرم عنه ولا ينقض ؛ حتى اجتمعت العرب على هذا، وكانوا من اختلاف الرأي فيما لا يطيق الخلائق تألفيهم. ثم اتيناكم بأمر ربنا، نجاهد في سبيله، وننفذ لأمره، وننتجز موعوده، وندعوكم إلى الإسلام وحكمه؛ فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله ؛ وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزى ؛ فإن فعلتم وإي فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا؛ فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم، ولقتالكم بعد أحب من صلحكم. وأما ما ذكرت من رثائتنا وقلتنا فإن أداتنا الطاعة، وقتالنا الصبر. وأما ما ضربتم لنا من الأمثال، فإنكم ضربتم للرجال والأمور الجسام وللجد الهزل؛ ولكنا سنضرب مثلكم، وإنما مثلكم مثل رجل غرس أرضاً، واختار لها الشجر والحب، وأجرى إليها ألأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها، ويقومون على جناتها، فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب، وفي الجنان بمثل ذلك، فأطال نظرتهم ؛ فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم ؛ استعتبهم فكابروه، فدعا إليها غيرهم، وأخرجهم منها ؛ فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس، وإن أقاموا فيها صاروا خولاً لهؤلاء يملكونهم ؛ ولا يملكون عليهم؛ فيسمونهم الخسف أبداً ؛ والله أن لو لم يكن ما نقول لك حقاً، ولم يكن إلا الدنيا، لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ عيشكم، ورأينا من زبر جكم من صبر، لقارعناكم حتى نغلبكم عليه.

 

فقال رستم: أتعبرون إلينا أن نعبر إليكم؟ فقالوا: بل عبروا إلينا، فخرجوا من عنده عشياً، وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم: شأنكم والعبور؛ فأرادوا القنطرة، فأرسل إليهم: لا ولا كرامة ! أما شيء قد غلبناكم عليه فلم نرده عليكم؛ تكفلوا معبراً غير القناطر، فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم.

 

وورد في كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير:

 

" لما اجتمع الناس إلى عمر خرج من المدينة حتى نزل على ماء يدعى صرارًا فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف فإن لم يقدر هذان على علم شيء مما يريد ثلثوا بالعباس بن عبد المطلب فسأله عثمان عن سبب حركته فأحضر الناس فأعلمهم الخبر واستشارهم في المسير إلى العراق فقال العامة‏: ‏ سر وسر بنا معك‏. ‏

فدخل معهم في رأيهم وقال‏: ‏ اغدوا واستعدوا فإني سائر إلا أن يجيء رأي هو أمثل من هذا‏. ‏

 

ثم جمع وجوه أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأرسل إلى علي وكان استخلفه على المدينة فأتاه إلى طلحة وكان على المقدمة فرجع إليه وإلى الزبير وعبد الرحمن وكانا على المجنبتين فحضرا ثم استشارهم فاجتمعوا على أن يبعث رجلًا من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويرميه بالجنود فإن كان الذي يشتهي فهو الفتح وإلا أعاد رجلًا وبعث آخر ففي ذلك غيظ العدو‏. ‏ فجمع عمر الناس وقال لهم‏: ‏ إني كنت عزمت على المسير حتى صرفني ذوو الرأي منكم وقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلًا فأشيروا علي برجل‏. ‏

 

وكان سعد بن أبي وقاص على صدقات هوازن فكتب إليه عمر بانتخاب ذوي الرأي والنجدة والسلاح فجاءه كتاب سعد وعمر يستشير الناس فيمن يبعثه يقول‏: ‏ قد انتخبت لك ألف فارس كلهم له نجدة ورأي وصاحب حيطة يحوط حريم قومه إليهم انتهت أحسابهم ورأيهم‏. ‏ فلما وصل كتابه قالوا لعمر‏: ‏ قد وجدته‏. ‏

 

قال‏:‏ من هو قالوا الأسد عاديًا سعد بن مالك فانتهى إلى قولهم وأحضره وأمره على حرب العراق ووصاه وقال‏:‏ لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكنه يمحو السيء بالحسن وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته فالناس في ذات الله سواء الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلزمه فالزمه‏.‏

 

ووصاه بالصبر وسرحه فيمن اجتمع إليه من نفر المسلمين وهم أربعة آلاف فيهم حميضة بن النعمان بن حميضة على بارق وعمرو بن معدي كرب وأبو سبرة بن ذؤيب على مذحج ويزيد بن الحارث الصدائي على صداء وحبيب ومسلية وبشر بن عبد الله الهلالي في قيس عيلان‏. ‏

 

وخرج إليهم عمر فمر بفتية من السكون مع حصين بن نمير ومعاوية ابن حديج دلمٍ سباطٍ فأعرض عنهم فقيل له‏:‏ ما لك وهؤلاء فقال‏:‏ ما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم‏.‏ ثم أمضاهم فكان بعد يذكرهم بالكراهة فكان منهم سودان بن حمران قتل عثمان وابن ملجم قتل عليًا ومعاوية حديج جرد السيف في المسلمين يظهر الأخذ بثأر عثمان وحصين بن نمير كان أشد الناس في قتال علي‏.‏

 

ثم إن عمر أخذ بوصيتهم وبعظتهم ثم سيرهم وأمد عمر سعدًا بعد خروجه بألفي يماني وألفي نجدي وكان المثنى بن حارثة في ثمانية آلاف وسار سعد والمثنى ينتظر قدومه فمات المثنى قبل قدوم سعد من جراحة انتقضت عليه واستخلف على الناس بشير بن الخصاصة وسعد يومئذٍ بزرود وقد اجتمع معه ثمانية آلاف وأمر عمر بني أسد أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة فنزلوا في ثلاثة آلاف وسار سعد إلى شراف فنزلها ولحقه بها الأشعث بن قيس في ألف وسبعمائة من أهل اليمن فكان جميع من شهد القادسية بضعة وثلاثين ألفًا وجميع من قسم عليه فيئها نحو من ثلاثين ألفًا‏.‏

 

ولم يكن أحد أجرأ على أهل فارس من ربيعة فكان المسلمون يسمونهم ربيعة الأسد إلى ربيعة الفرس ولم يدع عمر ذا رأيٍ ولا شرف ولا خطيبًا ولا شاعرًا ولا وجيهًا من وجوه الناس إلا سيره إلى سعد‏. ‏

 

وجمع سعد من كان بالعراق من المسلمين من عسكر المثنى فاجتمعوا بشراف فعبأهم وأمر الأمراء وعرف على كل عشرة عريفًا وجعل على الرايات رجالًا من أهل السابقة وولى الحروب رجالًا على ساقتها ومقدمتها ورجلها وطلائعها ومجنباتها ولم يفصل إلا بكتاب عمر فجعل على المقدمة زهرة بن عبد الله ابن قتادة بن الحوية فانتهى إلى العذيب وكان من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل على الميمنة عبد الله بن المعتم وكان من الصحابة أيضًا واستعمل على الميسرة شرحبيل بن السمط الكندي وجعل خليفته خالد بن عرفطة حليف بني عبد شمس وجعل عاصم بن عمرو التميمي على الساقة وسواد بن مالك التميمي على الطلائع وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة وعلى الرجالة حمال بن مالك الأسدي وعلى الركبان عبد الله ابن ذي السهمين الحنفي وجعل عمر على القضاء بينهم عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي وعلى قسمة الفيء أيضًا وجعل رائدهم وداعيتهم سلمان الفارسي والكاتب زياد بن أبيه‏.‏

 

وقدم المعنى بن حارثة الشيباني وسلمى بنت خصفة زوج المثنى بشراف وكان المعنى بعد موت أخيه قد سار إلى قابوس بن قابوس بن المنذر بالقادسية وكان قد بعثه إليها الفرس يستنفر العرب فسار إليه المعنى فقفله فأنامه ومن معه ورجع إلى ذي قار وسار إلى سعد يعلمه برأي المثنى له وللمسلمين يأمرهم أن يقاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب ولا يقاتلوهم بعقر دارهم فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم وإن كانت الأخرى رجعوا إلى فئة ثم يكونوا أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم‏. ‏ فترحم سعد ومن معه على المثنى وجعل المعنى على عمله وأوصى بأهل بيته خيرًا ثم تزج سعد سلمى زوج المثنى‏. ‏

 

وكان معه تسعة وتسعون بدريًا وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك وثلاثمائة ممن شهد الفتح وسبعمائة من أبناء الصحابة‏. ‏ وقدم على سعد وهو بشراف كتاب عمر بمثل رأي المثنى وكتب عمر أيضًا إلى أبي عبيدة ليصرف أهل العراق ومن اختار أن يلحق بهم إلى العراق‏. ‏

 

وكان للفرس رابطة بقصر ابن مقاتل عليها النعمان بن قبيصة الطائي وهو ابن عم قبيصة بن إياس صاحب الحيرة فلما سمع بمجيء سعد سال عنه وعنده عبد الله بن سنان بن خزيم الأسدي فقيل‏: ‏ رجل من قريش‏.‏ فقال‏:‏ والله لأحادثه القتال فإن قريشًا عبيد من غلب والله لا يخرجون من بلادهم إلا بخفين‏!‏ فغضب عبد الله بن سنان من قوله وأمهله حتى دخل قبته فقتله ولحق بسعد وأسلم‏.‏ وسار سعد من شراف فنزل العذيب ثم سار حتى نزل القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة وقديس أسفل منها بميل‏.‏

 

وكتب عمر إلى سعد‏:‏ ‏(‏إني ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو هزمتموهم فمتى لاعب أحد منكم أحدًا من العجم بأمان أو بإشارة أو بلسان كان لا يدري الأعجمي ما كلمه به كان عندهم أمانًا فأجروا له ذلك مجرى الأمان والوفاء فإن الخطأ بالوفاء بقية وإن الخطأ بالغدر هلكة وفيها وهنكم وقوة عدوكم وذهاب ريحكم وإقبال ريحهم‏.‏ واعلموا أني أحذركم أن تكونوا شيئًا على المسلمين وسببًا لتوهينهم‏)‏‏.‏

 

فلما نزل زهرة في المقدمة وأمسى بعث سرية في ثلاثين معروفين بالنجدة وأمرهم بالغارة على الحيرة فلما جازوا السيلحين سمعوا جلبة فمكثوا حتى حاذوهم وإذا أخت آزادمرد بن أزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين وهو من أشارف العجم فحمل بكير ابن عبد الله الليثي أمير السرية على شيرزاد بن أزاذبه فدق صلبه وطارت الخيل على وجوهها وأخذوا الأثقال وابنة أزاذبه في ثلاثين أمرًا من الدهاقين ومائة من التوابع ومعهم ما لا يدري قيمته فاستاق ذلك ورجع فصبح سعدًا بعذيب الهجانات فقسم ذلك على المسلمين وترك الحريم بالعذيب ومعها خيل تحوطها وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي‏.‏

 

ونزل سعد القادسية وأقام بها شهرًا لم يأته من الفرس أحد‏. ‏

 

فأرسل سعد عاصم ابن عمرو إلى ميسان فطلب غنمًا أو بقرًا فلم يقدر عليها وتحصن منه من هناك فأصاب عاصم رجلًا بجانب أجمة فسأله عن البقر والغنم فقال‏: ‏ ما أعلم‏. ‏فصاح ثور من الأجمة‏: ‏ كذب عدو الله ها نحن‏! ‏ فدخل فاستاق البقر فأتى بها العسكر قسمه سعد على الناس فأخصبوا أيامًا‏. ‏

فبلغ ذلك الحجاج في زمانه فأرسل إلى جماعة فسألهم فشدوا أنهم سمعوا ذلك وشاهدوه فقال‏: ‏ كذبتم‏. ‏

قالوا‏: ‏ ذلك إن كنت شهدتها وغبنا عنها‏. ‏

قال‏: ‏ صدقتم فما كنا الناس يقولون في ذلك قالوا‏: ‏ آية تبشر وإنه يستدل بها على رضى الله وفتح عدونا‏.‏

فقال‏: ‏ ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء‏. ‏

قالوا‏: ‏ ما ندري ما أجنب قلوبهم فأما ما رأينا فما رأينا قط أزهد في دنيا منهم ولا أشد بغضًا لها ليس فيهم جبان ولا عار ولا غدار‏.‏

وذلك يوم الأباقر‏. ‏

 

وبث سعد الغارات والنهب بين كسكر والأنبار فحووا من الأطعمة ما استكفوا به زمانًا وكان بين نزول خالد بن الوليد العراق وبين نزول سعد القادسية والفراغ منها سنتان وشيء فاستغاث أهل السواد إلى يزدجرد وأعلموه أن العرب قد نزلوا القادسية ولا يبقى على فعلهم شيء وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ونهبوا الدواب والأطعمة وإن أبطأ الغياث أعطيناهم بأيدينا وكتب إليه بذلك الذي لهم الضياع بالطف وهيجوه على إرسال الجنود‏. ‏

 

فأرسل يزدجرد إلى رستم فدخل عليه فقال‏: ‏ ‏ (‏إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه وإنما يعد للأمور على قدرها فأنت رجل فارس اليوم وقد ترى ما حل بالفرس مما لم يأتهم مثله‏) ‏‏.‏ فأظهر له الإجابة ثم قال له‏:‏ دعني فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بي ولعل الدولة أن تثبت بي إذا لم أحضر الحرب فيكون الله قد كفى ونكون قد أصبنا المكيدة والرأي في الحرب أنفع من بعض الظفر والأناة خير من العجلة وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا‏.‏ فأبى عليه وأعاد رستم كلامه وقال‏:‏ قد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها ولو أجد من ذلك بدًا لم أتكلم به فأنشدك الله في نفسك وملكك دعني أقم بعسكري وأسرح الجالينوس فإن تكن لنا فذلك وإلا بعثنا غيره حتى إذا لم نجد بدًا صبرنا لهم وقد وهناهم ونحن حامون فإني لا أزال مرجوًا في أهل فارس ما لم أهزم‏.‏ فأبى إلا أن يسير فخرج حتى ضرب عسكره بساباط وأرسل إلى الملك ليعفيه فأبى‏.‏وجاءت الأخبار إلى سعد بذلك فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر‏:‏ ‏(‏لا يكربنك ما يأتيك عنهم واستعن بالله وتوكل عليه وابعث إليه رجالًا من أهل المناظرة والرأي والجلد يدعونه فإن الله جاعلٌ دعاءهم توهينًا لهم‏)‏‏.‏

 

فأرسل سعد نفرًا منهم‏:‏ النعمان بن مقرن وبسر بن أبي رهم وحملة بن حوية وحنظلة بن الربيع وفرات بن حيان وعدي بن سهيل وعطارد بن حاجب والمغيرة بن زرارة بن النباش الأسدي والأشعث بن قيس والحارث بن حسان وعاصم بن عمرو وعمرو بن معدي كرب والمغيرة بن شعبة والمعنى بن حارثة إلى يزدجرد دعاة فخرجوا من العسكر فقدموا على يزدجرد وطووا رستم واستأذنوا على يزدجرد فحبسوا وأحضر وزراءه ورستم معهم واستشارهم فيما يصنع ويقول لهم‏.‏

 

واجتمع الناس ينظرون إليهم وتحتهم خيول كلها صهال وعليهم البرود وبأيديهم السياط فأذن لهم وأحضر الترجمان وقال له‏:‏ سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا أمن أجل أننا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا فقال النعمان بن مقرن لأصحابه‏:‏ إن شئتم تكلمت عنكم ومن شاء آثرته‏.‏ فقالوا‏: ‏ بل تكلم‏. ‏

 

فقال‏:‏ ‏(‏إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولًا يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة فلم يدع قبيلة غلا وقاربه منها فرقة وتباعد عنه بها فرقة ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب فبدأ بهم فدخلوا معه على وجهين‏:‏ مكره عليه فاغتبط وطائع فازداد فعرفنا جميعًا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله فإن أبيتم فأمرٌ من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزية فإن أبيتم فالمناجزة فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم وإن بذلتم الجزاء قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم‏)‏‏.‏

 

فتكلم يزدجرد فقال‏: ‏ ‏(‏إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بينٍ منكم قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفوننا أمركم لا تغزوكم فارس ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس فإن كان غرر لحقكم فلا يغرنكم منا وإن كان لجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم‏.‏

 

فأسكت القوم فقام المغيرة بن زرارة فقال‏. ‏

 

أيها الملك إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم وهم أشراف يستحيون من الأشراف وإنما يكرم الأشراف ويعظم حقهم الأشراف وليس كل ما أرسلوا به قالوه ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه فجاوبني لأكون الذي أبلغك وهم يشهدون على ذلك لي فأما ما ذكرت من سوء الحال فهي على ما وصفت وأشد ثم ذكر من سوء عيش العرب وإرسال الله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم نحو قول النعمان وقتال من خالفهم أو الجزية ثم قال له‏:‏ اختر إن شئت الجزية عن يدٍ وأنت صاغر وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجي نفسك‏.‏

 

فقال‏: ‏ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم‏! ‏ لا شيء لكم عندي‏. ‏

 

ثم استدعى بوقر من تراب فقال‏: ‏ احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن‏. ‏ ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم بأنفسكم بأشد مما نالكم من سابور‏. ‏

 

فقام عاصم بن عمرو ليأخذ التراب وقال‏: ‏ أنا أشرفهم أنا سيد هؤلاء فحمله على عنقه وخرج إلى راحلته فركبها وأخذ التراب وقال لسعد‏: ‏ ‏ (‏أبشر فوالله لقد أعطانا الله أقاليد ملكهم‏) ‏‏. ‏ واشتد ذلك على جلساء الملك‏. ‏

 

وقال الملك لرستم وقد حضر عنده من ساباط‏: ‏ ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء ما أنتم بأحسن جوابًا منهم ولقد صدقني القوم لقد وعدوا أمرًا ليدركنه أو ليموتن عليه على أني وجدت أفضلهم أحمقهم حيث حمل التراب على رأسه‏. ‏ فقال رستم‏: ‏ ‏(‏أيها الملك إنه أعقلهم وتطير إلى ذلك وأبصرها دون أصحابه‏)‏‏.‏

 

وخرج رستم من عند الملك غضبان كئيبًا وبعث في أثر الوفد وقال لثقته‏: ‏ ‏(‏إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا وإن أعجزه سلبكم الله أرضكم‏)‏‏.‏

 

فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم فقال‏: ‏ ذهب القوم بأرضكم من غير شك وكان منجمًا كاهنًا‏. ‏ وأغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على النجاف والفراض فاستقا ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور وأوقرها سمكًا وصبح العسكر فقسمه سعد بين الناس وهذا يوم الحيتان وكانت السرايا تسري لطلب اللحوم فإن الطعام كان كثيرًا عندهم فكانوا يسمون الأيام بها‏: ‏ يوم الأباقر ويوم الحيتان‏. ‏

 

وبعث سعد سرية أخرى فأغاروا فأصابوا إبلًا لبني تغلب والنمر واستاقوها ومن فيها فنحر سعد الإبل وقسمها في الناس فأخصبوا‏. ‏ وأغار عمرو بن الحارث على النهرين فاستاق مواشي كثيرة وعاد‏. ‏ وسار رستم من ساباط وجمع آلة الحرب وبعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفًا وخرج هو في ستين ألفًا وفي ساقته عشرون ألفًا وجعل في ميمنته الهرمزان وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازي وعلى ساقته البيرزان وقال رستم للملك يشجعه بذلك‏:‏ ‏(‏إن فتح الله علينا القوم فتوجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم إلى أن يقبلوا المسالمة‏)‏‏.‏ وكان خروج رستم من المدائن في ستين ألف متبوع ومسيره عن ساباط في مائة ألف وعشرين.

 

ولما فصل رستم عن ساباط كتب إلى أخيه البندوان‏:‏ أما بعد فرموا حصونكم وأعدوا واستعدوا فكأنكم بالعرب قد وردوا بلادكم وقارعوكم عن أرضكم وأبنائكم وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود سعودهم نحوسًا فإن السمكة قد كدرت الماء وإن النعائم قد حسنت والزهرة قد حسنت واعتدل الميزان وذهب بهرام ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ويستولون على ما يلينا وإن أشد ما رأيت أن الملك قال‏:‏ لتسيرن إليهم أو لأسيرن بنفسي‏.‏ ولقي جابان رستم على قنطرة ساباط وكانا منجمين فشكا إليه وقال له‏:‏ ألا ترى ما أرى فقال له رستم‏:‏ ‏(‏أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ولا أجد بدًا من الانقياد‏)‏‏.‏

 

ثم سار فنزل بكوثى فأتي برجل من العرب فقال له‏: ‏ ما جاء بكم وماذا تطلبون فقال‏: ‏ جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا‏. ‏ قال رستم‏: ‏ فإن قتلتم قبل ذلك‏! ‏ قال‏: ‏ من قتل منا دخل الجنة ومن بقي منا أنجزه الله ما وعده فنحن على يقين‏. ‏

 

فقال رستم‏: ‏ قد وضعنا إذن في أيديكم‏! ‏ فقال‏: ‏ أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها فلا يغرنك من ترى حولك فإنك لست تجاول الإنس إنما تجاول القضاء والقدر‏. ‏

 

فضرب عنقه ثم سار فنزل البرس فغضب أصحابه الناس أبناءهم وأموالهم ووقعوا على النساء وشربوا الخمور فضج أهلها إلى رستم وشكوا إليه ما يلقون فقام إليهم فقال‏: ‏ يا معشر فارس والله لقد صدق العربي والله ما أسلمنا إلا أعمالنا والله إن العرب مع هؤلاء وهم لهم حرب أحسن سيرةً منكم إن الله كان ينصركم على العدو ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء والإحسان فإذا تغيرتم فلا أرى الله إلا مغيرًا ما بكم وما أنا بآمن من أن ينزع الله سلطانه منكم‏. ‏ وأتي ببعض من يشكو منه فضرب عنقه‏. ‏

 

ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها وتهددهم وهم بهم فقال له ابن بقيلة‏: ‏ لا تجمع علينا‏: ‏ أن تعجز عن نصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا‏. ‏ولما نزل رستم بالنجف رأى كأن ملكًا نزل من السماء ومعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعمر فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ثم دفعه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدفعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عمر فأصبح رستم حزينًا‏. ‏

 

وأرسل سعد السرايا ورستم بالنجف ولجالينوس بين النجف والسيلحين فطافت في السواد فبعث سوادًا وحميضة في مائة مائة فأغاروا على النهرين وبلغ رستم الخبر فأرسل إليهم خيلًا وسمع سعدٌ أن خيله قد وغلت فأرسل عاصم بن عمرو وجابرًا الأسدي في آثارهم فلقيهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلصوا ما بأيديهم فلما رأته الفرس هربوا ورجع المسلمون بالغنائم‏. ‏

 

وأرسل سعدٌ عمرو بن معدي كرب وطليحة الأسدي طليعة فسارا في عشرة فلم يسيروا إلا فرسخًا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطفوف قد ملأوها فرجع عمرو ومن معه وأبى طليحة إلا التقدم فقالوا له‏:‏ أنت رجل في نفسك غدر ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن فارجع معنا‏.‏فأبى فرجعوا إلى سعد فأخبروه بقرب القوم‏.‏

 

مضى طليحة حتى دخل عسكر رستم وبات فيه يجوسه ويتوسم فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه ثم هتك على آخر بيته وحل فرسه ثم فعل بآخر كذلك ثم خرج يعدو به فرسه ونذر به الناس فركبوا في طلبه فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة ثم آخر فقتله ثم لحق به ثالث فرأى مصرع صاحبيه وهما ابنا عمه فازداد حنقًا فلحق طليحة فكر عليه طليحة وأسره ولحقه الناس فرأوا فارسي الجند قد قتلا وأسر الثالث وقد شارف طليحة عسكره فأحجموا عنه ودخل طليحة على سعد ومعه الفارسي وأخبره الخبر فسأل الترجمان الفارسي فطلب الأمان فآمنه سعد قال‏:‏ أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن وسمعت بالأبطال ولم أسمع بمثل هذا أن رجلًا قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفًا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند وهتك عليهم البيوت فلما أدركناه قتل الأول وهو يعد بألف فارس ثم الثاني وهو نظيره فقتله ثم أدركته أنا ولا أظن أنني خلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين فرأيت الموت واستؤسرت‏.‏ ثم أخبره عن الفرس واسلم ولزم طليحة وكان من أهل البلاء بالقادسية وسماه سعد مسلمًا‏.‏

 

ثم سار رستم وقدم الجالينوس وذا الحاجب فنزل الجالينوس بحيال زهرة من دون القنطرة ونزل ذو الحاجب بطيزناباذ ونزل رستم بالخرارة ثم سار رستم فنزل بالقادسية وكان بين مسيره من المدائن ووصوله القادسية أربعة أشهر لا يقدم رجاء أن يضجروا بمكانهم فينصرفوا وخاف أن يلقي ما لقي من قبله وطاولهم لولا ما جعل الملك يستعجله وينهضه ويقدمه حتى أقحمه‏. ‏ وكان عمر قد كتب إلى سعد يأمره بالصبر والمطاولة أيضًا فأعد للمطاولة‏. ‏ فلما وصل رستم القادسية وقف على العتيق بحيال عسكر سعد ونزل الناس فما زالوا يتلاحقون حتى أعتموا من كثرتهم والمسلمون ممسكون عنهم‏. ‏ وكان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلًا منها فيل سابور الأبيض وكانت الفيلة تألفه فجعل في القلب ثمانية عشر فيلًا وفي المجنبتين خمسة عشر فيلًا‏. ‏

 

فلما أصبح رستم من تلك الليلة ركب وساير العتيق نحو خفان حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة فتأمل المسلمين ووقف على موضع يشرف منه عليهم ووقف على القنطرة وأرسل إلى زهرة فوافقه فأراده على أن يصالحه ويجعل له جعلًا على أن ينصرفوا عنه من غير أن يصرح له بذلك بل يقول له‏:‏ ‏(‏كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم ويخبره عن صنيعهم مع العرب‏)‏‏.‏ فقال له زهرة‏:‏ ‏(‏ليس أمرنا أمر أولئك إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولًا فدعانا إلى ربه فأجبناه فقال لرسوله‏:‏ إني سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم به منهم وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل ولا يعتصم به أحد إلا عز‏)‏‏.‏

فقال له رستم‏: ‏ ما هو قال‏: ‏ ‏(‏أما عموده الذي لا يصلح إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله‏)‏‏.‏

قال‏: ‏ وأي شيء أيضًا قال‏: ‏ وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم‏. ‏

قال‏: ‏ ما أحسن هذا‏! ‏ ثم قال رستم‏: ‏ أرأيت إن أجبت إلى هذا ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون قال‏: ‏ إي والله‏. ‏

قال‏: ‏ صدقتني أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدًا يخرج من عمله من السفلة كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم‏: ‏ تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم‏. ‏ فقال زهرة‏:‏ ‏(‏نحن خير الناس للناس فلا نستطيع أن نكون كما تقولون بل نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا‏)‏‏.‏

 

المراسلة بين سعد ورستم

 

فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فأنفوا فقال‏: ‏ أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبتا‏. ‏ فأرسل إلى سعد‏: ‏ أن ابعث إلينا رجلًا نكلمه ويكلمنا‏. ‏ فدعا سعدٌ جماعة ليرسلهم إليهم‏. ‏ فقال له ربيع بن عامر‏: ‏ إن الأعاجم لهم أراء وأدأب ومتى نأتهم جميعًا يروا أنا قد احتفلنا بهم فلا تزدهم على رجل فمالئوه جميعًا على ذلك‏. ‏ فأرسله وحده فسار إليهم فحبسوه على القنطرة‏. ‏

 

وأعلم رستم بمجيئه فأظهر زينته وجلس على سرير من ذهب وبسط البسط والنمارق والوسائد المنسوجة بالذهب وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدود بعصب وقد فلما انتهى إلى البسط قيل له‏:‏ انزل فحمل فرسه عليها ونزل وربطها بوسادتين شقهما وأدخل الحبل فيهما فلم ينهوه وأروه التهاون وعرف ما أرادوا وعليه درع وأخذ عباءة بعيره فتدرعها وشدها على وسطه‏.‏

فقالوا‏: ‏ ضع سلاحك‏. ‏

فقال‏: ‏ لم آتكلم فأضع سلاحي بأمركم أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت‏. ‏ فأخبروا رستم فقال‏: ‏ ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه فلم يدع لهم نمرقًا ولإبساطا إلا أفسده وهتكه‏. ‏ فلما دنا من رستم جلس على الأرض وركز رمحه على البسط فقيل له‏: ‏ ما حملك على هذا قال‏: ‏ إنا لا نستحب القعود على زينتكم‏. ‏ فقال له ترجمان رستم واسمه عبود من أهل الحيرة‏: ‏ ما جاء بكم قال‏: ‏ الله جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر‏.‏

 

فقال رستم‏:‏ قد سمعنا قولكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه قال‏:‏ نعم وإن مما سن لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث فنحن مترددون عنكم ثلاثًا فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل‏:‏ إما الإسلام وندعك وأرضك أو الجزاء فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك أو المنابذة في اليوم الرابع ولسنا نبدأك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا أنا كفيل بذلك عن أصحابي‏.‏

قال‏: ‏ أسيدهم أنت قال‏:‏ لا ولكن المسلمين كالجسد الوحد بعضهم من بعض يجيز أدناهم على أعلاهم‏.‏

فخلا رستم برؤساء قومه فقال‏: ‏ هل رأيتم كلامًا قط أعز وأوضح من كلام هذا الرجل فقالوا‏: ‏ معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب‏! ‏ أما ترى إلى ثيابه فقال‏: ‏ ويحكم‏! ‏ لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة إن العرب تستخف باللباس وتصون الأحساب ليسوا مثلكم‏. ‏ فلما كان من الغد أرسل رستم إلى سعد‏: ‏ أن ابعث إلينا ذلك الرجل‏. ‏ فبعث إليهم حذيفة بن محصن فأقبل في نحو من ذلك الزي ولم ينزل عن فرسه ووقف على رستم راكبًا‏. ‏

قال له‏: ‏ انزل‏. ‏

قال‏: ‏ لا أفعل‏. ‏

فقال له‏: ‏ ما جاء بك ولم يجيء الأول قال له‏: ‏ إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي‏. ‏

فقال‏: ‏ ما جاء بكم فأجابه مثل الأول‏. ‏ فقال رستم‏: ‏ أو الموادعة إلى يوم ما قال‏: ‏ نعم ثلاثًا من أمس‏. ‏

فرده وأقبل على أصحابه وقال‏: ‏ ويحكم أما ترون ما أرى جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا وجاء هذا اليوم فوقف علينا وهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا‏. ‏

فلما كان الغد أرسل‏: ‏ ابعثوا إلينا رجلًا‏. ‏

 

فبعث المغيرة بن شعبة فأقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه وقال‏:‏ قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قومًا أسفه منكم إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضًا فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعضٍ فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحدٌ وإني لم آتكم ولكم دعوتموني اليوم علمت أنكم مغلوبون وأن ملكًا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول‏.‏ فقالت السفلة‏: ‏ صدق والله العربي‏. ‏

 

وقالت الدهاقين‏:‏ والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل ثم تكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وقال‏:‏ لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافًا في الأمم فليس لأحد مثل عزنا وسلطاننا ننصر عليهم ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين والشهر للذنوب فإذا انتقم الله منا ورضي علينا رد لنا الكرة على عدونا ولم يكن في الأمم أمة أصغر عندنا أمرًا منكم كنتم أهل قشفٍ ومعيشةٍ لا نراكم شيئًا وكنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا الجهد في بلادكم فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم وآمر لكل منكم بوقر تمر وتنصرفون عنا فإني لست أشتهي أن أقتلكم‏.‏

 

فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ إن الله خالق كل شيء ورازقه فمن صنع شيئًا فإنما هو يصنعه وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن نعرفه فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والاختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره والله ابتلانا به والدنيا دولٌ ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ولو شكرتم ما آتاتكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ولو كنا فيما باتلينا به أهل كفر لكان عظيم ما بتلينا به مستجلبًا من الله رحمةً يرفه بها عنا إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولًا‏.‏ ثم ذكر مثل ما تقدم من ذكر الإسلام والجزية والقتال وقال له‏:‏ وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم فقالوا‏:‏ لا صبر لنا عنه‏.‏

 

فقال رستم‏: ‏ إذًا تموتون دونها‏. ‏

فقال المغيرة‏: ‏ يدخل منقتل منا الجنة ومن قتل منكم النار ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم‏. ‏

فاستشاط رستم غضبًا ثم حلف بالشمس ألا يرتفع الصبح غدًا حتى نقتلكم أجمعين‏. ‏

وانصرف المغيرة وخلص رستم بأهل فارس وقال‏: ‏ أين هؤلاء منكم‏! ‏ هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ لما ارادوا منهم ولئن كانوا صادقين فيما يقوم لهؤلاء شيء‏!‏ فلجوا وتجلدوا‏.‏

وقال‏: ‏ والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم وإن هذا منكم رثاء‏. ‏

فازدادوا لجاجة‏. ‏

 

فأرسل رستم رسولًا خلف المغيرة وقال له‏:‏ إذا قطع القنطرة فأعلمه أن عينه تفقأ غدًا فأعلمه الرسول ذلك فقال المغيرة‏:‏ بشرتني بخير وأجر ولولا أن أجاهد بعد هذا اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت‏.‏ فرجع إلى رستم فأخبره‏. ‏ فقال‏: ‏ أطيعوني يا أهل فارس إني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم‏. ‏ ثم أرسل إليه سعدٌ بقية ذوي الرأي فساروا وكانوا ثلاثة إلى رستم فقالوا له‏: ‏ إن أميرنا يدعوك إلى ما هو خيرٌ لنا ولك العافية أن تقبل ما دعاك إليه ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك وداركم لكم وأمركم فيكم وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا وكنا عونًا لكم على أحد إن أرادكم أو قوي عليكم فاتق الله ولا يكونن هلاك قومك على يدك وليس بينك وبين أن تغبط بهذا الأمر إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك‏. ‏

 

فقال لهم‏:‏ إن الأمثال أوضح من كثير من الكلام وسأضرب لكم مثلكم تبصروا‏:‏ إنكم كنتم أهل جهد وقشفٍ لا تنتصفون ولا تمتنعون فلم نسئ جواركم وكنا نميركم ونحسن إليكم فلما طعمتم طعامنا وشربتم شرابنا وصفتم لقومكم ذلك ودعوتموهم ثم أتيتمونا وإنما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأى فيه ثعلبًا فقال‏:‏ وما ثعلب‏!‏ فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم فلما اجتمعوا إليه سد صاحب الكرم النقب الذي كن يدخلن منه فقتلهن فقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والجهد فارجعوا عنا عامكم هذا ونحن نميركم فإني لا أشتهي أن أقتلكم ومثلكم أيضًا كالذباب يرى العسل فيقول‏:‏ من يوصلني إليه وله درهمان فإذا دخله غرق ونشب فيقول‏:‏ من يخرجني وله أربعة دراهم وقال أيضًا‏:‏ إن رجلًا وضع سلة وجعل طعامًا فيها فأتى الجرذان فخرقن السلة فدخلن فيها فأراد سدها فقيل له‏:‏ لا تفعل إذن يخرقنه لكن انقب بحياله ثم اجعل فيها قصبة مجوفة فإذا دخلها الجرذان وخرجن منها فاقتل كل ما خرج منها وقد سددت عليكم فإياكم أن تقتحموا القصبة فلا يخرج منها أحدٌ إلا قتل فما دعاكم إلى ما صنعتم ولا أرى عددًا ولا عدة‏!‏ قال‏:‏ فتكلم القوم وذكروا سوء حالهم وما من الله به عليهم من إرسال رسوله واختلافهم أولًا ثم اجتماعهم على الإسلام وما أمرهم به من الجهاد وقالوا‏:‏ وأما ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك ولكن سنضرب مثلكم إنما مثلكم كمثل رجل غرس أرضًا واختار لها الشجر وأجرى إليها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب فأطال إمهالهم فلم يستحيوا فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس وإن أقاموا فيها صاروا خولًا لهؤلاء فيسومونهم الخسف أبدًا والله لو لم يكن ما نقول حقًا ولم يكن إلا الدنيا لما صبرنا على الذي نحن فيه من لذيذ عيشكم ورأينا من زبرجكم وقارعناكم حتى نغلبكم عليه‏!‏ فقال رستم‏:‏ أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم فقالوا‏:‏ بل اعبروا إلينا‏.‏

 

ورجعوا من عنده عشيًا وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم وأرسل إليهم شأنكم والعبور فأرادوا القنطرة فقال‏: ‏ لا ولا كرامة‏!‏ أما شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم‏.‏ فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوه طريقًا واستتم بعدما ارتفع النهار‏.‏

 

ورأى رستم من الليل كأن ملكًا نزل من السماء فأخذ قسي أصحابه فختم عليها ثم صعد بها إلى السماء فاستيقظ مهمومًا واستدعى خاصته فقصها عليهم وقال‏: ‏ إن الله ليعظنا لو اتعظنا‏. ‏ ولما ركب رستم ليعبر كان عليه درعان ومغفر وأخذ سلاحه ووثب فإذا هو على فرسه لم يضع رجله في الركاب وقال‏: ‏ غدًا ندقهم دقًا‏! ‏ فقال له رجل‏: ‏ إن شاء الله‏. ‏

 

فقال‏: ‏ وإن لم يشأ‏! ‏ ثم قال‏: ‏ إما ضغا الثعلب حين مات الأسد -يعني كسرى -وإني أخشى أن تكون هذه سنة القرود‏!‏ فإنما قال هذه الأشياء توهينًا للمسلمين عند الفرس وإلا فالمشهور عنه الخوف من المسلمين وقد أظهر ذلك إلى من يثق به‏.‏

 

ذكر يوم أرماث

 

لما عبر الفرس العتيق جلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة وعبى في القلب ثمانية عشر فيلًا عليها صناديق ورجال وفي المجنبتين ثمانية وسبعة وأقام لجالينوس بينه وبين ميمنته والفرزان بينه وبين ميسرته وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين وكان يزدجرد قد وضع بينه وبين رستم رجالًا على كل دعوة رجلًا أولهم على باب إيوانه وآخرهم مع رستم فكلما فعل رستم شيئًا قال الذي معه للذي يليه‏:‏ كان كذا وكذا ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت‏.‏ وأخذ المسلمون مصافهم‏. ‏

 

وكان بسعد دماميل وعرق النسا فلا يستطيع الجلوس وإنما هو مكب على وجهه في صدره وسادة على سطح القصر يشرف على الناس والصف في أصل حائطه لو أعراه الصف فواق ناقةٍ لأخذ برمته فما كرثه هول تلك الأيام شجاعة وذكر ذلك الناس وعابه بعضهم بذلك فقال‏:‏ نقاتل حتى أنزل الله نصره وسعدٌ بباب القادسية معصم فأبنا وقد آمت نساءٌ كثيرةٌ ونسوة سعدٍ ليس فيهن أيم فبلغت أبياته سعدًا فقال‏:‏ اللهم إن كان هذا كاذبًا وقال الذي قاله رياء وسمعةً فاقطع عني لسانه‏!‏ إنه لواقفٌ في الصف يومئذ أتاه سهم غرب فأصاب لسانه فما تكلم بكلمة حتى لحق بالله تعالى‏.‏

 

فقال جرير بن عبد الله نحو ذلك أيضًا وكذلك غيره ونزل سعدٌ إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح في فخذيه وأليتيه فعذره الناس وعلموا حاله ولما عجز عن الركوب استخلف خالد عرفطة على الناس فاختلف عليه فأخذ نفرًا ممن شغب عليه فحبسهم في القصر منهم‏:‏ أبو محجن الثقفي وقيدهم وقيل‏:‏ بل كان حبس أبي محجن بسبب الخمر وأعلم الناس أنه قد استخلف خالدًا وإنما يأمرهم خالد فسمعوا وأطاعوا وخطب الناس يومئذٍ وهو يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة وحثهم على الجهاد وذكرهم ما وعدهم الله من فتح البلاد وما نال من كان قبلهم من المسلمين من الفرس وكذلك فعل أمير كل قوم وأرسل سعد نفرًا من ذوي الرأي والنجدة منهم‏:‏ المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة وقيس الأسدي وغالب وعمرو ابن معدي كرب وأمثالهم ومن الشعراء‏:‏ الشماخ والحطيئة وأوس بن مغراء وعبدة بن الطبيب وغيرهم وأمرهم بتحريض الناس على القتال ففعلوا‏.‏

 

وكان صف المشركين على شفير العتيق وكان صف المسلمين مع حائط قديس والخندق فكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق ومع الفرس ثلاثون ألف مسلسل وثلاثون فيلًا تقاتل وأمر سعد الناس بقراءة سورة الجهاد وهي الأنفال فلما قرئت هشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها‏. ‏ فلما فرغ القراء منها قال سعد‏: ‏ الزموا مواقفكم حتى تصلوا الظهر فإذا صليتم فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا فإذا سمعتم الثانية فكبروا والبسوا عدتكم‏. ‏ ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا ولينشط فرسانكم الناس فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعًا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله‏. ‏

 

فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال وخرج إليهم من الفرس أمثالهم فاعتوروا الطعن والضرب وقال غالب بن عبد الله قد علمت واردة المشائح ذات اللبان والبيان الواضح أني سمام البطل المسالح وفارج الأمر المهم الفادح فخرج إليه هرمز وكام من ملوك الباب والأبواب وكان متوجًا فأسره غالب فجاء به سعدًا ورجع وخرج عاصم وهو يقول‏:‏ قد علمت بيضاء صفراء اللبب مثل اللجين إذ تغشاه الذهب أني امرؤٌ لا من يعيبه السبب مثلي على مثلك يغريه العتب فطارد فارسيًا فانهزم فاتبعه عاصم حتى خالط صفهم فحموه فأخذ عاصم رجلًا على بغل وعاد به وإذا هو خباز الملك معه من طعام الملك وخبيصٌ فأتى به سعدًا فنفه أهل موقفه‏.‏

 

وخرج فارسي فطلب البراز فبرز إليه عمرو بن معدي كرب فأخذه وجلد به الأرض فذبحه وأخذ سواريه ومنطقته‏. ‏

 

وحملت الفيلة عليهم ففرقت بين الكتائب فنفرت الخيل وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلًا فنفرت خيل بجيلة فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمن معها وأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة وعمن معها من الناس‏. ‏

 

فخرج طليحة بن خويلد وحمال بن مالك قفي كتائبهما فباشروا الفيلة حتى عدلها ركباها‏. ‏

 

وخرج إلى طليحة عظيم منهم فقتله طليحة وقام الأشعث بن قيس في كندة حين استصرخهم سعد فقال‏: ‏ يا معشر كندة لله در بني أسد أي فري يفرون واي هذٍّ يهذون عن موقفهم أغنى كل قوم ما يليهم وأنتم تنتظرون من يكفيكم أشهد ما أحسنتم أسوة قومكم من العرب‏. ‏ فنهد ونهدوا معه فأزالوا الذين بأزائهم‏. ‏

 

فلما رأى الفرس ما يلقى الناس والفيلة من أسد رموهم بحدهم وحملوا عليهم وفيهم ذو الحاجب ولجالينوس والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة فثبتوا لهم وكبر سعد الرابعة وزحف إليهم المسلمون ورحا الحرب تدور على أسد وحملت الفيول على الميمنة والميسرة فكانت الخيول تحيد عنها‏. ‏

 

فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي‏:‏ يا معشر بني تميم أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة قالوا‏:‏ بلى والله‏!‏ ثم نادى في رجال من قومه رماة وآخرين لهم ثقافة فقال‏:‏ يا معشر الرماة ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل‏.‏

 

وقال‏:‏ يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها وخرج يحميهم ورحا الحرب تدور على أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذناب توابيتها فقطعوا وضنها وارتفع عواؤهم فما بقي لهم فيل إلا أوى وقتل أصحابها ونفس عن أسد وردوا فارسًا عنهم إلى مواقفهم واقتتلوا حتى غربت الشمس ثم حتى ذهبت هدأة من الليل ثم رجع هؤلاء وهؤلاء وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة وكانوا ردءًا للناس وكان عاصم حامية للناس وهذا اليوم الأول وهو يوم أرماث فقال عمرو بن شأس الأسدي‏:‏ جلبنا الخيل من أكناف نيقٍ إلى كسرى فوافقها رعالا تركن لهم على الأقسام شجوًا وبالحقوبين أيامًا طوالا قتلنا رستمًا وبنيه قسرًا تثير الخيل فوقهم الهيالا الأبيات‏.‏

 

وكان سعد قد تزوج سلمى امرأة المثنى بن حارثة الشيباني بعده بشراف فلما جال الناس يوم أرماث وكان سعد لا يطيق الجلوس جعل سعد يتململ جزعًا فوق القصر فلما رأت سلمى ما يصنع الفرس قالت‏: ‏ وامثنياه‏! ‏ ولا مثنى للخيل اليوم‏! ‏ قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه ونفسه فلطم وجهها وقال‏: ‏ أين المثنى عن هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحاء‏!‏ يعني أسدًا وعاصمًا‏.‏ فقالت‏: ‏ أغيره وجبنًا فقال‏: ‏ والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين ما بي‏!‏ فتعلقها الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه وكان غير جبان ولا ملوم‏.‏

 

ذكر يوم أغواث

 

ولما أصبح القوم وكل سعد بالقتلى والجرحى من ينقلهم إلى العذيب فسلم الجرحى إلى النساء ليقمن عليهم وأما القتلى فدفنوا هنالك على مشرق وهو وادٍ بين العذيب وعين الشمس‏. ‏ فلما نقل سعد القتلى والجرحى طلعت نواصي الخيل من الشام وكان فتح دمشق قبل القادسية بشهر فلما قدم كتاب عمر على أبي عبيدة بن الجراح بإرسال أهل العراق سيرهم وعليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو التميمي فتعجل القعقاع فقدم على الناس صبيحة هذا اليوم وهو يوم أغواث وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطعوا أعشارًا وهم ألفٌ كلما بلغ عشرة مدى البصر سرحوا عشرة فقدم أصحابه في عشرة فأتى الناس فسلم عليهم وبشرهم بالجنود وحرضهم على القتال وقال‏:‏ اصنعوا كما أصنع وطلب البراز فقالوا فيه بقول أبي بكر‏:‏ ‏(‏لا يهزم جيش فيهم مثل هذا‏)‏‏.‏

 

فخرج إليه ذو الحاجب فعرفه القعقاع فنادى‏:‏ يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر‏!‏ وتضاربا فقتله القعقاع وجعلت خيله ترد إلى الليل وتنشط الناس وكأن لم يكن بالأمس مصيبة وفرحوا بقتل ذي الحاجب وانكسرت الأعاجم بذلك‏.‏

 

وطلب القعقاع البراز فخرج إليه الفيرزان والبنذوان فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان بن الحارث أحد بيني تيم اللات فتبارزوا فقتل القعقاع الفيرزان وقتل الحارث البندوان ونادى القعقاع‏: ‏ يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنما يحصد الناس بها‏!‏ فاقتتلوا حتى المساء فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئًا مما يعجبهم وأكثر المسلمون فيهم القتل ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل كانت وابيتها تكسرت بالأمس فاستأنفوا عملها فلم يفرغوا منها حتى كان الغد‏.‏

 

وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة من أصحابه كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون وحمل بنو عم للقعقاع عشرةً عشرة على إبل قد ألبسوها وهي مجللة مبرقعة وأطاف بهم خيولهم تحميهم وأمرهم القعقاع أن يحملوها على خيل الفرس يتشبهون بالفيلة ففعلوا بهم هذا اليوم وهو يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث فجعلت خيل الفرس تفر منها وركبتها خيول المسلمين‏. ‏

 

فلما رأى الناس ذلك استنوا بهم فلقي الفرس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث‏. ‏

 

وحمل رجل من تميم على رستم يريد قتله فقتل دونه‏. ‏

وخرج رجل من فارس يبارز فبرز إليه الأعرف بن الأعلم العقيلي فقتله ثم برز إليه آخر فقتله وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه وأخذوا سلاحه فغبر في وجوههم التراب حتى رجع إلى أصحابه‏. ‏

وحمل القعقاع بن عمرو يومئذٍ ثلاثين حملة كلما طلعت قطعة حمل حملة وأصاب فيها وقتل فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني‏. ‏

وبارز الأعور بن قطبة شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه وقاتلت الفرسان إلى انتصاف النهار‏. ‏

فلما اعتدل النهار تزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف الليل‏. ‏

فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة وليلة أغواث تدعى السواد ولم يزل المسلمون يرون يوم أغواث الظفر وقتلوا فيه عامة أعلامهم وجالت فيه خيل القلب وثبت رجلهم فلولا أن خيلهم عادت أخذ رستم أخذًا‏. ‏

وبات الناس على ما بات عليه القوم ليلة أرماث ولم يزل المسلمون ينتمون‏. ‏

فلما سمع سعد ذلك قال لبعض من عنده‏:‏ إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء وإن سكتوا ولم ينتم الأخرون فلا توقظني فإنهم على السواء فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني فإن انتماءهم عن السوء‏.‏ ‏  ‏‏