كندة

قبيلة كندة كانت من أصل قحطاني (أحياناً تدعى كندة الملوك)، وهي قبيلة من قبائل القحطانيه نشأت في مملكة كنده في وادي دوعن في القرن الثالث الميلادي، وكانت تعتبر أحد القبائل السبأية. لعبت هذه القبيلة دوراً مهماً في الحرب السبأية. بعد فوز السبأيين في الحرب استقر قسم من القبيلة في حضرموت، لكن القسم الأكبر منها رجع إلى مأرب. وتنسب القبيلة إلى ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب ابن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.

 

وقد اختلفت النسابة في أصل النسب لقبيلة كندة فهل هم عدنانيون أم قحطانيون؟ والحقيقة أن الاختلاف حصل عند انهيار سد مأرب فقد اتجهت بعض قبائل كندة وهم السكاسك والسكون إلى حضرموت، واتجه بنو معاوية إلى البحرين واستوطنوا بهـــا، وجـــزء اتجه شمالاً حتى نزلوا مكان دعي فيما بعـــد (غمرذي كندة ) وهي أرض بني جنادة بن معد في نجد .

 

جاء في كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلامالجزء الأول (ص 604) عن مملكة كندة:

كنده قبيلة قحطانية في عرف النسابين، تنسب إلى "ثور بن عفير بن عدي ابن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن زيد بن عريب بن زيد ين كهلان بن سبأ"، و "ثور" هو "كنده".

 

وقد عرفت عند الأخباريين ب "كنده الملوك"، لأن الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان. ولأنهم ملكوا أولادهم على القبائل. وكانوا يتعززون بنسبهم إلى كنده، والى "آكل المرار"، لأنهم كانوا ملوكا.

 

و"كنده" هي "كدت" القبيلة التي ورد اسمها في نصوص المسند، مثل نص "أبرهة". بل ورد اسمها في النصوص المذكورة قبل هذا العهد بكثير.

 

اذ ورد في النص:Jamme 635"المدون في أيام الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان. وقد كانت قد انضمت إلى حلف معاد للملك المذكور على نحو ما تحدثت عنه. وكان يحكم "كدت" كنده في ذلك الوقت ملك اسمه "ربعت"، أي "ربيعة"، وذكر انه من "ذ ثورم ""ذ الثورم"، أي من "الثور" "آل ثور"، وانه كان ملكا على "كدت" كنده وعلى "قحطن" أي "قحطان".


فنحن على هذ النص أمام مملكة كندية كانت قد تكونت في أيام "شعر أوتر" أي في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وذلك فيما لو جارينا رأي "جامة" وسرنا مسراه في تقدير أيام "شعر أوتر". وقبل هذا الوقت فيما لو ذهبنا مذهب غيره ممن يرجعون مبدأ تأريخ سبأ الى أقدم من تقديره ومن تقدير "ريكمنس". ونحن أيضا بموجبه أمام ملك من ملوك كنده اسمه "ربعت ذا الثورم" أي "ربيعة" من "الثور"، أي من "آل ثور"، فهو إذن من صميم كنده. وقد رأينا أن أهل الأخبار ينسبون كنده الى "ثور بن عفير"، ويظهر انهم أخذوا "ثور" القديم، وهو اسم عائلة او بيت او عشيرة من كنده، فصيروه الجد الأكبر لكنده. وأعطوه النسب الطويل المذكور.

 

ويلاحظ ان الملك "ربيعة" كان يحكم إذ ذاك "كنده" كما كان يحكم "قحطان". و"قحطان" في هذا الوقت قبيلة، كانت متحالفة مع "كنده". ومن هذا الاسم أخذ الأخباريون قحطانهم، فصيروه جد العرب القحطانيين. وقد ورد اسم قحطان في نص وسمي بـ "REP. EPIG.,4304 ". هذا نصه: "عبد شمس سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان". وهو نص سبق أن تحدثت عنه، وقلت إنه في نظري مصنوع موضوع، وأعتقد ان صانعه وضعه لغاية واضحة هي اثبات أن ما يذكره أهل الأخبار عن نسب سبأ، هو صحيح، وانه وارد مذكور في المسند، وبين "صنعاء" و "زبيد" مدينة تعرف ب "قحطان".

 

وكانت كنده "كدت" مستقلة وعلى رأسها ملك، في أيام "الشرح يحضب" كذلك. وكان ملكها إذ ذاك من المناهضين المعادين للملك "الشرح يحضب"، فاشترك كما رأينا في أثناء بحثنا عن "الشرح" في الحلف الكبير الذي تألف ضد مملكة "سبأ وذي ريدان"، والذي امتد من الجنوب نحو الشمال، وشمل البر والبحر. وقد أصيبت "كنده" بهزيمة في القتال الذي نشب بينها وبين جيش "سبأ"، ووقع ملكها واسمه إذ ذاك "ملكم" مع عدد من رؤسائها وكبرائها "مراس واكبرت"، في الأسر. وسيقوا الى "مأرب"، وأبقوا في الأسر حتى وافقوا على وضع أولادهم رهائن عند ملك "سبأ وذي ريدان" وعلى اعطاء عهد بعدم التحرش مرة أخرى بمملكة "سبأ وذي ريدان" وبمساعدة أعدائها. وقد وافق "مالك" على اعطاء عهد بما طلب منه ووضع ابنه رهينة، كما وضع رؤساء وكبراء كنده أولادهم رهائن لديه، فأفرج بذلك عنهم.

 

وقد فقدت كنده بعد هذا العهد استقلالهما في وقت لا نستطيع تحديده الان، لعدم ورود شيء عنه في النصوص، وصارت خاضعة لحكم دولة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، اذ ورد في النصين "Jamme 660" و "Jamme 665" انها كانت تابعة اذ ذاك لحكم هذه الدولة. يخبر النص: "Jamme 660"، ان كنده كانت تحت حكم حاكم من حكام "شمر يهرعش"، سقط اسمه الثاني من النص وبقي اسمه الأول وهو: "وهب اوم" "وهب أوم" "وهب أوام"، وان ذلك الحاكم كان يدير بالاضافة إلى كنده قبائل حضرموت ومذحج و "بهلم" "باهلة" و "حدان" و "رضوم" و "أظلم"، ومعنى ذلك انه كان يدير منطقة واسعة تسكنها قبائل متعددة، في جملتها كنده التي صارت تحت حكم ملوك سبأ.

 

ويخبرنا النص: "Jamme 665"، إن رجلا من "جدنم" "جدن" كان كبيرا "كبر" على "اعراب ملك سبأ" "أعراب ملك سبأ" وعلى "كنده" "كدت" و "مذحج" وعلى "حررم" "حريرم" "حرر" "حرار" "حرير" وعلى "بهلم" "باهلم" "باهل" "باهلة" وعلى "زيد ايل"، وعلى كل أعراب سبأ "وكل اعرب سبأ" وعلى حمير وحضرموت ويمنت. وقد عينه بدرجة "كبر" أي "كبير"، وهي من أعلى الوظائف في الدولة الملك "ياسر يهنعم" وابنه "ذرأ أمر أيمن". ومعنى هذا إن كنده كانت تابعة أيضا في هذا العهد لحكم سبئيين، وان ذلك الكبير كان يدير منطقة واسعة وضعها الملكان تحت تصرفه.

 

ويرى "جامة" إن أرض كنده يجب أن تكون في جنوب "قشمم" "قشم" "قشام" "القشم"، وذلك لأن النص: "Jamme 660" يضعها بين "حضرموت" و "مذحج"، فيرى لذلك إن منازلها في ذلك الوقت كانت عند هذه المواضع. والمعروف اليوم إن أول من ذكر اسم "كنده" من المؤلفين الكلاسيكيين على وجه لا يقبل الشك أو الجدل، هو "نونوسوس"، وقد دعاها باسم " Kindynoi" أي "كنده"، وذكر انها وقبيلة "مادينوى"Maddynoi" معد"، هما من أشهر القبائل العربية عددا ومكانة، يحكمها رجل واحد اسمه "Kaisos" أي "قيس".

 

وعلى أخبار الأخباريين معولنا في تدوين تأريخ كنده. وفي مقدمة هؤلاء ابن الكلبي الأخباري المعروف، وله مؤلف خصصه بتأريخ كنده، سماه: "كتاب ملوك كنده" ومؤلفات اخرى لها علاقة بهذه القبيلة، وابو عبيدة والأصمعي، وعمر بن شبة، وأمثالهم ممن سترد اسماؤهم في ثنايا صحائف هذا الفصل. وهي اخبار تمثل جملة نزعات واتجاهات تصور تحزب اولئك الأخباريين وميولهم الى هذه القبيلة او تلك، فبينها أخبار تميل إلى تأييد اهل اليمن، وبينها اخبار ترجح كفة "كنده"، وبينها اخبار ترجع الفضل إلى كلب، وبينها اخبار تؤيد بني اسد، وطبيعتها على العموم من طبيعة ما يرويه لنا الأخباريون من روايات عن تأريخ العرب قبل الإسلام، فيها العصبية القبلية والتحزب، فيجب إن ننظر اليها اذن بحذر شديد.

 

وقد ذكر حمزة انه نقل اخبار ملوك كنده من "كتاب أخبار كنده"، وأظنه قصد كتاب ابن الكلبي، الذي أشرت إليه. وفي استطاعة الباحث العثور على الموارد التي تفيدنا في تدوين تأريخ كنده ومعرفة اتجاهاتها وتعيين أسمائها. و "المفضليات" و"الأغاني" و "النقائض" وأمثالها وبقية كتب الأدب، هي خير أمثلة لتطبيق ما أقول.

 

ويذكر الأخباريون أن مواطن "كنده" الأصلية كانت بجبال اليمن مما يلي حضرموت. وقد أطلق "الهمداني" عليها "بلد كنده من أرض حضرموت". وذكر ياقوت أن كنده مخلاف باليمن، هو باسم قبيلة كنده، وروى رواية لابن الكلبي تفيد أن هذه القبيلة كانت تقيم في دهرها الأول في "غر ذي كنده" أي في مواطن العدنانين، ومن هنا احتج القائلون في كنده ما قالوا من نسبهم في عدنان، وهو يدل على وجود فريق كان يرى أن "مرتع بن معاوية بن ثور" فملك عشرين سنة، ثم ملك ابنه ثور، ثم ابنه معاوية بن ثور، ثم الحارث بن معاوية، وكان ملكه أربعين سنة، ثم ملك وهب بن الحارث عشرين سنة، وملك بعده حجر ين عمرو المعروف ب "آكل المرار" الشهير الذي حالف بين كنده وربيعة بالذنائب وتولى الملك فهؤلاء إذن هم أسلاف "حجر بن عمرو"، حكموا كنده ومعدا على رأي اليعقوبي قبل حجر بسنين.

 

وفي رواية لابن الكلبي إن "أول من أنشأ الشهور من مضر مالك بن كنانة، وذلك إن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي، وهو يومئذ في كنده، وكانت النشأة قبل ذلك في كنده، لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كنده من أرداف المقاول". وتدل هذه الرواية على إن هذه القبيلة كانت على اتصال وثيق بالقبائل المنتسبة إلى معد، وربما كان اتصالها هذا أوثق وأقوى من اتصالها بقبائل قحطان، مع ان النسابين يعدونها من قبائل قحطان.

 

وأقدم رجل في كنده تحدث عنه الأخباريون بشيء من التفصيل والوضوح، هو "حجر" الملقب ب "آكل المرار"، وهو ينسب إلى "عمرو بن معاوية ابن ثور بن مرتع بن معاوية" على رواية، والى "عمرو بن معاوية بن الحارث الأصغر بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن كنده" على رواية أخرى.

 

ورويت روايات أخرى تختلف عن هذه السلسلة بعض الاختلاف. وذكر انه كان أخا ل "حسان بن تبع" لأمه. فلما دوخ "حسان" بلاد العرب، وسار في الحجاز، وهم بالانصراف، ولى أخاه "حجرا" على "معد بن عدنان" كلها، فدانوا له، وسار فيهم أحسن سيرة.

 

وفي رواية أخرى من روايات الأخباريين إن التبابعة كانوا يصاهرون "بنى معاوية ابن عنزة" من كنده، وكانوا يملكون في "دمون"، ويولونهم على "بني معد ابن عدنان" بالحجاز، فكان أول من ولي منهم "حجر آكل المرار"، ولا ه "تبع بن كرب" الذي كسا الكعبة، وولى بعده ابنه "عمرو بن حجر". فيفهم من هذه الرواية إن "بني معد" كانوا أتباعا للتبابعة يعينون عليهم من يشاءون من الناس.

 

وفي رواية ترجع الى ابن الكلبي، مفادها إن تبعا المعروف ب "أبي كرب" حين أقبل سائرا الى العراق نزل بأرض معد، فأستعمل عليها "حجرا آكل المرار"، ومضى لوجهه. فلما هلك، بقي حجر لحسن سيرته مطاعا في مملكته. وملك الشام يومئذ "زياد بن الهبولة السليحي" والملك الأعظم في بني جفنة، وزياد كالمتغلب على بعض الأطراف، فقتله حجر. وقد بقي حجر حتى خرف، وله من الولد: عمرو ومعاوية.

 

فيظهر من الرواية المتقدمة إن حجرا كان معاصرآ ل "زياد بن الهبولة السليحي" وهو ملك عرب الشام يومئذ، ويذكر حمزة إن "حجرا" قتله.

 

وفي رواية أخرى ان حجرا هو أول ملوك كنده. وكانت كنده قبل أن يملك حجر عليها بغير ملك، فأكل القوي الضعيف، فلما ملك حجر سدد أموالها وساسها احسن سياسة، وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض "بكر ابن وائل". وبقي حجر كذلك حتى مات. ف "حجر" على هذه الرواية أول ملك من ملوك كنده، واول زعيم من زعمائها تمكن من توحيد صفوفها ومن تغليبها على قبائل أخرى، ومن توسيع رقعة أراضيها حتى بلغت حدود مملكة لحم.

 

وذكر عدد من الأخباريين أن والد "حسان تبع" هو "أسعد أبو كرب"، المعروف ب "تبع الأوسط"، وهو ابن "كلى كرب بن تبع". وقد ذهب "هارتمن" "Hartmann" إلى أن "حسان تبع" هذا هو "شرحبيل يعفر" المذكور في نص "Glaser 554" الذي يعود تأريخه إلى سنة "450" للميلاد، وهو ابن "إب كرب أسعد" الذي حكم على تقدير "هومل" من سنة "385"حتى سنة "420" للميلاد، غير أننا يجب أن نأخذ أمثال هذه الأمور بحذر، خاصة فيما يتعلق بفتوحات التبابعة واتساع ملكهم وغير ذلك مما يقصه علينا الأخباريون.

 

ونزل حجر على رواية بنجد ب "بطن عاقل"، وكان اللخميون قد ملكوا كثيرا من تلك البلاد، ولا سيما بلاد "بكر بن وائل"، فنهض بهم وحارب اللخميين، واستخلص أرض بكر منهم. ويقع "بطن عاقل" في جنوب "وادي الرمة" على الطريق بين مكة والبصرة.

 

ويحدثنا بعض الرواة أن حجرا بينما كان يغزو عمانا، بلغ ذلك "الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني"، فأغار على أرضع حجر، وأخذ أموالا لحجر، وقينة من أحب قيانه إليه، وانصرف، فقال للقينة: "ما ظنك بحجر؟" فقالت: "لا أعرفه ينام إلا وعضو منه يقظان، وليأتين فاغرا فاه كأنه بعير أكل مرارا، فان رأيت ان تنجو بنفسك فافعل"، فلطمها الغساني فما لبثوا أن لحقهم حجر كما وصفت، فرد القينة والأموال، وكان حجر قد رجع من غزاة عمان وهو يقول بعد أن بلغه غارة الغساني: "لا غزو إلا بالتعقيب" وذكر "الهمداني" في معرض تفسيره ل "آكل المرار" مضمون هذه الرواية دون أن يشير إلى اسم الغساني، او اسم الموضع الذي كان حجر يغزو فيه. وذكرت بعض الروايات الحارث بن جبلة بدلا من الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني.

 

وذكر الميداني القصة نفسها عن "الحارث بن مندلة الضجعمي" من "بني سليح". أما "ابن هشام"، فجعله "عمرو بن الهبولة الغساني".

 

وفي رواية اخرى إن الغازي هو "زياد بن الهبولة" ملك الشام، وكان من"سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، غزا ملك حجر في أثناء اغارة حجر في كنده وربيعة على البحرين، فأخذ الحريم والأموال، وسبى "هندا بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية" زوجة حجر. فلما سمع حجر وكنده وربيعة، عادوا من غزوهم في طلب "ابن الهبولة" ومع حجر أشراف ربيعة "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، و"عمرو بن ابي ربيعة بن ذهل بن شيبان"، وغيرهما، فأدركوا "زيادا" "عمرا ؟" ب "البردان" دون عين أباغ، وقد امن الطلب، فنزل حجر في سفح جبل، ونزلت بكر وتغلب وكنده مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له "حفير"، ووقعت معركة تغلب فيها حجر على خصمه، وأخذ زياد أسيرا، ثم قتل، واسترجعت منه هند في قصة معروفة مشهورة فيها شعر على الطريقة المألوفة عند الأخباريين. وتقول الرواية انه بعد إن انتقم وانتصر، عاد إلى الحيرة. وقد عرفت هذه المعركة ب "يوم البردان".

 

ويلاحظ إن ابن الأثير اورد في روايته عمرا بدلا من زياد أي زياد بن الهبولة ملك الشام كما هو مقتضى الكلام، وأورد في نهاية القصة هذه الجملة "ثم عاد إلى الحيرة" وهي تشعر إن موضع حجر كان في الحيرة، ولم يذكر أحد انه كان فيها.

ويظهر أن المورد الذي نقل منه ابن الأثير أو اصحاب القصة، لم يحسن حبكها، او انه خلط بين قصتين، فظهرت في هذا الشكل.

 

وقد انتبه ابن الأثير إلى هذا الاضطراب، فقال: "هكذا قال بعض العلماء: ان زياد بن هبولة السليحي ملك الشام غزا حجرا. وهذا غير صحيح، لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشام مما يلي البر من فلسطين إلى "قنسرين"، والبلاد للروم، ومنهم أخذت غسان هذه البلاد، وكلهم كانوا عمالا لملوك الروم، كما كان ملوك الحيرة عمالا لملوك الفرس على البر والعرب، ولم يكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشام، وقولهم ملك الشام غير صحيح.

 

وزياد بن هبولة السليحي ملك مشارف الشام، أقدم من حجر آكل المرار بزمان طويل، لأن حجرا هو جد الحارث بن عمرو بن حجر الذي ملك الحيرة والعرب بالعراق أيام قباذ أبي انو شروان، وبين ملك قباذ والهجرة نحو ثلاثين ومئة سنة. وقد ملكت غسان أطراف الشام بعد سليح ستمائة سنة، وقيل خمسمائة سنة، وأقل ما سمعت فيه ست عشرة سنة وثلاثمئة سنة، وكانوا بعد سليح، ولم يكن زياد آخر ملوك سليح، فتزيد المدة زيادة أخرى، وهذا تفاوت كثير، فكيف يستقيم أن يكون ابن هبولة الملك أيام حجر حتى يغير عليه، وحيث اطبقت رواة العرب على هذه الغزاة، فلا بد من توجيهها، وأصلح ما قيل فيه: إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسا على قوم، أو متغلبا على بعض أطراف الشام. وبهذا يستقيم هذا القول والله أعلم.

وقولهم أيضا إن حجرا عاد الى الحيرة لا يستقيم أيضا، لأن ملوك الحيرة من ولد عدي بن نصر اللخمي، لم ينقطع ملكهم لها إلا أيام قباذ، فإنه استعمل الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، كما ذكرنا من قبل، فلما ولي أنو شروان، عزل الحارث، وأعاد اللخميين. ويشبه أن يكون بعض الكنديين قد ذكر هذا تعصبآ، والله أعلم.

 

إن أبا عبيدة ذكر هذا اليوم، ولم يذكر أن ابن هبولة من سليح، بل قال: هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان، ولم يذكر عوده إلى الحيرة، فزال هذا الوهم".

 

وبهذا التعليق اراد ابن الأثير اصلاح ما جاء في الرواية المذكورة من اوهام. ولكن تعليقه نفسه فيه اوهام وأخطاء من حيث عدد السنين وتقدير المدد وما شاكل ذلك من أمور ترد في روايات أهل الأخبار.

 

ولا نعرف متى توفي حجر، وقد ذكر ابن الأثير انه توفي ب "بطن عاقل" وبه دفن. ويرى "أوليندر" "Olinder" استنادا إلى تقدير سنة وفاة الحارث حفيد "حجر" بسنة "528" للميلاد، والى تقدير مدة حكم الضجاعمة من "بني سليح"، انه حكم في الربع الأخير من القرن الخامس للميلاد.

 

ويرى بعض الباحثين إن "حجرا" هو "Ogarus" المذكور في بعض التقاويم في حوادث السنين497 و 501 و 502 للميلاد. وقد ذكر معه اسم أخ له عرف ب "Badicharimus" أي "معديكرب"، كما ذكر أحد احفاده وهو "Aretha" اي الحارث.

 

ونسب الأخباريون ل "حجر" ثلاث زوجات، هن: "هند" ابنة "ظالم ابن وهب بن الحارث بن معاوية"، وتعرف ب "هند الهنود"، و "أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني" وهي ام "الحارث بن حجر"، واما الثالثة فمن حمير.

 

وفي ديوان الشاعر الجاهلي "بشر بن ابي خازم الأسدي" قصيدة يمدح فيها "عمرو بن ام اناس"، أو "ام أياس"، وهو من "كنده". وام اناس هي ابنة "عوف بن محلم الشيباني" الذي يضرب به المثل، فيقال: "لا حر بوادي عوف". وهو من بيت شرف قديم، لهم قبة يقال لها "المعاذة" من لجأ اليها أعاذوه. ومما جاء في مدح هذا الشاعر له:

 

والمانح المئة الهجان بأسرها تزجى مطافلها كجنة يثرب

ولرب زحف قد سموت بجمعه فلبسته رهوا بأرعن مطنب

بالقوم مجتابي الحديد كأنهم أسد على لحق الأباطيل شزب

 

ويستفاد من هذه القصيدة إن الممدوح، وهو عمرو، كان كريما سخيا يهب المئات من الإبل الهجان الطيبة الأعراق، وانه كان صاحب جيش قوي. وينطبق هذا الوصف على "عمرو بن حجر". أكثر من انطباقه على "عمرو بن الحارث" جد "امرئ القيس"، وذلك على رواية من زعم أنه كان للحارث جد الشاعر المذكور ولد اسمه "عمرو" من زوجة له دعوها "أم اناس" ابنة "عوف ابن محلم الشيباني". إذ لم يكن وضع أولاد الحارث وضعا حسنا بعد النكبة التي نزلت بمصيبة والدهم وبتعقب المنذر بن ماء السماء لهم، وبثورة القبائل عليهم. فليس من المعقول أن يهب "عمرو" تلك الهبات وأن يجمع له جيش لجب. خاصة وأن الرواة لم يذكروا اسمه في جملة أسماء ابناء الحارث الذين ملكهم على القبائل في حياته او الذين ورثوا ملكه بعد مماته.

 

وقد نص "ابن قتيبة" في كتابه: "المعاني الكبير" على إن "عمرو بن أم أناس"، هو "عمرو بن حجر الكندي"، الذي كان جد "عمرو بن هند"، وهند أم "عمرو بن هند" هي ابنته. وذكر أن "أم عمرو بن حجر" هي "أم اناس بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة"، والم نه هو المذكور في شعر الحارث بن حلزة، اذ يقول: وولدنا عمرو بن ام أناس من قريب لما أتانا الحباء. وقد اختلف اهل الأخبار كما رأينا في السبب الذي حمل الناس على تلقيب "حجر" ب "آكل المرار". فذهبوا في ذلك جملة مذاهب ذكروها في أثناء حديثهم عنه.

 

وصار "عمرو بن حجر" المعروف ب "المقصور" ملكا بعد ابيه، ويقولون إنه انما قيل له "المقصور" لأنه قصر على ملك ابيه، او لأن "ربيعة" قصرته عن ملك أبيه، وبذلك سمي المقصور.

 

وكان ل "عمرو" كما يقول الأخباريون اخ اسمه "معاوية"، ويعرف ب "الجون" "الجوف"، كان نصيبه "اليمامة"، ويظهر من هذا الخبر انه اخذ من شقيقه هذه المنطقة وترك الأرضين الباقية لأخيه.

 

ويذكر اهل الأخبار إن "عمرو" و "معاوية" شقيقه هي "شعية بن أبي معاصر بن حسان بن عمرو بن تبع". ويظهر من هذا النسب انها كانت من أسرة يمانية رفيعة ومن البيوتات التي كانت تحكم بعض المقاطعات.

 

وورد في رواية إن "عمرا" غزا الشام ومعه ربيعة، فلقيه الحارث بن أبي شمر الغساني فقتله. ولم يضف "اليعقوبي" صاحب الرواية المذكورة إلى هذه الرواية شيئا عن حياة "عمرو" المقصور. أما "حمزة"، فلم يشر إليه بشيء.

 

وفي رواية إن ربيعة حينما قصرت عمرا عن ملك أبيه، استنجد عمرو المقصور "مرثد بن عبد ينكف الحميري" على ربيعة، فأمده بجيش عظيم. فالتقوا ب "القنان"، فشد عامر الجون على عمرو المقصور فقتله. فهذه الرواية تنفي رواية من يقول إن الحارث بن شمر الغساني هو الذي قتله.

 

وإذا صحت الرواية المتقدمة، تكون "ربيعة" قد ثارت على "ابن حجر" لأنها أرادت التخلص من حكم كنده لها. وقد تمكنت من ذلك على الرغم من المساعدة اليمانية التي قدمت له.

 

ويظهر من الروايات الواردة عن عمرو ومن تلقيبه بلقب: "المقصور" ومن الشروح التي ذكرها الرواة في تفسير هذه الكلمة، أن "عمرا" لم يكن قويا صاحب عزم وارادة، وأنه اكتفى بما وقع له من أبيه، فلم يسع في توسيعه وتقويمه، وأن حكمه على ما يظهر لم يكن طويلا، وقد جعله ابن الكلبي في جملة من كان يخدم "حسان بن تبع" تبع حمير، ولم يلقبه بلقب ملك، بل قال: إنه كان سيد كنده في زمانه. وذكر إن "حسان ين تبع" حين سار إلى جديس، خلفه على بعض أموره. فلما قتل "عمرو بن تبع" أخاه "حسان بن تبع"، وملك مكانه اصطنع "عمرو بن حجر"، وكان ذا رأي ونبل، وكان مما اراد عمرو اكرامه به وتصغير بني اخيه حسان إن زوجه ابنة "حسان بن تبع"، فتكلمت في ذلك حمير. وكان عندهم من الأحداث الني ابتلوا بها، لأنه لم يكن يطمع في التزويج الى اهل ذلك البيت احد من العرب. وولدت ابنة "حسان بن تبع" لعمرو بن حجر "الحارث" الذي عينه "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب ابن تبع الأقرن"، أي خال "الحارث" على بلاد معد.

 

ويظهر من رواية مرجعها ابن الكلبي إن الأسود بن المنذر ملك الحيرة، كان قد تزوج ابنة ل "عمرو بن حجر"، فولدت له "النعمان بن الأسود" الذي حكم في زمن "قباذ" أربع سنين، ولذلك عرفت ب "ام الملك".

 

وانتقل الملك على رأي أكثر الأخباريين من عمرو إلى ابنه الحارث: وهو المعروف ب "الحارث الحراب" على بعض الروايات. وقد ورد في شعر للشاعر "لبيد" هذا البيت:

 

والحارث الحراب خلى عاقلا دارا أقام بها ولم يتنقل

 

وقد ذهب الأصمعي إلى إن الشاعر المذكور قصد ب "الحارث الحراب" الحارث الذي نتحدث عنه. وذلك لأن "عاقلا" من ديار كنده. وهو جبل كان يسكنه "حجر أبو امرئ القيس". واذا أخذنا بهذه الرواية وجب علينا إن نفترض انه كان قد اقام بموضع عاقل وحكم منه في أغلب الأوقات.

 

وقد نعت "حمزة" الحارث ب "المقصور". وقد رأينا إن جماعة من الأخباريين منحت هذا اللقب ل "عمرو".

 

وقد اختلف الرواة في ام "الحارث"، فذهب بعض منهم إلى انها ابنة "حسان بن تبع"، وذهب بعض منهم إلى انها "ام أناس" او "ام اياس" بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وامها "أمامة بنت كسر بن كعب ابن زهير بن جشم" من تغلب.

وفي رواية اخرى، إن "ام اناس"، كانت زوجة ل "حجر" وهي ام "الحارث ين حجر" و "هند بنت حجر". ولذلك فهي ليست أما للحارث ابن عمرو المقصور، كما جاء في الرواية المتقدمة. ويظهر إن مرد هذا الاختلاف يعود إلى تشابه الاسمين، والى عدم تمييز الرواة بينهما. ويكون "الحارث بن حجر" المذكور اذن شقيقا لعمرو بن حجر.

 

وقد ذكر "ثيوفانس" رئيسا عربيا دعاه "الحارث من بني ثعلبة" "Aretas O. Thalabaynys "، يظن "أوليندر" انه "الحارث الكندي"، ويرجح لذلك الرواية الثانية التي تجعل ام الحارث "ام أناس" "ام اياس" ذلك لأن "ام أناس" من شيبان، وشيبان هو ابن ثعلبة في عرف النسابين، فيكون هذا الحارث على رأيه هو الحارث الكندي.

 

ولست أستطيع الجزم بهذا الرأي، فان "الحارث" من الأسماء المعروفة الكثيرة الاستعمال عند العرب في بادية الشام وفي بلاد الشام، وشمال الحجاز ونجد، وقد عرفنا أسماء عدد من الأمراء وسادات القبائل عرفوا بهذا الاسم، ثم إن نسبة الحارث إلى الثعلبانية "ثعلبة"، لا يدل على إن الحارث الذي ذكره "ثيوفانس" هو "الحارث الكندي"،بل يدل على انه كان من قبيلة اسمها "ثعلبة" أو "ثعلبان". وقد ذكر كتبة اليونان والسريان اسم قبيلة "ثعلبة" وكانت من القبائل الخاضعة للروم. فورد "طايوي ربيث رومرين دبيث ثعلبة "، أي "العرب الذين في أرض الروم الملقبون ببني ثعلبة"، وورد ذكرها في اخبار مؤرخي الكنيسة في النصف الثاني من القرن الرابع للميلاد.

 

وفي "طيء" ثلاثة بطون عرفت ب "بني ثعلبة"، هي "ثعلبة ين ذهل"، و "ثعلبة بن رومان"او "ثعلية بن جدعاء"، وتعرف ب "ثعالب طيء". ويوجد أيضا "بنو ثعلبة بن شيبان" من بطون "تميم". وقد عرف "بنو "شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل" و "بنو شيبان ابن ذهل بن ثعلبة بن عكابة" ب "بني ثعلبة" في تواريخ الروم والسريان.

 

ومن "شيبان" كان "حارث بن عباد" سيد شيبان في حرب البسوس. وقد عرفوا ب "Thalabenes " عند الروم.

 

وتذكر رواية لابن الكلبي أن "تبع بن حسان بن تبع بن ملكي كرب بن تبع الأقرن"، اعان "الحارث بن عمرو" وساعده على تولى الملك. و "تبع بن حسان بن تبع"، هو خاله على هذه الرواية. وتزعم انه بعث إلى ابن أخته بجيش عظيم سار معه إلى بلاد معد والحرة وما والاها، فسار إلى "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، فقاتله، فقتل النعمان وعدة من اهل بيته، وهزم اصحابه، وافلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك "الحارث بن عمرو الكندي" ما كانوا يملكون.

 

ولا نعرف من الأسماء المذكورة في الكتابات العربية الجنوبية اسم ملك يدعى "تبع بن حسان بن تبع بن ملكي كرب بن تبع الأقرن". ويرى "هارتمن" "Hatmann" أن الأخباريين ارادو به "شرحبيل يكف" وهو ابن شرحبيل يعف" المذكور اسمه في النص المؤرخ بسنة "467".

 

يظهر من رواية "ابن الكلبي" المتقدمة إن الملك لم ينتقل إلى الحارث من ابيه ارثا،وانما جاءه بمساعدة خاله "تبع ين حسان ين تبع". ولم تذكر الرواية الأسباب التي دعت إلى اعتماد الحارث على "تبع" في تولي الملك. ولو صحت هذه الرواية كان معناها انه لم يتمكن من الحصول على حقه في الملك إما لامتناع القبائل من قبوله ملكا عليها، مما دعاه إلى الاستعانة ب "تبع" او بغيره، وإما لأن ملك والده يوم توفي لم يكن واسعا، بل كان مقتصرا على كنده ومن في حلنا، او لأنه لقي مقاومة من أشقائه واقربائه، مما دفعه إلى الاستعانة بالغرباء في تنصيب نفسه ملكا على كنده وعلى القبائل الأخرى، ثم على توسيع ملكه فيما بعد.

 

ولدينا رواية اخرى، تذكر إن الذي ساعد "الحارث بن عمرو" على تولي الحكم على بلاده معد، هو "صهبان بن ذي خرب “،وذلك إن معدا لما انتشرت تباغتت وتظالمت، فبعثت إلى صهبان تسأله إن يملك عليها رجلا يأخذ لضعيفها من قويها مخافة التعدي في الحروب، فوجه اليها الحارث بن عمرو الكندي، واختاره لها، لأن معدا أخواله، امه امرأة من بني عامر بن صعصعة، فسار الحارث اليها بأهله وولده. فلما استقر فيها، ولى ابنه حجر، وهو أبو امرئ القيس الشاعر على أسد وكنانة، وولى ابنه شرحبيل على قيس وتميم، وولى ابنه معدي كرب، وهو جد الأشعث بن قيس الكندي على ربيعة، فمكثوا كذلك إلى أن مات الحارث، فأقر صهبان كل واحد منهم في ملكه، فلبثوا بذلك ما لبثوا. ثم إن بني أسد وثبوا على ملكهم حجر بن عمرو، فقتلوه. فلما بلغ ذلك صهبان، وجه إلى مضر عمرو بن نابل اللخمي، والى ربيعة لبيد بن النعمان الغساني، وبعث برجل من حمير يسمى أوفي بن عنق الحية وأمره إن يقتل بني أسد أبرح القتل. فلما بلغ ذلك أسدا وكنانة، استعدوا، فلما بلغ أوفي ذلك، انصرف نحو صهبان، واجتمعت قيس وتميم فأخرجوا ملكهم عمرو بن نابل عنهم فلحق بصهبان، وبقي معدي كرب جد الأشعث ملكا على" ربيعة.

 

اما صهبان، فهو رجل لم يكن من اهل بيت الملك في حمير، بل كان قد وثب على الملك واخذه - عنوة، وذلك حينما تضعضع الحميرية بقتل "عمرو بن تبع" اخاه "حكان بن تبع"، فانتهز صهبان هذه الفرصة، ووثب على "عمرو اين تبع" فقتله واستولى على ملكه وصار الأمر إليه.

 

وهناك رواية اخرى تذكر إن "صهبان بن محرث" هو الذي عين الحارث على معد. فهي تأييد للرواية المتقدمة " سوى انها عينت اسم والد صهبان، بأن نصت عليه، فجعلته "محرثا" . اما الرواية المتقدمة فدعته "ذي خرب". و "ذي خرب" لقب، يعبر عن منصب وليس باسم علم.

 

وفي رواية يرجع سندها إلى ابي عبيدة، إن بكر بن وائل لما تسافهت، وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت ارحامها، ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا فأكل القوي الضعيف. فنرى إن نملك علينا ملكا نعطيه الشاه والبعير، فيأخذ للضعيف من القوي ويرد على المظلوم من الظلم، ولا يمكن إن يكون من بعض قبائلنا، فيأباه الآخرون، فيفسد ذات بيننا، ولكننا ناتي تبعا فنملكه علينا، فأتوه، فذكروا له امرهم، فملك عليهم الحارث بن عمرو اكل المرار الكندي، فقدم فنزل بطن عاقل.

 

ويدرك من هذه الروايات انه كان للتبابعة نفوذ على قبائل معد، وان تلك القبائل كانت تستشيرهم في أمورها، وتحكم اليهم فيما يحدث بينهم من خلاف. وانه كان لهم يد في تعيين الحارث وتنصيبه على تلك القبائل.

 

والشيء الوحيد الذي يمكن، استخلاصه من هذه الروايات المدونة عن تعيين الحارث ملكا، انه تولى الحكم على كنده بعد وفاة أبيه، وانه وسع ملكه بعد ذلك وقد يكون بمساعدة "تبع"، فصار ملكا على كنده ويكر وعلى قبائل اخرى وانه تمكن بشخصيته من رفع شأن قبيلته. ويرى "أوليندر" انه حكم حوالي سنة "495" للميلاد.

 

وليس من السهل تعيين اسم "التبع" الذي عين الحارث ملكا كما جاء ذلك في الروايات اليمانية بالاستناد إلى نصوص المسند، وليس من السهل ايضا تصور بلوغ نفوذ "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت واعرابها في الجبال وفي تهامة" المواضع الني ذكرها اخباريو اليمن. وقد رأينا آثار الوهن بادية على تلك المملكة، بحيث لم تتمكن من مقاومة غزو الحبشة لها. وليس من السهل ايضا تصور مجيء "بكر" والقبائل الأخرى مختارة طائعة إلى الحارث تلتمس منه إن يتفضل عليها بان يكون ملكا عليها، وقد رأيناها كما يقول الأخباريون أنفسهم تنتقض على البيت المالك من كنده وتثور عليه، وتقتل امراءها منهم، حال علمها بضعف ذلك البيت، وبوفاة الرجل الذي جمع تلك القبائل بقوته، ووحدها بشخصيته. والأقرب إلى المنطق هو أن هذه القبائل لم تعترف برئاسة الحارث عليها، وبتاجه عليها إلا لما رأته فيه من القوة، وإلا بعد استعمال القوة والعنف مع عدد من القبائل، فرضيت به ملكا ما دام قويا. والأمر بيديه، وهو منطق السياسة في الصحراء. وبهذا التفسير نستطيع فهم تكون ممالك أو امارات بسرعة عجيبة، تظهر فجأة قوية تحتضن جملة قبائل، ثم تسير بسرعة فتهدد حدودها الدول الكبرى وتهاجمها كالفيضان، فإذا أصيبت بهذه الدول تمزقت أوصالها وتجزأت كما تتجزأ الفقاعة وتذوب. هكذا حياة الممالك في البوادي، ممالك تولد، وأخرى تموت. ويذكر الأخباريون أن الحارث الكندي جمع إلى ملكه ملك الحيرة وآل لخم، وذلك في زمن قباذ. ورووا في ذلك جملة روايات عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، وطرده لملكها الشرعي وتولى الحكم دونه. فرووا أن الزمن لم يكن مؤاتيا ل"قباذ" يوم أوتي الحكم. كانت الأحوال مضطربة، والفتن رافعة رأسها في مواضع متعددة، والنفوذ في المملكة بيد الموابذة، ولموبذان موبذ الكلمة العليا، إذ هو الرئيس الروحي الأعلى في المملكة، كما كان للاغنياء وللاقطاعيين الشأن الأول في سياسة الدولة. فلم يعجبقباذ الوضع، لأنه "ملك الملوك" "شاهنشاه" ومن حق "ملك الملوك" الا ينازع في الملك، ففكر في طريقة لتقليص ظل الموابذة والمتنفذين في المملكة من كبار الأغنياء والملاكين، ورأى أن خير ما يفعله في هذا الباب، هو نشر تعاليم مزدك بين الناس. فإذا انتشرت كانت كفيلة بالقضاء على الأغنياء وعلى رجال الدين المتنفذين. وكان مزدك وأصحابه يقولون إن الناس تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وان الأغنياء قد اغتصبوا رزق الفقراء " وانهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وانه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره. فافترص السفلة ذلك، واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلي الناس بهم، وقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم". هكذا وصف الطبري وغيره من الأخباريين دعوة مزدك. فهي على هذا الوصف دعوة اشتراكية جاءت مقوضة لرجال الدين والاقطاعيين ومتنفذة الأغنياء.

 

فلما شايع قباذ المزدكية، اجتمعت كلمة "موبذان موبذ" والعظماء على ازالته من ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، وعينوا أخاه جاماسب مكانه. ويذكر الطبري إن ذلك كان في السنة العاشرة لملك قباذ، فيكون ذلك في سنة "498 م" على رأي من جعل ابتداء ملكه في عام "488م"، وقدر حدوثه أيضا في سنة "496 م". وقد مكث أخوه ملكا ست سنوات ثم أزاله عنه أخوه قباذ الذي أفلت من السجن في قصة يرويها الأخباريون، واستعاد قباذ بذلك ملكه. فتكون استعادته ملكه في حوالي سنة "504" أو "502م". وقد مكث ملكا حتى انتقل إلى العالم الثاني في سنة "531م".

 

وتذكر رواية الأخباريين هذه، إن الملك قباذ طلب من المنذر بن ماء السماء الدخول فيما دخل فيه من مذهب مزدك وزندقته، فامتنع، فاغتاظ قباذ وانزعج منه، ودعا "الحارث بن عمرو" إلى ذلك، فأجابه، فاستعمله على الحيرة. وطرد المنذر من مملكته، فعظم سلطان الحارث، وفخم أمره، وانتشر ولده، فملكهم على يكر وتميم وقيس وتغلب وأسد. وكان من حل نجدا من أحياء نزار تحت سلطان الحارث دون من نأى منهم عن نجد. فتربط هذه الرواية كما نرى بين زندقة قباذ وعزل المنذر وتنصيب الحارث ملكا على الحيرة بقبوله مذهب قباذ. وروى "حمزة" إن الحارث كان قد طمع في ملك "آل لخم"، وكان قد وجد إن "قباذ" ضعيف الهمة فاتر العزم، غير ميال إلى القتال، وانه سوف لا يساعد ال لخم، إن هو هاجمهم، لذلك ساق كنده ومن كان معه من بكر ابن وائل عليهم، وباغت سادة الحيرة ولم يتمكنوا من الوقوف أمامه، فهرب "المنذر" من دار مملكته بالحيرة ومضى حتى نزل إلى "الجرساء الكلبى" وأقام عنده إلى أن تغير الحال بوفاة قباذ، وتبدل سياسة الحكومة بتولي "كسرى أنو شروان" الملك. فعاد إلى ملكه وقهر الحارث وتغلب عليه واستعاد ما اغتصب منه.

 

وذكر "حمزة" إن سبب لجوء "بكر بن وائل" إلى الحارث، وخضوعها لحكمه واشتراكها معه في مهاجمة "آل لخم" وانتزاع الحكم منهم، هو أن "امرأ القيس البدء" كان يغزو قبائل "ربيعة"، فينكى فيهم، ومنهم أصاب "ماء السماء"، وكانت تحت "أبي حوط الخطائر" فثارت به "بكر بن وائل" فهزموا رجاله، وأسروه، وكان الذي ولي أسره "سلمة بن مرة بي همام بن مرة بن ذهل بن شيبان"، فأخذ منه الفداء وأطلقه، فبقيت تلك العداوة في نفوس "بكر بن وائل" إلى أن وهن أمر الملك "فباذ “،فعندها أرسلت بكر الى الحارث بن عمرو فملكوه، وحشدوا له، ونهضوا معه حتى أخذ المك ودانت له العرب.

 

وبهذه الكيفية شرح "حمزة" كيفية تولي "الحارث" عرش الحيرة، وسبب بغض "بكر بن وائل" لآل لخم، بغضا دعاها إلى تنصيب "الحارث" ملكا عليها، وعلى الانتقام من آل لخم.

 

ولابن الكلبي رواية عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، ذكر، إن قباذ ملك فارس لما ملك كان ضعيف الملك، فوثبت ربيعة على النعمان الأكبر ابي المنذر الأكبر ذي القرنين. وإنما سمي ذا القرنين لضفرين كانا له. فهو ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة. فأخرجوه، فخرج هاربا حتى مات في إياد، وترك ابنه المنذر فيهم، وكان أرجى ولده عنده. فتنطلق ربيعة إلى كنده. وكان الناس في الزمن الأول يقولون إن كنده من ربيعة. فجاؤوا بالحارث بن عمرو بن حجر اكل المرار الكندي، فملكوه على بكر بن وائل، وحشدوا له، وقاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، وأبى قباذ أن يمد المنذر بجيش. فلما رأى ذلك المنذر، كتب إلى الحارث بن عمرو: إني في غير قومي، وأنت أحق من ضمني واكتنفني، وانا متحول اليك. فحوله إليه، وزوجه ابنته هندا. ففرق الحارث بن عمرو بنيه في قبائل العرب، فصار شرحبيل بن الحارث في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني اسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، وصار غلفاء وهو معد يكرب في قيس، وصار سلمه بن الحارث في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة بن تميم... ومع معد يكرب الصنائع، وهم الذين يقال لهم بنو رقية أم لهم ينسبون اليها. وكانوا يكونون مع الملوك من شذاذ الناس. فلما هلك أبوهم الحارث ين عمرو، تشتت أمرهم وتفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بينهم، وكانت المغاورة بين الإحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش...".

 

ولابن الكلبي رواية أخرى. دونها الطبري، هذا نصها: "لما لقي الحارثابن عمرو بن حجر بن عدي الكندي النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي انه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، واني أحب أن ألقاك. وكان قباذ زنديقا يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس. فخرج إليه الحارث ابن عمرو الكندي في عدد وعدة حتى التقوا بقنطرة الغيوم، فما رأى الحارث ما عليه قباذ من الضعف، طمع في السواد، فأمر أصحابه مسالحه أن يقطعوا الفرات، فيغيروا في السواد، فاتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن فقال: هذا من تحت كنف ملكهم. ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو إن لصوصا من لصوص العرب قد أغاروا، وانه يجب لقاءه، فلقيه. فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعا ما صنعه أحد من قبلك. فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوص من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب الا بالمال والجنود. قال له قباذ: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحا. فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيح. فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبع وهو باليمن: إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيح، فاجمع الجنود، وأقبل..... فجمع تبع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فاذاه البق، فامر الحارث بن عمرو أن يشق له نهر إلى النجف، وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجه ابن أخيه شمر ذي الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالري". وقد ترك ابن الكلبي الاشارة إلى الحارث وطفر إلى الحديث عن فتوحات شمر الذي أوصل فتوحاته إلى القسطنطينية.، ثم الى رومة "روميه"، ثم إلى عودة "تبع" وتهوده بتأثر أخبار يثرب، ثم إلى علم "كعب الأحبار" الذي استمده على حد قوله من بقية ما أورثت أحبار يهود.

 

ويرى "موسل" إن التقاء "الحارث" ب "قباذ" "488 - 1 53م" عند قنطرة الفيوم، كان سنة "525" للميلاد. والفيوم موضع لا يبعد كثيرا عن "هيت".

 

يفهم من رواية ابن الكلبي هذه إن الحارث التقى بملك الحيرة "النعمان بن المنذر" في معركة أسفرت عن مقتل "النعمان" وفرار المنذر ابنه، وعن انتصار عرب الحارث على عرب الحيرة،واستيلاء الحارث على ما كان يملكه النعمان. فلما حدث هذا ووقع، اضطر "قباذ" إلى ملاطفة الحارث واسترضائه. ولكن الحارث طمع في أكثر من ذلك، طمع في السواد. فأقطعه منه ما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، أقطعه منه ستة طساسيح. فليس في هذه الرواية اشارة إلى قبول "الحارث" الدخول في المزدكية، ولا إلى طرد النعمان من ملكه نتيجة لرفضه اتباعه في دينه، انما هو ضعف قباذ وعجزه عن مساعدة صاحبه النعمان وانتهاز الحارث الذكي هذه الفرصة المواتية للاستيلاء على ما طمع فيه من ملك النعمان. أما الشيء الثاني، وهو خبر "تبع"، وحروبه ومساعدته له، فهو على ما يظهر من هذا النحو الذي ألفناه في ربط تأريخ كندة باليمن، والإشادة بماضي القحطانيين وانفرادهم بالملك دون خصومهم العدنانيين، والى عدم تمكن كنده من العمل وحدها لولا مساعدة اليمانيين.

 

يستنتج من كل هذه الروايات أن "الحارث بن عمرو" الكندي اغتصب عرش الحيرة أمدا، اغتصبه من "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، أو "المنذر الأكبر بن ماء السماء" أو "النعمان الأكبر أبو المنذر الأكبر ذو القرنين"، و "ذو القرنين"، هو "ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة"، أو "النعمان ابن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة"، وذلك في زمن "قباذ" ملك الفرس ". ويقصد ب "قباذ" هذا "قباذ" الأول الذي حكم ثلاثا وأربعين سنة على ما جاء في الأخبار. ويقدر العلماء ذلك من سنة "488" حتى سنة "531" بعد الميلاد. ولنتمكن من تعيين اسم الملك الذي قصده الرواة، علينا الرجوع إلى أسماء من حكم في أيام قباذ من ملوك الحيرة، وذلك على نحو ما رواه لنا الأخباريون.

 

إن أول من حكم في عهد "قباذ"، على ما يدعيه "حمزة"، هو الملك "الأسود بن المنذر" وقد حكم في أيامه ست سنين. ثم المنذر بن المنذر، وأمه "هر"، وقد حكم سبع سنين. ثم النعمان بن الأسود، وأمه ام الملك بنت عمرو بن حجر أخت "الحارث بن عمرو بن حجر الكندي"، أربع سنين. ثم أبو يعفر بن علقمة الذميلي، وقد حكم ثلاث سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان ابن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين. ثم المنذر بن امرئ القيس المعروف بالمنذر بن ماء السماء، وهو ذو القرنين، وقد حكم اثنتين وثلاثين سنة من ذلك ست سنين في زمن قباذ. ثم الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، ولم يذكر "حمزة" مدة حكمه، انما قال: "ذكر هشام عن ابيه انه لم يجد الحارث فيمن أحصاه كتاب أهل الحيرة من ملوك العرب. ثم قال: وظني انهم انما تركوه لأنه توثب على الملك بغير اذن من ملوك الفرس، ولأنه كان بمعزل عن الحيرة الني كانت دار المملكة ولم يعرف له مستقر وانما كان سيارة في أرض العرب ". ولم يذكر حمزة مدة حكم "قباذ".

 

أما "الطبري"، فجعل "النعمان بن المنذز بن امرئ القيس بن الشقيقة." الملك الذي كان قد حكم حينما تولى "قباذ" الحكم، وجعل "الحارث بن عمرو ابن حجر" الذي قتل النعمان على روايته من بعده. وقد دام حكمه على ما يظهر من رواية الطبري حتى أيام "كسرى أنو شروان بن قباذ". فلما قوي شأن "كسرى أنو شروان"، بعث إلى المنذر ين النعمان الأكبر، وأمه ماء السماء، فملكه الحيرة وما كان يلي آل الحارث بن عمرو بن حجر.

 

أما "ابن الأثير"، وهو عيال على الطبري وناقل منه. فقد ذكر ما ذكره الطبري، وأضاف إليه: أن المنذر بن ماء السماء لما بلغه هلاك قباذ، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه، أقبل إلى "أنو شروان" فعرفه نفسه، وأبلغه أنه سيعيده إلى ملكه وطلب "الحارث بن عمرو"، وهو بالأنبار، فخرج هاربا في صحابته وماله وولده، فمر ب "الثوية"، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب واياد وبهراء، فلحق بأرض كلب، ونجا، وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار، فقدموا بهم على المنذر، فضرب رقابهم ب "جفر الأميال" "جفر الأملاك" في ديار بني مرينا العباديين بين دير بني هند والكوفة.

 

ترى مما تقدم اختلاف الروايات وتباينها وتعددها حتى إن الراوية الواحد مثل "ابن الكلبي" يروي لنا جملة روايات، قد يناقض بعضها بعضا. لقد وجدنا منها ما زعمت إن قباذ طرد المنذر من مملكته وأحل الحارث محله ومنها ما زعمت إن المنذر استرضى الحارث بعد أن رأى عجزه وعجز صاحبه تغيرت به الأحوال، فعاد أصحاب البيت إلى بيتهم، وهرب هو إلى من حيث جاء. ولا نعرف على وجه التحقيق متى ولي الحكم، ولا متى غادره.

 

لقد ذكر ت أسماء الملوك الذين حكموا في أيام "قباذ" على رواية حمزة، وهي رواية تكاد تتفق مع القائمة التي دونها الطبري، في آخر كلامه عن "كسرى أنو شروان" نقلا عن هشام بن الكلبي لأسماء ملوك الحيرة ومدة حكمهم، وذلك قبل عهد "كسرى أنو شروان". فأي ملك من هؤلاء يمكن أن يكون هو الملك المقصود.

 

لقد ذكر "يوشع العمودي" "Joshuathe Stylite" إن ملك الحيرة "النعمان" اشترك مع "قباذ" في المعارك التي وقعت بينه وببن الروم فأصيب النعمان بجروح بليغة على مقربة من "قرقيسياء"" Circesium"قضت عليه، وذلك في سنة"553" للميلاد. ولقد انتهز عرب الروم المسمون بالثعلبيين "بني ثعلبة" هذه الفرصة، فغزوا الحيرة، واضطرت القوة التي تركها النعمان في عاصمته إلى الفرار للبادية. أفلا يجوز أن يكون هؤلاء الغزاة هم أعراب "الحارث الكندي "، انتهزوا هذه الفرصة فأغاروا على الحيرة واستولوا عليها، فصارت في قبضة "الحارث" على نحو ما رواه بعض الأخبارين ؟ ثم ألا يجوز أن يكون بعض الرواة قد سمعوا بمقتل "النعمان"، فظنوا أن القاتل هو "الحارث"، أو تعمدوا نسبة القتل إليه للرفع من شأن كنده ومن كان معها من قبائل؟

 

ولكن من يثبت لنا أن هؤلاء الأعراب الثعلبيين، أي من "بني ثعلبة"، وهم من عرب الروم على حد قول "يوشع العمودي" هم من أتباع الحارث، أو أنهم من "آل الحارث" أي من كنده، وأن العائلة الكندية المذكورة كانت تعرف ب "بني ثعلبة". وليس في الذي بين أيدينا من موارد، مورد واحد يذكر بأن "آل آكل المرار" هم من "بني ثعلبة" او انهم كانوا قد عرفوا ب "بني ثعلبة" في يوم من الأيام، او انهم كانوا قد خضعوا لسلطان الروم. لذلك، لا أظن إن "يوشع العمودي" قصد بالثعلبيين عرب الروم، كندة، وانما قصد أعرابا من اعراب الروم، كانوا يعرفون ب "بني ثعلبة" أو "آل ثعلبة"، وكانوا يتمتعون باستقلالهم تحت حماية الروم. ولما وجدوا فرصة ما حل بالنعمان من جروح في الحرب التي خاضها مع الفرس على الروم، هاجموا الحيرة فانتهبوها، وعانت حاميتها ضعيفة ففرت إلى البادية، ولم يذكر المؤرخ مدة مكوث هؤلاء الأعراب في الحيرة، والظاهر انها لم تكن سوى مدة قصيرة، وانها كانت من نوع غارات الأعراب على المدن: غزو في خاطف، يعقبه انسحاب عاجل لتأمين سلامة ما ينهبونه وايصاله إلى ديارهم حتى لا تتمكن القوات الني ستاتي لمعاقبتهم من أخذ ما حصلوا عليه من غنائم وأموال.


ويظهر أن حكم كنده للحيرة لم يكن طويلا، ويظن أنه كان بين سنة "525" وسنة "528" للميلاد، وذلك في أثناء ظهور فتنة المزدكية في إيران. وليس يستبعد أن يكون الحارث قد اتصل بالفرس قبل هذا الزمن، في أثناء صلح سنة "506" للميلاد، او على إثر الفتور الذي طرأ على علاقاته بالبيزنطيين، لأنه وجد إن الاتفاق مع الفرس يعود عليه بفوائد ومنافع لا يمكن أن يغتنمها من الروم، ووجد بكرا وتغلب قد زحفتا اذ ذاك من مواطنهما القديمة في اليمامة ونجد نحو الشمال تريدان النزول في العراق. وقد أقره الفرس على المناطق الصغيرة أو الواسعة النى استولى عليها لقاء جعل.

 

لم يكن من مصلحة ملك الحيرة، بالطبع، الرضى بنزول، منافس قوي أو منافسين أقوياء في أرضه أو في أرض مجاورة له. ولما ظهر الحارث في العراق، وعرف ملك الحيرة نياته وتقربه إلى الفرس، وملك الحيرة، هو باعتراف الفرس "ملك عرب العراق"، لم يكن من المعقول سكوته انتظارا للنتائج. ومن هنا وقع الاختلاف.

 

لم تكن العلاقات حسنة بين قباذ والمنذر ملك الحيرة، لسبب غير واضح لدينا وضوحا تاما، قد يكون بسبب المزدكية، وقد يكون بسبب تقرب الحارث إلى الفرس واقطاعهم اياه أرضا وتودده الزائد إلى قباذ، وقد يكون لأسباب أخرى مثل تردد ملك الفرس وضعفه، فلم تكن له خطة ثابتة مما أثر في وضع "ملك عرب العراق". على كل حال، فقد أدى هذا الفتور إلى استفادة الحارث منه واستغلاله، فتقرب إلى الفرس وتودد إليهم حتى آل الأمر بأن يأخذ ملك الحيرة أمدا حتى تغيرت الأحوال في فارس بموت "قباذ" وتولى "كسرى أنو شروان" الملك من بعده، فعاد المنذر عندئذ الى عرش الحيرة وأبعد الحارث عن ملكه. وآراء الأخباريين متباينة كذلك في المكان الذي اختاره الحارث للاقامة فيه بغد اغتصابه ملك "آل لخم"، فبينما يفهم من بعض الروايات انه استقر في الحيرة وأقام فيها، نرى بعضا آخر يرى انه أقام في الانبار. وبينما يذكر "حمزة" إن الحارث حينما بلغه خبر قدوم المنذر عليه واقترابه من الحيرة، هرب فتبعته خيل المنذر، مما يفهم انه كان في الحيرة، نجده يقول في موضع آخر: "إن الحارث كان بمعزل عن الحيرة الني كانت دار المملكة، ولم يعرف له مستقر، انما كان سيارة في أرض العرب ". ونجد صاحب الأغاني يذكر في موضع انه كان في الأنبار، ويشير في موضع آخر انه كان في الحيرة.

 

وتتفق روايات الأخباريين على إن مجيء "كسرى أنو شروان" كان شرا على الحارث،وخيرا لال لخم، فقد كانت سياسة "أنو شروان" مناهضة لسياسة. قباذ بسبب المزدكية. وقد ظهر اختلافهما هذا فى السنين الأخيرة من سني حكم قباذ". وقد أدى هذا الاختلاف إلى محاربة المزدكية وسقوطها. ويحدثنا "ملالا" "John Malalas" إن سقوطها كان بعد وفاة "الحارث" وقبل غارة المنذر على بلاد الشام. وقد قام المنذر بها في شهر آذار من سنة "528" للميلاد على رواية "ثيوفانس" "Theophanes". وكانت وفاة الحارث في أوائل سنة "528" للميلاد. ومن رواية هذين الكاتبين يتبين إن الحارث كان قد قضى نحبه قبل القضاء على المزدكية بمدة غير طويلة، وان المنذر كان في آذار سنة "528" للميلاد قد قام بغارته على بلاد الشام.

 

ويستدل من اشارة "ملالا" و "ثيوفانس" إلى موت الحارث في سنة "528م" ومن تلقيبه بلقب "فيلارخس" أي عامل، على إن علاقات الحارث بالروم في أواخر أيام حياته كانت حسنة. ومعنى هذا إن خلافا او فتورا كان قد وقع فيما بينه وبين الفرس، دفعه على التقرب نحو خصوم الساسانيين وهم الروم، فاضل بهم وذلك في أيام "قباذ"، او في ايام "كسرى انو شروان". ويظهر إن تودد "الحارث" إلى البيزنطيين لم يأت له بنتيجة او بفائدة تذكر.

 

اذ يحدثنا الكاتبان "ملالا" و "ثيوفانس" إن قائد فلسطين الرومي "ديوميدس بر "Diomedos" أجبر سيد قبيلة يدعى "اريتاس" "Aritas"، اي "الحارث" على التراجع في اتجاه الهند "Indica"، ويقصد بذلك جهة الجنوب او الشرق، حيث كان يطلق البيزنطيون على العربية الجنوبية "الهند". فلما سمع بذلك "الموندارس" "Alamoundaros" أي "المنذر" رئيس العرب "السرسيني" "Saracens" الخاضعين لنفوذ الفرس،هجم على الحارث فقتله،وغنم امواله وما ملكه،وأسر اهله. فلما بلغ النبأ للقيصر "يوسطنيانوس" "Justinianus"، أمر حكام "فينيقية" "Phenicia" و"العربية" "Arabia" والجزيرة وعامل الحدود بتعقب المنذر ومهاجمته. وقد اشترك في هذه الحملة عدد من القادة والحكام وفي جملتم سيد قبيلة اسمه "اريتاس" "Aritas"، أي "الحارث"، وهو الحارث بن جبلة الغساني على ما يظهر.

 

ولم يتعرض الأخباريون للخبر الذي ذكره الكاتبان عن كيفية قتل "الحارث" ولا عن الأمر الذي أصدره القيصر بتعقيب "المنذر"، والظاهر انهم لم يقفوا عليه. غير إن للاخباريين رواياتهم الخاصة عن مصير صاحبنا "الحارث" الكندي. حدث صاحب "الأغاني" إن "انو شروان" حينما ملك، أمر بقتل الزنادقة، اي أتباع مزدك، "فقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان إلى المدائن في ضحوة واحدة مئة ألف زنديق وصلبهم"، وأعاد المنذر إلى مكانه، وطلب "الحارث ابن عمرو، فبلغه ذلك وهو بالأنبار وكان بها منزله... فخرج هاربا في هجائنه وماله وولده، فمر بالثوية، وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وبهراء وإياد، فلحق بأرض كليب، فنجا وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار، فقسمت بهم على المنذر، فضرب رقابهم ب "جفر الأملاك" "حفر الأملاك" في ديار بني مرينا العبادين بين دير هند والكوفة 00". وأضاف "ابن الأثير" إلى هذا الخبر إن "تغلب" قبضت على ولدين من أولاد الحارث هما: "عمرو" و "مالك" في جملة الثمانية والأربعين، فجاءت بهما الى المنذر في "ديار بني مرينا" فقتلهم.

 

وحدثنا "ابن قتيبة" أن "المنذر" لما اقبل "من الحيرة هرب الحارث، وتبعته خيل فقتلت ابنه عمرا، وقتلوا ابنه مالكا بهيت، وصار الحارث بمسحلان فقتلته كلب". وزعم غير ابن قتيبة انه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه. وذكر "حمزة" الروايات المدونة في كتاب "الأغاني" بحذف بعض كلماتها. ولم يشر اليعقوبي إلى من قتل "الحارث" من ملوك الحيرة، بل أوجز فقال: "... وكانوا يجاورون ملوك الحيرة، فقتلوا الحارث. وقام ولده بما كان في أيديهم، وصبروا على قتال المنذر حتى كافؤوه. ويشعر على كل حال من جملة "وصبروا على قتال المنذر" ومن روايات الأخباريين الأخرى أن القتل كان في ايام المنذر.

 

وفي رواية أخرى أن الحارث بقي في كلب حتى توفي فيما بينهم حتف أنفه. وقد أضافت الرواية التي تنسب إلى "أبي عبيدة" إلى هذا الخبر انه دفن ب "بطن عاقل". والظاهر إن اضافة "بطن عاقل" إنما وقعت سهوا واشتباها، من باب عدم التمييز فيما بين "حجر" الذي زعم انه دفن ب "بطن عاقل" وبين "الحارث".

 

وجاء في رواية أن الحارث خرج يتصيد، فرأى جماعة من حمر الوحشى فشد عليها، وانفرد منها حمار فتتبعه، وأقسم ألا يأكل شيئا قبل كيده، فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته، وأتي به، وقد كاد يموت من الجوع، ثم شوي على النار واطعم من كبده وهي حارة فمات.

 

ولا تخلو هذه الروايات المتعلقة بموت "الحارث" ونهايته من مؤثرات العواطف القبلية التي صبغت كل الأخبار التي يرويها الأخباريون بهذه الصبغة. فكلب تدعي انها هي التي قتلته، وكنده تنكر ذلك مدعية انه مات كما يموت سائر الناس، وأهل الحيرة يقولون انهم هم الذين قتلوه قتلوه في حرب. وأبو الفرج الأصبهاني يقول: "فكلب يزعمون انهم قتلوه، وعلماء كنده تزعم انه خرج إلى الصيد فالظ بتيس من الظباء، فأعجزه فآلى أن لا يأكل أولا إلا من كبده، فطلبت الخيل ثلاثا، فأتى بعد ثالثة، وقد هلك جوعا، فشوى له بطنه فتناول فلذة من كبده، فأكلها حارة فمات.

 

ولورود خبر مقتل "الحارث" مسجلا تسجيلا دقيقا لدى الكاتبين المذكورين: "ملالا" و "ثيوفانس"، ومطابقته لرواية أهل الحيرة في النتيجة، وهو إن مقتله كان على أيدي "المنذر" وجماعته نرجح هذه الرواية على غيرها من الروايات.

 

ويظهر من غربلة الروايات التي روأها أهل الأخبار عن نهاية "الحارث" انها قد اختلفت فيما بينها وتضاربت في موضوع نهايته، فزعم بعض منها، انه قتل وان قاتله هو "المنذر بن ماء السماء"، وزعم بعض أخر انه قتل، ولكنه لم يصرح باسم قاتله، وزعم بعض آخر انه هلك، وانه لم يقتل، وانما مات حتف أنفه. والذي أرجحه انه قتل، قتل في أثناء المعارك التي وقعت من جراء تعقب المنذر بن ماء السماء له.

 

ولا نكاد نعرف شيئا يذكر عن أعمال الحارث في أثناء توليه ملوكية قبائل "معد" غير ما ذكره الرواة من انه وزع أولاده عليها، وجعلهم ملوكا على تلك القبائل. كذلك لا نكاد نعرف شيئا يذكر عن أعماله وهو ملك على الحيرة، فأصحابنا الأخبارييون سكوت عن هذه الأمور. ويفهم من كلام بعض الأخباريين عن "الحارث" انه حينما نزل ببكر بن وائل، أقام ب "بطن عاقل"، ومنه غزا بهم ملوك الحيرة اللخميين، وملوك الشام الغسانيين، وفيه كانت نهايته. ويفهم من بيت في ديوان "امرئ القيس" إن ملك الحارث قد امتد من العراق إلى عمان. ولا تعني أمثال هذه الأقوال امتلاكا فعليا، بل كانت تتحدث في الواقع عن اتفاقات تعقد بين القبائل يعترف فيها بالرئاسة لمن له النفوذ الأكبر والمكانة، فإذا حدث حادث للرئيس الذي يمكن بمكانته ومنزلته من ضم هذه القبائل وتوحيدها، انهد كيان ذلك الاتحاد وتشتت شمله، كالذي حدث بعد وفاة الحارث كما سترى فيما بعد. وقد لا تعني هذه الأقوال سوى المبالغات والفخر، على نحو ما يرد في شعر غيره من الشعراء من امتلاكهم الدنيا ومن عليها، ومن تدويخهم القبائل والناس، وليس في الواقع أي شيء مما جاء في دعوى اولئك الشعراء المفتخرين.

 

ويحدثنا "ابن الكلبي" انه كان للحارث زوجات ثلاث، هن: أم قطام بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية، وأسماء، ورقية أمة أسماء. وقد زعم ابن الكلبي إن أم قطام وأسماء كانتا شقيقتين، وأما رقية، فكانت أمة لأسماء. وقيل أيضا: "هن أخوات، فجمعهن جميعا". وزوجه بعض الأخبارين بامرأة أخرى هي: "أم أناس" بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وهي والدة "عمرو بن الحارث" المعروف عندهم ب "ابن أم أناس" "ابن ام اياس". وفي رواية "ابن السكيت" إن "أم قطام بنت سلمى" هي امرأة من "عنزة".

 

وقد دون لنا الرواة أسماء جملة أولاد من أبناء "الحارث"، ذكروا منهم حجر وشرحبيل ومعد يكرب وعبد الله وسلمة، ومحرق ومالك وعمر. وأم "حجر" هي: "أم قطام".

 

ويذكر أهل الأخبار انه كان للحارث ابن، حج ففقده، فاتهم به رجل من بني أسد يقال له حبال بن نصر بن غاضرة. فأخبر بذلك الحارث، فأقبل حتى ورد تهامة أيام الحج، وبنو أسد جميعها. فطلبهم، فهربوا منه. فأمر مناديا فنادى من أوى أسديا فدمه جبار. ثم إن الملك عفا عنهم واعطى كل واحد منهم عصا أمانا له. وبنو اسد يومئذ قليل. فأقبلوا إلى تهامة ومع كل رجل منهم عصا. فلم يزالوا بتهامة حتى هلك الحارث، فأخرجتهم بنو كنانة، وسموا عبيد العصا، بالعصا التي أخذوها.

ويذكر أهل الأخيار انه كانت للحارث بن عمرو بنت اسمها هند، وقد تزوجها المنذر بن ماء السماء، وهي والدة الملك "عمرو بن هند" وشقيقة "قابوس" وعمة الشاعر امرئ القيس.

 

وهم يذكرون أن ملك الحارث لما توسع واشتغل هو بالحيرة عما كان يراعيه من أمور البوادي، تفاسدت القبائل وفشا بينها الشر، فجاء أشرافها فشكوا ما حل بهم من غلبة السفهاء، و طلبوا إليه أن يملك عليهم أبناءه، فملك ابنه حجرا على بني أسد وغطفان، وملك ابنه شرجيل على بكر بن وائل بأجمعها وعلى بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة وطوائف من بني درام بني تميم والرباب، وملك ابنه معد يكرب على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن حنظلة والصنائع، وهم بنو رقية: قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب، وملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمه على قيس عيلان. وقيل إن شرحبيل بن الحارث ملك في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، ومعد يكرب في قيس والصنائع، وهم بنو رقية، وسلمة في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة.

 

وقد اكتفى "حمزة" بقوله: "وانتشر ولده، فملكهم على بكر وتميم وقيس وتغلب وأسد". وهنالك روايات أخرى تختلف في التفاصيل وفي الأمور الثانوية عن هذه الروايات التي ذكرتها بعض الاختلاف، سأشير اليها في أثناء البحث عن هؤلاء الأولاد.

 

وذكر "ياقوت الحموي" رواية رجعها إلى "أبي زياد الكلابي "،خلاصتها أن "مضر" و "ربيعة" اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكا يقضي بينهم، فكل أراد أن يكون منهم، ثم تراضوا أن يكون من "ربيعة" ملك ومن "مضر" ملك، ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم، ثم اتفقوا على أن يتخذوا ملكا من اليمن. فطلبوا ذلك إلى "بني آكل المرار" من كنده، فملكت بنو عامر شراحيل بن الحارث الملك بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار، وملكت بنو تميم وضبة محرق بن الحارث، وملكت وائل شراحيل بن الحارث. وتختلف هذه الرواية كما ترى بعض الاختلاف عن رواية ل "ابن الكلبي" ذكرها "ياقوت" أيضا، هي إن سلمة بن الحارث ملك "بني تغلب" و "يكر بن وائل"، وأما "غلفاء" وهو "معد يكرب" "معدي كرب"، فقد ملك بقية "قيس"، وأما "أسد" و "كنانة"، فقد ملكت عليها "حجر بن الحارث"، أي والد امرئ القيس.

 

أما "حجر"، فهو أكثر هؤلاء الأولاد ذكرا عند الأخباريين. وهو والد الشاعر الجاهلي المعروف "امرئ القيس ". وقد يعود الفضل إلى هذا الشاعر في ذيوع شهرة والده وانتشار خبره، وحفظ أخبار هذه الأسرة من كنده. وهو أكثر أولاد الحارث، واليه انتقلت عامة كنده بعد وفاة والده. وهو ابن "أم قطام بنت سلمة ين مالك بن الحارث بن معاوية" من كنده.

 

ملك "الحارث" ابنه "حجرا" كما ذكرت الأخبار على أسد وكنانة وهما قبيلتان من قبائل مضر. وتقع مواطن "اسد" الرئيسية في القرن السادس للميلاد في جنوب جبلي طيء "أجأ" و "سلمى"، ويسميان جبل شمر في الزمن الحاضر على جانبي بطن الرمة "وادي الرمة"، غير إن بطونها متفرعة منتشرة في مناطق واسعة تمتد من المدينة إلى نهر الفرات. ولكنها لم تكن سيدة هذه الأرضين، بل كانت تعيش مع غيرها من القبائل متفرقة. ويظن انها "استينوى" "Asatynol" الساكنة في أرض تسمى بهذا الاسم في "جغرافيا" بطلميوس. وتعد هذه القبيلة في عرف النسابين من نسل "أسد بن خزيمة بن مدركة بن مضر"، وهي شقيقة "الهون" و "كنانة".

 

وروى المؤرخ "ثيوفانس" أن "رومانس" "Romanus" حاكم فلسطين في أيام "أنسطاسيوس" "Anastasius"، هزم في سنة "490" للميلاد سيدي قبيلتين، هما: "جبلس." "Gabalas" "Jabalas" و "اوكاروس" "Ogaros" ابن "ارتاس" "Aretas"، أي الحارث من "آ ل ثعلبة" "Thalabanys”، ويظن أن "" Gabalas" هو"جبلة"، والد الحارث بن جبلة الغساني. وأما " Ogaras"، فيرى بعض المستشرقين أنه "حجر بن الحارث ابن عمرو الكندي". وقد وقع أسيرا في قبضة "رومانوس". ويرى "أوليندر" أن في تقدير هذا المؤرخ بعض الخطأ وأن التاريخ الصحيح هو سنة "497" للميلاد. ثم أشار هذا المؤرخ إلى تحرش آخر قام به بعد أربع سنوات سيد قبيلة اسمه " Madikaripos" Madicaripos"" كان شقيقا ل " Ogaros”. أوغل في الغزو وأوقع الرعب في جند الروم. وقد قصد "ثيوفانس" ب "Madikaripos" "معد يكرب بن الحارث" شقيق حجر.

 

وكان من نتائج هذه الغارات كما يقول هذا المؤرخ أن عقد القيصر "أنسطاسيوس" صلحا مع " Aretas" أي الحارث، والد الأخوين المذكورين، فخيم الأمن بذلك على فلسطين والعربية وفينيقية. وقد أشار إلى هذا الصلح المؤرخ "نونوسوس" "Nonnosus"، حيث ذكر إن القيصر "انسطاسيوس" أرسل جده إلى "Aretas" لمفاوضته في عقد صلح. ويظهر من قول هذا المؤرخ أن هاتين الغزوتين كانتا في حياة " Aretas".

 

ولم يشر الأخبارييون إلى هذه الغزوات التي قام بها "حجر" و "معد يكرب" على حدود سورية وفلسطين في عهد "أنسطاسيوس" كما روى ذلك هذا المؤرخ.

 

وورد إن حجرا أغار على اللخميين في أيام امرئ القيس والد المنذر بن ماء السماء. و يظن "نولد كه" أن هذه الحملة التي لا نعرف من أمرها شيئا انما وقعت بعد وفاة الحارث، وقد قصد "حجر" منها استرجاع ما خسره أبوه، واعادة نفوذ كنده إلى ما كان عليه.

 

لقد كانت نهاية "حجر" بأيدي "بني أسد"، ويظسر انهم قبلوه ملكا عليهم مكرهين. فلما حانت الفرصة قاموا عليه وقتلوه. حدث "ابن الكلبي" انه كان لحجر على بني أسد اتاوة في كل سنة مؤقتة. فلما كان بتهامة، أرسل جابيه الذي كان يجيبهم، فمنعوه ذلك، وضربوا رسله وضرجوهم ضرجا شديدا قبيحا، فبلغ ذلك حجرا، فسار اليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة، فأتاهم وأخذ سراتهم، فضربهم بالعصا وأباح الأموال وصيرهم إلى تهامة، وحبس سيدهم "عمرو بن مسعود بن كنده بن فزارة الأسدي"، و الشاعر "عبيد بن الأبرص"، فأثر ذلك في نفوس "بني أسد وأضمروا له الانتقام". ثم إن حجرا وفد على ابيه الحارث في مرضه الذي مات فيه، وأقام عنده حتى هلك، ثم أقبل راجعا إلى بني أسد، فلما دنا منهم وقد بلغهم موت أبيه، طمعوا فيه، فلما أظلهم وضربت قبابه، اجتمعت بنو أسد إلى "نوفل بن ربيعة"، فهجم على "حجر" ومن معه، فانهزم جيشه وأسر "حجر" وتشاور القوم في قتله، فقال لهم كاهنهم: لا تعجلوا بقتله حتى أزجر لكم، فلما رأى ذلك "علباء" خشي أن يتواكلوا في قتله، فحرض غلاما من بني كاهل على قتله، وكان حجر قد قتل أباه، فدخل الخيمة التي احتبس حجر فيها فطعنه طعنة أصابت مقتلا.

 

ويزعم أهل الأخبار إن "بنى أسد" الذين عصوا حجرا عرفوا منذ ضربهم حجر بالعصا ب "عبيد العصا"، وقد أشير إلى هذه التسمية في الشعر، ويذكرون أيضا إن "عبيد بن الأبرص"، وقف أمام الملك حجر، فقال شعرا يستعطفه فيه على قومه، فرق لهم ورحمهم وعفا عنهم، وأرسل من يردهم إلى بلادهم، فلما صاروا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم وهو "عوف بن ربيعة بن عامر الأسدي"، بأنهم سيقتلون حجرا وسينتقمون منه ومن أهله ثم فصدقوا بنبوءته وعادوا إلى موضع حجر فوجدوه نائما، فذبحوه، وشدوا على هجائنه فاستاقوها. وفي رواية أخرى، انهم هجموا على عسكر حجر ودخلوا قببه، فطعنه علباء بن الحرث الكاهلي، فلما قتل، استصلحت أسد كنانة وقيسا، ونهبوا ما كان في عسكر حجر وسلبوه، وأجار "عمرو بن مسعود" عيال حجر. وقيل أجارهم غيره، وبذلك تخلصت بنو أسد من حكم كنده.

 

وهناك روايات أخرى يرجع سندها إلى "ابن الكلبي" والى غيره مثل "أبو عمرو الشيباني" و "الهيثم بن عدي" و "يعقوب بن السكيت" وغيرهم تختلف فيما بينها بعض الاختلاف في كيفية قتل "حجر". وقد زعمت بعض الروايات بأن "علياء بن الحرث الكاهلي" هو الذي قتله، طعنه، فقضت طعنته هذه عليه، وكان "حجر" قد قتل أباه. وزعمت رواية أخرى أن الذي قتله هو ابن أخت "علباء"، وكان حجر قد قتل أباه، ضربه بحديدة كانت معه سببت وفاته.

 

وتذكر رواية أن "حجرا" لما علم انه ميت أوصى ودفع كتابه إلى رجل أمره إن ينطلق إلى اكبر أولاده "نافع"، فإن بكى وجزع، فليذهب إلى غيره حتى يصل إلى أصغرهم وهو امرؤ القيس، فأيهم لم يجزع يدفع إليه الكتاب. فكان ذلك الولد امرؤ القيس.

 

ونجد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" فخرا واعتزازا بقتل أسد لحجر والد امرئ القيس. وقد دعاه ب "ابن ام قطام" في احدى قصائده، وقال إن قومه علوه بالسيوف البيض الذكور. وأم قطام هي بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية. ودعاه ب "حجر" في قصيدة أخرى، وافتخر بأن قومه ضربوا رأس حجر بأسياف مهندة رقاق. وذكر في قصيدة أخرى أن قومه ضربوا خيل حجر بجنب الرده. والرده موضع في ديار قيس، والظاهر أنهم قتلوا حجرا بجنب الرده.

 

وأما "شرحبيل"، فقد ملكه ابوه على "بكر ين وائل" و "حنظلة بن مالك" و "بني أسيد" و "الرباب"، أي على عدد من قبائل ربيعة ومضر، وكان نصيبه القسم الشرقي من مملكة كنده ما عدا البحرين. وليس بين الذي يروي الأخباريون عنه شيء ذو بال، إلا ما ذكروه عن كيفية مقتله ونهايته، وهذا ملخصه: لما هلك الحارث بن عمرو تشتت امر اولاده، وتفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بينهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش. وقد بلغت العداوة أشدها بين "شرحبيل" وسلمة، بسبب المنذر الذي عاد إلى الحيرة وأخذ يشعل نار الفتنة بين الأخوين. فسار شرحبيل ببكر ابن وائل ومن معه من قبائل حنظلة ومن أسيد بن عمرو ين تميم وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، فنزلت "الكلاب"، وهو ماء بين الكوفة والبصرة على بضع عشرة ليلة من اليمامة، وأقبل "سلمة" في بني تغلب وبهراء. والنمر وأحلافها وسعد بن زيد مناة بن تميم ومن كان معهم من قبائل حنظلة وفي الصنائع يريدون الكلاب. وكان نصحاء شرحبيل وسلمة نهوهما عن الفساد والتحاسد، وحذروهما الحرب وعتراتها وسوء مغبتها، فلم يقبلا، ولم يتزحزحا، وأبيا إلا التتابع. فلما تلاقى الجمعان، اقتتلا قتالا شديدا، ثم خذلت بنو حنظلة وعمرو ابن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت وثبتت بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد وألفافها عن بني تغلب، وصبرت تغلب، وساء أمر شرحبيل، فجاء إليه من عرف موضعه وقتله.

 

ويذكر أهل الأخبار إن العداوة كانت شديدة بين الأخوين، حتى إن كل واحد منهما وضع جائزة لمن يأتي برأس أخيه، فذهب "أبو حنش" وهو عصم ابن النعمان ين مالك "عصيم بن مالك الجشمي"، فطعن " شرحبيل "، واحتز رأسه وجاء به إلى أخيه، فطرحه أمامه. ويقال إن شرحبيل لما رأى "أبا حنش" يريد توجيه طعنة إليه قال له: يا أبا حنش اللبن اللبن، فقال أبو حنش: قد هرقت لنا لبنا كثيرا. فقال: يا أبا حنش أملك بسوقة. وذلك إن دم الملوك فوق دم العامة، وهم السوقة. وان الملك لا يقبل بسبب قتله رجلا من سواء الناس.

 

ويظن إن "يوم الكلاب" كان قد وقع سنة "612" للميلاد. ويقول الرواة إن "بني تغلب" أخرجت "سلمة"، فلجأ إلى "بني بكر ابن وائل"، فانضم اليهم، ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس. وتذكر رواية من الروايات التي يقصها أهل الأخبار عن كيفية نهاية ملوك كنده. إن الأمر لما اشتد على أولاد الحارث، جمع "سلمة" جموع اليمن، فسار ليقتل نزارا. وبلغ ذلك نزارا، فاجتمع منهم "بنو عامر بن صعصعة" وبنو وائل: تغلب وبكر، وقيل: بلغ ذلك كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي وأمره أن يعلو "خزازا" فيوقد عليه نارا ليهتدي الجيش بها، وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. وبلغ سلمة اجتماع ربيعة ومسيرها فأقبل ومعه قبائل مذحج، و هجمت مذحج على خزاز ليلا، فرفع السفاح نارين، فأقبل كليب في جموع ربيعة اليهم فالتقوا بخزاز، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت جموع اليمن. وفي رواية "أبي زياد الكلابي"، إن الذي أوقد النار على خزاز "خزازا" هو الأحوص بن جعفر بن كلاب، وكان على روايته هذه رئيسا على نزار كلها. ويذكر الكلابي إن أهل العلم من الذين أدركهم ذكروا له انه كان على نزار "الأحوص بن جعفر". ثم ذكرت ربيعة أخيرا من الدهر إن "كليبا" كان على نزار. أما "محمد بن حبيب"، فيروي إن "كليب وائل" هو الذي قاد جموع "ربيعة" و "مضر" و "قضاعة" في يوم خزاز إلى اليمن.

 

وقال بعض الأخباريين: كان كليب على ربيعة، والأحوص على مضر.

 

ويعود سبب هذا الاختلاف في روايات الرواة إلى النزعات القبلية التي كان يحملها الرواة. ف "أبو زياد الكلابي" يتعصب كما نرى ل "بني كلاب "، فبرجع الرئاسة إليهم، لأنه منهم، وهذا مما يأباه رواة ربيعة وينكرونه عليه اذ يرون إن الرئاسة فيهم. وتوسط رواة بين رواة ربيعة ورواة مضر حسما للنزاع على ما يظهر، فقالوا بالرئاستين: رئاسة كليب على ربيعه، ورئاسة الأحوص على مضر وبذلك أصلحوا ذات البين.

 

وقد ذكر "أبو زياد الكلابي" أن يوم "خزاز" أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية وانه اول يوم استنصفت فيه نزار من اليمن، وأنها لم تزل منذ هذا اليوم ممتنعة قاهرة لليمن في كل يوم يلتقونه حتى جاء الإسلام.

 

وذكر "الأصمعي" أن يوم خزاز كان للمنذر بن ماء السماء ولبني تغلب وقضاعة على "بني آكل المرار" من كنده وعلى بكر بن وائل، وان المنذر وأصحابه من بني تغلب أسروا في هذا اليوم خمسين رجلا من بني آكل المرار. ويفهم من شعر ل "عمرو بن كلثوم". قيل إنه قاله متذكرا هذا اليوم، أن رهطه وهم من بني تغلب آبوا بالنهاب وبالسبايا وبالملوك مصفدين. ولم يشر الشاعر إلى هوية هؤلاء الملوك المأسورين، ولكن "الأصمعي" يقول: إنه قصد بقوله: "وأبنا بالملوك مصفدينا "بني آكل المرار".

 

فيظهر من الرواية المتقدمة إن يوم خزاز، كان بين سلمة ومن جاء معه من اليمن وبين تغلب ومن انضم اليها من قبائل ربيعة ومضر. و يظهر من رواية الأصمعي إن ذلك اليوم كان بين المنذر بن ماء السماء وتغلب وقضاعة من جهة وبين "بني آكل المرار"، وبكر بن وائل من جهة اخرى وهناك روايات أخرى تذكر إن هذا اليوم، انما كان قد وقع بين ملك من ملوك اليمن وبين قبائل معد، ولا علاقة له بسلمة وببني اكل المرار أو المنذر بن ماء السماء في هذا اليوم، الذي أدى إلى انتصار بنى معد على اولاد قحطان.

 

ويذكر بعض أهل الأخبار أنه: "لولا عمرو بن كلثوم ما عرف يوم خزاز". وأم عمرو بن كلثوم، هي ابنة "كليب بن ربيعة"، المعروف ب "كليب وائل". فذكره في شعره لذلك اليوم ساعد ولا شك في ابقاء اسمه في ذاكرة الناس، حتى دون خبره في الإسلام.

 

وليوم "أوارة" الأول علاقة وصلة ب "سلمة بن الحارث" وب "المنذر ابن ماء السماء" على ما يرويه بعض أهل الاخبار. فهم يذكرون إن تغلب لما أخرجت "سلمة" عنها، التجأ إلى "بكر بن وائل"، فلما صار عند بكر ابن وائل اذعنت له، وحشدت عليه، وقالت: لا يملكنا غيرك. فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته، فأبوا ذلك، فحلف المنذر ليسيرن اليهم، فان ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة. وسار إليهم في جموعه، فالتقوا بأوارة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وأجلت الواقعة في هزيمة بكر وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله وبقتل عدد كبير من بكر.

 

وأما "شراحيل بن الحارث"، فقد قتله "بنو جعدة بن كعب بن ربيعة ابن صعصعة".

 

ويحدثنا "يعقوب بن السكيت" انه كان لحجر والد امرئ القيس جملة أولاد أكبرهم "نافع" وأصغرهم "امرؤ القيس "، وبين الأكبر والأصغر جملة أولاد، غير انه لم يذكر أسماءهم. وقد ورد اسم "نافع" في بيت شعر لامرئ القيس.

 

وذكر "ياقوت" ولدا ل "سلمة بن الحارث" سماه "قيسا" قال: انه أغار على "ذي القرنين المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي" فهزمه، حتى أدخله الخورنق ومعه ابناه قابوس وعمرو. فمكث ذو القرنين حولا.، ثم أغار عليهم ب "ذات الشقوق"، فأصاب منهم اثني عشر شابا من بني حجر ابن عمرو وكانوا يتصيدون، وأفلت منهم امرؤ القيس على فرس شقراء، فطلبه القوم فلم يقدروا عليه. وقدم المنذر الحيرة بالفتية فحبسهم بالقصر الأبيض شهرين ثم أمر بضرب أعناقهم فضربت عند "الجفر"، فعرف منذ ذلك الحين ب "جفر الأملاك"، وهو موضع "دير بني مرينا". وقد أشير إلى مقتلهم في شعر لامرئ القيس.

 

كنده تلحق بحضرموت

وقد ذكر الرواة إن ملك كنده لما انخرق، وهلك من هلك منهم، قام "عمرو أقحل بن ابي كرب بن قيس بن سلمة بن الحارث، الملك، فقال: يا معشر كنده، إنكم قد اصبحتم بغير دار مقام. وقد ذهب أشرافكم وانخرق ملككم، ولا امن العرب عليكم، فالحقوا بحضرموت ".

 

ويذكر الرواة إن الملك خرج من "بني آكل المرار" وساد بنو الحارث بن معاوية فأول من ساد منهم "قيس بن معد يكرب"، ثم ابنه الأشعث بن قيس، وهو الذي اتى النبي في ستين او سبعن راكبا من اشراف كنده فأسلموا. أسلم الأشعث، وكانت كنده قد توجته عليها.

 

ويذكر "حمزة"، إن المنذر بن ماء السماء تتبع غابرهم، فقتل عامتهم، وصارت رياسة كنده في "بني جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين"، ثم في "معد يكرب بن جبلة"، ثم في "قيس بن معديكرب"، وعلى عهده قام الإسلام بمكة، ثم في "الأشعث بن قيس".

 

وقد ذكر "ابن حبيب"، "الأشعث بن قيس بن معد يكرب" في جملة الجرارين من اليمن. والجرارون من كان يرأس ألفا ولا يعد الرجل جرارا حتى يقود ألفا. وذكره في باب "أعرق العرب في الغدر". فقال عنه إنه غدر ب "بني الحارث بن كعب". وكان بينهم عهد وصلح، فغزاهم فأسروه، ففدى نفسه بمائتي قلوص، فأدى مائة، ولم يؤد البقية حتى جاء الإسلام، فهدم ما كان في الجاهلية. وغدر الأشعث ايضا فارتد عن الإسلام.

 

وقال عن والده "قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جبلة الكندى"، انه كان من "أعرق العرب في الغدر" كذلك، وكان بينه وبن مراد ولث إلى أجل، فغزاهم في آخر يوم الأجل غادرا. "وكان ذلك اليوم يوم الجمعة. فقالوا له: انه قد بقي من الأجل اليوم. وكان يهوديا. فقال: انه لا يحمل لي القتال غدا. فقاتلهم، فقتلوه وهزموا جيشه. وكان معد يكرب عقد لمهرة صلحا، فغزاهم غادرا بالعهد. فقتلوه وشقوا بطنه، فملأوه حصى".

 

وقد لقب "قيس" بالأشج، لأثر شج في وجهه، وعرف بالأعشى كذلك وقيل له: "بطريق اليمن". وذكر بعض الرواة إن كلمة "بطريق" تعني الحاذق في الحرب وأمورها.

 

وفي حق "قيس" هذا قال "الحارث بن حلزة اليشكري" في جملة ما قاله في قصيدته مفتخرا بقومه:

 

حول قيس مستلئمين بكبش قرظى كأنه عبلاء

 

وقد قال الشراح إن قيسا جاء على رأس جيش لجب ومعه راياته متحصن بسيد من بلاد القرظ، وبلاد القرظ اليمن، كأنه في منعته وشوكته هضبة من الهضاب، قد لبسوا الدروع، فرد بهم "يشكر" قوم الشاعر، وقتلوا منهم.

 

ويذكر أهل الأخبار إن الشاعر الأعشى كان ممن يفد على "قيس بن معد يكرب" من الشعراء. وقد رووا له شعرا قاله لقيس. في جملته قوله:

 

وجلنداء في عمان مقيما ثم قيسا في حضرموت المنيف

 

وقد ذكر "ابن حبيب" إن "خالد بن جعفر بن كلاب"، أسر "قيس ابن سلمة الكندي" يوم الحرمان.

 

وذكر أهل الأخبار إن ملوك كندة جعلوا ردافتهم في "بني سدوس".

 

وجاء إن "الأشعث بن قيس"، كان قد غلب على اهل نجران وملك رقابهم وجعلهم "عبيدا مملكة". وذكر انه خاصمهم عند عمر في ايام خلافته، فاحتجوا عليه إن ذلك كان في الجاهلية، فلما أسلموا سقطت تلك العبودية عنهم.