الزجاج

مادّةٌ عديمة اللّون تُصنَع أساسًا من السّليكا المصهور في درجاتٍ حرارة عاليةٍ مع حمض البوريك أو الفوسفات. يوجد الزّجاج في الطّبيعة كما يوجد أيضًا في المواد البُركانية التّي تُسمّى الزّجاج البُركاني، أو في المواد التّي تنشأ من النّيازك. وليس الزّجاج صلبًا ولا سائلاً، وإنّما يكون في حالةٍ خاصّةٍ تظهر فيها جُزَيئاته بشكلٍ عشوائيٍ. ولكن يوجد تماسك كافٍ لإحداث اتّحادٍ كيميائيٍ بينها؛ وعندما يتمّ تبريد الزّجاج، يصل إلى حالته الصّلبة ولكن من دون تَبلوُر. ومع تعريضه للحرارة، يتحوّل الزّجاج إلى سائلٍ. وعادةً يكون الزّجاج شفّافًا ولكنّه قد يكون غير شفّاف أو نصف شفّاف أيضًا، ويختلف لونه تبعًا لمكوّناته.

يكون الزّجاج المصهور كاللّدائن بحيث يُمكن تشكيله باستخدام عدّة تقنيّاتٍ. ومن الممكن تقطيع الزّجاج عندما يكون باردًا. وفي درجات الحرارة المُنخفضة يكون الزّجاج هشًا وينكسر. ولِمِثلِ هذه المواد الطّبيعية كالزجاج البركاني والتيكتيت مكّونات وخصائص تُشبه الزّجاج الصّناعي.

والمكوّنات الأساسية للزّجاج هي السّليكا المشتقّة من الرّمل والصّوان والكوارتز. وتصهّر السّليكا في درجات حرارةٍ عاليةٍ جدًا لإنتاج زجاج السليكا المصهور. ويتمّ إنتاج أنواعٍ مختلفةٍ من الزّجاج باتّحاد السليكا مع مواد خامٍ أخرى، بِنِسَبٍ مُختلفةٍ. وهناك مُركّبات قلويّة، مثل كربونات الصّوديوم وكربونات البوتاسيوم، تُقلّل من درجة حرارة الصّهر ولُزُوجة السّليكا.

ينصهر الزّجاج عادةً عند درجة حرارةٍ عاليةٍ ولا يتمدّد أو ينكمش بدرجةٍ كبيرةٍ مع تغيّر درجات الحرارة. ومن ثمّ يكون مناسبًا لإنتاج الأدوات التي تُستَخدم في المعامل والأشياء التي تكون عرضةً للصّدمات الحرارية، مثل مرايا التّليسكوب. ويُعتَبَر الزّجاج مُوَصّلاً رديئًا لكلٍّ من الحرارة والكهرباء؛ وبالتّالي فهو مُفيد للعوازل الكهربائيّة والحراريّة.

يعود تاريخ صناعة الزّجاج إلى عام 2000 قبل الميلاد. ومنذ ذلك الحين، دخل الزّجاج في أغراضٍ عديدةٍ من حياة الإنسان اليوميّة. فتمّ استخدامه في صناعة الآنية المُفيدة والمواد الزّخرفيّة ومواد الزّينة بما في ذلك المُجوهرات. كما كان لهُ تطبيقاته الصّناعية والمعمارية. ولقد كانت أقدم المواد الزّجاجية عبارة عن خرزاتٍ، حيث لم يتمّ التّوصل إلى الآنية المجوّفة، حتى عام 1500 قبل الميلاد.

يُعتبر الصُّناع الآسيويّون هُم أوّل مَن أرسى صناعة الزّجاج، ومنهم انتقلت الصّناعة إلى مصر، حيث ترجع أوّل آنية زجاجيّة إلى حكم "تحتمس الثّالث" 1504)-1450 قبل الميلاد). وقد ظلّت صناعة الزّجاج مُنتعشةً في مصر، حتّى حوالى عام 1200 قبل الميلاد، ثمّ توقّفت فعليًا لعدّة قرونٍ من الزّمان. وفي القرن التّاسع قبل الميلاد، ظهرت كلّ من سوريا والعراق كمراكز لصناعة الزّجاج، وامتدّت الصّناعة عبر منطقة البحر المتوسط. وفي العصر الإغريقي، اضّطلعت مصر بدورٍ رئيسيٍ في تزويد القصور المَلَكيّة بالزّجاج الفخم، حيث كان يُصنَع في الإسكندرية. وفي القرن الأوّل قبل الميلاد، تمّ التّوصل إلى عمليّة نفخ الزّجاج في سواحل فينيقيا؛ وفي العصر الرّوماني، كانت صناعة الزّجاج مُنتشرةً في مناطق مُتعدّدةٍ من الإمبراطوريّة الرّومانية.

قبل اختراع أنبوبة نفخ الزّجاج، كانت هناك طرُق عديدةٌ لتشكيل وتزيين الأشياء المصنوعة من الزّجاج المُلوّن، سواء الزّجاج نصف الشّفاف أو المُعتّم، حيث يتمّ تقطيع وتشكيل بعض الأشياء من كُتل الزّجاج الصّلبة. ومن صانعي الآنية والمواد المعدنيّة، اقتَبَس صُنّاع الزّجاج عمليات السّبك، حيث كان يتمّ صبّ الزّجاج المصهور في قوالب لإنتاج الحشو والتّماثيل الصّغيرة والآنية المفتوحة مثل الأكواب والأوعية. وكان يتمّ تسخين قضبان الزّجاج المُشكّلة مُسبقًا وصهرها معًا في قالبٍ للحصول على "شريطٍ" زجاجيّ. وقد تمّ عمل نماذج معقّدة جدًا باستخدام تقنية الفُسيفساء، حيث يتمّ صهر العناصر في قضيبٍ، ثم تُؤخذ هذه العناصر لتعطي تصميمًا على شكلٍ متقاطعٍ. كما كان يتمّ ترتيب شرائح من هذه القضبان في قالبٍ لتشكيل وعاءٍ أو لوحةٍ، ثم تُسخّن حتّى تنصهر.

أمّا أغلب الصّناعات الزّجاجية قبل العصر الرّوماني، فقد كان يتمّ تشكيلها باستخدام تقنية الجزء المركزيّ، حيث كان يتمّ تثبيت خليطٍ من الطّين والرّوث على قضيبٍ معدنيٍّ، ثم يُعطَى الشّكل الداخلي للوعاء المطلوب. ثم يتمّ غمسه في بوتقةٍ من الزّجاج المصهور أو تُلَفُّ بخيوطٍ من الزّجاج، ثمّ يُعاد تسخينه باستمرارٍ، وبعدها يُصقل على حجرٍ مُسطّحٍ. وعلى هذا الشّكل تتدلّى خيوطٌ زُجاجيّةٌ مختلفةُ الألوان، مكوّنةٌ أنماطًا تشبه الأجنحة على درجةٍ عاليةٍ من الرّوعة، كما هو مُشاهَد في الزّجاج المصري الذي خلّفته الأسرتان الثّامنة عشرة والتّاسعة عشرة. كما تمّ إضافة المقابض والأقدام والرّقبة وتعريض هذا الشّكل للتّبريد. وبعدها يُسحب القضيب ويُستخرج الجزء الذي يشغل الجزء المركزيّ. وبهذه الطّريقة كانت تُصنَع حاويات مُستحضرات التّجميل والآنية الصّغيرة الحجم.

ومنذ بداية القرن السّادس قبل الميلاد، أخذت هذه الأشياء تصميمات الآنية الفُخّارية نفسها في العصر اليونانيّ. ومع بداية القرن الثّاني الهجري/الثّامن الميلادي، أخذ صنّاع الزّجاج المُسلمون الأساليب الفارسيّة القديمة في صناعة الزّجاج من حيث تقطيعه وتشكيله، حيث أنتج المسلمون آنيةً ذات بروزٍ عاليةٍ. وكان الكثير من هذه البروز تُصوِّرُ موضوعاتٍ تتعلّق بالحيوانات. كما قام المُسلمون أيضًا بإنتاج زجاجٍ عديم اللّون على درجةٍ عاليةٍ من الجودة وعليه تصميماتٌ دقيقةٌ كالعجلات. وقد زادت إمكانيات الزّخرفة مع التّوصل إلى ألوان الطّلاء الزّخرفية والطّلاء بالذّهب. وقد كانت مصانع الزّجاج في حلب ودمشق مشهورةً بهذه الإمكانيات الزّخرفية. وفي مصر، اختُرِعَت أنسجة الصّقل التّي أدّت إلى ظهور تأثيراتٍ معدنيّةٍ برّاقةٍ بألوانٍ كالبنّي والأصفر والأحمر، واستُعمِلَت في كلٍّ من صناعة الفخّار والزّجاج. وقد دُهِنَت مصابيح المساجد والآنية والأكواب والزّجاجات بنقوشٍ هندسيّةٍ إسلاميّةٍ متناغمةٍ، ممّا كان لها بالغ الأثر في صناعة الزّجاج الغربية فيما بعد، وخاصّة في فيينّا وإسبانيا.

تُعدّ صناعة الزّجاج من الصّناعات الكيمياوية المُهمّة التّي سجل فيها علماء المُسلمين نبوغًا وبراعةً، حيث أصبحت القِطَع المُنتَجَة تُستَعمل كأحجارٍ كريمةٍ. كما إنّهم أدخلوا عليها تحسيناتٍ كثيرةً بواسطة التّزيينات الفُسيفسائيّة. وكانوا يصنعون الألواح الزّجاجية المُلوّنة وغير الملوّنة، وكذلك الصّحون والكؤوس والقناني والأباريق والمصابيح وزجاجات الزّينة لحفظ العطور وغير ذلك... وتفنّنوا في زخرفة هذه الأدوات زخرفةً رائعةً وبألوانٍ جميلةٍ، كُتِبَت عليها أبياتٌ من الشّعر الرّقيق.

ابتكر المُسلمون التّزجيج، وما زالت روائع من أعمالهم في التّزجيج باقيةً في واجهات المساجد والجوامع وكذلك في الأبنية الأثريّة، إضافةً إلى ما هو محفوظ في المتاحف العالميّة.

وقد استُخدِمَت الأصباغ المعدنيّة في هذه الصّناعة الفنّية، فلم تتأثّر بالتقلّبات الجوّية، ولم تُؤثّر فيها حرارة الشّمس المُحرقة طوال مئات السّنين الماضية.

عرف علماء المُسلمين البلّور، وهو الزّجاج المُمتاز ("الكريستال" بحسب التّعريف الكيماويّ الحديث) الذي يحتوي على نِسبٍ مُختلفةٍ من أكاسيد الرّصاص، وصنعوه بإتقانٍ وعرفوا منه نوعًا طبيعيًا؛ وما زال يُستَعمَل -كما استعمله المُسلمون من قَبل- في صناعة الأقداح والأواني والثّريات، وكذلك في صناعة الخواتم وأدوات الزّينة وكثير من الأدوات المنزليّة. وصنعوا منه نظّارات العيون، وكانوا يُسمّونها "منظرة". كما استعملوا الأدوات الزّجاجية في مُختبراتهم وابتكروا الإنبيق والأثال، كما تُدعى الأجزاء السّفلى من آلة التّقطير الحديث.

لقد وصلت صناعة الزّجاج أوجها في ظلّ حكم الدّولة العبّاسية في بغداد والدّولة الأموية في الأندلس، حيث غرق العالم الإسلامي في بحورٍ من التّرف والمال، وازدهرت صناعة الزّجاج واقتنَت ربّات القصور أدواتٍ فخمةً من الأطباق والقناني والمزهريّات والكؤوس وأدوات العِطر والزّينة المصنوعة من الزّجاج الفاخر.

وفي القاهرة، تمّ ابتكار طلاء الزّجاج بالميناء بلونٍ فضيٍّ لامعٍ بعد طلاء الزّجاج بمُركّبات الفضّة، حيث يُسخّن الإناء الزّجاجي للحصول على ألوانٍ بُنّية وصفراء. وقد أُنتِجَ في الشّام أجمل الفازات والمزهريات المُطعّمة والمطليّة بالميناء، وقناني العطر وكؤوس الشّراب التّي صُنِعَت في حلب، ثم انتقلت صناعتها إلى دمشق.

أبدعت صناعة الزّجاج في استنبول ولا سيّما في مصابيح المساجد من الزّجاج المُطلي بالميناء، والذّي يمكن أن يُرى في مسجد "آيا صوفيا" وفي جوامع كثيرةٍ أخرى في جميع أنحاء العالم الإسلامي والتّي زُيِّنَت بمئات المصابيح المدلاّة من سقوفها، حتّى بدت كأنّها سقوف من نورٍ.

عرف المُسلمون أنواعًا عديدةً من الزّجاج، عُرِفَت بمُسمّياتٍ مختلفةٍ. فسُمّي الزّجاج نفسه زجاجًا وقزازًا وقواريرًا. وعرفوا منه المعدنيّ والمصنوع. وكانوا يُسمّون الزّجاج الصّافي "البلّور"، وأجوده "الشّفاف الرّزين" الكثير الأشعّة والذي تشتهر به الآن البُندقية، ويُعرَف بـ"المورانو". وعرف كيمائيّوهم نوعًا من الزّجاج يُلَفّ ويُرفَع؛ وقد احتفظوا لأنفسهم بأسراره وأشاروا إليه بالرّموز، ويُعرَف عندهم بالمُلوّح به والمُطويّ. كما صنعوا زجاجًا فضيّ اللّون بمزج كميّاتٍ متساويةٍ من كلّ من اللّؤلؤ والنّوشادر والتّنكار والملح الأندراني الذي يُذاب بالخلّ ويُطلى به الزّجاج ويدخل النّار.

يُصنع الزّجاج، المعروف بالفرعونيّ، بإضافة أربعة دراهم من قشر البيض المنقوع في اللّبن الحليب أسبوعًا كاملاً، مع تغييره كلّ يومٍ وكلّ ليلةٍ. وقد يُضاف إلى ذلك مثله من المغنيسيا الشّهباء والقلعي والفضّة المُحرَقَين، فيأتي فصوصًا بيضاء شفّافة. أمّا الزّجاج الخارق الصّفرة فيُصنع بإضافة خِمسَه قِلعيّ مُحرق بالكبريت الأصفر.

يعرِفُ العالم حاليًا قرابة ثمانمائة نوعٍ من التّراكيب الزّجاجية المُختلفة، يتميّز بعضها بخاصّيةٍ واحدةٍ، وبعضها الآخر يتميّز بمجموعةٍ من الخواص المتوازنة. وعلى الرّغم من هذا الكَم الهائل من التّراكيب إلاّ أنّ 90% من جميع أنواع الزّجاج المعروف يُصنع من المواد نفسها التّي استُعمِلَت في صناعة الزّجاج في الحضارة الإسلامية، وربّما ما قبلها.

انتقلت صناعة الزّجاج من العالَم الإسلامي إلى أوروبّا عندما أنشأ فنّيون مصريون مَصنَعين للزّجاج في اليونان. ولكنّ المَصنَعين حُطّموا في عام 544 هـ/1147م، عندما اجتاح النّورمانديّون مدينتهم، ففرّ الفنّيون إلى الغرب، ممّا ساعد على النّهضة الغربيّة في مجال صناعة الزّجاج في العصور الوُسطى. كما فرّ أيضًا بعض الفنيّين من دمشق إلى الغرب إبان اجتياح المَغول للعالم الإسلامي.

وابتداءً من القرن التّاسع عشر الميلادي، دخلت صناعة الزّجاج في عداد التّكنولوجيا. فيتمّ الآن صناعة الزّجاجات والآنية التي تحتوي على الرّوائح من خلال عمليةٍ أتوماتيكيّةٍ تشمل الضّغط والنّفخ.

كما يتمّ تصنيع مُعظم عدسات النظّارات وأجهزة الميكروسكوب والتّيليسكوب وكاميرات التّصوير وأجهزة بصريّةٍ أخرى من الزّجاج البصريّ الذي يختلف عن الأنواع الأخرى من الزّجاج من حيث الطّريقة التي تعكس أو تكسر شعاع الشّمس.

وهناك الزّجاج الحسّاس للضّوء وهو يُشبه الفيلم الفُوتوغرافي حيث تستجيب فيه أيونات الذّهب أو الفضّة في المادة لحركة الضّوء. ويُستَخدم هذا الزّجاج في عمليات الطّباعة والإخراج. كما إنّ المعالجة الحرارية التّي تُتّبع تَعرُّضَه للضّوء تؤدّي إلى إحداث تغييراتٍ دائمةٍ في هذا النّوع من الزّجاج.

وكذلك تمّ تصنيع الزّجاج الخزَفي، وهو نوعٌ من الزّجاج يحتوي على معادن معيّنةٍ تتبلور عند تعرّضها للأشعة فوق الحمراء. وعند تسخينه لدرجات حرارةٍ عاليةٍ يتحوّل إلى خزف بلّوري، له قوّة ميكانيكيّة وخصائص عزلٍ كهربائيّة أكبر من الزّجاج العادي. ويُستَخدَم هذا النّوع من الزّجاج في صُنع أدوات المطبخ والمخروط الأماميّ للصّواريخ ورقائق سفن الفضاء. كما يُمكنُ استخدام أنواعٍ أخرى من الزّجاج المعدني في صناعة المحوّلات الكهربائية ذات الكفاءة العالية.

هناك الألياف الزّجاجية التي يمكن أن تُنسَج أو تُلبّد مثل الأنسجة القماشيّة عن طريق سحب الزّجاج المصهور بقطرٍ يصل إلى عشرة آلاف جزءٍ من البوصة. ونظرًا لثباتها الكيميائيّ وقوّتها ومقاومتها للنّار والمياه، تُستَخدم الألياف الزّجاجية في صناعة الملابس الجاهزة ومواد التّنجيد. كما تُستخدَم في صناعة العوازل الحراريّة.

 



حلب
دمشق