ابـن خلـدون

1332- 1406م

هو ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي. مؤسس علم الاجتماع ومؤرخ تونسي مسلم ترك تراثا مازال تأثيره ممتدا حتى اليوم . ولد ابن خلدون في تونس عام 1332م (732هـ) بالدار الكائنة بنهج تربة الباي . أسرة ابن خلدون أسرة علم وأدب، فقد حفظ القرآن الكريم في طفولته ، وكان أبوه هو معلمه الأول. شغل أجداده في الأندلس وتونس مناصب سياسية ودينية مهمة وكانوا أهل جاه ونفوذ، نزح أهله من الأندلس فيي أوساط القرن السابع الهجري، وتوجهوا إلى تونس حاضرة العلوم آنذاك، وكان قدوم عائلته إلى تونس خلال حكم دولة الحفصيين . ينتهى نسبه بالصحابى وائل بن حجر الحضرمي الذى كان النبى صلى الله عليه وسلم قد دعا له :"اللهم بارك في وائل بن حجر وباركك في ولده وولد ولده إلى يوم القيامة".

 

درس الأدب على أبيه، ثم لم يلبث أن التحق صغيراً ككاتب للعامة، بأمير تونس أبي إسحق الحفصي. وكانت وظيفته كتابة الشارة السلطانية بين البسملة والنص. لكن هذه الوظيفة لم ترضي طموح ابن خلدون. فقصد مراكش واتصل بسلطانها أبي عنان المريني، فأصبح أمينًا لسره سنة 13566، ولكنه خانه. ولدى اكتشاف المؤامرة طرح مترجمنا في السجن.

 

أطلق سراحه الوزير حسن بن عمر. بيد أن ابن خلدون انضمّ إلى أعداء الوزير وحاربه تحت راية المنصور بن سليمان. ثم ما لبث أن خان المنصور وألّب عليه القبائل لمصلحة خصمه أبي سالم الذي انتصر، فأولى أبن خلدون أمانة سر الدولة. وتغيّر عليه السلطان فسعى ابن خلدون مع أحد الوزراء السابقين وقلّبه. لكن الوزير استأثر بالوزارة فغضب ابن خلدون وسافر إلى غرناطة حيث عاش مدة في بلاط ملكها ابن الأحمر ووزيره لسان الدين بن الخطيب.

 

ترك ابن خلدون غرناطة ليعود عام 1365 إلى بجاية وقد تملكها صديقه القديم فولي رئاسة الوزارة. وحين قتل الأمير في حربه ضد ابن عمه، فاوض ابن خلدون الغازي لتسليمه المدينة لقاء احتفاظه بالوزارة فكان له ذلك. ثم لم يلبث أن تغيّر عليه الأمير فاضطر أن يهرب.

 

ظلّ ابن خلدون مدة يتنقل بين قبائل بني رياح، يستميلها تارة إلى السلطان أبي حمو وأخرى يكلف باستمالتها إلى عبد العزيز المريني.. ولكن تقلباته الدائمة أحنقت الجميع عليه فسافر إلى الأندلس. ولم يلق عند بني الأحمر ما كان ينتظره لأنهم علموا بمشايعته لوزيرهم السابق المغضوب عليه لسان الدين الخطيب.

 

عاد ابن خلدون إلى إفريقيا فوجد نفسه بقبضة السلطان أبي حمو الذي كان ابن خلدون قد خانه سابقا باستمالته قبائل بني رياح، فكلفه السلطان بإعادة الكرة لاستمالتها مجددا، لكنه اعتذر وانصرف إلى التأليف مدة أربع سنوات. فوضع في قلعة ابن سلامة مقدمة تاريخه وشرع بكتابة التاريخ. ثم تغير عليه صديقه مفتي تونس فأوغر صدر السلطان عليه واضطر ابن خلدون أن يسافر قصد الحج إلى مكة المكرمة 1382. ولما وصل إلى القاهرة، كانت شهرته قد سبقته، فشرع يدرس في الجامع الأزهر ثم عين أستاذا للفقه المالكي ثم قاضيا للمذهب. ولكن تشدّده أثار الناس عليه فعزل.

 

حجّ ابن خلدون الأماكن المقدسة ثم عاد إلى تولي القضاء ولكنه عزل. في عام 1400، رافق الحملة المصرية لمحاربة تيمورلنك في الشام. لكنه اتصل بالغازي الذي أعجب بعلمه ودهائه في مفاوضته بشأن الصلح. وبعد أن أقام ضيفا عليه 35 يومًا، عاد إلى مصر وتولى القضاء المالكي عام 14011.

 

اعتزل ابن خلدون الحياة بعد تجارب مليئة بالصراعات والحزن على وفاة أبويه وكثير من شيوخه إثر وباء الطاعون الذي انتشر في جميع أنحاء العالم سنة 749هجرية (1348 م)وتفرغ لأربعة سنوات في البحث والتنقيب في العلوم الإنسانية معتزلا الناس في سنينه الأخيرة، ليكتب سفره الخالد أو ما عرف بمقدمة أبن خلدون ومؤسسا لعلم الاجتماع بناء على الاستنتاج والتحليل في قصص التاريخ وحياة الإنسان. واستطاع بتلك التجربة القاسية أن يمتلك صرامة موضوعة في البحث والتفكير.

 

امتاز ابن خلدون بسعة اطلاعه على ما كتبه القدامى على أحوال البشر وقدرته على استعراض الآراء ونقدها، ودقة الملاحظة مع حرية في التفكير وإنصاف أصحاب الآراء المخالفة لرأيه. وقد كان لخبرته في الحياة السياسية والإدارية وفي القضاء، إلى جانب أسفاره الكثيرة من موطنه الأصيل تونس و بقية بلاد شمال أفريقيا الأمازيغية إلى بلدان أخرى مثل مصر والحجاز والشام، أثر بالغ في موضوعية وعلمية كتاباته عن التاريخ وملاحظاته.

 

يعتبر ابن خلدون العصبية الركيزة الأساسية لأى نشاط سياسي أو أجتماعي ، وأن الدولة لكى تقوم تحتاج إلى رابطة تجمع الأفراد تحت لوائها وتدفعهم للتضحية من أجلها ، والعصبية تقوم بهذا الدور ،استنادا على أن الإنسان كائن اجتماعي الطبع ويحتاج إلى كيان ينتمى إليه يوفر الحاجات التى لا يستطيع توفيرها منفرداً ، إذن الفرد والقبيلة باعتبارها أكثر أشكال الروابط شيوعاً وقتئذ كلاهما بحاجة للآخر لتستقيم أمورهما معاً . ويرى ابن خلدون في المقدمة أن الفلسفة من العلوم التي استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن ويعرِّفها قائلاً: ¸بأن قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تُدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوَّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق. ويحذّر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل الاطلاع على العلوم الشرعية من التفسير والفقه، فيقول: ¸وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خِلْو من علوم الملة فقلَّ أن يَسلَمَ لذلك من معاطبها·

 

ولعل ابن خلدون وابن رشد اتفقا على أن البحث في هذا العلم يستوجب الإلمام بعلوم الشرع حتى لا يضل العقل ويتوه في مجاهل الفكر المجرد لأن الشرع يرد العقل إلى البسيط لا إلى المعقد وإلى التجريب لا إلى التجريد. ومن هنا كانت نصيحة هؤلاء العلماء إلى دارسي الفلسفة أن يعرفوا الشرع والنقل قبل أن يُمعنوا في التجريد العقلي.

 

بسبب فكر ابن خلدون الدبلوماسي الحكيم ، أُرسل أكثر من مرة لحل نزاعات دولية ، فقد عينه السلطان محمد بن الأحمر سفيراً إلى أمير قشتالة لعقد الصلح . وبعد ذلك بأعوام ، استعان أهل دمشق به لطلب الأمان من الحاكم المغولي تيمور لنك ، والتقوا بالفعل .

 

كثير من الكتاب الغربيين وصفوا تقديم ابن خلدون للتاريخ بأنه أول تقديم لا ديني للتأريخ ، وهو له تقدير كبير عندهم.

 

وربما تكون ترجمة حياة ابن خلدون من أكثر ترجمات شخصيات التاريخ الإسلامي توثيقا بسبب المؤلف الذي وضعه ابن خلدون ليؤرخ لحياته و تجاربه و دعاه التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا و غربا ، تحدث ابن خلدون في هذا الكتاب عن الكثير من تفاصيل حياته المهنية في مجال السياسة والتأليف والرحلات، ولكنه لم يضمنها كثيرا تفاصيل حياته الشخصية والعائلية.

 

كان ابن خلدون دبلوماسياً حكيماً أيضاً . وقد أُرسل في أكثر من وظيفة دبلوماسية لحل النزاعات بين زعماء الدول : مثلاً ، عينه السلطان محمد بن الاحمر سفيراً له إلى أمير قشتالة للتوصل لعقد صلح بينهما و كان صديقاً مقرباً لوزيره لسان الدين ابن الخطيب .كان وزيراً لدى أبي عبد الله الحفصي سلطان بجاية ، وكان مقرباً من السلطان أبي عنان المرينىقبل أن يسعى بينهما الوشاة . وبعد ذلك بأعوام استعان به أهل دمشق لطلب الأمان من الحاكم المغولي القاسي تيمورلنك ، وتم اللقاء بينهما . وصف ابن خلدون اللقاء في مذكراته. إذ يصف ما رآه من طباع الطاغية، ووحشيته في التعامل مع المدن التي يفتحها ، ويقدم تقييماً متميزاً لكل ما شاهد في رسالة خطها لملك المغرب الخصال الإسلامية لشخصية ابن خلدون ، أسلوبه الحكيم في التعامل مع تيمور لنك مثلاً، وذكائه وكرمه ، وغيرها من الصفات التي أدت في نهاية المطاف لنجاته من هذه المحنة، تجعل من التعريف عملاً متميزاً عن غيره من نصوص أدب المذكرات العربية والعالمية. فنحن نرى هنا الملامح الإسلامية لعالم كبير واجه المحن بصبر وشجاعة وذكاء ولباقة. ويعتبر ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع. ساهم في الدعوة للسلطان أبى حمو الزيانى سلطان تلمسان بين القبائل بعد سقوط بجاية في يد سلطان قسنطينة أبى العباس الحفصى وأرسل أخاه يحيى بن خلدون ليكون وزيراً لدى أبى حمو.

 

وتوفي في مصر عام 1406 م، ودفن في مقابر الصوفية عند باب النصر شمال القاهرة. وقبره غير معروف.

 

يبقى ابن خلدون اليوم شاهدا على عظمة الفكر الإسلامي المتميز بالدقة و الجدية العلمية والقدرة على التجديد لاثراء الفكر الانساني.

 

يعتبر ابن خلدون أحد العلماء الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية، فهو مؤسس علم الاجتماع وأول من وضعه على أسسه الحديثة، وقد توصل إلى نظريات باهرة في هذا العلم حول قوانين العمران ونظرية العصبية، وبناء الدولة وأطوار عمارها وسقوطها . وقد سبقت آراؤه ونظرياته ما توصل إليه لاحقاً بعدة قرون عدد من مشاهير العلماء كالعالم الفرنسي أوجست كونت .

 

لم يعرف التاريخ السياسي العربي رجلاً امتلأت حياته بالحوادث مثل ابن خلدون، حتى ليمكننا القول إن أبرز صفاته هي: التقلب، الدهاء، حب الظهور، الثقة بالنفس، الذكاء، حب العمل والمغامرات السياسية.

 

أما آثاره، فقد ذكر له لسان الدين بن الخطيب عددًا من الكتب، ولكن لم يصل إلينا سوى تاريخه الكبير وكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر وَمن عاصَرهم من ذوي السلطان الأكبر. يقع هذا الكتاب في سبعة مجلدات مرتبة حسب تعبير ابن خلدون نفسه، على مقدمة وثلاثة كتب، تتضمن الموضوعات التالية:

1- المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها.

 

2- الكتاب الأول: في العمران؛ وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما إلى ذلك من العلل والأسباب.

 

3- الكتاب الثاني: في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم، منذ بدء الخليقة إلى هذا العهد، ومن عاصرهم من مشاهير الأمم ودولهم مثل النبط والسريان والفرس وبني إسرائيل واليونان والروم والقبط والترك والفرنجة.

 

4- الكتاب الثالث: في أخبار البربر ومَن إليهم، وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب، خاصة من المُلك والدول.

 

جاء في نهاية المجلد السابع من تاريخ ابن خلدون وبقلمه ما يلي: 

بسم الله الرحمن الرحيم

التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب ورحلته غرباً وشرقاً

وأصل هذا البيت من إشبيلية ؛ انتقل سلفُنا-عند الجَلاء ؤغَلَبِ ملك الجَلالقة ابن أُدْفُونْش عليها – إلى تُونس في  أواسط المائة السابعة.

 

نسبه :

عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خَلدون ، لا أذكر من نسَبي إلىِ خلدون غير هؤلاء العشرة، ويغلب على الظن أنهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عدداً ؛ لأنَ خَلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس ، فإن كان أول الفتح فالمدّة لهذا العَهد سبعُمائة سنة ، فيكونون زهُاءَ العشرين ، ثلاثة لكل مائة ، كما تقدم في أول الكتاب الأول .  وَنَسَبُنا حَضْر مَوت ، من عَرب اليمن ، إلى وائل بن حُجْر، من أقيال العَرب ، معْروف وله صُحبة . قال أبُو محمد بن حزْم في كتاب الجمهرة: وهو وائل بن حُجْر بن سعيد بن مَسْروق بن وائل بن النُّعمان بن ربيعة بن الحَرث  بن عَوف بن سعد بن عوف بن عَديَ بن مالك بن شُرحْبيل بن الحارث بن مالك بن مُرة بن حِمْيَرِ بن زيد بن الخضْرَميّ بن عمرو بن عبد اللّه بن هانىء بن جُرسم بن عبد شمسى بن زيد بن لؤيّ بن ثبْت بن قُدامة بن أعجَب بن مالك بن لؤي بن قحطان . وابنه علقَمة بن وائل وعبد الجبار بن وائل.

 

وذكره أبو عمر بن عبد البرّ في حرف الواو من "الاستيعاب"، وأنه وفد علىالنبي صلى الله عليه وسلم، فبسط له رداءه، وأجلسه عليه، وقال: "اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة".

 

وبعث معه جارية بن أبي سفيان إلى قومه يعلمهم القرآن والإسلام؛ فكانت له بذلك صحابة مع معاوية. ووفد عليه لأوّل خلافته فأجازه؛ فرّد عليه جائزته ولم يقبلها.

 

ولما كانت واقعة حجر بن عديّ الكندي بالكوفة، اجتمع رؤوس أهل اليمن، وفيهم هذا، فكانوا مع زياد بن أبي سفيان عليه، حتى أوثقوه وجاؤوا به إلى معاوية، فقتله كما هو معروف.

 

وقال ابن حزم: ويذكر بنو خلدون الإشبيليّون من ولده، جدهم الداخل من المشرق خالد المعروف بخلدون بن عثمان بن هانىء بن الخطاب بن كريت بن معد يكرب بن الحرث بن وائل بن حجر. قال: وكان من عقبه كريب بن عثمان بن خلدون وأخوه خالد، وكانا من أعظم ثوار الأندلس.

 

وقال ابن حزم: وأخوه محمد، كان من عقبه أبو العاصي عمرو بن محمد بن خالد بن محمد بن خلدون. وبنو أبي العاصي: محمد، وأحمد، وعبد الله. قال:- وأخوهم عثمان، وله عقب. ومنهم الحكيم المشهور بالأندلس من تلاميذ مسلمة المجريطي، وهو أبومسلم عمر بن محمد بن تقي بن عبد الله بن أبي بكر بن خالد بن عثمان بن خالد بن عثمان بن خلدون الداخل. وابن عمّه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله. قال: ولم يبق من ولد كريب الرئيس المذكور إلا أبو الفضل بن محمد بن خلف بن أحمد بن عبد الله بن كريت- انتهى كلام ابن حزم.

 

سلفه بالاندلس:

ولما دخل خلدون بن عثمان جدّنا إلى الأندلس، نزل بقرمونة في رهط من قومه حضرموت، ونشأ بيت بنيه بها، ثم انتقلوا إلى إشبيلية. وكانوا في جند اليمن، وكان الكريت من عقبه وأخيه خالد، الثورة المعروفة بإشبيلية أيام الأمير عبد الله المرواني؛ ثار على ابن أبي عبدة، وملكها من يده أعواماً، ثم ثار عليه إبراهيم بن حجاج، بإملاء الأمير عبد الله وقتله، وذلك في أواخر المائة الثالثة.

 

وتلخيص الخبر عن ثورته، على ما نقله ابن سعيد عن الحجازي وابن حيان وغيرهما، وينقلونه عن ابن الأشعث مؤرّخ إشبيلية: أنّ الأندلس لما اضطرمت بالفتن أيام الأمير عبد الله ، تطاول رؤساء إشبيلية إلى الثورة والإستبداد، وكان رؤساؤها المتطاولون إلى ذلك في ثلاثة بيوت: بيت بني أبي عبدة، ورئيسهم يومئذ أمية بن عبد الغافر بن أبي عبدة، وكان عبد الرحمن الداخل ولى أبا عبده إشبيلية وأعمالها، وكان حافده أمية من أعلام الدولة بقرطبة، ويولونه الممالك الضخمة. وبيت بني خلدون هؤلاء، ورئيسهم كريب المذكور، ويردفه أخوه خالد.

 

قال ابن حيّان: وبيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية في النباهة، ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانّية ورياسة علمية. ثم بيت بني حجّاج، ورئيسهم يومئذ عبد الله. قال ابن حيّان: هم- يعني بني حجاج- من لَخْم، وبيتهم إلى الآن في إشبيلية ثابت الأصل، نابت الفرع موسوم بالرياسة السلطانية والعلمية. فلمّا عظمت الفتنة بالأندلس أعوام الثمانين ومائتين، وكان الأمير عبد الله قد ولّى على إشبيلية أمية بن عبد الغافر، وبعث معه ابنه محمداً، وجعله في كفالته، فاجتمع هؤلاء النفر، وثاروا بمحمد ابن الأمير عبد الله وبأمّية صاحبهم، وهو يمالئهم على ذلك، ويكيد بابن الأمير عبد الله. وحاصروه  في القصر، حتى طلب منهم اللحاق بأبيه فأخرجوه، واستبدّ أمية بإشبيلية، ودسّ على عبد الله بن حجّاج من قتله، وأقام أخاه إبراهيم مكانه. وضبط إشبيلية، واسترهن أولاد بني خلدون وبني حجاج، ثم ثاروا به، وهمّ بقتل أبنائهم؛ فراجعوا طاعته، وحلفوا له، فأطلق أبناءهم فانتقضوا ثانية. وحاربوه فاستمات وقَتَل حُرَمَهَ، وعقر خيوله، وأحرق موجوده. وقاتلهم حتى قتلوه مقبلاً غير مدبر، وعاثت العامة في رأسه. وكتبوا إلى الأمير عبد الله بأنه خَلَع فقتلوه، فقبل منهم مداراة، وبعث عليهم هشام بن عبد الرحمن من قرابته، فاستبدّوا عليه، وفتكوا بابنه، وتولّى كبر ذلك كريب بن خلدون، واستقل بإمارتها.

 

وكان إبراهيم بن حجّاج بعدما قتل أخوه عبد الله- على ما ذكره ابن سعيد عن الحجاري- سمت نفسه إلى التفرّد، فظاهر ابن حفصون أعظم ثوّار الأندلس يومئذ، وكان بمالقة وأعمالها إلى رُنْدَة، فكان له منه ردءَ. ثم انصرف إلى مداراة كُرَيب بن خَلدون وملابسته، فردفه في أمره، وأشركه في سلطانه، وكان في كريت تحامل على الرعيّة وتعصّب، فكان يتجهّم لهم، ويغلظ عليهم، وابن حجّاج يسلك بهم الرفق والتلطف في الشفاعة لهم عنده، فانحرفوا عن كريب إلى ابراهيم. ثم دسّ إلى الأمير عبد الله يطلب منه الكتاب بولاية إشبيلية، لتسكن إليه العامّة، فكتب إليه العهد بذلك. وأطلع عليه عرفاء البلد مع ما أشربوا من حبّه، والنفرة عن كُرَيب، ثم أجمع الثورة، وهاجت العامّة بكُرَيْب فقتلوه، وبعث برأسه إلى الأمير عبد الله، واستقرّ بإمارة إشبيلية.

 

قال ابن حيّان: وحصّن مدينة قَرْمُوَنة من أعظم معاقل الأندلس، وجعلها مرتبطاً لخيله، وكان ينتقل بينها وبين إشبيلية. واتخذ الجند ورتّبهم طبقات، وكان يصانع الأمير عبد الله بالأموال والهدايا، ويبعث إليه المدد في الصوائف. وكان مقصوداً ممدحاً، قصده أهل البيوتات فوصلهم، ومدحه الشعراء فأجازهم، وانتجعه أبو عمر بن عبد ربّه صاحب العقد، وقصده من بين سائر الثوّار، فعرف حقه، وأعظم جائزته. ولم يزل بيت بني خلدون بإشبيلية- كما ذكره ابن حيّان وابن حزم وغيرهما- سائر أيام بني أمية إلى زمان الطوائف، وانمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة.

 

ولما غلب كعب ابن عبّاد بإشبيلية، واستبدّ على أهلها، استوزر من بني خلدون هؤلاء، واستعملهم في رتب دولته، وحضروا معه وقعة الجلالقة كانت لابن عبّاد وليوسف بن تاشفين على ملك الجلالقة، فاستشهد فيها طائفة كبيرة من بني خلدون هؤلاء ثبتوا في الجولة مع ابن عبّاد فاستلحمّوا في ذلك الموقف. بما كان الظهور للمسلمين، ونصرهم الله على عدّوهم. ثم تغلّب يوسف بن تاشفين والمرابطون على الأندلس، واضمحلّت دولة العرب وفنيت قبائلهم.

 

سلفه بأفريقية:

ولما استولى الموحدون على الأندلس، وملكوها من يد المرابطين، وكان ملوكهم: عبد المؤمن وبنيه. وكان الشيخ أبو حفص كبير هنتاتة زعيم دولتهم، وولّوه على إشبيلية وغرب الأندلس مراراً، ثم ولّوا ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم، ثم ابنه أبا زكرياء كذلك، فكان لسلفنا بإشبيلية اتصال بهم، وأهدى بعض أجدادنا من قبل الأمّهات، ويعرف بابن المحتسب، للأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص أيام ولايته عليهم، جاريّة من سبي الجلالقة، اتخذها أم ولد، وكان له منها ابنه أبو يحيى زكريا وليّ عهده الهالك في أيامه، وأخواه: عمر وأبو بكر، وكانت تلقّب أمّ الخلفاء. ثم انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية أفريقية سنة عشرين وستمائة. ودعا لنفسه بها، وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس وعشرين وستمائة. واستبدّ بأفريقية، وانتقضت دولة الموحدين بالأندلس، وثار عليهم ابن هود. ثم هلك واضطربت الأندلس،وتكالب الطاغية عليها، وتردّد الغزو إلى الفرنتيرة، بسيط قرطبة وإشبيلية إلى جيّان، وثار ابن الأحمر  من غرب الأندلس من حصن أرجُونَة، يرجو التماسك لما بقي من رمق الأندلس. وفاوض أهل الشورى يومئذ بإشبيلية. وهم بنو الباجي، وبنو الجدّ، وبنو الوزير، وبنو سيّد الناس، وبنو خلدون. وداخلهم في الثورة على ابن هود، وأن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة، ويتمسّكوا بالجبال الساحلية وأمصارها المتوعّرة، من مالقة إلى غرناطة إلى المريّة؛ فلم يوافقوه على بلادهم. وكان مقدّمهم أبو مروان الباجي، فنابذهم ابن الأحمر وخلع طاعة الباجي، وبايع مرّة لابن هُود، ومّرة لصاحب مراكش من بني عبد المؤمن، ومرة للأمير أبي زكرياء صاحب أفريقية. ونزل غرناطة، واتخذها دار ملكه، وبقيت الفرنتيرة وأمصارها ضاحية من ظل المُلْك؛ فخشي بنو خَلدون سوء العاقبه مع الطاغية، وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة، ونزلوا سبتة وأجلب الطاغية على تلك الثغور؛ فملك قرطبة، وإشبيلية، وقرمونة وجيّان وما إليها، في مدّة عشرين سنة. ولما نزل بنو خَلدون بسبتة أصهر إليهم العزِفيّ بأبنائه وبناته، فاختلط بهم، وكان له معهم صِهْرٌ مذكور. وكان جدّنا الحسن بن محمد، وهو سبط ابن المحتسب، قد أجاز فيمن أجاز إليهم؛ فذكر سوابق سلفه عند الأمير أبي زكريا؛ فقصده، وقدم عليه فأكرم قدومه. وارتحل إلى المشرق؛ فقضى فرضه. ثم رجع ولحق بالأمير أبي زكريا على بونة، فأكرمه، واستقرّ في ظل دولته، ومرعى نعمته، وفرض له الأرزاق، وأُقْطع الإقطاع. وهلك هنالك؛ فدفن ببونة. وخلف ابنه محمدا أبا بكر فنشأ في جو تلك النعمة ومرعاها. وهلك الأمير أبو زكرياء ببونة سنة سبع وأربعين وستمائة، وولي ابنه المستنصر محمد؛ فأجرى جدّنا أبا بكر على ما كان لأبيه. ثم ضرب الدهر ضربانه، وهلك المستنصر سنة خمس وسبعين وسبعمائة، وولي ابنه يحيى، وجاء أخوه الأمير أبو إسحق من الأندلس، بعد أن كان فرّ إليها أمام أخيه المستنصر. فخلع يحيى، واستقلّ هو بملك أفريقية، ودفع جدّنا أبا بكر محمداً إلى عمل الأشغال في الدولة، على سنن عظماء الموحدين فيها قبله، من الإنفراد بولاية العمّال، وعزلهم وحسبانهم، على الجباية، فاضطلع بتلك الرتبة. ثم عقد السلطان أبو اسحق لابنه محمد، وهو جدّنا الأقرب، على حجابة وليّ عهد، ابنه أبي فارس أيام اقضاه إلى بجاية. ثم استعفى جدّنا من ذلك فأعفاه، ورجع إلى الحضرة. ولما غلب الدعي ابن أبي عمارة عل ملكهم بتونس، اعتقل جدّنا أبا بكر محمداً، وصادره على الأموال، ثم قتله خنقاً في محبسه. وذهب ابنه محمد جدّنا الأقرب مع السلطان أبي اسحق وأبنائه إلى بجاية؛ فتقبّض عليه ابنه أبو فارس، وخرج مع العساكر هو وإخوته لمدافعة الدعي ابن أبي عمارة، وهو يشبه بالفضل ابن المخلوع، حتى إذا استلحمّوا بمرما جنّة خلص جدّنا محمد مع أبي حفص- ابن الأمير أبي زكريا من الملحمة، ومعهما الفازازي وأبو الحسين بن سيّد النأس؛ فلحقوا بمنجاتهم كن قلعة سنان. وكان الفازازي من صنائع المولى أبي حفص، وكان يؤثره عليهم. فأما أبل الحسين بن سيّد الناس فاستنكف من إيثار الفازازي عليه، بما كان أعلى رتبة منه ببلده إشبيلية، ولحق بالمولى أبي زكرياء الأوسط بتلمسان، وكان من شأنه ما ذكرناه. وأما محمد بن خلدون فأقام مع الأمير أبي حفص، وسكن لإيثار الفازازي. ولما استولى أبو حفص على الأمور رعى له سابقته، وأقطعه، ونظمه في جملة القواد ومراتب أهل الحروب، واستكفى به في الكثير من أمر ملكه، ورشحه لحجابته من بعد الفازازي. وهلك، فكان من بعده حافد أخيه المستنصر أبو عصيدة، واصطفى لحجابته محمد بن ابراهيم الدبّاغ كاتب الفازازي، وجعل محمد بن خلدون رديفاً في حجابته. فكان كذلك إلى أن هلك السلطان، وجاءت دولة الأمير خالد، فأبقاه على حاله من التجلّة والكرامة، ولم يستعمله ولا عقد له، إلى أن كانت دولة أبي يحيى بن اللحياني، فاصطنعه، واستكفى به عندما تنبّضت عروق التغلّب للعرب؛ ودفعه إلى حماية الجزيرة من دلاج، إحدى بطون سُلَيْم الموطنين بنواحيها؛ فكانت له في ذلك آثار مذكورة. ولما انقرضت دولة ابن اللحياني خرج إلى المشرق، وقضى فرضه سنة ثمان عشرة، وأظهر التوبة والإقلاع، وعاود الحج متنقلا سنة ثلاث وعشرين، ولزم كسر بيته. وأبقى السلطان أبو يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الاقطاع والجراية، ودعاه إلى حجابته مراراً، فامتنع.

 

أخبرني محمد بن منصور بن مزنى، قال: لما هلك الحاجب محمد بن عبد العزيز الكردي المعروف بالمزوار سنة سبع وعشرين وسبعمائة، استدعى السلطان جدّك محمد بن خلدون، وأراده على الحجابة، وأن يفوض إليه في أمره، فأبى واستعفى، فأعفاه، وآمره فيمن يوليه حجابته، فأثار عليه بصاحب الثغر بجاية، محمد بن أبي الحسين بن سيدّ الناس، لاستحقاقة ذلك بكفايته واضطلاعه، ولقديم صحابة بين سلفهما بتونس، وإشبيلية من قبل. وقال له: هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والدين، فعمل السلطان على إشارته، واستدعى ابن سيّد الناس، وولاّه حجابته. وكان السلطان أبو يحى إذا خرج من تونس يستعمل جدّنا محمداً عليها، وثوقاً بنظره واستنامة إليه، إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين، ونزع ابنه، وهو والدي محمد أبو بكر، عن طريقة السيف والخدمة، إلى طريقة العلم والرباط، لما نشأ عليها في حجر أبي عبد الله الزبيدي الشهير بالفقيه، كان كبير تونس لعهده، في العلم والفتيا، وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبيه حسين وعمّه حسن، الوليّين الشهيرين. وكان جدّنا رحمه الله قد لازمه من يوم نزوعه عن طريقه، وألزمه ابنه، وهو والدي رحمه الله فقرأ وتفقّه، وكان مقدّما في صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه. عهدي بأهل البلد بتحاكمون إليه فيه، ويعرضون حَوْكَهُم عليه، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وإربعين وسبعمائة.

 

نشأته ومشيخته وحاله:

أمّا نشأتي فإني ولدت بتونس في غرّة رمضان سنة إثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربّيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعتُ وقرأتُ القرآن العظيم على  الاستاذ المكتب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برال الأنصاري، أصله من جالية الأندلس من أعمال بلنسية، أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها، وكان إماما في القراءآت، لا يلحق شأوه، وكان من أشهر شيوخه ففي القراءآت السبع أبو العباس أحمد بن محمد البطرني، ومشيخته فيها، وأسانيده معروفة. وبعد أن استظهرت القرآن الكريم من حفظي، قرأته عليه بالقراءات السبع المشهورة إفراداً وجمعاً في إحدى وعشرين ختمة، ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى، ثم قرأت برواية يعقوب ختمة واحدة جمعاً بين الروايتين عنه؛ وعرضت عليه رحمه الله قصيدتي الشاطبي؛ اللامية في القراءآت، والرائية في الرسم، وأخبرني بهما عن الأستاذ أبي العباس البطوي وغيره من شيوخه، وعرضت عليه كتاب التفسير لأحاديث الموطأ لابن عبد البرّ، حذا به حذو كتابه التمهيد على الموطأ، مقتصراً على الأحاديث فقط. ودرست عليه كتباً جمّة، مثل كتاب التسهيل لابن مالك ومختصر ابن الجاجب في الفقه، ولم أكملهما بالحفظ، وفي خلال ذلك تعلمت صناعة العربية على والدي  وعلى أستاذي تونس: منهم الشيخ أبو عبد الله بن العربي الحصايري، وكان إماماً في النحو وله شرح مستوفى على كتاب التسهيل. ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش الزرزالي. ومنهم أبو العباس أحمد بن القصّار؛ كان ممتعاً في صناعة النحو، وله شرح على قصيدة البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي وهو حيّ لهذا العهد بتونس.

 

ومنهم إمام العربية والأدب بتونس أبو عبد الله محمد بن بحر؛ لازمت مجلسه وأفدت عليه، وكان بحراً زاخراً في علوم اللسان. وأشار عليّ بحفظ الشعر؛ فحفظت كتاب الأشعار الستة، والحماسة للأعلم، وشعر حبيب، وطائفة من شعر المتنبي، ومن أشعار كتاب الأغاني. ولازمت أيضاً مجلس إمام المحدّثين بتونس؛ شمس الدين أبي عبد الله بن جابر بن سلطان القيسيّ الوادياشي، صاحب الرحلتين؛ وسمعت عليه كتاب مسلم بن الحجّاج، إلاّ فوتا يسيراً من كتاب الصَّيد؛ وسمعت عليه كتاب الموطأ من أوّله إلى آخره، وبعضاً من الأمّهات الخمس؛ وناولني كتباً كثيرة في العربية والفقة، وأجازني إجازة عامّة، وأخبرني عن مشايخه المذكورين  أشهرهم بتونس قاضي الجماعة أبو العبّاس أحمد بن الغمّاز الخزرجي.

 

وأخذت الفقه بتونس عن جماعة؛ منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحيّاني، وأبو القاسم محمد القصير، قرأت عليه كتاب التهذيب لأبي سعيدد البرادعي، مختصر المدوّنة، وكتاب المالكيّة، وتفقهت عليه. وكنت في خلال ذلك أنتاب مجلس شيخنا الإمام، قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام، مع أخي عمر رحمة الله عليهما. وأفدت منه، وسمعت عليه أثناء ذلك كتاب الموطأ للإمام مالك، وكانت له فيه طرق عالية، عن أبي محمد بن هارون الطائي قبل اختلاطه إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس، وكلّهم سمعت عليه ، وكتب لي وأجازني، ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف.

 

وكان قدم علينا في جملة السلطان أبي الحسن، عندما ملك أفريقية سنة ثمان وأربعين، جماعة من أهل العلم، وكان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمّل بمكانهم فيه: فمنهم شيخ الفُتيا بالمغرب، وإمام مذهب ممالك، أبو عبد الله محمد بن سليمان السطّي؛ فكنت انتاب مجلسه، وأفدت عليه. ومنهم كاتب السلطان أبي الحسن، وصاحب علامته التي توضع أسافل مكتوباته، إمام المحدثين والنحاة بالمغرب، أبو محمد  بن عبد المهيمن الحضرمي؛ لازمته، وأخذت عنه، سماعاً، وإجازة، الأمهات الست، وكتاب الموطأ، والسير لابن اسحق، وكتاب ابن الصلاح في الحديث، وكتباً كثيرة شذت عن حفظي. وكانت بضاعته في الحديث وافرة، ونحلته في التقييد والحفظ كاملة؛ كانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة آلاف سفر في الحديث والفقه، والعربية، والأدب، والمعقول، وسائر الفنون؛ مضبوطة كلها، مقابلة. ولا يخلو ديوان منها عن ثبت بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفه، حتى الفقه، والعربية، الغريبة الإسناد إلى مؤلفيها في هذه العصور. ومنهم الشيخ أبو العباس أحمد الزواوي، إمام المقرئين بالمغرب. قرأت عليه القرآن العظيم، بالجمع الكبير بين القراءات السبع، من طريق أبي عمرو الداني، وابن شريح، في ختمة لم أكملها، وسمعت عليه عدة كتب، وأجازنى بالإجازة العامة.

 

ومنهم شيخ العلوم العقلية، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي. أصله من تلمسان، وبها نشأ، وقرأ كتب التعاليم، وحذق فيها. وأظله الحصار الكبير بتلمسان أعوام المائة السابعة؛ فخرج منها، وحج. ولقي أعلام المشرق يومئذ؛ فلم يأخذ عنهم، لأنه كان مختلطا بعارض عرض في عقله. ثم رجع من المشرق، وأفاق، وقرأ المنطق والأصلين، على الشيخ أبي موسى عيسى ابن الإمام، وكان قرأ بتونس، مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن، على تلاميذ ابن زيتون الشهير الذكر؛ وجاء إلى تلمسان بعلم كثير من المعقول والمنقول، فقرأ الآبلي على أبي موسى منهما كما قلناه. ثم خرج من تلمسان هاربا إلى المغرب، لأن سلطانها يومئذ، أبو حمّو من ولد يغمراسن بن زيان، كان يكرهه على التصرف في أعماله، وضبط الجباية بحسبانه، ففر إلى المغرب، ولحق بمراكش، ولزم العالم الشهير أبا العباس بن البناء الشهير الذكر، فحصل عنه سائر العلوم العقلية، وورث مقامه فيها وأرفع، ثم صعد إلى جبال الهساكرة، بعد وفاة الشيخ، باستدعاء علي بن محمد بن تروميت، ليقرأ عليه، فأفاده. وبعد أعوام استنزله ملك المغرب، السلطان أبو سعيد، وأسكنه بالبلد الجديد، والآبلي معه.

 

ثم اختصه السلطان أبو الحسن، ونظمه في جملة العلماء بمجلسه، وهو في خلال ذلك يعلم العلوم العقلية، ويبثها بين أهل المغرب، حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصارها، وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه. ولما قدم على تونس في جملة السلطان أبي الحسن، لزمته، وأخذت عنه الأصلين، والمنطق، وسائر الفنون الحكمية، والتعليمية؛ وكان رحمه الله، يشهد لي بالتبريز في ذلك.

 

وممن قدم في جملة السلطان أبي الحسن: صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقي. كان يكتب عن السلطان، وبلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتاب يومئذ، وصاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات، وبعضها يضعه السلطان بخطه. وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب، في براعة خطه، وكثرة علمه، وحسن سمته، وإجادته في فقه الوثائق، والبلاغة في الترسيل عن السلطان، وحوك الشِعْر، والخطابة على المنابر، لأنه كان كثيرا ما يصلي بالسلطان. فلما قدم علينا بتونس، صحبته، واغتبطت به، وإن لم أتخذه شيخا، لمقاربة السن، فقد أفدت منه كما أفدت منهم. وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرحوي شاعر تونس في قصيدة علي روي النون، يرغب منه تذكرة شيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال مدحه إلى السلطان أبي الحسن، في قصيدته على روي الباء، وقد تقدم ذكرها في أخبار السلطان. وذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع السلطان وهي هذه:

 

عرفت زماني حين أنكرت عرفاني                 وأيقنت أن لا حظ في كف كيوان

وأن لا اختيار في اختيار مقـوم                     وأن لا قراع بالقـــران لأقران

وأن نظام الشكل أكمل نظمـــه                    لأضعاف قاض في الدليل برجحـان

وأنّ افتقار المرء في فقراتـــه                        ومن ثقله يغني اللبيب بـــأوزان

فمن بعدما شمت الخلاب ولم أرع                 لهشة راض أو لشرة غضبـــان

ولم يعشني للنار لمع شعاعــهـا                  فما كل نار نار موسى بن عمـران

ولم يبق لي في الغيب من أمل سوى                       لقاء ابن رضوان وجنة رضــوان

هنالك ألفيت العلا تنتـــمي إلى                   أناس ضئيل عندهم فخر غســان

وأرعيت من روض التأدب يـانعا                      وحييت من كنز العلـــوم بقعيان

وردت فلم تجدب لديه ريــادتي                     وصدق طرفي ما تلقته آذانـــي

فحسبك من آدابه كل زاخـــر                        يحييك معسولا بدر ومرجـــان

يحييك بالسلك الذي لم تحـط به                  طروس ابن سهل أو سوالف بوران

فقل بابلي إن ينافثك لفظـــة                       وفي وشيه الأطراس قل هو صنعاني

خلائق لم تخلق سدى بل تكملت                بإسداء إنعام وإبلاء إحســـــان

 

ثم يقول في ذكر العلماء القادمين:

هم القوم كل القوم، أما حُلومُهــــم              فأرسخ من طودي ثبير وثهلان

فلا طيش يعروهم وأما علومهــــم                 فأعلامها تهديك من غير نيران

بفقه يشيم الأصبحي صباحـــــه                  وأشهب منه يستدل بشهبــان

وحسن جدال للخصوم ومنطـــــق                 يجيئان في الأخفى بأوضح برهان

سقت روضة الآداب منهم سحائـــب              سحبن على سحبان أذيال نسيـان

فلم يبق نأي ابن الإمام شماخـــــة              على مدن الدنيا لأنف تلمســـان

وبعد نوى السطي لم تسط فأســــه             بفخر على بغدان في عصر بغدان

وبالآبلي استسقت الأرض وبلهــــا                ومستوبل ما مال عنه لأظعــان

وهامت على عبد المهيمن تونــــس             وقد ظفرت منه بوصل وقربــان

وما علقت مني الضمائر غيـــــره                   وإن هويت كلا بحب ابن رضوان

 

 وكتب هذا الشاعر: صاحبنا الرحوي يذكر عبد المهيمن بذلك:

لهي النفس في اكتساب وسعـــــي             وهو العمر في انتهاب وفي

وأربى الناس بين ساع لرشــــــد             يتوخى الهدى وساع لغـي

وأرى العلم للبرية زينـــــــــا             فتزي منه بأحســـن زي

وأرى الفضل قد تجمع كـــــــلا                في ابن عبد المهيمن الحضرمي

حل بالرتبة العلية في حضــــــرة                   ملك سامي العماد علــــي

قلم أوسع الأقاليم أمـــــــــرا                      فله قد أطاع كل عصـــي

قدر ما يفيد منـــه احتــــــذار                      فبأي تراه يقضي بـــــأي

يمنح العز والعلا ويــوالــــــي             بالعطايا الجسام كل ولــــي

يلجأ الدارعون خوفا إليــــــــه                       هو يزري بالصارم المشرفــي

هو أعلى الأقلام في كل عصـــــر                  ث ينمى إلى الإمــــام علي

حليت تلكم الرياسة منـــــــــه                بفريد في كل معنــــى سني

سالك ففي النظام درا وطــــــورا                   ناثر دره بنشر وطــــــي

بدع للبديع ترمي بحصــــــــر                     ولصابي بني بويه بعـــــي

ويرى أخرس العراق لديـــــــه                        إنه بالشام كالأعجمــــــي

وعلوم هي البحور ولكــــــــن                       ينثني الواردون منها بــــري

تصدر الأمة العظيمة عنـــــــه                       بحديث مجـــــــود مروي

وبفقه فيه وحسن مقـــــــــال                   يضع النور في لحاظ العمــــي

وبنحو ينحي على سيبويـــــــه                    ببيان في المبهمات جلــــــي

عمي الأخفشان عنه وســــــدت                  عن خفاياه فطنة الفارســـــي

يا أخا الحكم في الأنام وإنــــــي                   لأنادي رب الندى والنــــــدي

بنت فكري تعرضت لحماكــــــم                     فألقها راضيا بوجه رضــــــي

تبتغي القرب من مراقــــــــي                  الأماني والترقي للجانب العلـــوي

فأنلها مرامها نلت سهــــــــلا                       كل دان تبغي وكل قصـــــي

 

ثم كانت واقعة العرب على السلطان بالقيروان، فاتح تسع وأربعين وسبعمائة، فشغلوا عن ذلك، ولم يظفر هذا الرحوي بطلبته. ثم جاء الطاعون الجارف، فطوى البساط بما فيه، وهلك عبد المهيمن فيمن هلك، ودفن بمقبرة سلفنا بتونس، لخلّة كانت بينه وبين والدي، رحمه الله، أيام قدومهم علينا.

 

فلما كانت واقعة القيروان، ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السلطان أبي الحسن، فاعتصموا بالقصبة دار الملك، حيث كان ولد السلطان وأهله، وانتقض عليه ابن تافراكين، وخرج من القيروان إلى العرب، وهم يحاصرون السلطان، وقد  اجتمعوا على ابن أبي دبّوس، وبايعوا له كما مرّ في أخبار السلطان، فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس، فحاصر القصبة، وامتنعت عليه. وكان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس، ووقوع الهيعة، خرج من بيته إلى دارنا، فاختفى عند أبي رحمه الله، وأقام مختفياً عندنا نحواً من ثلاثة أشهر. ثم نجا السلطان من القيروان إلى سوسة، وركب البحر إلى تونس، وفرّ ابن تافراكين إلى المشرق. وخرج عبد المهيمن من الاختفاء، وأعاده السلطان إلى ما كان عليه، من وظيفة الولاية والكتابة، وكان كثيراً ما يخاطب والدي رحمه الله ويشكره على موالاته، ومما كتب إليه وحفظته من خطّه:

محمد ذوي المكارم قد ثنانـــــــي                 فعال شكرُهُ أبداً عناني

جزى الله ابن خلدونٍ حيــــــــاةً                     مُنَعَّمةً وخُلداً في الجنـان

فكم أولى ووالى من جمــيــــــل                   وبر بالفعال وباللســـان

وراعى الحضرمية في الذي قـــــد                 حبا من ورده ومن الجنــان

أبا بكر ثناؤُك طول دهـــــــرى                        أردّد باللسان وبالجنــــان

وعن علياك ما امتدت حياتــــــي                  أكافح بالحسام وباللســــان

فمنك أفدت خلا لست دهــــــري                  أرى عن حبه أثني عنـــان

 

وهؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرحوي في شعره، هم سُباق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن، اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب. فأمّا ابنا الإمام منهم فكانا أخوين من أهل برشك، من أعمال تلمسان، واسم أكبرهما: أبو زيد عبد الرحمن، واسم الأصغر: أبو موسى عيسى، وكان أبوهما إماماً ببعض مساجد برشك، واتهمه المتغلّب يومئذ على البلد زيرم بن حمّاد، بأنّ عنده وديعة من المال لبعض أعدائه، فطالبه بها، ولاذ بالامتناع، وبيتّه زيرم، لينتزع المال من يده، فدافعه وقتل وارتحل ابناه هذان الأخوان إلى تونس في آخر المائة السابعة، وأخذا العلم بها عن تلاميذ ابن زيتون، وتفقّها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدُّكّالي، وانقلبا إلى المغرب بحظّ وافر من العلم. وأقاما بالجزائر يبثّان بها العلم، لامتناع برشك عليهما من أجل أضرر، زيرم المتغلب عليها، والسلطان أبو يعقوب يومئذ، صاحب المغرب الأقصى من بني مرين، جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل المشهور، وقد بث جيوشه في نواحيها، وغلب على الكثير من أعمالها وأمصارها، وملك عمر مغراوة بشلف، وحصر مليانة، فبعث إليها الحسن بن علي بن أبي الطلاق من بني عسكر، وعليّ بن محمد ابن الخيّرمن بني ورتاجن، ومعهما لضبط الجباية واستخلاص الأموال الكاتب منديل بن محمد الكناني، فارتحل هذان الاخوان يومئذ من الجزائر، واحتلا بمليانة، فحليا بعين منديل الكناني، فقرّبهما واصطفاهما، واتخذهما لتعليم ولده محمد. ثم هلك يوسف بن يعقوب سلطان المغرب، بمكانه من حصار تلمسان، سنة خمس وسبعمائة على يد خصيّ من خصيانه؛ طعنه فأشواه، وهلك. وأقام بالملك بعده حافده أبو ثابت بعد أمور ذكرناها في أخبارهم، ووقع بينه وبين صاحب تلمسان من بعده يومئذ أبي زيان محمد بن عثمان بن يغمراسن، وأخيه ابي حمّو، العهد المتأكد على الإفراج عن تلمسان، وردّ أعمالها عليه، فوفّى لهم بذلك، وعاد إلى المغرب. وارتحل ابن أبي الطلاق من شلف والخبري، والكناني من مليانة راجعين إلى المغرب. ومرّوا بتلمسان، ومع الكناني هذان الاخوان، فأوصى لهما أبو حمّو، وأثنى عليهما. حلّه بمقامهما في العلم؛ واغتبط بهما أبو حمّو، واختط لهما المدرسة المعروفة بهما بتلمسان. وأقاما عنده على هدي أهل العلم وسننهم. وهلك أبو حمّو؛ فكانا كذلك مع ابنه أبي تاشفين إلى أن زحف السلطان أبو الحسن المريني إلى تلمسان، وملكها عنوة، سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وكانت لهما شهرة في أقطار المغرب، أسست لهما في نفس السلطان عقيدة صالحة؛ فاستدعاهما لحين دخوله، وأدنى مجلسهما، وشاد بمكرمتهما، ورفع جاههما على أهل طبقتهما. وصار يجمّل بهما مجلسه متى مرّ بتلمسان، ووفدا عليه في الأولى التي نفر فيها أعيان بلادهما. ثم استنفرهما إلى الغزو، وحضرا معه واقعة طريف، وعادا إلى بلدهما. وتوفي أبو زيد منهما إثر ذلك، وبقي أخوه أبو موسى متبوّئاً ما شاء من ظلال تلك الكرامة. ولما سار السلطان أبو الحسن إلى أفريقية سنة ثمان وأربعين، كما مرّ في أخباره استصحب أبا موسى ابن الإمام معه مكّرماً موقّراً، عالي المحل، قريب المجلس منه. فلما استولى على أفريقية، سرّحه إلى بلده، فأقام بها يسيرآ، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة. وبقي أعقابهما بتلمسان دارجين في مسالك تلك الكرامة، وموقرين فيها طبقاً عن طبق إلى هذا العهد.

 

وأمّا السطّي، واسمه محمد بن علي بن سليمان، من قبيلة سطّة، من بطون أوربة بنواحي فاس. فنزل أبوه سليمان مدينة فاس، ونشأ محمد بها وأخذ العلم عن الشيخ أبي الحسن الصغير إمام المالكيّة بالمغرب، والطائر الذكر، وقاضي الجماعة بفاس، وتفقّه وقرأ عليه. وكان أحفظ الناس لمذهب مالك، وأفقههم فيه. وكان السلطان أبو الحسن لدينه وسراوته، وبعد شأوه في الفضل، يتشوف إلى تزيين مجلسه بالعلماء، واختار منهم جماعة لصحابته ومجالسته. كان منهم هذا الإمام محمد بن سليمان. وقدم علينا بتونس في جملته، وشهدنا وفور فضائله. وكان في الفقه من بينها لا يجارى، حفظاً وفهماً، عهدي به وأخي محمد رحمه الله يقرأ عليه من كتاب التبصرة لأبي الحسن اللخمي، وهو يصححه عليه من إملائه وحفظه، في مجالس عديدة. وكذا كان حاله في أكثر ما يعاني حمله من الكتب. وحضر مع السلطان أبي الحسن، واقعة القيروان، وخلص معه إلى تونس، وأقام بها نحواً من سنتين. وانتقض المغرب على السلطان، واستقل به ابنه أبو عنان. ثم ركب السلطان أبو الحسن في أساطيله من تونس آخر سنة خمسين، ومر ببجاية، فأدركه الغرق في سواحلها، فغرقت أساطيله، وغرق أهله، وأكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء وغيرهم. وألقاه البحر ببعض الجزر هناك، حتى استنفذه منه بعض أساطيله، ونجا إلى الجزائر بعد أن تلف موجوده، وهلك الكثير من عياله وأصحابه، وكان من أمره ما مرّ في أخباره.

 

وأمّا الآيّلي واسمه محمد بن إبراهيم، فمنشؤه بتلمسان، وأصله من جالية الأندلس، من أهل آيُلّة، من بلد الجوف منها، أجاز بأبيه وعمه أحمد، فاستخدمهم يغمراسن بن زيّان، وولده في جندهم، وأصهر إبراهيم منهما إلى القاضي بتلمسان محمد بن غلبون في ابنته، فولدت له محمداً هذا. ونشأ بتلمسان في كفالة جدّه القاضي؛ فنشأ له بذلك ميل إلى انتحال العلم عن الجنديّة التي كانت منتحل أبيه وعمّه. فلما أيفع وأدرك سبق إلى ذهنه محبّة التعاليم؛ فبرز بها، واشتهر. وعكف الناس عليه في تعلّمها وهذا في سنّ البلوغ. ثم أظل السلطان يوسف بن يعقوب على تلمسان، وخيّم عليها يحاصرها. وسيّر العساكر إلى الأعمال فافتتح أكثرها. وكان إبراهيم الآيُلّي قائداً بهنين؛ مرسى تلمسان في لجّة من الجند. فلمّا ملكها يوسف بن يعقوب، اعتقل من وجد بها من أشياع ابن زيان، واعتقل ابراهيم الآيُلّي فيهم. وشاع الخبر في تلمسان بانّ يوسف بن يعقوب يسترهن أبناءهم ويطلقهم فتشوّف ابنه محمد إلى اللحاق بهم، من أجل ذلك. وأغراه أهله بالعزم عليه فتسوّر الأسوار، وخرج إلى أبيه فلم يجد خبر الاسترهان صحيحاً. واستخدمه يوسف بن يعقوب قائداً على الجند الأندلسيين بتاوريرت، فكره المقام على ذلك، ونزع عن طوره، ولبس المسوح، وسار قاصداً الحجّ. وانتهى إلى رباط العبّاد مختفياً في صحبة الفقراء؛ فوجد هنالك رئيساً من كربلاء ثم من بني الحسين، جاء إلى المغرب يروم إقامة دعوتهم فيه، وكان معقلأ؛ فلما رأى عساكر يوسف بن يعقوب، وشدّة هيبته غلب عليه اليأس من مرامه، ونزع عن ذلك، واعتزم الرجوع إلى بلده، فسار شيخنا محمد بن إبراهيم في جملته. قال لي رحمه الله: وبعد حين انكشف لي حاله، وما جاء له، واندرجت في جملتة وأصحابه وتابعيه. قال: وكان يتلقّاه في كل بلد من أصحابه وأشياعه وخدمه من يأتيه بالأزواد، والنفقات من بلده، إلى أن ركبنا البحر من تونس إلى الإسكندرية. قال: واشتدّت علي الغلُمَة في البحر، واستحييت من كثرة الاغتسال لكان هذا الرئيس فأشار عليّ بعض بطانته بشرب الكافور؛ فاغترفت منه غرفة، فشربتها فاختلطت. وقدم الديار المصرية على تلك الحال، وبها يومئذ تقيّ الدين بن دقيق العيد، وابن الرفُعَة وصفيّ الدين الهندي، والتبريزي، وابن البديع وغيرهم من فرسان المعقول والمنقول. فلم يكن قُصَارَاه إلاّ تمييز أشخاصهم، إذا ذكرهم لنا، لما كان به من الاختلاط. ثم حجّ مع ذلك الرئيس، وسار في جملته إلى كربلاء؛ فبعث به من أصحابه من أوصله إلى مأمنه من بلاد زواوة من أطراف المغرب. وقال لي شيخنا رحمه الله: كان معي دنانير كثيرة تزودتها من المغرب، واستبطنتها في جبّة كنت ألبسها؛ فلمّا نزل بي ما نزل انتزعها مني حتى إذا بعث أصحابه يشيّعونني إلى المغرب، دفعها إليهم، حتى إذا أوصلوني إلى المأمن، أعطوني إياها وأشهدوا عليّ بها في كتاب حملوه معهم إليه كما أمرهم. ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب وخلاص أهل تلمسان من الحصار، فعاد إلى تلمسان، وقد أفاق من اختلاطه، وانبعثت همّته إلى تعلّم العلم. وكان مائلاً إلى العقليات؛ فقرأ المنطق على أبي موسى ابن الإمام، وجملة من الأصلين، وكان أبو حمّو صاحب تلمسان يومئذ قد استفحل ملكه، وكان ضابطاً للأمور، وبلغه عن شيخنا تقدّمه في علم الحساب؛ فدفعه إلى ضبط أمواله ومشارفة عماله. وتفادى شيخنا من ذلك؛ فأكرهه عليه، فأعمل الحيلة في الفرار منه، ولحق بفاس أيام السلطان أبي الربيع. وبعث فيه أبو حمّو، فاختفى بفاس عند شيخ التعاليم من اليهود، خلوف المغيلي؛ فاستوفى عليه فنونها، وحذق. وخرج متوارياً من فاس؛ فلحق بمراكش، أعوام عشروسبعمائة. ونزل على الإمام أبي العبّاس بن البنّاء شيخ المعقول والمنقول، والمّبرز في التصوّف علماً وحالاً، فلزمه، وأخذ عنه. وتضلّع من علم المعقول والتعاليم والحكمة. ثم استدعاه شيخ الهساكرة علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، وكان ممرضا في طاعه السلطان؛ فصعد إليه شيخنا وأقام عنده مدة، قرأ عليه فيها وحصّل. واجتمع طلبة العلم هنالك على الشيخ، فكثرت إفادته، واستفادته، وعلي بن محمد في ذلك على محبته وتعظيمه، ومحبته، وامتثال إشارته، فغلب على هواه، وعظمت رياسته في تلك القبائل. ولما استنزل السلطان أبو سعيد علي بن تروميت من جبله، نزل الشيخ معه، وسكن بفاس. وانثال عليه طلبة العلم من كلّ ناحية؛ فانتشر علمه، واشتهر ذكره، فلمّا فتح السلطان أبو الحسن تلمسان ولقي أبا موسى ابن الإمام، ذكره له بأطيب الذكر، ووصفه بالتقدّم في العلوم. وكان السلطان معتنياً بجمع العلماء بمجلسه، كما ذكرنا. فاستدعاه من مكانه بفاس، ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه، وعكف على التدريس والتعليم، ولزم صحابة السلطان، وحضر معه واقعة طريف، وواقعة القيروان بأفريقية. وكانت قد حصلت بينه وبين والدي رحمه الله صحابة، كانت وسيلتي إليه في القراءة عليه؛ فلزمت مجلسه، وأخذت عنه. وافتتحت العلوم العقليّة بالتعاليم. ثم قرأت المنطق، وما بعده من الأصليْن، وعلوم الحكمة وعرض أثناء ذلك ركوب السلطان أساطيله من تونس إلى المغرب، وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا، فأشرنا عليه بالمقام، وثبّطناه عن السفر؛ فقبل، وأقام. وطالبنا به السلطان أبو الحسن؛ فأحسنّا له العذر. فتجافى عنه، وكان من حديث غرقه في البحر ما قدّمناه. وأقام الشيخ بتونس، ونحن وأهل بلدنا جميعاً نتساجل هنتاتة، وفرغ ابنه أبو عنان من شواغله، وملك تلمسان من بني عبد الواد، كتب فيه يطلبه من صاحب تونس، وسلطانها يومئذ أبو إسحق ابراهيم ابن السلطان أبي يحيى، في كفالة شيخ الموحّدين أبي محمد بن تافراكين؛ فأسلمه إلى سفيره، وركب معه البحر في أسطول السلطان الذي جاء فيه السفير. ومرّ ببجاية، ودخلها، وأقام بها شهراً، حتى قرأ عليه طلبة العلم بها مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، برغبتهم في ذلك منه ومن صاحب الأسطول. ثم ارتحل، ونزل بمرسى هنين وقدم على السلطان بتلمسان، وأحلّه محل التكرمة، ونظمه في طبقة أشياخه من العلماء. وكان يقرأ عليه، ويأخذ عنه إلى أن هلك بفاس سنة سبع وخمسين وسبعمائة. وأخبرني رحمه الله أن مولده بتلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة.

 

وأمّا عبد المهيمن كاتب السلطان أبي الحسن، فأصله من سبتة، وبيتهم بها قديم، ويعرفون ببني عبد المهيمن وكان أبوه محمد قاضيها أيام بني العزفي. ونشأ ابنه عبد المهيمن في كفالته، وأخذ عن مشيختها. واختصّ بالأستاذ أبي إسحق الغافقي. ولما ملك عليهم الرئيس أبو سعيد، صاحب الأندلس، سبتة ونقل بني العزفي، مع جملة أعيانها إلى غرناطة، ونقل معهم القاضي محمد بن عبد المهيمن، وابنه عبد المهيمن؛ فاستكمل قراءة العلم هنالك وأخذ عن أبي جعفر بن الزبير ونظرائه، وتقدّم في معرفة كتاب سيبويه، وبرز في علو الإسناد، وكثرة المشيخة. وكتب له أهل المغرب والأندلس والمشرق، واستكتبه رئيس الأندلس يومئذ، الوزير أبو عبد الله بن الحكيم الرُندي، المستبد على السلطان المخلوع من بني الأحمر، فكتب عنه، ونظمه في طبقة الفضلاء الذين كانوا بمجلسه، مثل المحدّث الرحالة أبي عبد الله بن رشيد الفهري، وأبي العباس أحمد العزفي، والعالم الصوفيّ المتجرّد، أبي عبد الله محمد بن خميس التلمساني، وكانا لا يجاريان في البلاغة والشعر- إلى غير هؤلاء ممن كان مختصًّاً به؛ وقد ذكرهم ابن الخطيب في تاريخ غرناطة. فلما انكب الوزير ابن الحكيم، وعادت سبتة إلى طاعة بني مرين عاد عبد المهيمن إليها واستقر بها، ثم ولى الأمرأبو سعيد، وغلب عليه ابنه أبو علي، واستبدّ بحمل الدولة. تشّوف إلى استدعاء الفضلاء، وتجمّل الدولة بمكانهم فاستقدم عبد المهيمن من سبتة، واستكتبه سنة إثنتي عشرة وسبعمائة. ثم خالف على أبيه سنة أربع عشرة وسبعمائة، وامتنع بالبلد الجديد، وخرج منها إلى سجلماسة لصلح عقده مع أبيه، فتمسّك السلطان أبو سعيد بعبد المهيمن، واتخذه كاتباً، إلى أن دفعه لرياسة الكتّاب، ورسم علامته في الرسائل والأوامر؛ فتقدّم لذلك سنة ثمان عشرة وسبعمائة، ولم يزل عليها سائر أيام السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن. وسار مع أبي الحسن إلى أفريقية، وتخلّف عن واقعة القيروان بتونس؛ لما كان به علّة التقرس. فلمّا كانت الهيعة بتونس، ووصل خبر الواقعة، وتحيّز أولياء السلطان إلى القصبة، مع حرمه، تسرب عبد المهيمن في المدينة، منتبذاً عنهم، وتوارى في بيتنا، خشية أن يصاب معهم بمكروه. فلمّا انجلت تلك الغيابة. ورجع السلطان من القيراوان إلى سوسة، وركب منها البحر إلى تونس، أعرض عن عبد المهيمن، لما سخط غيبته عن قومه بالقصبة، وجعل العلامة لأبي الفضل ابن الرئيس عبد الله بن أبي مدين، وقد كانت من قبل مقصورة من قبل على هذا البيت، وأقام عبد المهيمن عطلاً من العمل مدة أشهر. ثم اعتبه السلطان، ورضي عنه، وأعاد إليه العلامة كما كان، وهلك لأيام قلائل بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة. ومولده سنة خمس وسبعين وستمائة من المائة قبلها، وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في تاريخ غرناطة فليطالعه هناك من أحبّ الوقوف عليه.

 

 وإما ابن رضوان الذي ذكره الرحويّ في قصيدته، فهو أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان البحاري؛ أصله من الأندلس نشأ بمالقة، وأخذ عن مشيختها، وحذق في العربية والأدب، وتفنّن في العلوم، ونظم ونثر، وكان مجيداً في الترسيل، ومحسناً في كتابة الوثائق. وارتحل بعد واقعة طريف، ونزل بسبتة، ولقي بها السلطان أبا الحسن، ومدحه، وأجازه، واختصّ بالقاضي إبراهيم بن أبي يحيى، وهو يومئذ قاضي العساكر، وخطيب السلطان، وكان يستنيبه في القضاء والخطابة، ثم نظمه في حلبة الكتّاب بباب السلطان. واختص بخدمة عبد المهيمن رئيس الكتاب والأخذ عنه، إلى أن رحل السلطان إلى أفريقية، وكانت واقعة القيروان، وانحصر بقصبة تونس مع من انحصر بها من أشياعه مع أهله وحرمه. وكان السلطان قد خلّف ابن رضوان هذا بتونس في بعض خدمه، فجلا عند الحصار فيما عرض لهم من المكاتبات. وتولّى كبر ذلك، فقام فيه أحسن قيام، إلى أن وصل السلطان من القيروان، فرعى له حق خدمته، تأنيساً، وقرباً، وكثرة استعمال، إلى أن ارتحل من تونس في الأسطول، إلى المغرب سنة خمسين وسبعمائة كما مرّ. واستخلف بتونس ابنه أبا الفضل وخلّف أبا القاسم بن رضوان كاتباً له؛ فأقاما كذلك أياماً. ثم غلبهم على تونس سلطان الموحدّين الفضل ابن السلطان أبي يحى. ونجا أبو الفضل إلى أبيه، ولم يطق ابن رضوان الرحلة معه؛ فأقام بتونس حولاً، ثم ركب البحر إلى الأندلس، وأقام بالمريّة مع جملة من هنالك من أشياع السلطان أبي الحسن؛ كان فيهم عامر بن محمد بن علي شيخ هنتاتة، كافلاً لحرم السلطان أبي الحسن؛ وابنه. أركبهم السفين معه من تونس عندما ارتحل؛ فخلص إلى الأندلس، ونزلوا بالمرية، وأقاموا بها تحت جراية سلطان الأندلس؛ فلحق بهم ابن رضوان، وأقام معهم. ودعاه أبو الحجاج سلطان الأندلس إلى أن يستكتبه فامتنع، ثم هلك السلطان أبو الحسن، وارتحل مخلّفه الذين كانوا بالمرّية. ووفدوا على السلطان أبي عنان. ووفد. معهم ابن رضوان؛ فرعى له وسائله في خدمة أبيه، واستكتبه، واختصه بشهود مجلسه، مع طلبة العلم بحضرته. وكان محمد بن أبي عمرو يومئذ رئيس الدولة، ونجي الخلوة، وصاحب العلامة، وحسبان الجباية والعساكر، قد غلب على هوى السلطان، واختص به؛ فاستخدم له ابن رضوان حتى علق منه بدمه. ولاية وصحبة، وانتظاماً في السمر، وغشيان المجالس الخاصة، وهو من ذلك يدنيه من السلطان. وينفق سوقه عنده، ويستكفي به في مواقف خدمته إذا غاب عنها لما هو أهم فحلي بعين السلطان، ونفقت عنده فضائله. فلما سار ابن أبي عمرو في العساكر إلى بجاية، سنة أربع وخمسين، انفرد ابن رضوان بعلامة الكتاب عن السلطان. ثم رجع ابن أبي عمرو، وقد سخطه السلطان؛ فأقصاه إلى بجاية وولاّه عليها، وعلى سائر أعمالها، وعلى حرب الموحّدين بقسنطينة. وأفرد ابن رضوان بالكتابة، وجعل إليه العلامة، كما كانت لابن أبي عمرو، فاستقلّ بها، موفّر الاقطاع، والإسهام، والجاه. ثم سخطه آخر سبع وخمسين وسبعمائة، وجعل العلامة لمحمد بن أبي القاسم بن أبي مدين، والإنشاء والتوقيع لأبي إسحق إبراهيم بن الحاج الغرناطي. فلما كانت دولة السلطان أبي سالم، جعل العلامة لعلي بن محمد بن سعود صاحب ديوان العساكر، والإنشاء والتوقيع والسرّ لمؤلف الكتاب عبد الرحمن بن خلدون. ثم هلك أبو سالم سنة إثنتين وستين، واستبدّ الوزير عمر بن عبد الله على من كفله من أبنائه، فجعل العلامة لابن رضوان، سائر أيامه، وقتله عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، واستبدّ بملكه، فلم يزل ابن رضوان على العلامة، وهلك عبد العزيز، وولى ابنه السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي بن الكاس، وابن رضوان على حاله، ثم غلب السلطان أحمد على الملك، وانتزعه من السعيد، وأبي بكر بن غازي، وقام بتدبير دولته محمد بن عثمان بن الكاس، مستبدّاً عليه، والعلامة لابن رضوان، كما كانت، إلى أن هلك بأزمور في حركات السلطان أحمد إلى مراكش، لحصار عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي وكان في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كثيرة من فضلاء المغرب وأعيانه، هلك كثيرون منهم في الطاعون الجارف بتونس، وغرق جماعة منهم في أسطوله لما غرق، وتخطت النكبة منهم آخرين إلى أن استوفوا ما قدّر من آجالهم. فمن حضر معه بأفريقية من العلماء، شيخنا أبو العباس أحمد بن محمد الزواوي، شيخ القراءات بالمغرب: أخذ العلم والعربية عن مشيخة فاس، وروى عن الرحالة أبي عبد الله محمد بن رشيد، وكان إماماً في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا تجارى. وله مع ذلك صوت من مزامير آل داود، وكان يصلّي بالسلطان التراويح، ويقرأ عليه بعض الأحيان.

 

حزبه. وممن حضر معه بأفريقية، الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن الصبّاغ من أهل مكناسة. كان مبرّزاً في المعقول والمنقول، وعارفاً بالحديث وبرجاله، وإماماً في معرفة كتّاب الموطأ وإقرائه أخذ العلوم عن مشيخة فاس ومكناسة، ولقي شيخنا أبا عبد الله الأيلّئ، ولازمه، وأخذ عنه العلوم العقلية فاستنفد بقية طلبه عليه، فبرز آخراً، واختاره السلطان لمجلسه، واستدعاه، ولم يزل معه إلى أن هلك غريقاً في ذلك الأسطول.

ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد النور، من أعمال ندرومة، ونسبه في صنهاجة كان مبرّزاً في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس، تفقّه فيه على الأخوين أبي زيد، وأبي موسى ابني الإمام، وكان من جملة أصحابهما.

 

ولما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان، رفع من منزلة ابني الإمام، واختصهما بالشورى في بلدهما. وكان يستكثر من أهل العلم في دولته، ويجري لهم الأرزاق، ويعمر بهم مجلسه؛ فطلب يومئذ من ابن الإمام أن يختار له من أصحابه من ينظمه في فقهاء المجالس؛ فأشاروا عليه بابن عبد النور هذا؛ فأدناه، وقرّب مجلسه، وولاه قضاء عسكره، ولم يزل في جملته إلى أن هلك في الطاعون بتونس سنة تسع وأربعين. وكان قد خلف بتلمسان أخاه علياً رفيقه في دروس ابن الإمام، إلا أنه أقصر باعاً منه في الفقه. فلمّا خلع السلطان أبو عنان طاعة أبيه السلطان أبي الحسن، ونهض إلى فاس، استنفره في جملته. وولاّه قضاء مكناسة؛ فلم يزل بها، حتى إذا تغلّب عمر بن عبد الله على الدولة كما مرّ، نزع إلى قضاء فرضه؛ فسرّحه. وخرج حاجا سنة أربع وستين؛ فلما قدم على مكة، وكان به بقيه مرض، هلك في طواف القدوم. وأوصى أمير الحاج على ابنه محمد، وأن يبلغ وصيته به للأمير المتغلب على الديار المصرية يومئذ، يلبغا الخاصكي، فأحسن خلافته فيه، وولاّه من وظائف الفقهاء ما سدّ به خلّته، وصان عن سؤال الناس وجهه؛ وكان له عفا الله عنه كلف بعمل الكيمياء، تابعاً لمن غلظ في ذلك من أمثاله. فلم يزل يعاني من ذلك ما يورّطه مع الناس في دينه وعرضه، إلى أن دعته الضرورة للترحل عن مصر، ولحق ببغداد. وناله مثل ذلك؛ فلحق بماردين، واستقر عند صاحبها، وأحسن جواره، إلى أن بلغنا بعد التسعين أنه هلك هنالك حتف أنفه، والبقاء لله وحده.

 

ومنهم شيخ التعاليم أبو عبد الله محمد بن النجّار من أهل تلمسان؛ أخذ العلم ببلده عن مشيختها، وعن شيخنا الآُيلي، وبرّز عليه. ثم ارتحل إلى المغرب، فلقي بسبتة إمام التعاليم، أبا عبد الله محمد بن هلال شارح المجسطي في الهيئة، وأخذ بمراكش عن الإمام أبي العباس بن البناء، وكان إماماً في علوم النجامة وأحكامها، وما يتعلق بها، ورجع إلى تلمسان بعلم كثير، واستخلصته الدولة. فلما هلك أبو تاشفين، وملك السلطان أبو الحسن، نظمه في جملته وأجرى له رزقه، فحضر معه بإفريقية، وهلك في الطاعون.

 

ومنهم أبو العباس أحمد بن شعيب من أهل فاس، برع في الادب واللسان، والأدب، والعلوم العقلية، من الفلسفة، والتعاليم، والطب، وغيرها، ونظمه السلطان أبو سعيد في جملة الكتاب، وأجرى عليه رزق الأطباء لتقدمه فيه؛ فكان كاتبه، وطبيبه؛ وكذا مع السلطان أبي الحسن بعده؛ فحضر بأفريقية، وهلك بها في ذلك الطاعون. وكان له شعر سابق به الفحول من المتقدّمين والمتأخّرين، وكانت له إمامة في نقد الشعر، وبصر به؛ وما حضرني الآن من شعره:

 

دار الهوى نجد وساكنهــــــا             أقصى أماني النفس من نجد

هل باكر الوسمي ساحتهـــــا                      واستن في قيعانها الجــرد

أو بات معتل النسيم بهــــــا                        مستشفياً بالبان والرنـــد

يتلو أحاديث الذين هـــــــم              قصدي وإن جاروا عن القصد

أيام سمر ظلالها وطنــــــي             منها وزرق مياههــا وردي

ومطارح النظرات في رشـــاءٍ            أحوى المدامع أهيف القـــد

يرنو إليك بعين جــاريــــة                 قُتل المحب بها على عمـــد

حتى أجدّ على عجـــــــل               ريب الخطوب وعاثر الجــد

فقدوا فما وأبيك بعدهــــــم              ما عشت لا آسى على الفقــد

وغدوا: دفيناً قد تضمّنـــــه               بطن الثرى وقرارة اللحــد

ومشرداً من دون رؤيتـــــه               قذف النوى وتنوفة البعـــد

أجرى علي العيش بعدهــــم                  أني فقدت جميعهم وحـــدي

لا تلحني يا صاح في شجـــن                      أخفيت منه فوق ما أبـــدي

بالقرب لي سكن تأوبنـــــي                من ذكره سهد على سهـــد

فرخان قد تركا بمضيعـــــةٍ               زويت عن الرفداء والـــرفد

ومنهم صاحبنا الخطيب أبو عبد الله بن أحمد بن مرزوق من أهل تلمسان، كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعُباد، ومتوارثين خدمة تربته، من لدن جدهم خادمه في حياته. وكان جده الخامس أو السادس، واسمه أبو بكر بن مرزوق، معروفاً بالولاية فيهم. ولما هلك دفنه يغمراسن بن زيان، سلطان بتلمسان من بني عبد الواد، ففي التربة بقصره، ليدفن بإزائه، متى قدّر بوفاته. ونشأ محمد هذا بتلمسان. ومولده فيما أخبرني سنة عشر وسبعمائة وارتحل مع أبيه إلى المشرق. وجاور أبوه بالحرمين الشريفين، ورجع هو إلى القاهرة؛ فأقام بها. وقرأ على برهان الدين الصفاقسي المالكي وأخيه. وبرع في الطلب والرواية، وكان يجيد الخطّين؛ ثم رجع سنة خمس وثلاثين وسبعمائة إلى المغرب، ولقي السلطان أبا الحسن بمكانه من حصار تلمسان، وقد شيد بالعباد مسجداً عظيماً؛ وكان عمه محمد بن مرزوق خطيباً به على عادتهم بالعبّاد. وتوفي، فولاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمّه. وسمعه يخطب على المنبر، ويشيد بذكره، والثناء عليه، فحلا بعينه، واختصه، وقرّبه، وهو مع ذلك يلازم مجلس الشيخين ابني الإمام، ويأخذ نفسه بلقاء الفضلاء، والأكابر، والأخذ عنهم؛ والسلطان في كل يوم يزيده رتبة؛ وحضر معه واقعة طريف التي كان فيها تمحيص المسلمين؛ فكان يستعمله في السفارة عنه إلى صاحب الأندلس. ثم سفر عنه، بعد أن ملك أفريقية، إلى ابن أدفونش ملك قشتاله في تقرير الصلح، واستنقاذ ابنه أبي عمر تاشفين. كان أسر يوم طريف، فغاب في تلك السفارة عن واقعة القيروان. ورجع بأبي تاشفين مع طائفة من زعماء النصرانيّة، جاءوا في السفارة عن ملكهم، ولقيهم خبر واقعة القيروان، بقسنطينة، من بلاد أفريقية، وبها عامل السلطان وحاميته، فثار أهل قسنطينة بهم جميعأ، ونهبوهم، وخطبوا للفضل ابن السلطان أبي يحيى، وراجعوا دعوة الموحّدين، واستدعوه فجاء إليهم، وملك البلد. وانطلق ابن مرزوق عائداً إلى المغرب مع جماعة من الأعيان، والعمّال والسفراء عن الملوك. ووفد على السلطان أبي عنان بفاس مع أمه حظية أبي الحسن وأثيرته. كانت راحلة إليه، فأدركها الخبر بقسنطينة. وحضرت الهيعة. واتصل بها الخبر بتوثب ابنها أبي عنان على ملك أبيه، واستيلائه على فاس؛ فرجعت إليه، وابن مرزوق في خدمتها، ثم طلب اللحاق بتلمسان؛ فسرّحوه إليها، وأقام بالعبّاد مكان سلفه. وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان، قد بايع له قبيله بنو عبد الواد بعد واقعة القيروان بتونس، وابن تافراكين يومئذ محاصر للقصبة، كما مرّ في أخبارهم. وانصرفوا إلى تلمسان، فوجدوا بها أبا سعيد عثمان بن جرّار، من بيت ملوكهم، قد استعمله عليها السلطان أبو عنان، عند انتقاضه على أبيه، ومسيره إلى فاس؛ وانتقض ابن جرّار من بعده، ودعا لنفسه، وصمد إليه عثمان بن عبد الرحمن ومعه أخوه أبو ثابت وقومهما، فملكوا تلمسان من يد ابن جرّار، وحبسوه ثم قتلوه؛ واستبدّ أبو سعيد بملك تلمسان، وأخوه أبو ثابت يردفه. وركب السلطان أبو الحسن البحر من تونس، وغرق أسطوله، ونجا هو إلى الجزائر، فاحتل بها، وأخذ في الحشد إلى تلمسان؛ فرأى أبو سعيد أن يكف غربه عنهم، بمواصلة تقع بينهما، واختار لذلك الخطيب بن مرزوى؛ فاستدعاه وأسر إليه بما يلقيه عنه للسلطان أبي الحسن، وذهب لذلك على طريق الصحراء. واطلّ أبو ثابت وقومهم على الخبر، فنكروه على أبي سعيد، وعاتبوه فأنكر، فبعثوا صغير ابن عامر في اعتراض ابن مرزوق، فجاء به، وحبسوه أياماً. ثم أجازوه البحر إلى الأندلس؛ فنزل على السلطان أبي الحجّاج بغرناطة، وله إليه وسيلة منذ اجتماعه به بمجلس السلطان أبي الحسن بسبتة إثر واقعة طريف؛ فرعى له أبو الحجّاج ذمة تلك المعرفة، وأدناه، واستعمله في الخطابة بجامعه بالحمراء؛ فلم يزل خطيبه إلى إن استدعاه السلطان أبو عنان سنة أربع وخمسين بعد مهلك أبيه، واستيلائه على تلمسان وأعمالها؛ فقدم عليه ورعى له وسائله، ونظمه في أكابر أهل مجلسه. وكان يقرأ الكتاب بين يديه في مجلسه العليّ، ويدرّس في نوبته مع من يدرس في مجلسه منهم. ثم بعثه إلى تونس عام ملكها سنة ثمان وخمسين؛ ليخطب له ابنة السلطان أبي يحيى، فردت تلك الخطبة واختفت بتونس. ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعاً على مكانها، فسخطه لذلك، ورجع السلطان من قسنطينة؛ فثار أهل تونس بمن كان بها من عماله وحاميته. واستقدموا أبا محمد بن تافراكين من المهدية، فجاء، وملك البلد. وركب القوم الاسطول، ونزلوا بمراسي تلمسان. وأوعز السلطان أبو عنان، باعتقال ابن مرزوق، وخرج لذلك يحيى بن شعيب من مقدمي الجنادرة ببابه، فلقيه بتاسالة، فقيده هنالك. وجاء به، فأحضره السلطان وقرعه، ثم حبسه مدة، وأطلقه بين يدي مهلكه؛ واضطربت الدولة بعد موت السلطان أبي عنان، وبايع بنو مرين لبعض الأعياص من بني يعقوب بن عبد الحق. وحاصروا البلد الجديد، وبها ابنه السعيد، ووزيره المستبد عليه، الحسن بن عمر؛ وكان السلطان أبو سالم بالأندلس، غرّبه إليها أخوه السلطان أبو عنان، مع بني عمّهم، ولد السلطان أبي علي بعد وفاة السلطان أبي الحسن، وحصولهم جميعاً في قبضته. فلما توفي، أراد أبو سالم النهوض لملكه بالمغرب، فمنعه رضوان القائم يومئذ بملك الأندلس، مستبداً على ابن السلطان أبي الحجّاج، فلحق هو بإشبيلية، من دار الحرب، ونزل على بطره، ملكهم يومئذ، فهيأ له السفين، وأجازه إلى العدوة، فنزل بجبل الصفيحة، من بلاد غمارة، وقام بدعوته بنو مثنى، وبنو منير أهل ذلك الجبل منهم، حتى تم أمره، واستولى على ملكه؛ في خبر طويل، ذكرناه في أخبار دولتهم. وكان ابن مرزوق يداخله، وهو بالأندلس، ويستخدم له، ويفاوضه في أموره، وربما كان يكاتبه، وهو بجبل الصفيحة، ويداخل زعماء قومه، في الأخذ بدعوته. فلما ملك السلطان أبو سالم، رعى له تلك الوسائل أجمع، ورفعه على الناس، وألقى عليه محبته، وجعل زمام الأمور بيده، فوطىء الناس عقبه، وغشي أشراف الدولة بابه، وصرفت الوجوه إليه، فمرضت لذلك قلوب أهل الدولة، ونقموه على السلطان، وتربصوا به، حتى توثب عمر ابن عبد الله بالبلد الجديد، وافترق الناس عن السلطان. وقتله عمر بن عبد الله آخر إثنتين وستين وسبعمائة، وحبس ابن مرزوق وأغرى به سلطانه الذي نصبه؛ محمد بن عبد الرحمن بن أبي الحسن، فامتحنه، واستصفاه، ثم أطلقه، بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله، فمنعه منهم. ولحق بتونس، سنة أربع وستين، ونزل على السلطان أبي إسحق، وصاحب دولته المستبد عليه، أبي محمد بن تافراكين، فأكرموا نزله، وولوه الخطابة، بجامع الموحدين بتونس. وأقام بها، إلى أن هلك السلطان أبو إسحق سنة سبعين وسبعمائة، وولي ابنه خالد. وزحف السلطان أبو العباس، حافد السلطان أبي يحيى، مقره بقسنطينة إلى تونس، فملكها، وقتل خالداً، سنة إثنتين وسبعين وسبعمائة.

 

وكان ابن مرزوق يستريب منه، لما كان يميل، وهو بفاس، مع ابن عمّه أبى عبد الله محمد، صاحب بجاية، ويؤثره عند السلطان أبي سالم عليه؛ فعزله السلطان أبو العبّاس عن الخطبة بتونس؛ فوجم لها، وأجمع الرحلة إلى المشرق. وسرّحه السلطان، فركب السفن، ونزل بالإسكندرية، ثم ارتحل إلى القاهرة، ولقي أهل العلم، وأمراء الدولة، ونفقت بضائعه عندهم، وأوصلوه إلى السلطان، وهو يومئذ الأشرف. فكان يحضر يومئذ مجلسه، وولاه الوظائف العلمية، وكان ينتجع منها معاشه. وكان الذي وصل حبله بالسلطان أستاذ داره محمد بن أقبغا آص، لقيه أول قدومه، فحلا بعينه، واستظرف جملته، فسعى له، وأنجح سعايته، ولم يزل مقيماً بالقاهرة، موقّر الرتبة، معروف الفضيلة، مرشحا لقضاء المالكية، ملازما للتدريس في وظائفه، إلى إن هلك سنة إحدى وثمانين. هذا ذكر من حضرنا من جملة السلطان أبي الحسن، من أشياخنا، وأصحابنا؛ وليس موضوع الكتاب الإطالة فلنقتصر على هذا القدر، ونرجع إلى ما كنا فيه من أخبار المؤلف.

 

ولاية العلامة بتونس، ثم الرحلة بعدها إلي المغرب، والكتابة على السلطان أبي عنان:

ولم أزل منذ نشأت، وناهزت مكبّاً على تحصيل العلم، حريصاً على اقتناء الفضائل، متنقّلاً بين دروس العلم وحلقاته، إلى أن كان الطاعون الجارف، وذهب بالأعيان، والصدور، وجميع المشيخة، وهلك أبواي، رحمهما الله. ولزمت مجلس شيخنا أبي عبد الله الآيُلّيالأُيُلّي؛ وعكفت على القراءة عليه ثلاث سنين، إلى أن شدوت بعض الشىء؛ واستدعاه السلطان أبو عنان، فارتحل إليه، واستدعاني أبو محمد بن تافراكين، المستبد على الدولة يومئذ بتونس، إلى كتابة العلامة عن سلطانه أبي إسحق. مذ نهض إليهم من قسنطينة صاحبها الأمير أبو زيد، حافد السلطان أبي يحيى في عساكره، ومعه العرب أولاد مهلهل الذين استنجدوه لذلك، فأخرج ابن تافراكين سلطانه أبا إسحق مع العرب، أولاد أبي الليل، وبث العطاء في عسكره، وعمر له المراتب والوظائف. وتعلل عليه صاحب العلامة أبو عبد الله بن عمر بالإستزادة من العطاء؛ فعزله، وأدالني منه؛ فكتبت العلامة عن لالسلطان، وهي وضع "الحمد لله والشكر لله "، بالقلم الغليظ، مما بين البسملة وما بعدها، من مخاطبة أو مرسوم وخرجت معهم أول سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة. وقد كنت منطوياً على الرحلة من أفريقية، لما أصابني من الاستيحاش لذهاب أشياخي، وعطلاتني عن طلب العلم. فلما رجع بنو مرين إلى مراكزهم بالمغرب، وانحسر تيّارهم عن أفريقية، وأكثر من كان معهم من الفضلاء صحابة وأشياخ، فاعتزمت على اللحاق بهم. وصدّني عن ذلك أخى وكبيري محمد، رحمه الله، فلما دُعيت إلى هذه الوظيفة، سارعت إلى الإجابة، لتحصيل غرضي من اللحاق بالمغرب، وكان كذلك، فإنّا لمّا خرجنا من تونس، نزلنا بلاد هوّارة، وزحفت العساكر بعضها إلى بعض؛ بفحص مرما جنَّة، وانهزم صفُّنا، ونجوت أنا إلى أبَّة؛ فأقمت بها عند الشيخ عبد الرحمن الوشستناتني، من كبراء المرابطين. ثم تحوّلت إلى سبتة، ونزلت بها على محمد بن عبدون، صاحبها؛ فأقمت عنده ليالي حتى هيّأ لي الطريق، وبذرق لي مع رفيق من المغعرب، وسافرت إلى قفصة، وأقمت بها أياماً أترصد الطريق، حتى قدم علينا بها الفقيه محمد بن الرئيس منصور بن مزني، وأخوه يوسف يومئذ صاحب الزاب. وكان هو بتونس، فلمّا حاصرها الأمير أبو زيد، خرج إليه، فكان معه. ثم بلغهم الخبر بأنّ السلطان أبا عنان ملك المغرب، نهض إلى تلمسان؛ فملكها، وقتل سلطانها، عثمان بن عبد الرحمن، وأخاه أبا ثابت، وأنه انتهى إلى المدية، وملك بجاية من يد صاحبها، الأمير أبي عبد الله من حفدة السلطان أبي يحيى، راسله عندما أطلّ على بلده؛ فسار إليه، ونزل له عنها، وصار في جملته، وولى أبو عنان على بجاية عمر بن علي شيخ بني وطّاس، من بني الوزير شيوخهم. فلمّا بلغ هذا الخبر، أجفل الأمير عبد الرحمن من مكانه على حصار تونس، ومرّ بقفصة، فدخل إلينا محمد بن مزني ذاهباً إلى الزاب؛ فرافقته إلى بسكرة، ودخلت إلى أخيه هنالك. ونزل هو ببعض قرى الزاب تحت جراية أخيه، إلى أن انصرم الشتاء.

 

وكان أبو عنان لما ملك بجاية، ولى عليها عمر بن علي بن الوزير، من شيوخ بني وطّاس، وجاء فارح، مولى الأمير أبي عبد الله لنقل حرمه وولده، فداخل بعض السفهاء من صنهاجة في قتل عمر بن علي فقتله في مجلسه. ووثب هو على البلد، وبعث إلى الأمير أبي زيد، يستدعيه من قسنطينة؛ فتمشّت رجالات البلد بينهم بينهم خشية من سطوة السلطان.

 

ثم ثاروا بفارح فقتلوه، وأعادوا دعوة السلطان كما كانت. وبعثوا عن عامل السلطان بتدلس، يحياتن بن عمر بن عبد المؤمن، ي خ بني ونكاسن من بني مرين، فملكوه قيادهم. وبعثوا إلى السلطان بطاعتهم؛ فأخرج لوقته حاجبه محمد بن أبي عمرو، وأكثف له الجند، وصرف معه وجوه دولته وأعيان بطانته. وارتَحَلْتُ من بسكرة، وافداً على السلطان أبي عنان بتلمسان، فلقيت ابن أبي عمرو بالبطحاء، وتلقّاني من الكرامة بما لم أحتسبه، وردّني معه إلى بجاية، فشهدت الفتح. وتسايلت وفود أفريقية إليه فلمّا رجع السلطان، وفدت معهم، فنالني من كرامته وإحسانه ما لم أحتسبه، إذ كنت شاباً لم يطّر شاربي. ثم انصرفت مع الوفود، ورجع ابن أبي عمرو إلى بجاية؛ فأقمت عنده، حتى انصرم الشتاء من أواخر أربع وخمسين وسبعمائة؛ وعاد السلطان أبو عنان إلى فاس، وجمع أهل العلم للتحليق بمجلسه، وجرى ذكري عنده، وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس، فأخبره الذين لقيتهم بتونس عني، ووصفوني له؛ فكتب إلى الحاجب يستقدمني، فقدمت عليه، سنة خمس وخمسين وسبعمائة، ونظمني في أهل مجلسه العلمي، وألزمني شهود الصلوات معه؛ ثم استعملني في كتابته، والتوقيع بين يديه، على كره مني، إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي. وعكفت على النظر، والقراءة، ولقاء المشيخة، من أهل المغرب، ومن أهل الأندلس الوافدين في غرض السفارة؛ وحصلت من الإفادة منهم على البغية. وكان في جملته يومئذ الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الصفّار، من أهل مراكش إمام القراءآت لوقته؛ أخذ عن جماعة من مشيخة المغرب، وكبيرهم شيخ المحدثين الرحّالة أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهري، سيّد أهل المغرب، وكان يعارض السلطان القرآن برواياته السبع إلى أن توفي. ومنهم: قاضي الجماعة بفاس، أبو عبد الله محمد المغربي، صاحبنا، من أهل تلمسان. أخذ العلم بها عن أبي عبد الله السلاوي، ورد عليها من المغرب خلوا من المعارف. ثم دعته همته إلى التحلي بالعلم، فعكف في بيته على مدارسة القرآن فحفظه، وقرأه بالسبع. ثم عكف على كتاب التسهيل في العربية، فحفظه ثم على مختصر ابن الحاجب في الفقه، والأصول، فحفظهما، ثم لزم الفقيه عمران المشدّ الي من تلاميذ أبي علي ناصر الدين وتفقه عليه، وبرز في العلوم، إلى حيث لم تلحق غايته. وبنى السلطان أبو تاشفين مدرسة بتلمسان، فقدّمه للتدريس بها، يضاهي به أولاد الإمام. وتفقّه عليه بتلمسان جماعة، كان من أوفرهم سهماً في العلوم أبو عبد الله المغربي هذا.

 

ولما جاء شيخنا أبو عبد الله الابلي إلى تلمسان، عند استيلاء السلطان أبي الحسن عليها، وكان أبو عبد الله السلوي قد قتل يوم فتح تلمسان، قتله بعض أشياع السلطان، لذنب أسلفه في خدمة أخيه أبي على بسجلماسة، قبل انتحاله العلم، وكان السلطان توعده عليه، فقتل بباب المدرسة، فلزم أبو عبد الله المغربي بعده مجلس شيخنا الايليئ، ومجالس إبني الإمام، واستبحر في العلوم وتفنّن. ولما انتقض السلطان أبو عنان، سنة تسع وأربعين وخلع أباه، ندبه إلى كتب البيعة، فكتبها وقرأها على الناس في يوم مشهود. وارتحل مع السلطان إلى فاس، فلمّا ملكها، عزل قاضيها الشيخ المعمّر أبا عبد الله بن عبد الرزاق وولاّه مكانه، فلم يزل قاضياً بها، إلى أن أسخطه لبعض النزعات الملوكيّة، فعزله وأدال منه بالفقيه أبي عبد الله الفشتالي آخر سنة ست وخمسين وسبعمائة، ثم بعثه في سفارة إلى الأندلس، فامتنع من الرجوع. وقام السلطان لها في ركابه، ونكر على صاحب الأندلس ابن الأحمر تمسّكه به، وبعث إليه فيه يستقدمه، فلاذ منه ابن الأحمر بالشفاعة فيه، واقتضى له كتاب أمان بخط السلطان أبي عنان، وأوفده مع الجماعة من شيوخ العلم بغرناطة، ومنهم: القاضيان بغرناطة، شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي، شيخ الدنيا جلالة وعلماً ووقاراً، ورياسةً، وإمام اللسان حوكا ونقداً، في نظمه ونثره. وشيخنا الآخر أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحاج البلقيني من أهل المرية، شيخ المحدّثين والفقهاء والأدباء والصوفية والخطباء بالأندلس، وسيّد أهل العلم بإطلاق، والمتفنن في أساليب المعارف، وآداب الصحابة للملوك فمن دونهم؛ فوفدوا به على السلطان شفيعين على عظيم تشوّقه للقائهما؛ فقبلت الشفاعة، وأنجحت الوسيلة.

 

حضرت بمجلس السلطان يوم وفادتهما، سنة سبع وخمسين وسبعمائة، وكان يوماً مشهوداً. واستقرّ القاضي المغربي في مكانه، بباب السلطان، عُطلاً من الولاية والجراية. وجرت عليه بعد ذلك محنة من السلطان، بسبب خصومة وقعت بينه وبين أقاربه امتنع من الحضور معهم عند القاضي الفشتالي، فتقدّم السلطان إلى بعض أكابر الوزعة ببابه، أن يسحبه إلى مجلس القاضي حتى ينفذ فيه حكمه، فكان الناس يعدّونها محنة. ثم ولاّه السلطان، بعد ذلك، قضاء العساكر في دولته، عندما ارتحل إلى قسنطينة. فلما افتتحها، وعاد إلى دار ملكه بفاس آخر ثمان وخمسين وسبعمائة، اعتلّ القاضي المغربي في طريقه، وهلك عند قدومه بفاس.

 

ومنهم صاحبنا الإمام العالم الفذ، فارس المعقول والمنقول، صاحب الفروع والأصول، أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف الحسني، ويعرف بالعلوي، نسبة إلى قرية من أعمال تلمسان، تسمّى العلوين، فكان أهل بلده لا يدافعون في نسبهم، وربّما بغمز فيه بعض الفجرة، ممن يروعه دينه، ولا معرفته بالأنساب، ببعض من اللغو، لا يلتفت إليه. نشأ هذا الرجل بتلمسان، وأخذ العلم عن مشيختها، واختص بأولاد الإمام، وتفقّه عليهما في الفقه، والأصول والكلام؛ ثم لزم شيخنا أبا عبد الله الآبلي. وتضلّع من معارفه؛ فاستبحر، وتفجّرت ينابيع العلوم من مداركه؛ ثم ارتحل إلى تونس في بعض مذاهبه، سنة أربعين، ولقي شيخنا القاضي أبا عبد الله بن عبد السلام، وحضر مجلسه، وأفاد منه، واستعظم رتبته في العلم. وكان ابن عبد السلام يصغي إليه ويؤثر محله، ويعرف حقه، حتى لقد زعموا أنه كان يخلو به في بيته، فيقرأ عليه فصل التصوّف من كتاب الإشارات لابن سينا، بما كان هو أحكم ذلك الكتاب على شيخنا  الآبلي؛ وقرأ عليه كثيراً من كتاب الشفاء لابن سينا، ومن تلاخيص كتب أرسطو لابن رشد، ومن الحساب والهندسة، والفرائض، علاوة على ما كان يحمله من الفقه والعربية وسائر علوم الشريعة. وكانت له في كتب الخلافيات يد طولى، وقدم عالية، فعرف له ابن عبد السلام ذلك كله، وأوجب حقه وانقلب إلى تلمسان؛ وانتصب لتدريس العلم وبثه، فملأ المغرب معارف وتلاميذ، إلى اضطراب المغرب، بعد واقعة القيروان؛ ثم هلك السلطان أبو الحسن، وزحف ابنه أبو عنان، إلى تلمسان؛ فملكها، سنة ثلاث وخمسين؛ فاستخلص الشريف أبا عبد الله، واختاره لمجلسه العلمي، مع من اختار من المشيخة. ورحل به إلى فاس، فتبرم الى شريف من الاغتراب، وردّد الشكوى فأحفظ السلطان بذلك، وارتاب به. ثم بلغه أثناء ذلك أنّ عثمان بن عبد الرحمن، سلطان تلمسان، أوصاه على ولده، وأودع له مالاً عند بعض الأعيان من أهل تلمسان، وأن الشريف مطلع على ذلك فانتزع الوديعة، وسخط الشريف بذلك ونكبه، وأقام في اعتقاله أشهراً، ثم أطلقه أول ست وخمسين وسبعمائة وأقصاه، ثم أعتبه بعد فتح قسنطينة وأعاده إلى مجلسه، إلى أن هلك السلطان، آخر تسع وخمسين وسبعمائة.

 

وملك أبو حمّو بن يوسف بن عبد الرحمن تلمسان من يد بني مرين، واستدعى الشريف من فاس، فسرحه القائم بالأمر يومئذ، الوزير عمر بن عبد الله فانطلق إلى تلمساني. وتلقاه أبو حمّو براحتيه، وأصهر له في ابنته، فزوجها إياه، وبنى له مدرسة جعل في بعض جوانبها مدفن أبيه وعمه. وأقام الشريف يدرس العلم إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين. وأخبرني رحمه الله، إن مولده سنة عشر وسبعمائة .

 

ومنهم صاحبنا الكاتب القاضي أبو القاسم محمد بن يحى البرجي من برجة الأندلس. كان كاتب السلطان أبي عنان، وصاحب الإنشاء والسر في دولته، وكان مختصًّاً به، وأثيراً لديه. وأصله من برجة الأندلس، نشأ بها، واجتهد في العلم والتحصيل، وقرأ، وسمع، وتفقه على مشيخة الأندلس، واستبحر في الأدب، وبرز في النظم والنثر. وكان لا يجارى في كرم الطباع، وحسن المعاشرة، ولين الجانب، وبذل البشر والمعروف.

 وارتحل إلى بجاية في عشر الأربعين والسبعمائة، وبها الأمير أبو زكرياء ابن السلطان أبي يحيى، منفرداً بملكها، على حين أقفر من رسم الكتابة والبلاغة، فبادرت أهل الدولة إلى اصطفائه، وإيثاره بخطة الإنشاء، والكتاب عن السلطان، إلى أن هلك الأمير أبو زكريا، ونصب ابنه محمّد مكانه، فكتب عنه على رسمه ثم هلك السلطان أبو يحيى، وزحف السلطان أبو الحسن إلى أفريقية، واستولى على بجاية، ونقل الأمير محمداً بأهله وحاشيته إلى تلمسان، كما تقدّم في أخباره. فنزل أبو القاسم البرجي تلمسان وأقام بها، واتصل خبره بأبي عنان، ابن السلطان أبي الحسن، وهو يومئذ أميرها. ولقيه، فوقع من قلبه بمكان، إلى أن كانت واقعة القيروان.

 

وخلع أبو عنان، واستبدّ بالأمر، فاستكتبه وحمله إلى المغرب، ولم يسم به إلى العلامة، لأنه آثر بها محمد بن أبي عمر بما كان أبوه يعلّمه القرآن والعلم. وربّي محمد بداره، فولاه العلامة، والبرجي مرادف له في رياسته، إلى أن انقرضوا جميعاً. وهلك السلطان أبو عنان، واستولى أخوه أبو سالم على ملك المغرب وغلب ابن مرزوق على هواه كما قدّمناه؛ فنقل البرجي من الكتابة، واستعمله في قضاء العساكر، فلم يزل على القضاء، إلى أن هلك سنة ست وثمانين وسبعمائة. وأخبرني رحمه الله أن مولده سنة عشر وسبعمائة.

 

ومنهم: شيخنا المعمّر الرحالة أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق شيخ وقته جلالة وتربية وعلماً وخبرةً بأهل بلده، وعظمة فيهم. نشأ بفاس، وأخذ عن مشيختها. وارتحل إلى تونس فلقي القاضي أبا إسحق بن عبد الرفيع، والقاضي أبا عبد الله النفزاوي، وأهل طبقتهما. وأخذ عنهم، وتفقّه عليهم، ورجع إلى المغرب. ولازم سنن الأكابر والمشايخ، إلى أن ولاّه السلطان أبو الحسن القضاء بمدينة فاس فأقام على ذلك، إلى أن جاء السلطان أبو عنان من تلمسان، بعد واقعة القيروان، وخلعه أباه، فعزله بالفقيه أبي عبد الله المغربى، وأقام عطلا في بيته.

 

ولما جمع السلطان مشيخة العلم للتحليق بمجلسه، والإفادة منهم، واستدعى شيخنا أبا عبد الله بن عبد الرزاق فكان يأخذ عنه الحديث، ويقرأ عليه القرآن برواياته، في مجلس خاص إلى أن هلك، رحمه الله، بين يدي مهلك السلطان أبي عنان. إلى آخرين، وآخرين، من أهل المغرب والأندلس، كلهم لقيت وذاكرت وأفدت منه، وأجازني بالإجازة العامّة.

 

حدوث النكبة من السلطان أبي عنان:

كان اتصالي بالسلطان أبي عنان، آخر  سنة ست وخمسين وسبعمائة، وقربني وأدناني، واستعملني في كتابته، حتى تكدر جوي عنده، بعد أن كان لا يعبر عن صفائه؛ ثم اعتلّ السلطان، آخر سبع وخمسين وسبعمائة، وكان قد حصلت بيني و بين الأمير محمد صاحب بجاية من الموحّدين مداخلة، أحكمها ما كان لسلفي في دولتهم. وغفلت عن التحفّظ في مثل ذلك، من غَيْرة السلطان، فما هو إلا أن شغل بوجعه، حتى نمى إليه بعض الغواة، أنّ صاحب بجاية، معتمل في الفرار ليسترجع بلده، وبها يومئذ وزيره الكبير، عبد الله بن عليّ؛ فانبعث السلطان لذلك، وبادر بالقبض عليه. وكان فيما نمي إليه، أني داخلته في ذلك؛ فقبض عليّ، وامتحنني وحبسني، وذلك في ثامن عشر صفر، سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. ثم أطلق الأمير محمداً، وما زلت أنا في اعتقاله، إلى أن هلك. وخاطبتُه بين يدي مَهْلكه، مستعطفأ بقصيدة أولها:

على أي حال لليالي أعاتـــــب                     وأي صروف للزمان أغالب

كفى حزناً إني على القرب نــازحٌ                 وأني على دعوى شهُودي غائبُ

وأني على حكم الحوادث نـــازل                   تسالمني طوراً وطورأ تحـارب

ومنها في التشوق:

سلوتهم إلا ادكار معاهــــــد                         لها في الليالي الغابرات غرائبُ

وإنّ نسيم الريح منهم يشوقنـــي                 إليهم وتصبيني البُروق اللواعبُ

وهي طويلة، نحو مائتين بيتاً، ذهبت عن حفظي، فكان لها منه موّقع، وهَشَّ لها. وكان بتلمسان فوعَد بالإفراج عني عند حلوله بفاس، ولخمس ليال من حلوله طرقَه الوجع. وهلك لخمسَ عشرة ليلة، في رابع وعشرين ذي الحجّة، خاتم تسع وخمسين وسبعمائة. وبادر القائم بالدولة، الوزير الحسن بن عُمَر إلى إطلاق جماعة من المعتقلين، كنت فيهم، فخلع عليَّ، وحملني، وأعادني إلى ما كنتُ عليه. وطلبتُ منه الإنصراف إلى بلدي، فأبىَ عليَّ، وعاملني بوجوه كرامته، ومذاهب إحسانه، إلى أن اضطرب أمُره، وانتقض عليه بنو مرين، وكان ما قدَّمناه في أخبارهم.

 

الكتابة عن السلطان أبي سالم في السر والانشاء:

ولما أجاز السلطان أبو سالم من الأندلُس لطلب مُلكه، ونزَل بجبل الصَّفيحة من بلاد غُماره. وكان الخطيب ابن مرزوق بفاس، فبثَّ دعوته سراً، واستعان بي على أمره، بما كان بيني وبين أشياخ بني مرين من المحبَّة والائتلاف؛ فحملتُ الكثير منهم على ذلك، وأجابوني إليه، وأنا يومئذ أكتب عن القائم بأمر بني مرين منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق، وقد نصبوه للملك، وحاصروا الوزير الحسن بن عُمر، وسلطانه السَّعيد ابن أبي عِنَان، بالبلد الجديد. فقصدني ابنُ مرزوق في ذلك، وأوصل إليَّ كتاب السلطان أبي سالم. بالحضّ على ذلك، وإجمال الوعد فيه. وألقى عليَّ حمله؛ فنهَضت به، وتقدّمتُ إلى شيوخ بني مرين، وأمراء الدولة بالتحريض على ذلك، حتى أجابوا، وبعث ابنُ مرزوق إلى الحسن بن عُمَر، يدعو إلى طاعة السلطان أبي سالم، وقد ضجر من الحصار؛ فبادر إلى الإجابة. واتفق رأي بَني مرين على الانفضاض عن منصور بن سُليمان، والدخول إلى البلد الجديد؛ فلما تمّ عقدُهم على ذلك نزعتُ إلى السلطان أبي سالم في طائفة من وجوه أهل الدولة، كان منهم محمد بن عثمان بن الكاس، المستبدّ بعد ذلك بمُلك المغرب على سلطانه، وكان ذلك النُّزوع مبدأ حظّه، وفاتحة رياسته، بسِعايتي له عند السلطان. فلما قدمِتُ على السلطان بالصَّفِيحة، بما عندي من أخبار الدولة، وما أجمعوا عليه من خَلْع منصور بن سليمان، وبالموعد الذي ضربوه لذلك، واستحثثته. فارتحل، ولقِيَنا البشيرُ بإجفال منصور بن سليمان، وفراره إلى نواح بادِس، ودخول بني مرين إلى البلد الجديد، وإظهار الحسن بن عُمر دَعوةَ السلطان أبي سالم. ثم لقِيَتنا، بالقصر الكبير، قبائلُ السلطان، وعساكرُه، على راياتهم، ووزيرُ منصور بن سليمان، وهو مسعود بن رَحُّو بن مَاسَايْ؛ فتلقّاه السلطان بالكرامة كما يجب له، واستوزره نائباً للحسن بن يوسف بن عليّ بن محمد الورتاجني السابق إلى وزارته، لقِيَه بسبتة، وقد غرّ به منصور بن سليمان إلى الأندلس، فاستوزره واستكفاه.

 

ولما اجتمعت العساكر عنده بالقصر، صَعِد إلى فاس. ولقيه الحسن بن عمر بظاهرها؛ فأعطاه طاعته، ودخل إلى دار ملكه وأنا في ركابه، لخمس عشرة ليلة من نزوعى إليه، منتصف شعبان سنة ستين وسبعمائة؛ فرعى لي السابقة، واستعملني في كتابة سرّه، والترسيل عنه، والإنشاء لمخاطباته، وكان أكثرها يصدر عني بالكلام المرسل، أن يشاركني أحد ممن ينتحل الكتابة في الاسجاع، لضعف انتحالها، وخفاء المعاني منها على أكثر الناس، بخلاف غير المرسل، فانفردت به يومئذ، وكان مستغرباً عند من هم  أهل الصناعة.

 

ثم أخذت نفسي بالشعر، وانثال عليّ منه بحور، توسطت بين الإجادة والقصور، وكان مما أنشدته إيّاه، ليلة المولد النبوي من سنة اثنتين وستين وسبعمائة:

أسرفن في هجري وفي تعذيبـــــي               وأطلن موقف عبرتي ونحيبي

وأبين يوم البين وقفة ساعـــــــة                  لوداع مشغوف الفؤاد كئيب

لله عهد الظاعنين وغـــــــادروا                      قلبي رهين صبابة ووجيب

غربت ركائبهم ودمعي سافــــــح                  فشرقت بعدهم بماء غروب

يا ناقعا بالعتب غلة شوقهـــــــم                   رحماك في عذلي وفي تأنيبي

يستعذب الصب الملام وإننــــــي                  ماء الملام لدي غير شروب

ما هاجني طرب ولا اعتاد الجــــوى               لو لا تذكر منزل وحبيب

أصبوا إلى أطلالٍ كانت مطلعـــــاً                   للبدر منهم أو كناس ربيب

عبثت بها أيدي البلى وتـــــرددت                  في عطفها للدهر أي خطوب

تبلى معاهدها وإن عهودهـــــــا                   ليجدها وصفي وحسن نسيبي

واذا الديار تعرضت لمتيــــــــم                       هزته ذكراها إلى التشبيب

إيه عن الصبر الجميل فإنـــــــه                     ألوى بدين فؤادي المنهوب

لم أنسها والدهر يثني صرفــــــه                  ويغض طرفي حاسد ورقيب

والدار مونقة محاسنها بمـــــــا                     لبست من الأيام كلى قشيب

يا سائق الأظعان يعتسف الفـــــلا                ويواصل الأسآد بالتأويب

متهافتاً عن رحل كل مذلـــــــل                     نشوان من أين ومس لغوب

تتجاذب النفحات فضل ردائــــــه                    في ملتقاها من صبا وجنوب

إن هام من ظمإ الصبابة ضحبـــــه                نهلوا بمورد دمعه المسكوب

أو تعترض مسراهم سدف الدجــــى              صدعوا الدجى بغرامه المشبوب

في كل شعب منية من دونهــــــا                  هجر الأماني أو لقاء شعوب

هلا عطفت صدورهن إلى التـــــي                فيها لبانة أعين وقلوب

فتؤم من أكناف يثرب مأمنـــــــاً                    يكفيك ما تخشاه من تثريب

حيث النبوة آيها مجلـــــــــوة                    تتلو من الآثار كل غريب

سر عجيب لم يحجبه الثـــــــرى                   ما كان سر الله بالمحجوب

 

ومنها بعد تعديد معجزاته صلى الله عليه وسلم، والإطناب في مدحه:

إني دعوتك واثقاً بإجابتــــــي              يا خير مدعو وخير مجيب

قصرت في مدحي فإن يك طيبـــاً                  فبما لذكرك من أريج الطيب

ماذا عسى يبغي المطيل وقد حــوى             في مدحك القرآن كل مطيب

يا هل تبلغني الليالـــــــي زورةً                    تدني إليّ الفوز بالمرغوب

أمحو خطيئاتي بإخلاصي بهــــــا                  وأحط  أوزاري وإصر ذنوبي

في فتية هجروا المنى وتعـــــودوا                 إنضاء كل نجيبة ونجيب

يطوي صحائف ليلهم نوق الفـــــلا                 ما شئت من خببٍ ومن تقريب

إن رنم الحادي بذكــــــرك رددوا                     أنفاس مشتاق إليك طروب

أو غرد الركب الخلي بطيبــــــة                     حنوا لمغناها حنين النيب

ورثوا اعتساف البيد عن آبائهـــــم                 إرث الخلافة في بني يعقوب

الظاعنون الخيل وهي عوابـــــس                  يغشى مثار النقع كل سبيب

والواهبين المقربات صوافنــــــاً                     من كل خوار العنان لعوب

والمانعين الجار حتى عرضــــــه                    في منتددى الاعداء غير معيب

تخشى بوادرهم ويرجى حلمهـــــم              والعز شيمة مرتجىً ومهيب

 

ومنها في ذكر إجازته البحر، واستيلائه على ملكه:

سائل به طامي العباب وقد ســــرى              تزجيه ريح العزم ذات هبوب

تهديه سهب أسنة وعزائــــــــم                    يصدعن ليلى الحادث المرهوب

حتى انجلت ظلم الضلال بسعيـــــه              وسطا الهدى بفريقها المغلوب

يابن الألى شادوا الخلافة بالتقـــــى             واستأثروك بتاجها المغصوب

جمعوا الحفظ الدين أفي مناقــــــبٍ               كرموا بها في مشهد ومغيب

لله مجدك طارفاً أو تالـــــــــداً                        فلقد شهدنا منهن كل عجيب

كم رهبة أو رغبة بك والعلـــــــى                  تقتاد بالترغيب والترهيب

لا زلت مسروراً بأشرف دولــــــة                    يبدو الهدى من أفقها المرقوب

تحمي المعالي غاديا أو رائحــــــاً                  وحديد سعدك ضامن المطلوب

 

ومن قصيدة خاطبته بها عند وصول هدية ملك السودان إليه، وفيها الحيوان الغريب المسمى بالزرافة:

قدحت يد الأشواق من زنــــــدي                   وهفت بقلبي زفرة الوجد

ونبذت سلواني على ثقـــــــــة                    بالقرب فاستبدلت بالبعد

ولرب وصل كنت آملـــــــــه                           فاعتضت منه بمؤلمٍ الصد

لا عهد عند الصبر اطلبــــــــه                       إن الغرام أضاع من عهدي

يلحى العدول فما أعنفـــــــــه                    وأقول ضل فأبتغي رشدي|

وأعارض النفحات أسألهــــــــا                       برد الجوى فتزيد في الوقد

يهدى الغرام إلى مسالكهــــــــا                    لتعللي بضعيف ما تهدي

يا سائق الأظعان معتسفــــــــاً                    طي الفلاة لطية الوجد\

أرح الركاب ففي الصبا نبـــــــأً                       يغني عن المستنة الجرد

وسل الربوع برامة خبــــــــراً                    عن ساكني نجد وعن نجد

مالي تلام على الهوى خلقـــــــي                وهي التي تأبى سوى الحمد

لأبيت إلا الرشد مذ وضحــــــت                     بالمستعين معالم الرشد

نعم الخليفة في هدى وتقـــــــى                 وبناء عز شامخ الطود

نجل السراة الغر شأنهـــــــــم                 كسب العلى بمواهب الوجد

 

ومنها في ذكر خلوصي إليه، وما ارتكبته فيه:

لله مني إذ تأوبنـــــــــي                  ذكراه وهو بشاهق فرد

شهم يفل بواتراً قضبـــــــاً               وجموع أقيالٍ أولي أيد

أوريت زند العزم في طلبــــي           وقضيت حق المجد من قصدي

ووردت عن ظمأ مناهلــــــه             فرويت من عز ومن رفد

هي جنة المأوى لمن كلفـــــت        آماله بمطالب المجد

لو لم أغل بورد كوثرهــــــا               ما قلت هذي جنة الخلد

من مبلغ قومي ودونهـــــــم             قذف النوى وتنوفة البعد

أني أنفت على رجائهـــــــم                        وملكت عز جميعهم وحدي

ورقيمة الأعطاف حاليـــــــة              موشية بوشائح البرد

وحشية الأنساب ما أنســــــت                    في موحش البيداء بالقود

تسمو بجيد بالغ صعـــــــداً              شرف الصروح بغير ما جهد

طالت رءوس الشامخات بــــه          ولربما قصرت عن الوهد

قطعت إليك تنائفاً وصلـــــت             إسآدها بالنص والوخد

تخدي على استصعابها ذلــــلاً         وتبيت طوع القن والقد

بسعودك اللأتي ضمن لنـــــا              طول الحياة بعيشه رغد

جاءتك في وفد الأحابــــش لا             يرجون غيرك مكرم الوفد

وافوك أنضاء تقلبهـــــــم                  أندي السرى بالغور والنجد

كالطيف يستقري مضاجعــــه           أو كالحسام يسل من غمد

يثنون بالحسنى التي سبقــــت                  من غير إنكار ولا جحد

ويرون لحظك من ونادتهــــم             نخراً على الاتراك والهند

يامستعيناً جل في شـــــرف                 عن رتبة المنصور والمهدي

جازاك ربك عن خليقتـــــه               خير الجزاء فنعم ما يسدي

وبقيت للدنيا وساكنهــــــا               في عزةٍ أبداً وفي سعد

وأنشدته في سائر أيامه غير هاتين القصيدتين كثيراً، لم يحضرني الآن شيء منه.

 

ثم غلب ابن مرزوق على هواه، وانفرد بمخالطته، وكبح الشكائم عن قربه؛ فانقبضت، وقصرت الخطو، مع البقاء على ما كنت فيه من كتابة سره، وإنشاء مخاطباته ومراسمه.

 

ثم ولأني آخر الدولة "خطة المظالم "، فوفيتها حقها، ودفعت للكثير مما أرجو وثوابه. ولم يزل ابن مرزوق آخذاً في سعايته بي وبأمثالي من أهل الدولة، غيرة ومنافسة، لى أن انتقض الأمر على السلطان بسببه. وثار الوزير عمر بن عبد الله بدار المفك؛ فصار ليه الناس، ونبذوا السلطان وبيعته، وكان في ذلك هلاكه، على من ذكرناه في أخبارهم.

 

 ولما مقام الوزير ضر بالأمر، أقرني على ما كنت عليه، ووفر إقطاعي، وزاد في جرايتي؛ وكنت أسمو، بطغيان الشباب، إلى أرفع مما كنت فيه، وأدل في ذلك بسابقة مودة معه، منذ أيام السلطان أبي عنان، وصحابة استحكم عقدها بيني وبينه، وبين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية، فكان ثالث آثافينا، ومصقلة فكاهتنا. واشتدت غيرة سلطان لذلك كما مرّ، وسطا بنا، وتغافل عن غفر بن عبد الله لمكان أبيه من ثغر بجاية؛ ثم حملني الإدلال عليه أيام سلطانه، وما ارتكبه في حي من القصور بي عما أسمو إليه، إلى أن هجرته، وقعدت عن دار السلطان، مغاضباً له؛ فتنكل لي، وأقطعني جانباً من الأعراض؛ فطلبت الرحلة إلى بلدي بإفريقية. وكان بنو عبد الواد قد راجعوا ملكهم بتلمسان، والمغرب الأوسط، فمنعني من ذلك، أن يغتبط أبو حمّو صاحب تلمسان بمكاني، فأقيم عنده. ولج في المنع من ذلك، وأبيت أنا إلا الرحلة؛ واستجرت في ذلك برديفه وصديقا، الوزير مسعود بن رحو بن ماساي، ودخلت عليه يوم الفطر، سنة ثلاث وستين وسبعمائة. فأنشدته:

هنيئاً لصوم لاعداه قبـــــول                         وبشرى بعيد أنت فيه منيل

وهنئتها من عزة وسعـــــادة                       تتابع أعوام بها وفصول

سقى الله دهراً أنص إنسان عينه                 ولا مس ربعاً في حمال محول

فعصرك ما بين الليالي مواسـم                    لها غرر وضاحة وحجول

وجانبك المأمول للجود مشـرع                     يحوم عليه عالم وجهول

عساك، وإن ضن الزمان منولي                    فرسم الأماني من سواك محيل

أجرني فليس الدهر لي بمسالـم                 إذا لم يكن لي في ذراك مقيل

وأوليتني الحسنى بما أنا آمــل                    فمثلك يؤلى راجياً وينيل

ووالله ما رمت الترحل عن قلى                     ولا سخطةً للعيش فهو جزيل

ولا رغبةً عن هذه الدار إنهــا                        لظل على هذا الأنام ظليل

ولكن نأى بالشعب عني حبائـب                  شجاهن خطب للفراق طويل

يهيج بهن الوجد أني نـــازح             وأن فؤادي حيث هن حلول

عزيز عليهن الذي قد لقيتـــه                        وأن اغترابي في البلاد يطول

توارت بأنبائي البقاع كأننـــي                      تخطفت أو غالت ركابي غول

ذكرتك يا مغنى الأحبة والهـوى         فطارت لقلبي أنة وعويل

وحببت عن سوق رباك كأنمـــــــا                  يمثل لي نؤي بها وطلول

أحبابنا والعهد بيني وبينكـــــــــم                  كريم وما عهد الكريم يحول

إذا أنا لم ترض الحمّول مدامعــــــي               فلا قربتني للقاء حمّول

إلام مقامي حيث لم ترد العـــــــلا                 مرادي ولم تعط القياد ذلول

أجاذب فضل العمر يوماً وليلـــــةً                    وساء صباح بينها وأصيل

ويذهب بي ما بين يأس ومطمــــع                زمان بنيل المعلوات بخيل

تعللني عنه أمان خــــــــوادع                       ويؤنسني ليان منه مطول

أما لليالي لا ترد خطوبهـــــــا                       ففي كبدي من وقعهن فلول

يروعني من صرفها كل حــــادث                    تكاد له صم البلاد تزول

أداري على الرغم العدى لا لريبـــة                يصانع واشٍ خوفها وعذول

وأغدو بأشجاني عليلاً كأنمــــــا                    تجود بنفسي زفرة وغليل

وإنى وإن أصبحت في دار غربـــة                  تحيل الليالي سلوتي وتديل

وصدتني الأيام عن خير منـــــزل                   عهدت به أن لا يضام نزيل

لأعلم أن الخير والشر ينتهــــــي                  مداه وأن الله سوف يديل

وأني عزيز بابن ماساي مكثــــــر                   وإن هان أنصار وبان خليل

فأعانني الوزير مسعود عليه، حتى أذن لي في الانطلاق على شريطة العدول عن تلمسان، في أي مذهب أردت، فاخترت الأندلس، وصرفت ولدي وأمهم إلى أخوالهم، أولاد القائد محمد بن الحكيم بقسنطينة، فاتح أربع وستين وسبعمائة. وجعلت أنا طريقي على الأندلس، وكان سلطانها أبو عبد الله المخلوع، حين وفد على السلطان أبي سالم بفاس، وأقام عنده، حصلت لي معه سابقة وصلة ووسيلة خدمة، من جهة وزيره أبي عبد الله لن الخطيب، وما كان بيني وبينه من الصحابة، فكنت أقوم بخدمته، وأعتمل في قضاء حاجاته في الدولة. ولما أجاز، باستدعاء الطاغية لاسترجاع ملكه، حين فسد ما بين الطاغية وبين الرئيس المتوثب عليه بالأندلس من قرابته، خلفته فيما ترك من عياله وولده بفاس، خير خلف؛ في قضاء حاجاتهم، وإدرار أرزاقهم، من المتولين لها، والاستخدام لهم. ثم فسد ما بين الطاغية وبينه، قبل ظفره بملكه، برجوعه عما اشترطه له؛ من التجافي عن حصون المسلمين التي تملكها بأجلابه؛ ففارفي إلى بلد المسلمين، ونزلى بأسجة. وكتب إلى عمر بن عبد الله يطلب.

 

مصراً ينزله، من أمصار الأندلس الغربية، التي كانت ركابا لملوك المغرب في جهادهم. وخاطبني أنا في ذلك، فكنت له نعم الوسيلة عند عمر، حتى تم قصده من ذلك. وتجافى عن رندة وأعمالها؛ فنزلها وتملكها، وكانت دار هجرته، وركاب فتحه؛ وملك منها الأندلس أواسط ثلاث وستين وسبعمائة، واستوحشت أنا من عمر، إثر ذلك كما مرّ. وارتحلت إليه، معولاً على سوابقي عنده، فغرب في المكافأة كما نذكر إن شاء الله تعالى.

 

الرحلة الى الاندلس:

ولما أجمعت الرحلة إلى الأندلس، بعثت بأهلي وولدي إلى أخوالهم بقسنطينة، وكتبت لهم إلى صاحبها السلطان أبي العباس، من حفدة السلطان أبي يحيى، وأني أمر على الأندلس، وأجيز إليه من هنالك. وسرت إلى سبتة فرضة المجاز، وكبيرها يومئذ الشريف أبو العباس أحمد بن الشريف الحسني، ذو النسب الواضح، السالم من الريبة عند كافة أهل المغرب؛ انتقل سلفه إلى سبتة من صقلية، وأكرمهم بنو العزفي أولاً وصاهروهم. ثم عظم صيتهم في البلد، فتنكروا لهم. وغربهم يحيى العزفي آخرهم إلى الجزيرة؛ فاعترضتهم مراكب النصارى في الزقاق؛ فأسروهم. وانتدب السلطان أبو سعيد إلى فديتهم، رعاية لشرفهم؛ فبعث إلى النصارى في ذلك فأجابوه. وفادى هذا الرجل وأباه على ثلاثة آلاف دينار، ورجعوا إلى سبتة. وانقرض بنو العزفي  ودولتهم، وهل والد الشريف، وصار هو إلى رياسة الشورى. ولما كانت واقعة القيروان، وخلع أبو عنان أباه، واستولى على المغرب، وكان بسبتة عبد الله بن علي الوزير، والياً من قبل السلطان أبي الحسن، فتمسك بدعوته، ومال أهل البلد إلى السلطان أبي عنان. وبث فيهم الشريف دعوته؛ فثاروا بالوزير وأخرجوه، ووفدوا على أبي عنان. وأمكنوه من بلدهم؛ فولى عليها من عظماء دولته سعيد بن موسى العجيسي؛ كافل تربيته في صغره. و أفرد هذا الشريف برياسة الشورى في سبتة؛ فلم يكن يقطع أمر دونه. ووفد على السلطان بعض الأيام، فتلقاه من الكرامة بما لا يشاركه فيه أحد من وفود الملوك والعظماء. ولم يزل على ذلك سائر أيام السلطان وبعد وفاته. وكان معظماً وقور المجلس، هش اللقاء، كريم الوفادة، متحلياً بالعلم والأدب، منتحلاً للشعر، غاية في الكرم وحسن العهد، وسذاجة النفس، ولما مررت به سنة أربع وستين وسبعمائة، أنزلني ببيته إزاء المسجد الجامع، وبلوت منه ما لا يقدر مثله من الملوك، وأركبني الحراقة ليلة سفري؛ يباشر دحرجتها إلى الماء بيده، إغراباً في الفضل والمساهمة. وحططت بجبل الفتح وهو يومئذ لصاحب المغرب. ثم خرجت منه إلى غرناطة، وكتبت إلى السلطان ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب بشأني. وليلة بت بقرب غرناطة على بريد منها، لقيني كتاب ابن الخطيب يهنئني بالقدوم ويؤنسني، ونصه:

 

حللت حلول الغيث بالبلد المحـــــل               على الطائر الميمون والرحب والسهل

يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهــــــه                 من الشيخ والطفل المهدا والكهل

لقد نشأت عندي للقياك غبطــــــة               تنسي اغتباطي بالشبيبة والأهل

وودي لا يحتاج فيه لشاهــــــــد                    وتقريري المعلوم ضرب من الجهل

 أقسمت بمن حجت قريش لبيته، وقبر صرفت؛ أزمة الأحياء لميته، ونور ضربت الأمثال بمشكاته رزيته. لو خيرت أيها الحبيب الذي زيارته الأمنية السنية، والعارفة الوارفة، والمطيفة المطيفة، بين رجع الشباب يقطر ماء، ويرف نماء، ويغازل عيون الكواكب، فضلاً عن الكواعب، إشارة وإيماء، بحيث لا آلو في خط يلم بسياج لمته، أو بقدح ذباله في ظلمته، أو يقدم حواريه في ملته، من الأحابش وأفته، وزمانة روح وراح، ومغدىً في النعيم ومراح، وقصف صراح، ورقى وجراح، وانتخاب واقتراح، وصدور ما بها إلا انشراح، ومسرات تردفها أفراح؛ وبين قدومك خليع الرسن، ممتعاً  والحمد لله باليقظة والوسن، محكما في نسك الجنيد أو فتك الحسن، ممتعاً بظرف المعارف، مالئاً أكف الصيارف، ماحياً بأنوار البراهين شبه الزخارف لما اخترت الشباب وإن شاقني زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحاب دمعي دمنه. فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي، وملكبني أزمة آرابي، وغبطني بمائي وترابي، ومألف أترابي، وقد أغصني بلذيذ شرابي، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي. وعجلت هذه مغبطة بمناخ الماطية، منتهى الطية، وملتقى للسعود غير البطية، وتهني الآمال الوثيرة الوطية. فما شئت من نفوس عاطشة إلى ربك، متجملة بزيك، عاقلة خطاً مهريك؛ ومولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومظان مثالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، وشمع فضل مجدك في التخلف عن الإصحار، لا، بل للقاء من وراء البحار، والسلام.

 

ثم أصبحت من الغد قادما على البلد، وذلك ثامن ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة، وقد اهتز السلطان لقدومي، وهيأ لي المنزل من قصوره، بفرشه وماعونه، وأركب خاضته للقائي، تحفياً وبراً، ومجازاة بالحسنى؛ ثم دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك، وخلع علي وانصرفت. وخرج الوزير ابن الخطيب فشيعني إلى مكان نزلي؛ ثم نظمني في علية أهل مجلسه، واختصني بالنجي في خلوته، والمواكبة في ركوبه، والمواكلة والمطايبة والفكاهة في خلوات أنسه؛ وأقمت على ذلك عنده؛ وسفرت عنه سنة خمس وستين وسبعمائة إلى الطاغية ملك قشتالة يومئذ؛ بتره بن الهنشه بن أذفونش، لإتمام عقد الصلح ما بينه وبين ملوك العدوة، بهدية فاخرة، من ثياب الحرير، والجياد المقربات بمراكب الذهب الثقيلة؛ فلقيت الطاغية بإشبيلية، وعاينت آثار سلفي بها، وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه، وأظهر الاغتباط بمكاني، وعلم أولية سلفنا بإشبيلية. وأثنى علي عنده طبيبه إبراهيم بن زرور اليهودي، المقدم في الطب والنجامة، وكان لقيني بمجلس السلطان أبي عنان، وقد استدعاه يستطبه، وهو يومئذ بدار ابن الأحمر بالأندلس. ثم نزع بعد مهلك رضوان القائم بدولتهم إلى الطاغية؛  فأقام عنده، ونظمه في أطبائه. فلما قدمت أنا عليه، أثنى علي عنده، فطلب الطاغية مني حينئذ المقام عنده، وأن يرد علي تراث سلفي بإشبيلية، وكان بيد زعماء دولته، فتفاديت من ذلك بما قبله. ولم يزل على اغتباطه إلى أن انصرفت عنه؛ فزودني وحملني، واختصني ببغلة فارهة، بمركب ثقيل ولجام ذهبيين، أهديتهما إلى السلطان، فأقطعني قرية إلبيرة من إراضي السقي بمرج غرناطة، وكتب بها منشورا كان نصه:

 

ثم حضرت المولد النبوي لخامسة قدومي، وكان يحتفل في الصنيع فيها والدعوة، وإنشاد الشعراء، اقتداء بملوك المغرب، فأنشدته ليلتئذ:

حي المعاهد كانت قبل تحيينـــــي               بواكف الدمع يرويها ويظميني

إن الألى نزحت داري ودارهـــــم                   تحملوا القلب في آثارهم دوني

وقفت أنشد صبراً ضاع بعدهـــــم                  فيهم وأسأل رسماً لا يناجيني

أمثل الربع من شوق فألثمــــــه                   وكيف والفكر يدنيه ويقصيني

وينهب الوجد مني كل لؤلــــــؤة                    ما زال قلبي عليها غير مأمون

سقت جفوني مغاني الربع بعدهــــم                        فالدمع وقف على أطلاله الجون

قد كان للقلب داعي الهوى شغــــل              لو لأن قلبي إلى السلوان يدعوني

أحبابنا هل لعهد الوصل مدكـــــر                   منكم وهل نسمة عنكم تحييني

ما لي وللطيف لا يعتاد زائـــــره                    وللنسيم عليلاً لا يداويني

يا أهل نجد وما نجد وساكنهــــــا                  حسناً سوى جبة الفردوس والعين

أعندكم أنني ما مرّ ذكركــــــــم                     إلا انثنيت كأن الراح تثنيني

أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكـــم                شوقاً ولولاكم ما كان يصبيني

يا نازحاً والمنى تدنيه من خلـــــدي              حتى لأحسمه قرباً يناجيني

أسلى هواك فؤادي عن سواك ومــــا             سواك يوماً بحال عنك يسليني

ترى الليالي أنستك إدكاري يــــــا                 من لم تكن ذكره الأيام تنسيني

ومنها في وصف الايوان الذي بناه لجلوسه بين قصوره:

                يا مصنعاً شيدت منه السعود حمــــىً           لا يطرق الدهر مبناه بتوهين

صرح يحار لديه الطرف مفتتنـــــاً                   فيما يروقك من شكل وتلوين

بعداً لإيوان كسرى إن مشـــــورك                  السامي لأعظم من تلك الاواوين

  ودع دمشق ومغناها عصـــــرك ذا                  أشهى إلى القلب من أبواب جيرون

ومنها في التعريف بمنصرفي من العدوة:

من مبلغ عني الصحب الألى تركـــوا             ودي وضاع حماهم إذ أضاعوني

أني أويت من العليا إلى حــــــرم                  كادت مغانيه بالبشرى تحييني

وأنني ظاعناً لم ألق بعدهـــــــم                   دهرا أشاكي ولا خصماً يشاكيني

لا كالتي أخفرت عهدي ليالــــي إذ               أقلب الطرف بين الخوف والهون

سقياً ورعياً لأيامي التي ظفــــرت                يداي منها بحظ غير مغبون

ارتاد منها ملياً لا يماطلنـــــــي                    وعداً وارجو كريماً لا يعنينى

وهاك منها قواف طيها حكــــــم                    مثل الأزاهر في طي الرياحين

تلوح إن جليت درا وإن تليـــــت                     تثني عليك بأنفاس البساتين

عانيت منها بجهدي كل شـــــاردةٍ                 لولا سعودك ما كادت تواتين

يمانع الفكرعنها ما تقسمـــــــه                   من كل حزن بطي الصدر مكنون

لكن بسعدك ذلت لي شواردهـــــا                فرضت منها تجبير وتزيين

بقيت دهرك في أمن وفي دعـــــة                ودام ملكك في نصر وتمكين

وأنشدته سنة خمس وستين وسبعمائة في إعذار ولده، والصنيع الذي احتفل لهم فيه، ودعا إليه الجفلى من نواحي الأندلس، ولم يحضرني منها إلا ما أذكره:

صحا الشوق لولا عبرة ونحيــــب                   وذكرى تجد الوجد حين تثوب

وقلب أبى إلا الوفاء بعهـــــــده                      وإن نزحت دار وبان حبيب

ولته مني بعد حادثة النـــــــوى                    فؤاد لتذكار العهود طروب

يؤرقه طيف الخيال إذا ســـــرى                    وتذكي حشاه نفحة وهبوب

خليلي إلا تسعدا فدعا الأســــــى                فإني لما يدعو الأسى لمجيب

ألما على الأطلال يقض حقوقهــــا                 من الدمع فياض الشئون سكوب

ولا تعذلاني في البكاء فإنهــــــا                    حشاشة نفسي في الدموع تذوب

ومنها في تقدم ولده للأعذار من غير نكول:

فيمم منه الحفل لا متقاعــــس             لخطب ولانكسر اللقاء هيوب

وراح كما راح الحسام من الوغى                  تروق حلاه والفرند خضيب

شواهد اهدتهن منك شمائـــل                     وخلق بصفو المجد منك مشوب

 ومنها في الثناء على ولديه:

هما النيران الطالعان على الهدى                 بآيات فتح شأنهن عجيب

شهابان في الهيجا غمامان في الندى                      تسح المعالي منهما وتصوب

يدان لبسط المكرمات نماهمــــا                   إلى المجد فياض اليدين وهوب

وأنشدته ليلة المولد الكريم من هذه السنة:

أبى الطيف أن يعتاد إلا توهمـــــاً                  فمن لي بأن ألقى الخيالى المسلما

وقد كنت استهديه لو كان نافعـــــي              وأستمطر الأجفان لو تنقع الظما

ولكن خيال كاذب وطماعـــــــة                      تعلل قلباً بالأماني متيما

أيا صاحبي نجواي والحب لوعــــة                 تبيح بشكواها الضمير المكتما

خذا لفؤادي العهد من نفس الصبــــا              وطي النقا والبان من اجرع الحمى

ألا صنع الشوق الذي هو صانـــــع                 فحبي مقيم أقصر الشوق أو سما

وإني ليدعوني السلو تعلــــــــلاً                   وتنهاني الأشجان أن أتقدما

لمن دمن اقفرن إلا هواتـــــــف                     ترد في اطلالهن الترنما

عرفت بها سيما الهوى وتنكـــــرت                 فعجبت على آياتها متوسما

وذو الشوق يعتاد الربوع دوارســــاً                 ويعرف آثار الديار توهما

تأؤبني والليل بيني وبينــــــــه                     وميض بأطراف الثنايا تضرما

أجد لي العهد القديم كأنــــــــه                    أشار بتذكار العهود فأفهما

عجبت لمرتاع الجوانح خافـــــق                    بكيت له خلف الدجى وتبسما

وبت أرويه كؤوس مدامعــــــي                      وبات يعاطيني الحديث عن الحمى

وصافحته عن رسم دار بذي الغضـى              لبست بها ثوب الشبيبة معلما

لعهدي بها تدني الظباء أو انســــا                 وتطلع في آفاقها الغيد أنجما

أحن إليها حيث سار بي الهــــوى                 وأنجد رحلي في البلاد وأنهما

 

ولما استقر، واطمأنت الدار، وكان من السلطان الاغتباط والاستئثار وكثر الحنين إلى الأهل والتذكار، أمر باستقدام أهلي من مطرح اغترابهم بقسنطينة، فبعث عنهم من جاء بهم إلى تلمسان. وأمر قائد الاسطول بالمرية؛ فسار لاجازتهم في اسطوله، واحتلوا بالمرية. واستأذنت السلطان في تلقيهم، وقدمت بهم على الحضرة، بعد أن هيأت لهم المنزل والبستان، ودمنة الفلح، وسائر ضرورات المعاش.

 

وكتب الوزير ابن الخطيب عندما قاربت الحضرة، وقد كتبت إليه استأذنه في القدوم، وما أعتمده في أحواله: سيدي، قدمت بالطير الميامين، على البلد الأمين، واستضفت الرفاء إلى البنين، ومتعت بطول السنين. وصلتني البراءة المعربة عن كثب اللقاء، ودنو المزار، وذهاب البعد، وقرب الدار؛ واستفهم سيدي عفا عندي في القدوم على المخدوم، والحق أن بتقدم سيدي إلى الباب الكريم، في الوقت الذي يجد المجلس الجمهوري لم يفض حجيجه، ولا صوح بهيجه، ويصل الأهل بعده إلى المحل الذي هيأته السعادة لاستقرارهم، واختاره اليمن قبل اختيارهم، والسلام.

 

ثم لم يلبث الأعداء وأهل السعايات أن حملوا الوزير ابن الخطيب من ملابستي للسلطان، واشتماله علي، وحركوا له جواد الغيرة فتنكر. وشممت منه رائحة الانقباض، مع استبداده بالدولة، وتحكمه في سائر أحوالها؛ وجاءتني كتب السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية، بأنه استولى عليها في رمضان خمس وستين وسبعمائة. واستدعاني إليه؛ فاستأذنت السلطان ابن الأحمر في الارتحال إليه. وعميت عليه شأن ابن الخطيب إبقاء لمودته؛ فارتمض لذلك، ولم يسعه إلا الإسعاف، فودع وزود، وكتب لي مرسوماً بالتشييع من إملاء الوزير ابن الخطيب نصه:

هذا ظهير كريم، تضمن تشييعاً وترفيعاً، وإكراماً وإعظاماً، وكان لعمل الصنيعة ختاماً، وعلى الذي أحسن تماماً، وأشاد للمعتمد به بالاغتباط الذي راق قساما وتوفر أقسامأ، وأعلن له بالقبول إن نوى بعد النوى رجوعاً أو آثر على الظعن المزمع مقاماً.

 

أمر به، وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه، الأمير عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر، أيد الله أمره، وأعز نصره، وأعلى ذكره، للولي الجليس، الحظي المكين، المقرب الأود الأحب، الفقيه الجليل، الصدر الأوحد، الرئيس العلم، الفاضل الكامل، المرفع الأسمى، الأظهر الأرضى، الأخلص الأصفى، أبي زيد عبد الرحمن بن الشيخ الجليل، الحسيب الأصيل، الفقيه المرفع المعظم، الصدر الأوحد الأسنى، الأفضل الأكمل، الموقر المبرور، أبي يحيى أبي بكر، ابن الشيخ الجليل الكبير، الرفيع الماجد، القائد الحظي، المعظم الموقر، المبرور المرحوم، أبي عبد الله بن خلدون. وصل الله له أسباب السعادة، وبلغه من فضله أقصى الإرادة؛ أعلن بما عنده، أيده الله، من الاعتقاد الجميل في جانبه المرفع، وإن كان غنياً عن الإعلان. وأعرب عن معرفته بمقداره، في الحسبان العلماء الرؤساء الأعيان، وأشاد باتصال رضاه عن مقاصده البرة وشيمه الحسان، من لذن وفد بابه، وفادة العز الراسخ البنيان، وأقام المقام الذي عين له رفعة المكان، وإجلال الشان، إلى أن عزم على قصد وطنه، أبلغه الله ذلك في ظل اليمن والأمان، وكفالة الرحمن بعد الاغتباط المربى على الخبر بالعيان، والتمسك بجواره بجهد الإمكان، ثم قبول عذره بما جبلت الأنفس عليه من الحنين إلى المعاهد والأوطان. وبعد أن لم يذخر عنه كرامة رفيعة، ولم يحجب عنه وجه صنيعة، فولاه القيادة والسفارة، وأحله جليساً معتمداً بالإستشارة، وألبسه من الحظوة والتقريب أبهى الشارة، وجعل محله من حضرته مقصوداً بالمثل معنياً بالإشارة، ثم أصحبه تشييعاً يشهد بالضنانة بفراقه، ويجمع له بر الوجهة من جميع آفاقه، ويجعله بيده رتيمة خنصر، ووثيقة سامع أو مبصر؛ فمهما لوى أخدعه إلى هذه البلاد بعد قضاء وطره، وتمليه من نهمة سفره، أو نزع به حسن العهد وحنين الود، فصدر العناية به مشروح، وباب الرضا والقبول مفتوح، وما عهده من الحظوة والبر ممنوح. فما كان القصد في مثله من أمجاد الأولياء ليتحول، ولا الاعتقاد الكريم ليتبذل، ولا الأخير من الأحوال لينسخ الأول. على هذا فليطو ضميره، وليرد متى شاء نميره، ومن وقف عليه من القواد والأشياخ والخدام، برا وبحرا، على اختلاف الخطط والرتب، وتباين الأحوال والنسب، أن يعرفوا حق هذا الاعتقاد، في كل ما يحتاج إليه من تشييع ونزول؛ وإعانة وقبول، واعتناء موصول، إلى أن يكمل الغرض، ويؤدى من امتثال هذا الأمر الواجب المفترض، بحول الله وقوته.

 

وكتب في التاسع عشر من جمادى الأولى عام ستة وستين وسبعمائة .

وبعد التاريخ العلامة بخط السلطان، ونصها: "صح هذا".

الرحلة من الاندلس إلي بجاية، وولاية الحجابة بها علي الاستبداد:

كانت بجاية ثغرا لإفريقية في دولة بني أبي حفص من الموحدين. ولما صار أمرهم للسلطان أبي بكر بن يحيى منهم، واستقل بملك أفريقية، ولى في ثغر بجاية إبنه الأمير أبا زكريا، وفي ثغر قسنطينة ابنه الأمير عبد الله. وكان بنو عبد الواد ملوك تلمسان والمغرب الأوسط، ينازعونه في أعماله، ويحمرون العساكر على بجاية، ويجلبون على قسنطينة، إلى أن تمسك السلطان أبو بكر بذمة من السلطان أبي الحسن، ملك المغرب الأقصى من بني مرين، وله الشفوف على سائر ملوكهم. وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان؛ فأخذ بمخنقها سنتين أو أزيد، وملكها عنوة، وقتل سلطانها أبا تاشفين، وذلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وخف ما كان على الموحدين من إصر بني عبد الواد، واستقامت دولتهم. ثم هلك أبو عبد الله محمد ابن السلطان أبي يحيى بقسنطينة سنة أربعين وسبعمائة، وخلف سبعةً من الولد، كبيرهم أبو زيد عبد الرحمن، ثم أبو العباس أحمد، فولى الأمير أبا زيد مكان أبيه، في كفالة نبيل مولاهم. ثم توفي الأمير أبو زكريا ببجاية سنة ست وأربعين وسبعمائة، وخفف ثلاثة من الولد، كبيرهم أبو عبد الله محمد، وبعث السلطان أبو بكر ابنه الأمير أبا حفص عليها؛ فمال أهل بجاية إلى الأمير أبي عبد الله بن أبي زكريا، وانحرفوا عن الأمير عمر وأخرجوه. وبادر السلطان فرقع هذا الخرق، بولاية أبي عبد الله عليهم كما طلبوه. ثم توفي السلطان أبو بكر منتصف سبع وأربعين وسبعمائة وزحف أبو الحسن إلى أفريقية فملكها، ونقل الأمراء من بجاية وقسنطينة إلى المغرب. وأقطع لهم هنالك، إلى أن كانت حادثة القيروان، وخلع السلطان أبو عنان أباه. وارتحل من تلمسان، إلى فاس؛ فنقل معه هؤلاء الأمراء، أهل بجاية وقسنطينة، وخلطهم بنفسه، وبالغ في تكرمتهم. ثم صرفهم إلى ثغورهم: الأمير أبا عبد الله أولاً، وإخوته من تلمسان، وأبا زيد وإخوته من فاس، ليستبدوا بثغورهم، ويخذلوا الناس عن السلطان أبي الحسن؛ فوصلوا إلى بلادهم، وملكوها بعد أن كان الفضل ابن السلطان أبي بكر قد استولى عليها من يد بني مرين؛ فانتزعوها منه. واستقر أبو عبد الله ببجاية، حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بجبال المصامدة، وزحف أبو عنان إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة؛ فهزم ملوكها من بني عبد الواد، وأبادهم، ونزل المدية، وأطل على بجاية. وبادر الأمير أبو عبد الله للقائه، وشكا إليه ما يلقاه من زبون الجند والعرب، وقفة الجباية. وخرج له عن ثغر بجاية فملكها، وأنزل عماله بها. ونقل الأمير أبا عبد الله معه إلى المغرب؛ فلم يزل عنده في حفاية وكرامة. ولما قدمت على السلطان أبي عنان آخر خمس وخمسين وسبعمائة واستخلصني، نبضت عروق السوابق بين سلفي وسلف الأمير أبي عبد الله، واستدعاني للصحابة فأسرعت، وكان السلطان أبو عنان شديد الغيرة من مثل ذلك. ثم كثر المنافسون، ورفعوا إلى السلطان، وقد طرقه مرض أرجف له الناس؛ فرفعوا له أن الأمير أبا عبد الله اعتزم على الفرار إلى بجاية، وأني عاقدته على ذلك، على أن يوليني حجابته؛ فانبعث لها السلطان، وسطا بنا، واعتقلني نحواً من سنتين إلى أن هلك. وجاء السلطان أبو سالم، واستولى على المغرب، ووليت كتابة سره. ثم نهض إلى تلمسان، وملكها من يد بني عبد الواد، وأخرج منها أبا حمّو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، ثم اعتزم على الرجوع إلى فاس، وولى على تلمسان أبا زيان محمد بن أبي سعيد عثمان ابن السلطان أبي تاشفين، وأمده بالأموال والعساكر من أهل وطنه، ليدافع أبا حمّو عن تلمسان، ويكون خالصة له. وكان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية معه كما ذكرناه.، والأمير أبو العباس صاحب قسنطينة، بعد أن كان بنو مرين حاصروا أخاه أبا زيد بقسنطينة أعواماً تباعاً.

 

ثم خرج لبعض مذاهبه إلى بونة، وترك أخاه أبا العباس بها؛ فخلعه، واستبد بالأمر دونه. وخرج إلى العساكر المحمرة عليها من بني مرين؛ فهزمهم، وأثخن فيهم. ونهض السلطان إليه من فاس، سنة ثمان وخمسين وسبعمائة؛ فتبرأ منه أهل البلد وأسلموه؛ فبعثه إلى سبتة في البحر، واعتقله بها، حتى إذا ملك السلطان أبو سالم سبتة عند إجازته من الأندلس سنة ستين، أطلقه من الاعتقال، وصحبه إلى دار ملكه، ووعده برد بلده عليه.

 

فلما ولى أبا زيان على تلمسان، أشار عليه خاضته ونصحاؤه، بأن يبعث هؤلاء الموحدين إلى ثغورهم: فبعث أبا عبد الله إلى بجاية، وقد كان ملكها عمه أبو إسحق صاحب تونس، ومكفول بن تافراكين من يد بني مرين؛ وبعث أبا العباس إلى قسنطينة، وبها زعيم من زعماء بني مرين. وكتب إليه السلطان أبو سالم أن يفرج له عنها، فملكها لوقته. وسار الأمير أبو عبد الله إلى بجاية، فطال إجلابه عليها، ومعاودته حصارها. ولج أهلها في الامتناع منه مع السلطان أبي إسحق. وقد كان لي المقام المحمّود في بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم. وتوليت كبر ذلك مع خاصة السلطان أبي سالم وكبار أهل مجلسه، حتى تم القصد من ذلك. وكتب لي الأمير أبو عبد الله بخطه عهدا بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه؛ ومعنى الحجابة- في دولنا بالمغرب- الإستقلال بالدولة، والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته، لا يشاركه في ذلك أحد. وكان لي أخ إسمه يحيى أصغر مني، فبعثته مع الأمير أبي عبد الله حافظاً للرسم، ورجعت مع السلطان إلى فاس. ثم كان ما قدمته من انصرافي إلى الأندلس والمقام بها، إلى أن تنكر الوزير ابن الخطيب، وأظلم الجو بيني وبينه.

 

وبينا نحن في ذلك، وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية من يد عمه، في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة؛ وكتب لي الأمير أبو عبد الله يستقدمني، فاعتزمت على ذلك، ونكر السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ذلك مني، لا يظنه لسوى ذلك، إذ لم يطلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب، فأمضيت العزم، ووقع منه الإسعاف، والبر والألطاف. وركبت البحر من ساحل المرية، منتصف ست وستين وسبعمائة. ونزلت بجاية لخامسة من الإقلاع، فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي، وأركب أهل دولته للقائي. وتهافت أهل البلد علي من كل أوب يمسحون أعطافي، ويقبلون يدي، وكان يوماً مشهوداً.

ثم وصلت إلى السلطان فحيا وفدى، وخلع وحمل؛ وأصبحت من الغد، وقد أمر السلطان أهل الدولة بمباكرة بابي، واستقلت بحمل ملكه، واستفرغت جهدي في سياسة أموره وتدبير سلطانه، وقدمني للخطابة بجامع القصبة، وأنا مع ذلك، عاكف بعد انصرافي من تدبير الملك غدوةً- إلى تدريس العلم أثناء النهار بجامع القصبة لا أنفك عن ذلك.

 

ووجدت بينه وبين ابن عمه السلطان أبي العباس صاحب قسنطينة فتنة، أحدثتها المشاحة في حدود الأعمال من الرعايا والعمال، وشب نار هذه الفتنة عرب أوطانهم من الزواودة من رياح، تنفيقاً لسوق الزبون يمترون به أموالهم. وكانوا في كل سنة يجمع بعضهم لبعض؛ فالتقوا سنة ست وستين وسبعمائة بفرجيوة، وانقسم العرب عليهما. وكان يعقوب بن علي مع السلطان أبي العباس؛ فانهزم السلطان أبو عبد الله، ورجع إلى بجاية مفلولاً، بعد أن كنت جمعت له أموالاً كثيرة أنفق جميعها في العرب. ولما رجع أعوزته النفقة؛ فخرجت بنفسي إلى قبائل البربر بجبال بجاية المتمنعين من المغارم منذ سنين؛ فدخلت بلادهم واستبحت حماهم، وأخذت رهنهم على الطاعة، حتى استوفيت منهم الجباية، وكان لنا في ذلك مدد وإعانة؛ ثم بعث صاحب تلمسان إلى السلطان أبي عبد الله يطلب منه الصهر؛ فأسعفه بذلك ليصل يده به على ابن عمه، وزوجه ابنته؛ ثم نهض السلطان أبو العباس سنة سبع وستين وسبعمائة، وجاس أوطان بجاية، وكاتب أهل البلد، وكانوا وجلين من السلطان أبي عبد الله، بما كان يرهف الحد لهم، ويشد وطأته عليهم؛ فأجابوه إلى الانحراف عنه. وخرج السلطان أبو عبد الله يروم مدافعته، ونزل جبل ليزو معتصماً به؛ فبيته السلطان أبو العباس في عساكره وجموع الأعراب من أولاد محمد بن رياح بمكانه ذلك، بإغراء ابن صخر وقبائل سدويكش. وكبسه في مخيمه وركض هارباً، فلحقه وقتله، وسار إلى البلد بمواعده أهلها. وجاءني الخبر بذلك، وأنا مقيم بقصبة السلطان وقصوره، وطلب مني جماعة من أهل البلد القيام بالأمر، والبيعة لبعض الصبيان من أبناء السلطان؛ فتفاديت من ذلك؛ وخرجت إلى السلطان أبي العباس، فأكرمني وحباني، وأمكنته من بلده، وأجرى أحوالي كلها على معهودها. وكثرت السعاية عنده في، والتحذير من مكاني. وشعرت بذلك؛ فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك؛ فأذن لي بعدلأي؛ وخرجت إلى العرب، ونزلت على يعقوب بن عليّ. ثم بدا للسلطان في أمري، وقبض على أخي، واعتقله ببونة. وكبس بيوتنا يظن بها ذخيرة وأموالاً، فأخفق ظنه. ثم ارتحلت من أحياء يعقوب بن عليّ، وقصدت بسكرة، لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزني، وبين أبيه؛ وساهم في الحادث بماله وتجاهه والله أعلم.

 

مشايعة أبي حمّو صاب تلمسان:

كان السلطان أبو حمّو قد التحم ما بينه وبين السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بالصهر في إبنته، وكانت عنده بتلمسان. فلما بلغه مقتل أبيها، واستيلاء السلطان أبي العباس ابن عمه صاحب قسنطينة على بجاية، أظهر الامتعاض لذلك. وكان أهل بجاية قد توجسوا الخيفة من سلطانهم، بإرهاف حده، وشده سطوته؛ فانحرفوا عنه باطناً، وكاتبوا ابن عمه بقسنطينة كما ذكرناه.

 

ودشوا للسلطان أبي حمّو بمثلها يرجون الخلاص من صاحبهم بأحدهما. فلما استولى السلطان أبو العباس، وقتل ابن عمه، رأوا أن جرحهم قد اندمل، وحاجتهم قد قضيت، فاعصوصبوا عليه؛ وأظهر السلطان أبو حمّو الامتعاض للواقعة يسر منها حسواً في ارتغاء، ويجعله ذريعة للاستيلاء على بجاية، بما كان يرى نفسه كفؤها بعده وعديده، وما سلف من قومه في حصارها؛ فسار من تلمسان يجر الشوك والمدر، حتى خيم بالرشة من ساحتها، ومعه أحياء زغبة بجموعهم وظعائنهم، من لدن تلمسان، إلى بلاد حصين، من بني عامر، وبني يعقوب، وسويد، والديالم والعطاف، وحصين.

 

وانحجر أبو العباس بالبلد في شرذمة من الجند، أعجله السلطان أبو حمّو عن استيعاب الحشد، ودافع أهل البلد أحسن الدفاع. وبعث السلطان أبو العباس عن أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمّو من قسنطينة، كان معتقلاً بها، وأمر مولاه وقائد عسكره بشيراً أن يخرج معه في العساكر، وساروا حتى نزلوا بني عبد الجبار قبالة معسكر أبي حمّو، وكانت رجالات زغبة قد وجموا من السلطان، وأبلغهم النذير أنه إن ملك بجاية اعتقلهم بها؛ فراسلوا أبا زيان، وركبوا إليه، واعتقدوا معه. وخرج رجل البلد بعض الأيام من أعلى الحصن، ودفعوا شرذمة كانت مجمرة إزاءهم؛ فاقتلعوا خباءهم. وأسهلوا من تلك العقبة إلى بسيط الرشة. وعاينهم العرب بأقصى مكانهم من المعسكر فأجفلوا، وتتابع الناس في الانجفال حتى أفردوا السلطان في مخيمه، فحمل رواحله وسار، وكضت الطرق بزحامهم. وتراكموا بعض على بعض، فهلك منهم عوالم.

 

وأخذهم سكان الجبال من البربر بالنهب من كل ناحية، وقد غشيهم الليل؛ فتركوا أزودتهم ورحالهم. وخلص السلطان ومن خلص منهم بعد عصب الريق، وأصبحوا على منجاة. وقذفت بهم الطرق من كل ناحية إلى تلمسان؛ وكان السلطان أبو حمّو قد بلغه خروجي من بجاية، وما أحدثه السلطان بعدي في أخي وأهلي ومخففي؛ فكتب إلي يستقدمني قبل هذه الواقعة. وكانت الأمور قد اشتبهت؛ فتفاديت بالأعذار، وأقمت بأحياء يعقوب بن علي، ثم ارتحلت إلى بسكرة؛ فأقمت بها عند أميرها أحمد بن يوسف بن مزنى. فلما وصل السلطان أبو حمّو إلى تلمسان، وقد جزع للواقعة، أخذ في استئلاف قبائل رياح، ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية؛ وخاطبني في ذلك لقرب عهدي باستتباعهم، وملك زمامهم، ورأى أن يعول عليّ في ذلك، واستدعاني لحجابته وعلامته، وكتب بخطه مدرجة في الكتاب نصها:

" الحمد لله على ما أنعم، والشكر لله على ما وهب، ليعلم الفقيه المكرم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، حفظه الله، على أنك تصل إلى مقامنا الكريم، لما اختصصناكم به من الرتبة المنيعة، والمنزلة الرفيعة، وهو قلم خلافتنا، والانتظام في سلك أوليائنا، أعلمناكم بذلك. وكتب بخط يده عبد الله، المتوكل على الله، موسى بن يوسف لطف الله به وخار له ".

 

وبعده بخط الكاتب ما نصه: بتاريخ السابع عشر من رجب الفرد الذي من عام تسع وستين وسبعمائة عرفنا الله خيره. ونص الكتاب الذي هذه فدرجته، وهو بخط الكاتب: "أكرمكم الله يا فقيه أبا زيد، ووالى رعايتكم. إنا قد ثبت عندنا، وجمح لدينا ما انطويتم عليه من المحبة في مقامنا، والانقطاع إلى جنابنا، والتشيع قديماً وحديثاً لنا، مع ما نعلمه من محاسن اشتملت عليها أوصافكم، ومعارف فقتم فيها نظراءكم، ورسوخ قدم في الفنون العلمية والاداب العربية.

 

وكانت خطة الحجابة ببابنا العلي- أسماه الله- أكبر درجات أمثالكم؛ وأرفع الخطط لنظرائكم؛ قربا منا، واختصاصاً بمقامنا، واطلاعا على خفايا أسرارنا. آثرناكم بها إيثاراً، وقدمناكم لها اصطفاءً واختياراً؛ فاعملوا على الوصول إلى بابنا العليّ أسماه.

 

الله، لما لكم فيه من التنويه، والقدر النبيه، حاجباً لعليّ بابنا، ومستودعاً لأسرارنا، وصاحب الكريمة علامتنا، إلى ما يشاكل ذلك من الأنعام العميم، والخير الجسيم، والاعتناء والتكريم. لا يشارككم مشارك في ذلك ولا يزاحمكم أحد، وإن وجد من أمثالك فاعلموه، وعولوا عليه، والله تعالى يتولاكم، ويصل سراءكم، ويوالي احتفاءكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".

 

وتأدت إلي هذه الكتب السلطانية على يد سفير من وزرائه، جاء إلى أشياخ الزواودة في هذا الغرض؛ فقمت له في ذلك أحسن مقام، وشايعته أحسن مشايعة، وحملتهم على إجابة داعي السلطان، والبدار إلى خدمته. وانحرف كبراؤهم عن خدمة السلطان أبي العباس إلى خدمته، والاعتمال في مذاهبه، واستقام غرضه من ذلك؛ وكان أخي يحيى قد خلص من اعتقاله ببونة، وقدم علي ببسكرة، فبعثته إلي السلطان أبي حمّو كالنائب عني في الوظيفة، متفادياً عن تجشم أهوالها، بما كنت نزعت عن غواية الرتب. وطال علي إغفال العلم؛ فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك، وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس؛ فوصل إليه الأخ، فاستكفى به في ذلك، ودفعه إليه. ووصلني مع هذه الكتب السلطانية كتاب رسالة من الوزير أبي عبد الله بن الخطيب

من غرناطة يتشوق إلي، وتأدى إلى تلمسان على يد سفراء السلطان ابن الأحمر؛ فبعث إلي به من هنالك ونصه:

بنفسي وما نفسي علي بهينــــــة              فينزلني عنها المكاس بأثمان

حبيب نأى عيني وصم لأنتــــــي                  وراش سهام البين عمداً فأصماني

وقد كان هم الشيب لا كان كائيــــاً                فقد ادني لما ترحل همان

شرعت له من دمع ععيني مـــوارداً              فكذر شربي بالفراق وأظماني

وأرعيته من حسن عهدي جميمــــه             فأجدب آمالي وأوحش أزماني

حلفت على ما عنده لي من رضـــى                        قياساً بما عندي فأحنث أيماني

وإني على ما نالني منه من قلــــى             لأشتاق من لقياه نغبة ظمآن

سألت جنوني فيه تقريب عرســــه               فقست بجن الشوق جن سليمان

إذا ما دعا داع من القوم بإسمــــه                وثبت وما استثبت شيمة هيمان

وتالله ما أصغيت فيه لعــــــاذل                      تحاميته حتى ارعوى وتحاماني

ولا استشعرت نفسي برحمــــــة                 عابد تظلل يوماً مثله عبد رحمان

ولا شعرت من قبله بتشـــــــوقٍ                   تخلل منها بين روح وجثمان

 أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج، وأما الصبر فاسأل به أية درج، بعد لأن تجاوز اللوى والمنعرج، لكن الشدة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من روح الله الأرج؛ وأنى بالصبر على إبر الدبر، لا. بل الضرب الهبر، ومطاولة اليوم والشهر، تحت حكم  القهر؛ ومن للعين إن تسلو سلو المقصر، عن إنسانها المبصر، أو نذهل ذهول الزاهد، عن سرها الرائي والمشاهد، وفي الجسد بضعة يصلح إذا صلحت، فكيف حاله إن رحلت عنه وإن نزحت؛ وإذا كان الفراق، هو الحمام الأول، فعلام المعول، أعيت مراوضة الفراق، عمل الراق، وكادت لوعة الإشتياق، إن تفضي إلى السياق:

تركتموني بعد تشييعكـــــــــم          أوسع أمر الصبر عصيانا

اقرع سني ندما تــــــــــارةً             واستميح الدمع أحيانا

وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية، وجددت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية، اسأل نون النؤى عن أهليه، وميم الموقد المهجور عن مصطليه، وثاء الأثافي المثلثة عن منازل الموحدين، وأحار وبين تلك الأطلال حيرة الملحدين، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين؛ كلفت لعمر الله بسال عن جفوني المؤرقة، ونائم عن همومي المتجمعة والمتفرقة. ظعن عن ملال، لا متبرماً منا بشر خلال، وكدر الوصل بعد صفائه، وضرج النصل بعد عهد وفائه:

أقل اشتياقا أيها القلب إنمـــــــا                    رأيتك تصفي الود من ليس جازيا

 فها أنا أبكي عليه بدم أساله، وأندب في ربع الفراق آسى له، وأشكو إليه حال قلب صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لما خدعه، ثم قلاه وودعه، وأنشق رياه أنف ارتياح قد جدعه، وأستعديه على ظلم ابتدعه.

خليلي، فيما عشتما هل رأيتمـــــا               قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي

 فلولا عسى الرجاء ولعله، لا بل شفاعة المحل الذي حله، لنشرت ألوية العتب، وبثثت كتائبها، كمناء في شعاب الكتب، تهز من الألفات رماحا خزر الأسنة وتوتر من النونات أمثال القسي المرنة وتقود من مجموع الطرس، النقس بلقاً تردي في الأعنة.

 

ولكنه آوى إلى الحرم الأمين، وتفيأ ظلال الجوار المؤمن من معرة الغوار عن الشمال واليمين، حرم الحلال المزنية، والظلال اليزنية؛ والهمم السنية، والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدنية، حيث الرفد الممنوح، والطير الميامين يزجر لها السنوح والمثوى الذي إليه، مهما تقارع الكرام على الضيفان، حول جوابي الجفان فهو الجنوح:

نسب كأن عليه من شمس الضحى         نوراً ومن فلق الصباح عموداً

 ومن حل بتلك المثابة فقد اطمأن جنبه، وتغمد بالعفو ذنبه ( ولله در القائل):

فوحقه لقد انتدبت لوصفه            بالبخل لولا أن حمصاً داره

بلد متى أذكره تهتج لوعتي        وإذا قدحت الزند طار شراره

اللهم غفرا، وأين قراره النخيل، من مثوى الأقلف البخيل، ومكذبة المخيل؛ واين

ثانية هجر، من متبوا من ألحد وفجر:

من أنكر غيثا منشؤه              في الأرض ينوء بمخلفها

فبنان بني مزني مزن               تنهل بلطف مصرفها

مزن مذحل ببسكرة                 يوما نطقت بمصحفها

شكرت حتى بعبارتها                 وبمعناها وبأحرفها

ضحكت بأبي العباس من ال             أيام ثنايا زخرفها

وتنكرت الدنيا حتى                عرفت منه بمعرفها

بل نقول: يا محل الولد، "لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد"، لقد حل بينك عرى الجلد، وخلد الشوق بعدك يا بن خلدون في الصميم من الخلد؛ فحيا الله زمانا شفيت في قربك زمانته، واجتلت في صدف مجدك جمانته، وقضيت في مرعى خلتك لبانته؛ وأهلاً بروض أظلت شباب معارفك بانته؛ فحمائمه بعدك تنذب، فيساعدها الجندب، ونواسمه ترق فتتغاشى، وعشياته تتخافت وتتلاشى، وأدواحه في ارتباك، وحمائمه في مأتم ذي اشتباك؛ كان لم تكن قمر هالات قبابه، ولم يكن أنسك شارع بابه، إلى صفوة الظرف ولبابه، ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه؛ فلهفي عليك من درة اختلستها يد النوى، ومطل بردها الدهر ولوى، ونعق الغراب ببينها في ربوع الهوى، ونطق بالزجر فما نطق عن الهوى؛ وبأي شيء يعتاض منك ايتها الرياض، بعد أن طما نهرك الفياض، وفهقت الحياض؛ ولا كان الشاني المشنوء والجرب المهنوء؛ من قطع ليل أغار على الصبح فاحتمل، وشارك في الأمر الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل؛ نشر الشراع فراع، وواصل الإسراع، فكأنما هو تمساح النيل ضايق الأحباب في البرهة، واختطف لهم من الشط نزهة العين وعين النزهة؛ ولجج بها والعيون تنظر، والغمر عن الاتباع يحظر؛ فلم يقدر إلا على الأسف، والتماح الاثر المنتسف والرجوع بملء العيبة من الخيبة، ووقر الجسرة من الحسرة إنما نشكو إلى الله البث والحزن، ونستمطر من عبراتنا المزن، وبسيف الرجاء نصول، وإذا أشرعت لليأس أسنة ونصول:

ما أقدر الله أن يدني على شحطٍ          من داره الحزن ممن داره صول

 فإن كان كلم الفراق رغيبا، لما نويت مغيباً، وجللت الوقت الهني تشغيباً، فلعل الملتقى يكون قريبا، وحديثه يروى صحيحاً غريباً. إيه سيدي ! كيف حاذ تلك الشمائل، المزهرة الخمائل، والشيم، الهامية الديم؟ هل يمر ببالها من راعت بالبعد باله، وأخمدت بعاصف البين ذباله؟ أو ترثي لشئون شأنها سكب لا يفتر، وشوق يبت حبال الصبر ويبتر، وضنى تقصر عن حفله الفاقعة صنعاء وتستر، والأمر أعظم والله يستر؛ وما الذي يضيرك، صين من لفح السموم نضيرك، بعد أن أضرمت وأشعلت، وأوقدت وجعلت، وفعلت فعلتك التي فعلت، أن تترفق بذماء، أو ترد بنغبة ماء، أرماق ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحية يشم عليها شذا أنفاسك، أو تنظر إلينا على البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك، وسواد أنقاسك، فرتما قنعت الأنفس المحبة بخيال زور، وتعللت بنوال منزور، ورضيت، لما لم تصد العنقاء، بزرزور:

يا من ترحل والرياح لأجله         يشتاق إن هبت شذا رياها

تحيا النفوس إذا بعثت تحيةً    وإذا عزمت اقرأ "ومن أحياها

 ولئن أحييت بها فيما شلف نفوسا تفديك، والله إلى الخير أيهديك، فنحن نقول معشر مواديك: " ثني ولا تجعليها بيضة لديك "؛ وعذراً فإني لم اجترىء على خطابك بالفقر الفقيرة، وأدللت لدى حجراتك برفع العقيرة، عن نشاط بعثت مرموسه، ولا اغتباط بالأدب تغري بسياسته سوسة، وانبساط أوحى إلي على الفترة ناموسه؛ وإنما هو اتفاق جرته نفثة المصدور وهناء الجرب المجدور؛ وإن تعلل به مخارق، فثم قياس فارق، أو لحن غنى به بعد البعد مخارق؛ والذي هيأ هذا القدر وسببه، وسفل المكروه إلي منه ؛حببه. ما اقتضاه الصنو يحيى مد الله حياته، وحرس من الحوادث ذاته، من خطاب ارتشف به لهذه القريحة بلالتها، بعد أن رضي علالتها، ورشح إلى الصهر ألحضرمي سلالتها؛ فلم يسع إلا إسعافه، بما أعافه؛ فأمليت مجيباً، ما لا يعذ في يوم الرهان نجيباً، وأسمعته وجيباً لما ساجلت بهذه الترهات سحراً عجيباً؛ حتى إذا ألف القلم العريان سبحه، وجمح برذون الغزارة فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوه وموقف متلوه، إلا وقد تحيز إلى فئتك، معتزاً بل معتراً، واستقبلها ضاحكاً مفتراً، وهشق لها براً، وإن كان من الخجل مصفراً؛ وليس بأول من هجر، في التماس والوصل مضن هجر أو بعث التمر إلى هجر؛ وافي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام؛ بعد أن حال الجريض، دون القريض، وشغل المريض عن التعريض؛ وغلب حتى الكسل، ونصلت الشعرات البيض كأنها الأسل؛ تروع برقط الحيات، سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر والشيات، عند البيات؛ والشيب الموت العاجل، وإذا ابيض زرع صبحته المناجل، والمعتبر الاجل؛ وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم في الظاهر بابعاده وأسره في ملكة عادة؛ فاغص ابقاك الله وأسمح، لمن قصر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح؛ واغتنم لباس ثوب الثواب، واشف بعض الجوى بالجواب.

 

تولاك الله فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك آية سلكت؛ ووسمك في السعادة بأوضح السمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات؛ والسلام الكريم يعتمد حلال ولدي، وساكن خلدي، بل أخي وإن اتقيت عتبه وسيدي، ورحمة الله وبركاته، من محبه المشتاق إليه محمد بن عبد الله بن الخطيب، في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني، من عام سبعين وسبعمائة.

 

وكان تقدم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر الي، بعث به إلى تلمسان، فتأخر وصوله، حتى بعث به الأخ يحيى عند وفادته على السلطان، ونمق الكتاب:

يا سيدي إجلالا واعتدادا، وأخي ودا واعتقاداً، ومحل ولدي شفقةً سكنت مني فؤاداً. طال علي انقطاع أنبائك، واختفاء أخبارك؛ فرجوت أن أبلغ النية هذا المكتوب إليك، وتخترق به الموانع دونك، وإن كنت في موالاتك كالعاطش الذي لا يروى، والاكل الذي لا يشبع، شأن من تجاوز الحدود الطبيعية، والعوائد المألوفة؛ فأنا الآن بعد إنهاء التحية المطلولة الروض بماء الدموع، وتقرير الشوق اللزيم، وشكوى البعاد الأليم، وسؤال إتاحة القرب قبل الفوت من الله ميسر العسير، ومقرب البعيد، أسأل عن أحوالك سؤال أبعد الناس مجالاً في مجال الخلوص لك، وأشدهم حرصاً على اتصال سعادتك؛ وقد اتصل بي في هذه الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك، واستقرارك ببسكرة محل الغبطة بك، باللجأ إلى تلك الرياسة الزكية، الكريمة الأب، الشهيرة الفضل، المعروفة القدر على البعد؛ حرسها الله ملجأً للفضلاء، ومخيماً لرجال العلياء، ومهبا لطيب الثناء، بحوله وقوته؛ وما كل وقت تتاح فيه السلامة؛ فاحمدوا الله على الخلاص، وقاربوا في معاملة الامال، وضنوا بتلك الذات الفاضلة عن المشاق، وأبخلوا بها عن المتالف، فمطلوب الحريص على الدنيا خسيس، والموانع الحافة جمة، والحاصل حسرة، وبأقل السعي تحصل حالة العافية، والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما آخره الموت، إنما ينال منه الضروري؛ ومثلك لا يعجزه مع التماس العافية أضعاف ما يزجي به العمر من المأكل والمشرب، وحسبنا الله.

 

وإن تشوفت لحال المحب تلك السيادة الفذة، والبنوة البرة؛ فالحال الحال، من جعل الزمام بيد القدر، والسير في مهيع الغفلة، والسبح في تيار الشواغل؛ ومن وراء الأمور غيب محجوب، وأمل مكتوب، نؤمل فيه عادة الستر من الله؛ إلا أن الضجر الذي تعلمونه، حفظه اليأس لما عجزت الحيلة، وأعوز المناص وسدت المذاهب؛ والشأن اليوم شأن الناس فيما يقرب من الاعتدال.

 

وفيما يرجع إلى السلطان تولاه الله، على أضعاف ما باشر سيدي من الاغياء في البر ووصل سبب الإلتحام، والاشتمال، مع الاستقلال، وما ينتجه متعود الظهور، والحمد لله.

 

وفيما يرجع إلى الأحباب والأولاد، فعلى ما علمت؛ إلا إن الشوق يخامر القلوب، وتصور اللقاء مما يزهد في الوطن وحاضر النعم. سنى الله ذلك على أفضل حال، ويسره قبل الارتحال، من دار المحال. وفيما يرجع إلى الوطن؛ فأحلام النائم خصباً، وهدنة وظهوراً على العدو؛ وحسبك بافتتاح حصن آشر، وبرغه القاطعة بين بلاد الاسلام، ووبذة، والعارين وبيغه وحصن السهلة، في عام؛ ثم دخل بلد إطريرة بنت إشبيلية عنوة، والاستيلاء على ما يناهز خمسة آلاف من السبي؛ ثم فتح دار الملك، ولدة قرطبة: مدينة جيان عنوة في اليوم الأغر المحجل، وقتل المقاتلة، وسبي الذرية، وتعفية الآثار حتى لا يلم بها العمران؛ ثم افتتاح مدينة أبدة التي تلص جيان في ملاءتها: دار التجر، والرفاهية، والبنآت الحافلة، والنعم الثرة؛ نسأل الله جل وعلا أن يصل عوائد نصره، ولا يقطع عنا سبب رحمته، وإن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك والإعانة عليه.

 

ولم يتزيد من الحوادث إلا ما علمتم؛ من أخذ الله لنسمة السوء، وخبث الأرض، المسلوب من أثر الخير: عمر بن عبد الله، وتحكم شر الميتة في نفسه، وإتيان النكال على حاشيته، والاستئصال على ذاته؛ والاضطراب مستولٍ على الوطن بعده؛ إلا أن الغرب على علاته لا يرجحه غيره.

 

والأندلس اليوم شيخ غزاتها الأمير عبد الرحمن بن علي ابن السلطان أبي عليّ، بعد وفاة الشيخ أبي الحسن: علي بن بدر الدين رحمه الله. وقد استقر بها بعد انصراف سيدي الأمير المذكور، والوزير مسعود بن رخو وعمر بن عثمان بن سليمان. والسلطان ملك النصارى بطره، قد عاد إلى ملكة بإشبيلية، وأخوه مجلب عليه بقشتالة، وقرطبة مخالفة عليه، قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين على أنفسهم، داعين لأخيه؛ والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الريح. وخرق الله لهم عوائد في باب الطهور والخير، لم تكن تخطر في الامال. وقد تلقب السلطان أيده الله بعقب هذه المكيفات، بـ " الغنى بالله " وصدرت عنه مخاطبات، بمجمل الفتوح ومفصلها، يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك الفضائل لو أمكن.

 

وأما ما برجع إلى ما يتشوف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت؛ فصدرت تقاييد، وتصانيف، يقال فيها بعدما أعتملت تلك السيادة من الانصراف يا إبراهيم، ولا ابراهيم اليوم.

 

منها: أن كتاباً رفع إلى السلطان في المحبة، من تصنيف ابن أبي حجلة من المشارقة، أشار الأصحاب بمعارضته، فعارضته، وجعلت الموضوع أشرف، وهو محبة الله؛ فجاء كتاباً أدعى الأصحاب غرابته. وقد وجه إلى المشرق صحبة كتاب: "تاريخ غرناطة"، وغيره من تآليفي. وتعرف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء من مصر؛ وانتال الناس عليه، وهو في لطافة الأغراض، متكلف الإغراض المشارقة. من ملحه:

سلمت لمصرفي الهوى من بلد             يهديه هواؤه لدى استنشاقه

من ينكر دعواي فقل عني له              تكفي امرأة العزيز من عشاقه؟

 والله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجيهه. وصدر عني جزء سميته: "الغيرة على أهل الحيرة" وجزء سميته: "حمل الجمهور على السنن المشهور". والأكباب على اختصار كتاب "التاج " للجوهري، ورد حجمه إلى مقدار الخمس، مع حفظ ترتبيه السهل؛ والله المعين على مشغلة تقطع بها هذه البرهة القريبة البداءة من التتمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

والمطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيادة والبنوة؛ إذ لا يتعذر وجود قافل من حج، أو لاحقٍ بتلمسان. يبعثها السيد الشريف منها؛ فالنفس شديدة التعطش، والقلوب قد بلغت- من الشوق والاستطلإع- الحناجر. والله أسأل أن يصون في البعد وديعتي منك لديه، ويلبسك العافية، ويخلصك وإياي من الورطة، ويحملنا أجمعين على الجادة، ويختم لنا بالسعادة. والسلام الكريم عوداً على بدء ورحمة الله وبركاته، من المحب المتشوق، الذاكر الداعي، ابن الخطيب. في الثاني من جمادى الأولى من عام تسعة وستين وسبعمائة.

 

(فأجبته) عن هذه المخاطبات، وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته، فلم يكن شأوه يلحق. ونمق الجواب: سيدي مجداً وعلواً، وواحدي ذخراً مرجواً، ومحل والدي براً وحنواً. ما زال الشوق مذ نأت بي وبك الدار، واستحكم بيننا البعاد يرعي سمعي أنباءك، ويخيل إلي من أيدي الرياح تناول رسائلك، حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع، وعهدٍ غير مضاع، وود ذي أجناس وأنواع؛ فنشر بقلبي ميت السلو، وحشر أنواع المسرات، وقد للقائك زناد الأمل؛ ومن الله أسأل الإمتاع بك قبل الفوت على ما يرضيك، ويسني أماني وأمانيك. وحييته تحية الهائم، لمواقع الغمائم، والمدلج، للصباح المتبلج وأمل على مقترح الأولياء، خصوصاً فيك؛ من اطمئنان الحال، وحسن القرار، وذهاب الهواجس، وسكون النفرة؛ وعموماً في الدولة، من رسوخ القدم، وهبوب ريح النصر، والظهور على عدو الله، باسترجاع الحصون التى استنقذوها في اعتلال الدولة، وتخريب المعاقل التي هي قواعد النصرانية؛ غربية لا تثبت إلا في الحلم، وآية من آيات الله. وإن خبيئة هذا الفتح في طي العصور السابقة، إلى هذه المدة الكريمة، لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة، حين ظهرت على يدها خوارق العادة، وما تجدد آخر الأيام من معجزات الملة؛ وكمل فيها والحمد لله بحسن التدبير، ويمن النقيبة، من حميد الأثر، وخالد الذكر، طراز في حلة الخلافة النصرية، وتاج في مفرق الوزارة. كتبها الله لكم فيما يرضاه من عباده.

 

ووقفت عليه الأشراف من أهل هذا القطر المحروس؛ وأذعته في الملأ سروراً بعز الإسلام، واظهاراً لنغمة الله، واستطراداً لذكر الدولة المولوية بما تستحقه من طيب الثناء، والتماس الدعاء، والحديث بنعمتها، والإشادة بفضلها على الدولة السالفة والخالفة وتقدمها، فانشرحت الصدور حباء وامتلأت القلوب إجلالاً وتعظيماً، وحسنت الآثار اعتقاداً ودعاءً.

 

وكان كتاب سيدي لشرف تلك الدولة عنوانا، ولما عساه يستعجم من لغتي في مناقبها ترجماناً، زاده الله من فضله، وأمتع المسلمين ببقائه. وبثثته شكوى الغريب، من السوق المزعج، والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفاً، للتجافي عن مهاد الأمن، والتقويض عن دار العز، بين المولى المنعم، والسيد الكريم، والبلد الطيب، والإخوان البرة؛(ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ). وان تشوفت السيادة الكريمة إلى الحال، فعلى ما علمتم، سيراً مع الأمل، ومغالبة للأيام على الحظ، وإقطاعا للغفلة جانب العمر:

هل نافعي والجد في صبب            مديً مع الآمال في صعد

رجع الله بنا إليه. ولعل في عظتكم النافعة، شفاء هذا الداء العياء إن شاء الله؛ على أن لطف الله مصاحب، وجوار هذه الرياسة المزنية وحسبك بها علمية عصمة وافية صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدها منهم كما علمتم، على حين تفاقم الخطب، وتلون الدهر، والإفلات من مظان النكبة، وقد رتعت حولها؛ بعد ما جرته الحادثة بمهلك السلطان المرحوم على يد ابن عمه، قريعه في الملك، وقسيمه في النسب؛ والتياث الجاه، وتغير السلطان، واعتقال الأخ المخلف، واليأس منه، لولا تكييف الله في نجائه، والعيث بعده في المنزل والولد، واغتصاب الضياع المقتناة ص بقايا ما متعت به الدولة النصرية- أبقاها الله- من النعمة؛ فآوى إلى الوكر، وساهم في الحادث، وأشرك في الجاه والمال، وأعان على نوائب الدهر، وطلب الوتر، حتى رأى الدهر مكاني، وأمل الملوك استخلاصي، وتجاوزوا في إتحافي. والله المخلص من عقال الامال، والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ المورطة.

 

وأنبأني سيدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة، والرسائل البليغة، في هذه الفتوحات الجليلة، وبودي لو وقع الاتحاف بها أو بعضها، فلقد عاودني الندم على ما فرطت. وأما أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم؛ من استقرار السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى بتونس مستبدا بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره، رحمة الله عليه؛ مضايقاً في جبابة الوطن، وأحكامه بالعرب المستظهرين بدعوته، مصانعاً لهم بوفره على أمان الرعايا والسابلة، لو أمكن حسن السياسة جهد الوقت؛ ومن انتظام بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة غلاباً كما علمتم، محملا الدولة بصرامته وقوة شكيمته فوق طوقها، من الاستبداد والضرب على أيدي المستغلين من الأعراب، منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك، إلا ما شمل البلاد من تغلب العرب، ونقص الأرض من الأطراف والوسط، وخمود ذبال الدول في كل جهة؛ وكل بداية فإلى تمام.

 

وأما أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه، وأما المشرق فأخباز الحاج هذه السنة من اختلاله، وانتقاض سلطانه، وانتزاء الجفاة على كرسية، وفساد المصانع والسقايات المعدة لوفد الله وحاج بيته، ما يسخن العين ويطيل البث، حتى لزعموا أد الهيعة اتصلت بالقاهرة أياماً، وكثر الهرج في طرقاتها وأسواقها، لما وقع بين أسندمر المتغلب بعد يلبغا الخاسكي، وبين سلطانه ظاهر القلعة، من الجولة التي كانت دائرتها عليه، أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى، من حاشية وموالي يلبغا؛ وتقبض على الباقين، فأودع منهم السجون، وصلب الكثير، وقتل سندمر في محبسه، وألقي زمام الدولة بيد كبير من موالي السلطان، فقام بها مستبداً، وقادها مستقلاً؛ وبيد الله تصاريف الأمور، ومظاهر الغيوب، جل وعلاً.

 

ورغبتي من سيدي أبقاه الله أن لا يغب خطابه عني، متى أمكن، يصل بذلك مننه الجمة، وأن يقبل عني أقدام تلك الذات المولوية، ويعرفه بما عندي من التشيع لسلطانه، والشكر لنعمته، وأن ينهوا عني لحاشيته وأهل اختصاصه، التحية، المختلسة من أنفاس الرياض، كبيرهم وصغيرهم.

 

وقد تأدى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاج نافع سلمه الله تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إياه بتلمسان، بحضرة السلطان أبي حمّو أيده الله فربما يصل، وسيدي يوضح من ثنائي ودعائي ما عجز عنه الكتاب. والله يبقيكم ذخراً للمسلمين، وملاذاً للاملين بفضله. والسلام عليكم وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب، والأهل والحاشية والأصحاب، من المحب فيكم، المعتد بكم شيعة فضلكم، ابن خلدون؛ ورحمة الله وبركاته.

 

عنوانه: سيدي وعمادي، ورب الصنائع والأيادي، والفضائل الكريمة الخواتم والمبادي، إمام ا أمة، علم الأئمة، تاج الملة، فخر العلماء الجلة، عماد الإسلام، مصطفى الملوك الكرام، نكتة الدول، كافل الإمامة، تاج الدول، أثير الله، ولي أمير المسلمين الغني بالله أيده الله الوزير أبو عبد الله بن الخطيب، أبقاه الله، وتولى عن المسلمين جزاءه. وكتب إلي من غرناطة: يا سيدي وولي، وأخي ومحل ولدي ! كان الله لكم حيث كنتم، ولا أعدمكم لطفه وعنايته. لو كان مستقركم بحيث يتأتى لي إليه ترديد رسول، أو إيفاد متطلع، أو توجيه نائب، لرجعت على نفسي باللائمة في إغفال حقكم؛ ولكن العذر ما علمتم؛ واحمدوا الله على الاستقرار في كهف ذلك الفاضل الذي وسعكم كنفه. وشملكم فضله شكر الله حسبه الذي لم يخلف، وشهرته التي لم تكذب. وإني اغتنمت سفر هذا الشيخ، وافد الحرمين بمجموع الفتوح، في إيصال كتابي هذا، وبودي لو وقفتم على ما لديه من البضاعة التي أنتم رئيسها وصدرها، فيكون لكم في ذلك بعض أنس، وربما تأدى ذلك في بعضه مما لم يختم عليه، وظاهر الأمور نحيل علية في تعريفكم بها، وأما البواطن فمما لا يتأتى كثرة وضنانة، وأخص، بالصاد، ما أظن تشوفكم إليه حالي. فاعملوا أني قد بلغ بي الماء الزبى، واستولى علي سؤ المزاح المنحرف، وتوالت الأمراض، وأعوز العلاج، لبقاء السبب، والعجز عن دفعه. وهي هذه المداخلة جعل الله العاقبة فيها إلى خير؛ ولم أترك وجهاً من وجوه الحيلة إلا بذلته. فما أغنى ذلك عني شيئاً، ولولا أنني بعدكم شغلت الفكر بهذر التأليف، مع الزهد. وبغد العهد. وعدم الإلماع بمطالعة الكتب. لم يتمش حالي من طريق فساد الفكر إلى هذا الحد؛ وآخر ما صدر عني كناش سميته باستنزال اللطف الموجود، في أشر الوجود أمليته في هذه الأيام التي أقيم بها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى الجهاد. بوذى لو وقفتم عليه. وعلى كتابي في المحبة؛ وعسى الله أن ييسر ذلك.

 

ومع هذا كله. والله ما قصرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم. إما من جهة أخيكم؛ أو من جهة السيد الشريف أبي عبد الله. حتى من المغرب إذا سمعت الركب يتوخه منه فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا. والأحوال كلها على تركتموها عليه. وأحبابكم بخير. على ما علمتم من الشوق والتشوف والارتماض لمفارقتكم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

والله يحفظكم. ويكون لكم. ويتولى أموركم؛ والسلام عليكم ورحمة الله. من المحب الواحش الشيخ ابن الخطيب. في غرة ربيع الثاني من عام إحدى وسبعين وسبعمائة.

 

وبباطنه مدرجة نصها: سيدي رضي الله عنكم. استقر بتلمسان. في سبيل تقلب ومطاوعة مزاج تعرفونه صاحبنا المقدم في صنعة الطب أبو عبد الله الشقوري. فإن اتصل بكم فأعينوه على يقف عليه اختياره وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم. عنوانه:- سيدي ومحل أخي. الفقيه الجليل. الصدر الكبير المعظم. الرئيس الحاجب. العالم الفاضل الوزير ابن خلدون. وصل الله سعده. وحرس مجده. بمنه

وإنما طولت بذكر هذه المخاطبات. وإن كانت فيما يظهر. خارجة عن غرض الكتاب. لأن فيها كثيراً من أخباري. وشرح حالي. فيستوفي ذلك منها من يتشوف إليه من المطالعين للكتاب.

 

ثم إن السلطان أبا حمّو لم يزل معتملاً في الاجلاب على بجاية. واستئلاف قبائل رياح لذلك. ومعولا على مشايعتي فيه. ووصل يده مع ذلك بالسلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص، لما كان بينه وبين أبي العباس صاحب بجاية وقسنطينة، وهو ابن أخيه، من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب والملك، وكان يوفد رسله عليه في كل وقت، ويمرون بي، وأنا ببسكرة، فأؤكد الوصلة بمخاطبة كل منهما؛ وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمّو بعد إجفاله عن بجاية، واختلال معسكره، قد سار في أثره إلى تلمسان، وأجلب على نواحيها، فلم يظفر بشيء، وعاد إلى بلاد حصين، فأقام بينهم، واشتملوا عليه، ونجم النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط، واختلف أحياء زغبة على السلطان، وانتبذ الكثير عنه إلى القفر. ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع له الكثير منهم؛ فخرج في عساكره في منتصف تسع وستين وسبعمائة إلى حصين وأبي زيان، واعتصموا بجبل تيطري، وبعث إلي في استنفار الزواودة للأخذ بحجزتهم من جهة الصحراء، وكتب يستدعي اشياخهم: يعقوب بن علي كبير أولاد محمد، وعثمان بن يوسف كبير أولاد سباع بن يحيى. وكتب إلى ابن مزنى قعيدة وطنهم بإمدادهم في ذلك، فأمدهم؛ وسرنا مغربين إليه، حتى نزلنا القطفا بتل تيطري، وقد أحاط السلطان به من جانب التل، على أنه إذا فرغ من شأنهم سار معنا إلى بجاية وبلغ الخبر إلى صاحب بجاية أبي العباس؛ فاستألف من بقي من قبائل رياح، وعسكر بطرف ثنية القصاب المفضية إلى المسيلة. وبينما نحن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة: وهم خالد بن عامر كبير بني عامر وأولاد عريف كبراء سويد، ونهضوا إلينا بمكاننا من القطفا؛ فأجفلت أحياء الزواودة، وتأخرنا إلى المسيلة، ثم إلى الزاب. وسارت زغبة إلى تيطري، واجتمعوا مع أبي زيان وحصين، وهجموا على معسكر السلطان أبي حمّو ففلوه ورجع منهزماً إلى تلمسان. ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زعبة ورياح يؤمل الظفر بوطنه وابن عمه، والكرة على بجاية عاماً فعاماً، وأنا على حال في مشايعته، وإيلاف ما بينه وبين الزواودة، والسلطان أبي إسحق صاحب تونس، وابنه خالد من بعده. ثم دخلت زغبة نجي طاعته، واجتمعوا على خدمته، ونهض من تلمسان لشفاء نفسه من حصين وبجاية، وذلك. في أخريات إحدى وسبعين وسبعمائة؛ فوفدت عليه بطائفة من الزواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان لنشارف أحواله، ونطالعه بما يرسم لهم في خدمته، فلقيناه بالبطحاء. وضرب لنا موعداً بالجزائر، انصرف به العرب إلى أهليهم، وتخففت بعدهم لقضاء بعض الأغراض واللحاق بهم، وصليت به عيد الفطر على البطحاء، وخطبت به، وأنشدته عند انصرافه من المصفى أهنيه بالعيد، وأحرضه:

هذي الديار فحيهن صباحا             وقف المطايا بينهن طلاحا

لا تسأل الأطلال إن لم تروها          عبرات عينك واكفاً ممتاحا

فلقد أخذن على جفونك موثقا           أن لا يرين مع البعاد شحاحا

إيه عن الحي الجميع وربما           طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا

ومنازل للظاعنين استعجمت         حزنا وكانت بالسرور فصاحا

وهي طويلة، ولم يبق في حفظي منها إلا هذا.

وبينما نحن في ذلك، بلغ الخبر بأن السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى من بني مرين، قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكش، وكان آخذا بمخنقه منذ حول. وساقه إلى فاس فقتله بالعذاب، وإنه عازم على النهوض إلى تلمسان، لما سلف من السلطان أبي حمّو أثناء حصار السلطان عبد العزيز لعامر في جبلة، من الأجلاب على ثغور المغرب؛ ولحين وصول هذا الخبر؛ أضرب السلطان أبو حمّو عن ذلك الشأن الذي كان فيه، وكر راجعاً إلى تلمسان. وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء، مع شيعة بني عامر من أحياء زغبة، فاستألف، وجمع، وشد الرحال، وقضى عيد الأضحى؛ وطلبت منه الإذن في الانصراف إلى الأندلس، لتعذر الوجهة إلى بلاد رياح، وقد أظلم الجو بالفتنة، وانقطعت السبل؛ فأذن لي، وحملني رسالة فيما بينه وبين. السلطان ابن الأحمر. وانصرفت إلى المرسى بهنين؛ وجاءه الخبر بنزول صاحب المغرب تازا في عساكره؛ فأجفل بعدي من تلمسان، ذاهباً إلى الصحراء عن طريق البطحاء. وتعذر علي ركوب البحر من هنين فأقصرت، وتأدى الخبر إلى السلطان عبد العزيز بأني مقيم بهنين، وإن معي وديعة احتملتها إلى صاحب بالأندلس، تخيل ذلك بعض الغواة، فكتب إلى السلطان عبد العزيز فأنفذ من وقته سرية من تازا تعترضني لاسترجاع تلك الوديعة، واستمر هو إلى تلمسان؛ ووافتني السرية بهنين وكشفوا الخبر فلم يقفوا على صحته، وحملوني إلى السلطان، فلقيته قريباً من تلمسان، واستكشفني عن ذلك الخبر، فأعلمته بيقينه. وعنفنى على مفارقة دارهم، فاعتذرت له بما كان من عمر بن عبد الله المستبد عليهم، وشهد لي كبير مجلسه، وولي أبيه وابن وليه: ونزمار بن عريف، ووزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة؛ واحتفت الألطاف. وسألني في ذلك المجلس عن أمر بجاية، وأفهمني أنه يروم تملكها؛ فهونت عليه السبيل إلى ذلك، فسر به؛ وأقمت تلك الليلة في الاعتقال. ثم أطلقني من الغد، فعمدت إلى رباط الشيخ الولي أبي مدين، ونزلت بجواره مؤثراً لذ؛ خلي والانقطاع للعلم لو تركت له.

 

مشايعة السلطان عبد العزيز صاب المغرب علي بني عبد الواد:

ولما دخل السلطان عبد العزيز تلمسان، واستولى عليها، وبلغ خبره إلى أبي حمّو وهو بالبطحاء، فأجفل من هنالك، وخرج في قومه وشيعته من بني عامر، ذاهباً إلى بلاد رياح؛ فسرح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي في العساكر لاتباعه. وجمه عليه أحياء زغبة والمعقل باستئلاف وليه ونزمار وتدبيره؛ ثم أعمل السلطان نظره ورأى أن يقدمني أمامه إلى بلاد رياح لأوطد أمره، وأحملهم على مناصرته، وشفاء نفسه من عدوه بما كان السلطان آنس مني من استتباع رياح، وتصريفهم فيما أريده من مذاهب الطاعة. فاستدعاني من خلوتي بالعباد عند رباط الولي أبي مدين. وأنا قد أخذت في تدريس العلم، واعتزمت على الانقطاع؛ فانسني، وقربني، ودعاني إلى ما ذهب إليه من ذلك؛ فلم يسعني إلا إجابته. وخلع علي، وحملني؛ وكتب إلى شيوخ الزواودة بامتثال ما ألقيه إليهم من أوامره. وكتب إلى يعقوب بن علي، وابن مزنى بمساعدتي على ذلك، وأن يحاولوا على استخلاص أبي حمّو من بين أحياء بني عامر، ويحولوه إلى حي يعقوب بن علي؛ فودعته وانصرفت في عاشوراء إثنين وسبعين وسبعمائة، فلحقت الوزير في عساكره وأحياء العرب من المعقل وزغبة على البطحاء. ولقيته، ودفعت إليه كتاب السلطان، وتقدمت أمامه. وشيعني ونزمار يومئذ، وأوصاني بأخيه محمد. وقد كان أبو حمّو قبض عليه عندما أحس منهم بالخلاف، وأنهم يرومون الرحلة إلى المغرب. وأخرجه معه من تلمسان مقيداً، واحتمله في معسكره؛ فأكد علي ونزمار يومئذ في المحاولة على استخلاصه بما أمكن. وبعث معي ابن أخيه عيسى في جماعة من سويد يبذرق بي ويتقدم إلى أحياء حصين بإخراج أبي زيان من بينهم؛ فسرنا جميعاً، وانتهينا إلى أحياء حصين. وأخبرهم فرح بن عيسى بوصية عمه ونزمار إليهم، فنبذوا إلى أبي زيان عهده، وبعثوا معه منهم من أوصله إلى بلاد رياح. ونزل على أولاد يحيى بن علي بن سباع، وتوغلوا به في القفر، واستمريت أنا ذاهباً إلى بلاد رياح؛ فلما انتهيت إلى المسيلة ألفيت السلطان أبا حمّو وأحياء رياح معسكرين قريباً منها في وطن أولاد سباع بن يحيى من الزواودة، وقد تساتلوا إليه، وبذل فيهم العطاء ليجتمعوا إليه. فلما سمعوا بمكاني بالمسيلة، جاؤوا إلي فحملتهم على طاعة السلطان عبد العزيز، وأوفدت أعيانهم وشيوخهم على الوزير أبي بكر بن غازي، فلقوه ببلاد الديالم عند نهر واصل؛ فآتوه طاعتهم، ودعوه إلى دخول بلادهم في اتباع عدوه. ونهض معهم، وتقدمت أنا من المسيلة إلى بسكرة، فلقيت بها يعقوب بن علي. واتفق هو وابن مزنى على طاعة السلطان، وبعث ابنه محمداً للقاء أبي حمّو وأمير بني عامر خالد بن عامر؛ يدعوهم إلى نزول وطنه، والبعد به عن بلاد السلطان عبد العزيز؛ فوجده متدلياً من المسيلة إلى الصحراء. ولقيه على الذوسن وبات ليلته يعرض عليهم التحول من وطن أولاد سباع إلى وطنهم بشرقي الزاب. وأصبح يومه كذلك، فما راعهم آخر النهار إلا انتشار العجاج خارجاً إليهم من أفواه الثنية؛ فركبوا يستشرقون، وإذا بهوادي الخيل طالعة من الثنية، وعساكر بني مرين والمعقل وزغبة متتالية أمام الوزير أبي بكر بن غازي، قد دل بهم الطريق وفد أولاد سباع الذين بعثتهم من المسيلة؛ فلما أشرفوا على المخيم، أغارو عليه مع غروب الشمس؛ فأجفل بنو عامر، وانتهب فخيم السلطان أبي حمّو ورحائله وأمواله. ونجا بنفسه تحت الليل، وتمزق شمل ولده وحرمه، حتى خلصوا إليه بعد أيام، واجتمعوا بقصور مصاب من بلاد الصحراء وامتلأت أيدي العساكر والعرب من نهابهم. وانطلق محمد بن عريف في تلك الهيعة. أطلقه الموكلون به، وجاء إلى الوزير وأخيه وتزمار، وتلقوه بما يجب له. وأقام الوزير أبو بكر بن غازي على الدوسن أياماً أراح فيها وبعث إليه ابن مزنى بطاعته، وارغد له من الزاد والعلوفة، وارتحل راجعاً إلى المغرب وتخففت بعده أياماً عند أهلي ببسكرة. ثم ارتحلت إلى السلطان في وفد عظيم مرّ الزواودة، يقدمهم أبو دينار أخو يعقوب بن علي، وجماعة من أعيانهم؛ فسابقنا الوزير إلى تلمسان، وقدمنا على السلطان؛ فوسعنا من حبائه وتكرمته، ونزله ما بعد العهد بمثله. ثم جاء من بعدنا الوزير أبو بكر بن غازي على الصحراء، بعد أن مرّ بقصور بني عامر هنالك فخربها، وكان يوم قدومه على السلطان يوماً مشهوداً؛ وأذن بعدها لوفود الزواودة بالانصراف إلى بلادهم. وقد كان ينتظر بهم قدوم الوزير، ووليه ونزمار بن عريف؛ فودعوه، وبالغ في الاحسان إليهم، وانصرفوا إلى بلادهم. ثم أعمل نظره في إخراج أبي زيان من بين أحياء الزواودة لما خشي من رجوعه إلى حصين؛ فوامرني في ذلك، وأطلقني إليهم في محاولة انصرافه عنهم، فانطلقت لذلك. وكان أحياء حصين قد توجسوا الخيفة من السلطان وتنكروا له، وانصرفوا إلى أهلهم بعد مرجعهم من غزاتهم مع الوزير، وبادروا باستدعاء أبي زيان من مكانه عند أولاد يحيى بن علي، وأنزلوه بينهم؛ واشتملوا عليه، وعادوا إلى الخلاف الذي كانوا عليه أيام أبي حمّو؛ واشتعل المغرب الأوسط ناراً. ونجم صبي من بيت الملك في مغراوة، وهو حمزة بن علي بن راشد؛ فر من معسكر الوزير ابن غازي أيام مقامه عليها فاستولى على شلف، وبلاد قومه. وبعث السلطان وزيره عمر بن مسعود في العساكر لمنازلته، وأعيا داؤه؛ وانقطعت أنا ببسكرة، وحال ذلك ما بيني وبين السلطان الا بالكتاب والرسالة. وبلغني في تلك الأيام وأنا ببسكرة مفر الوزير ابن الخطيب من الأندلس، وقدومه على السلطان بتلمسان؛ توجس الخيفة من سلطانه، بما كان له من الاستبداد عليه، وكثرة السعاية من البطانة فيه؛ فأعمل الرحلة إلى الثغور المغربية لمطالعتها بإذن سلطانه. فلما حاذى جبل الفتح قفل الفرضة، دخل إلى الجبل، وبيده عهد السلطان عبد العزيز إلى القائد هنالك بقبوله. وأجاز البحر من حينه إلى سبتة، وسار إلى السلطان بتلمسان، وقدم عليهما في يوم مشهود. وتلقاه السلطان من الحظوة والتقريب وإدرار النعم بما لا يعهد مثله. وكتب إلي من تلمسان يعرفني يخبره، ويلم ببعض العتاب على ما بلغه من حديثي الأول بالأندلس. ولم يحضرني الأن كتابه؛ فكان جوابي عنه ما نصه:

الحمد لله ولا قوة إلا بالله، ولا راد لما قضاه الله.

يا سيدي وبعم الذخر الأبدي، والعروة الوثقى التي اعتلقتها يدي، أسلم عليكم سلام القدوم، على المخذوم، والخضوع، للملك المتبوع، لا ! بل أحييكم تحية المشوق، للمعشوق، والمدلج، للصباح المتبلج، وأقرر ما أنتم أعلم بصحيح عقدي فيه من خبي لكم، ومعرفتي بمقداركم، وذهابي إلى أبعد الغايات في تعظيمكم، والثناء عليكم، والإشادة في الإنفاق بمنقاقبكم، ديدنا معروفاً، وسجيةً راسخةً، يعلم الله وكفى به شهيداً؛ وبهذا كما في علمكم قسما ما اختلف لي فيه أولاً ولا آخراً، ولا شاهداً ولا غائباً. وأنتم أعلم بما في نفسي، وأكبر شهادة في خفايا ضميري. ولو كنت ذاك، فقد سلف من حقوقكم، وجميل اخذكم، واجتلاب الحظ- لو هيأه القدر- بمساعيكم، وإيثاري بالمكان من سلطانكم، ودولتكم، ما يستلين معاطف القلوب، ويستل سخائم الهواجس، فأنا أحاشيكم من استشعار نبوة، أو إحقاق ظن؛ ولو تعلق بقلب ساق حر ذرء وذرء، فحاش لله أن يقدح في الخلوص لكم، أو يرجح سوابقكم، إنما هو خبيئة الفؤاد إلى الحشر أو اللقاء. ووالله وجميع ما يقسم به، ما اطلع على مستكنه مني غير صديقي وصديقكم الملابس- كان- لي ولكم الحكيم الفاضل العلم أبي عبد الله الشقوري أعزه الله. نفثة مصدور، ومباثة خلوص، إذ أنا أعلم الناس بمكانه منكم، وقد علم ما كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان، واضمحلال أمره، من إجماع الأمر على الرحلة إليكم، والخفوف إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدو بكم، تعرضت فيها للتهم، ووقفت بمجال الظنون، حتى تورطت في الهلكة بما ارتفع عني مما لم آته، ولا طويت العقد عليه، لولا حلم مولانا الخليفة، وحسن رأيه في وثبات بصيرته، لكنت في الهالكين الأولين؛ كل ذلك شوقاً إلى لقائكم، وتمثلاً لأنسكم؛ فلا تظنوا بي الظنون، ولا تصدقوا في التوهمات، فانا من علمتم صداقة، وسذاجة، وخلوصا، واتفاق ظاهر وباطن، أثبت الناس عهداً، وأحفظهم غيباً، وأعرفهم بوزن الإخوان ومزايا الفضلاء؛ ولأمر ما تأخر كتابي من تلمسان فأني كنت أستشعر ممن استضافني ريباً بخطاب سواه، خصوصاً جهتكم، لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد والمظاهرة واتصال اليد، مع أن الرسول تردد إلي، وأعلمني اهتمامكم واهتمام السلطان، تولاه الله، باستكشاف ما انبهم من حالي؛ فلم أترك شيئاً مما أعلم تشوفكم إليه إلا وكشفت له قناعه، وأمنته على بلاغه؛ ولم أزل بعد انتياش مولانا الخليفة لذمائي، وجذبه بضبعي سابحاً في تيار الشواغل كما علمتم القاطعة حتى عن الفكر.

 

وسقطت إلي بمحل خدمتي من هذه القاصية أخبار خلوصكم إلى المغرب، قبل وصول راجلي إلى الحضرة، غير جلية ولا ملتئمة ولم يتعين فلقي العصى ولا مستقر النّوى؛ فأرجأت الخطاب إلى استجلائها؛ وأفدت في كتابكم العزيز علي، الجاري على سنن الفضل، ومذهب المجد، غريب ما كيفه القدر من تنويع الحال لديكم. وعجبت من تأتي أملكم الشارد فيه كما كنا نستبعده عند المفاوضة؛ فحمدت الله لكم على الخلاص من ورطة الدول على أحسن الوجوه، وأجمل المخارج الحميدة العواقب في الدنيا والدين، العائدة بحسن المآل في المخلف: من أهل وولد ومتاع وأثر، بعد أن رضتم جموح الأيام، وتوقلتم قلل العز، وقدتم الدنيا بحذافيرها، وأخذتم بآفاق السماء على أهلها. وهنيئاً فقد نالت نفسكم التواقة أبعد أمانيها، ثم تاقت إلى ما عند الله؛ واشهد لما ألهمتم للإعراض عن الدنيا ونزع اليد من حطامها عند الإصحاب والإقبال، ونهى الآمال، إلا جذبا وعناية من الله، وحباً؛ وإذا أراد الله أمراً يسر أسبابه.واتصل بي ما كان من تحفي المثابة المولوية بكم، واهتزاز الدولة لقدومكم؛ ومثل تلك الخلافة، أيدها الله، من يثابر على المفاخر، ويستأثر بالأخاير. وليت ذلك عند إقبالكم على الحظ، وأنسكم باجتلاب الامال، حتى يحسن المتاع بكم، ويتجمل السرير الملوكي بمكانكم؛ فالظن إن هذا الباعث الذي هزم الآمال، ونبذ الحظوظ، وهون المفارق العزيز، يسومكم الفرار إلى الله، حتى يأخذ بيدكم إلى فضاء المجاهدة، ويستوي بكم على خودي الرياضة. والله يهدي للتي هي أقوم. وكأني بالأقدام تلت، والبصائر بإلهام الحق صقلت، والمقامات خلفت بعد أن استقبلت، والعرفان شيمت أنواره وبوارقه، والوصول انكشفت حقائقه لما ارتفعت عوائقه. وأما حالي، والظن بكلم الاهتمام بها، والبحث عنها، فغير خفية بالباب المولوي- أعلاه الله- ومظهرها في طاعته، ومصدرها عن أمره، وتصاريفها في خدمته، والزعم إني قمت المقام المحمّود في التشيع، والانحياش، واستمالة الكافة، إلى المناصحة، ومخالطة القلوب للولاية؛ وما يتشوفه مجدكم ويتطلع إليه فضلكم واهتمامكم، من خاصيها في النفس والولد، فجهينة خبره مؤذي كتابي إليكم، ناشىء تأديبي، وثمرة تربيتي؛ فسهلوا له الإذن، وألينوا له جانب النجوى، حتى يؤدي ما عندي وما عندكم، وخذوه بأعقاب الأحاديث أن يقف عند مبادئها، وائتمنوه على ما تحدثون، فليس بظنين على السر.

 

وتشوفي لما يرجع به إليكم سيدي وصديقي وصديقكم المغرب في المجد والفضل، المساهم في الشدائد، كبير المغرب، وظهير الدولة، أبو يحيى بن أبي مدين- كان الله له- في شأن الولد والمخفف، تشوف الصديق لكم، الضنين على الأيام بقلامة الظفر من ذات يدكم، فأطلعوني طلع ذلك ولا يهمكم؛ فالفراق الواقع حسن، والسلطان كبير، والأثر جميل، والعدو الساعي قليل وحقير، والنية صالحة، والعمل خالص؛ ومن كان لله كان الله له.

 

واستطلاع الرياسة المزنية الكافلة- كافأ الله يدها البيضاء- عني وعنكم إلى مثله من أحوالكم استطلاع من يسترجح وزانكم، ويشكر الزمان على ولاده لمثلكم. وقد قررت لعلومه من مناقبكم، وبعد شأوكم، وغريب منحاكم، ما شهدت به آثاركم الشائعة، الخالدة في الرسائل المتأدية، وعلى ألسنة الصادر والوارد من الكافة؛ من حمل الدولة، واستقامة السياسة؛ ووقفته على سلامكم، وهو يراجعكم بالتحية، ويساهمكم بالدعاء.

 

وسلامي على سيدي، وفلذة كبدي ومحل ولدي، الفقيه الزكي الصدر أبي الحسن نجلكم، أعزه الله؛ وقد وقع مني موقع البشرى حلوله من الدولة بالمكان العزيز، والرتبة النابهة، والله يلحفكم جميعاً رداء العافية والستر ويمهد لكم محل الغبطة والأمن، ويحفظ عليكم ما أسبغ من نعمته، ويجريكم على عوائد لطفه وعنايته؛ والسلام الكريم يخصكم من المحب الشاكر الداعي الشائق شيعة فضلكم: عبد الرحمن بن خلدون، ورحمة الله وبركاته في يوم الفطر عام إثنين وسبعين وسبعمائة. وكان بعث إلي مع كتابه نسخة كتابه إلى سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس، عندما دخل جبل الفتح، وصار إلى إيالة بني مرين، فخاطبه من هنالك بهذا الكتاب، فرأيت أن أثبته هنا وإن لم يكن من غرض التأليف لغربته، ونهايته في الجودة، وإن مثله لا يهمل من مثل هذا الكتاب، مع ما فيه من زيادة الاطلاع على أخبار الدول في تفاصيل أحوالها. ونص الكتاب:

بانوا فمن كان باكياً يبكي         هذي ركاب السرى بلا شك

فمن ظهور الركاب معملة        إلى بطون الربى إلى الفلك

تصدع الشمل مثلما انحدرت       إلى صبوب جواهر السلك

من النوى قبل لم أزل حذراً       هذى النوى جل مالك الملك

مولاي. كان الله لكم وتولى أمركم. أسلم عليكم سلام الوداع، وأدعو الله في تيسير اللقاء والاجتماع، بعد التفرق والانصداع؛ وأقرر لديكم أن الإنسان أسير الأقدار، مسلوب الاختيار، متقلب في حكم الخواطر والأفكار، وأن لا بد لكل أول من آخر، وأن التفرق لما لزم كل إثنين بموتٍ أو في حياة، ولم يكن منه بد، كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب، ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشرور.

 

وبعلم مولاي حال عبده منذ وصل إليكم من المغرب بولدكم ومقامه لديكم بحال قلق وقلعة، لولا تعليلكم، ووعدكم، وارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم، وقطع مراحل الأيام حريصاً على استكمال سنكم، ونهوض ولدكم واضطلاعكم بأمركم، وتمكن هدنة وطنكم، وما تحمل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم، وما استقر بيده من عهودكم، وأن العبد الآن لما تسبب لكم في الهدنة من بعد الظهور وإلعز، ونجح السعي، وتأتى لسنين كثيرة الصلح، ومن بعد أن لم يبق لكم بالأندلس فشغب من القرابة، وتحرك لمطالعة الثغور الغربية، وقرب من فرضة المجاز، واتصال الأرض ببلاد المشرق، طرقته الأفكار، وزعزعت صبره رياح الخواطر، وتذكر إشراف العمر على التمام، وعواقب الاستغراق، وسيرة الفضلاء عند شمول البياض، فغلبته حال شديدة هزمت التعشق بالشمل الجميع، والوطن المليح، والجاه الكبير، والسلطان القليل النظير، وعمل بمقتضى قوله: "موتوا قبل أن تموتوا". فإن صحت هذه الحال المرجو من إمداد الله، تنقلت الأقدام إلى أمام، وقوي التعلق بعروة الله الوثقى، وإن وقع العجز، وافتضح العزم، فالله يعاملنا بلطفه. وهذا المرتكب مرام صعب، لكن سهله علي أمور: منها أن الانصراف لما لم يكن منه بد، لم يتعين على غير هذه الصورة، إذ كان عندكم من باب المحال. ومنها أن مولاي لو سمح لي في غرض الانصراف، لم تكن لي قدرة على موقف وداعه، لا والله ! ولكان الموت أسبق إليئ؛ وكفى بهذه الوسيلة الحبية- التي يعرفها- وسيلة. ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به، وأظن أني لا اصدق. ومنها اغتنام المفارقة في زمن الأمان، والهدنة الطويلة، والاستغناء؛ إذ كان الانصراف المفروض ضرورياً قبيحاً في غير هذه الحال. ومنها- وهو أقوى الأعذار- إنني مهما لم أطق تمام هذا الأمر، أو ضاق ذرعي به، لعجز، أو مرض، أو خوف طريقٍ، أو نفاد زاد، أو شوق غالب، رجعت رجوع الأب الشفيق، إلى الولد البر الرضي، إذ لم أخلف ورائي مانعاً من الرجوع، من قول قبيح أو فعل؛ بل خففت الوسائل المرعية، والآثار الخالدة، والسير الجميلة؛ وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي، وكبار وطني، وأهل طوري، وتركتكم على أتم ما أرضاه، مثنياً عليكم، داعياً لكم. وإن فسح الله في الأمد، وقضى الحاجة، فأملي العودة إلى ولدي وتربتي، وإن قطع الأجل، فأرجو أن أكون مفن وقع أجره على الله.

 

فإن كان تصرفي صواباً، وجارياً على السداد، فلا يلام من أصاب، وإن كان عن حمق، وفساد عقل، فلا يلام من اختل عقله؛ وفسد مزاجه، بل يعذر، ويشفق عليه، ويرحم؛ وإن لم يعط مولاي أمري حقه من العدل، وجلبت الذنوب، وحشرت بعدي العيوب، فحياؤه وتناصفه ينكر ذلك، ويستحضر الحسنات؛ من التربية والتعليم وخدمة السلف وتخليد الاثار وتسمية الولد وتلقيب السلطان، والإرشاد للأعمال الصالحة والمداخلة والملابسة؛ لم يتخلل ذلك قط خيانة في مال ولا سر، ولا غش في تدبير. ولا تعلق به عار، ولا كذره نقص، ولا حمل عليه خوف منكم، ولا طمع فيما بيدكم؛ فإن لم تكن هذه دواعي الرعي والوصلة والإبقاء، ففيم تكون بين بني آدم؛ وأنا قد رحلت. فلا أوصيكم بمال، فهو عندي أهون متروك؛ ولا بولد فهم رجالكم، وخدامكم، ومضن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم؛ ولا بعيال، فهي من مرثيات بيتكم، وخواص داركم، إنما أوصيكم بحظي العزيز- كان علي بوطنكم، وهو أنتم؛ فأنا أوصيكم بكم، فارعوني فيكم خاصة. أوصيكم بتقوى الله، والعمل لغد، وقبض عنان اللهو في موطن الجد، والحياء من الله الذي محص وأقال، وأعاد النعمة بعد زوالها "لينظر كيف تعملون ". وأطلب منكم عوض ما وفرته عليكم، من زاد طريق، ومكافأة، وإعانة، زاداً سهلاً عليكم، وهو أن تقولوا لي: غفر الله لك ما ضيعت من حقي خطأ أو عمداً؛ وإذا فعلتم ذلك فقد رضيت.

 

 واعلموا أيضاً على جهة النصيحة أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر، وعند كل ملك؛ واعتقاده، وبره، والسؤال عنه، وذكره بالجميل، والإذن في زيارته، نجابة منكم، وسعة ذرع ودهاء، فإنما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت، ثم أقشعت، وتركت الأزاهر تفوح، والمحاسن تلوح؛ ومثاله معكم مثال المرضعة أرضعت السياسة، والتدبير الميمون، ثم رقدتكم في مهد الصلح والأمان، وغطتكم بقناع العافية، وانصرفت إلى الحمام تغسل اللبن والوضر، وتعود؛ فإن وجدت الرضيع نائما فحسن، أو قد انتبه فلم تتركه إلا في حد الفطام. وتختم لكم هذه الغزارة بالحلف الأكيد: إني ما تركت لكم وجه نصيحة في دين، ولا في دنيا، إلا وقد وفيتها لكم، ولا فارقتكم إلا عن عجز؛ ومن ظن خلاف هذا فقد ظلمني وظلمكم؛ والله يرشدكم ويتولى أمركم. ونقول: خاطركم في ركوب البحر.

 

انتهت نسخة الكتاب، وفي طيها هذه الأبيات:

صاب مزن الدموع من جفن صبك      عندما استروح الصبا من مهبك

كيف يسلو ياجتي عنك قلب               كان قبل الوجود جن بحبك

ثم قل كيف كان بعد انتشاء                الروح من أنسك الشهيئ وقربك

لم يدع بيتك المنيع حماه                  لسواه إلا إلى بيت ربك

أول عذري الرضا فما جئت بدعاً         دمت والفضل والرضا من دأبك

وإذا ما ادعيت كرباً لفقدي                     أين كربي ووحشتي من كربك

ولدي في ذراك وكري في دو            حك لحدي وتربتي في تربك

يا زمانا أغرى الفراق بشملي           ليتني أهبتي أخذت لحربك

اركبتني صروفك الصعب حتى          جئت بالبين وهو أصعب صعبك

 وكتب آخر النسخة يخاطبني:

 هذا ما تيسر، والله ولي الخيرة لي ولكم من هذا الخباط الذي لا نسبة بينه وبين أولي الكمال. ردنا الله إليه، وأخلص توكلنا عليه، وصرف الرغبة إلى ما لديه. وفي طي النسخة مدرجة نصها:

رضي الله عن سيادتكم. أونسكم بما صدر مني أثناء هذا الواقع مما استحضره الولد في الوقت؛ وهو يسلم عليكم بما يجب لكم؛ وقد حصل من حظوة هذا المقام الكريم على حظ وافر، وأجزل إحسانه، ونوه بجرايته، وأثبت الفرسان خلفه. والحمد لله انتهى.

 

ثم اتصل مقامي ببسكرة، والمغرب الأوسط مضطرب بالفتنة المانعة من الأتصال بالسلطان عبد العزيز، وحمزة بن علي بن راشد ببلاد مغراوة، والوزير عمر بن مسعود في العساكر يحاصره بحصن تاجحمّومت، وأبو زيان العبد الوادي ببلاد خصين، وهم مشتملون عليه وقائمون بدعوته.

 

ثم سخط السلطان وزيره عمر بن مسعود، ونكر منه تقصيره في أمر حمزة وأصحابه، فاستدعاه إلى تلمسان، وقبض عليه، وبعث به إلى فاس معتقلاً، فحبس هناك، وجهز العساكر مع الوزير أبي بكر بن غازي، فنهض إليه، وحاصره؛ ففر من الحصن، ولحق بمليانة مجتازا عليها، فأنذر به عاملها فتقبض عليه، وسيق إلى الوزير في جماعة من أصحابه، فضرب أعناقهم، وصلبهم عظةً ومزدجر الأهل الفتنة.

 

ثم أوعز السلطان بالمسير إلى  حصين، وأبي زيان، فسار في العسكر، واستنفر أحياء العرب من فأوعبهم، ونهض إلى حصين، فامتنعوا بجبل تطري، ونزل الوزير بعساكره ومن معه من أحياء زغبة على الجبل تطري، من جهة التل، فأخذ بمخنقهم، وكاتب السلطان أشياخ الزواودة من رياح بالمسير إلى حصار تيطري من جهة القبلة. وكاتب أحمد بن مزنى صاحب بسكرة بإمدادهم بأعطياتهم وكتب إلي يأمرني بالمسير بهم لذلك، فاجتمعوا علي، وسرت بهم أول سنة أربع وسبعين وسبعمائة؛ حتى نزلنا بالقطفة، ووفدت، في جماعة منهم، على الوزير بمكانه من حصار تيطري، فحد لهم حدود الخدمة، وشارطهم على الجزاء. ورجعنا إلى أحيائهم بالقطفة؛ فاشتدوا في حصار الجبل، وألجأوهم بسوامهم وظهرهم إلى قنته، فهلك لهم الخف والحافر، وضاق ذرعهم بالحصار من كل جانب؛ وراسل بعضهم في الطاعة خفيةً، فارتاب بعضهم من بعض، فانفضوا ليلاً من الجبل، وأبو زيان معهم، ذاهبين إلى الصحراء؛ واستولى الوزير على الجبل بما فيه من مخلفهم. ولما بلغوا مأمنهم من القفر، نبذوا إلى أبي زيان عهده. فلحق بجبال غمرة، ووفد أعيانهم على السلطان عبد العزيز بتلمسان، وفاءوا إلى طاعته، فتقبل فيئتهم، وأعادهم إلى أوطانهم. وتقدم إلي الوزير- عن أمر السلطان- بالمسير مع أولاد يحيى بن علي بن سباع، للقبض على أبي زيان في جبل غمرة، وفاء بحق الطاعة، لأن غمرة من رعاياهم؛ فمضينا لذلك، نجده عندهم. وأخبرونا أنه ارتحل عنهم إلى بلد وأن كلا من مدن الصحراء؛ فنزل على صاحبها أبي بكر بن سليمان؛ فانصرفنا من هنالك. ومضى أولاد يحيى بن علي إلى أحيائهم، ورجعت أنا إلى أهلي ببسكرة، وخاطبت السلطان بما وقع في ذلك، وأقمت منتظراً أوامره حتى جاءني استدعاؤه الى حضرته، فارتحلت إليه.

 

فضل الوزير ابن الخطيب:

وكان الوزير ابن الخطيب آيةً من آيات الله في النظم والنثر، والمعارف والأدب؛ لا يساجل مداه، ولا يهتدى فيها بمثل هداه.

 

فمما كتب عن سلطانه إلى سلطان تونس جواباً عن كتاب وصل إليه مصحوباً بهدية من الخيل والرقيق، فراجعهم عنه بما نصه إلى آخره:

الخلافة التي ارتفع في عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلت مباني فخرها الشائع، وعزها الذائع، على ما أسسه الأسلاف ووجب لحقها الجازم، وفرضها اللازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والاكناف؛ فامتزاجنا بعلائها المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسلاف، وثناؤنا على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرجت الرياض. الأفواف، لما زارها الغمام الوكاف؛ ودعاؤنا بطول بقائها، واتصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة، وفواضلها العميمة، لا تحصره الحدود، ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر في التقصير عن نيل ذلك المرام الكبير الحق والإنصاف. خلافة وجهة تعظيمنا إذ توجهت الوجوه ومن نؤثره إذا أهمنا ما نرجوه، ونفديه ونبديه إذا استمنح المحقوب واستدفع المكروه السلطان الكذا بن أبي اسحق ابن السلطان الكذا، أبي يحى بن أبي بكر ابن السلطان الكذا، أبي زكرياء ابن السلطان الكذا، أبي اسحق ابن الأمير الكذا، أبي زكرياء ابن الشيخ الكذا، أبي محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص، أبقاه الله ومقامه مقام إبراهيم رزقاً وأمانا. لا يخض جلب الثمرات إليه وقتاً ولا يعين زماناً؛ وكان على من يتخطف الناس من حوله مؤيداً بالله معانا. معظم.قدره العالي على الأقدار، ومقابل داعي حقه بالابتدار، المثنى على معاليه المخلدة الاثار، في أصونة النظام والنثار، ثناء الروضة المعطار، على الأمطار، الداعي إلى الله بطول بقائه في عصمة منسدلة الأستار، وعزة ثابتة المركز مستقيمة المدار، وأن يختم له بعد بلوغ غايات الحال، ونهاية الأعمال، بالزلفى وعقبى الدار.

 

عبد الله الغني بالته أمير المسلمين، محمد بن مولانا أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر. 

 

سلام كريم كما حملت أحاديث الأزهار نسمات الأسحار، وروت ثغور الأقاحي والبهار، عن مسلسلات الأنهار، وتجلى على منصة الاشتهار، وجه عروس البهار؛ يخص خلافتكم الكريمة النجار، العزيزة الجار ورحمة الله وبركاته.

 

أما بعد حمد الله الذي أخفى حكمته البالغة عن أذهان البشر، فعجزت عن قياسها، وجعل الأرواح "أجناداً مجندة"- كما ورد في الخبر- تحن إلى أجناسها، منجد هذه الملة من أوليائه الجلة بمن يروض الآمال بعد شماسها، وييسر الأغراض قبل التماسها، ويعنى بتجديد المودات في ذاته وابتغاء مرضاته على حين أخلاق لباسها؛ الملك الحق، واصل الأسباب بحوله بعد انتكاث أمراسها ومغني النفوس بطوله، بعد إفلاسها- حمداً يدر أخلاف النعم بعد إبساسها، وينشر رمم الأموال من أرماسها، ويقدس النفوس بصفات ملائكة السموات بعد إبلاسها.

 

والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله سراج الهداية ونبراسها عند اقتناء الأنوار واقتباسها، فطهر الأرض من أوضارها وأدناسها، ومصطفى الله من بين ناسها، وسيد الرسل الكرام ما بين شيثها وإلياسها، الآتي مهيمناً على آثارها، في حين فترتها ومن بعد نصرتها واستيئاسها، مرغم الضراغم في أخياسها، بعد افترارها وافتراسها، ومعفر أجرام الأصنام وفصمت أجراسها.

 

والرضا عن آله وأصحابه وعترته وأحزابه، حماة شرعته البيضاء وحراسها، وملقحي غراسها، ليوث الوغى عند احتدام مراسها، ورهبان الدجى تتكفل مناجاة السميع العليم، في وحشة الليل البهيم بإيناسها، وتفاوح نسيم الأسحار، عند الإستغار، بطيب أنفاسها.

 

والدعاء لخلافتكم العلية المستنصرية بالصنائع التي تشعشع أيدي العزة القعساء من أكواسها، ولا زالت العصمة الإلهية كفيلة باحترامها واحتراسها، وأنباء الفتوح، المؤيدة بالملائكة والروح، ريحان جلاسها وآيات المفاخر التي ترك الأول للآخر، مكتتبة الأسطار بأطراسها، وميادين الوجود مجالا لجياد جودها وبأسها، والعز والعدل منسوبين لفسطاطها وقسطاسها، وصفيحة النصر العزيز تقبض كفها، المؤيدة بالته، على رياسها، عند اهتياج أضدادها، وشره أنكاسها، لانتهاب البلاد وانتهاسها وهبوب رياح رياحها وتمرد مرداسها.

 

فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من كتائب نصره أمداداً تذعن أعناق الأنام، لطاعة ملككم المنصور الأعلام، عند إحساسها، وآتاكم من آيات العنايات، آية تضرب الصخرة الصماء، ممن عصاها بعصاها، فتبادر بانبجاسها،- من حمراء غرناطة، حرسها الله، وأيام الإسلام، بعناية الملك العلام تحتفل وفود الملائكة الكرام، لولائمها وأعراسها، وطواعين الطعان، في عدو الدين المعان، تجدد عهدها بعام عمواسها.

 

والحمد لله حمداً معاداً يقيد شوارد النعم، ويستدر مواهب الجود والكرم ويؤمن من انتكاث الجدود وانتكاسها، ولي الامال ومكاسها؛ وخلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها، زهو الرياض بوردها وآسها، وتستمد أضواء الفضائل من مقباسها، وتروي رواة الإفادة، والإجادة غريب الوجادة، عن ضحاكها وعباسها. وإلى هذا اعلى الله معارج قدركم، وقد فعل، وأنطق بحجج فخركم من احتفى وانتعل، فإنه وصلنا كتابكم الذي حسبناه، على صنائع الله لنا، تميمة لا تلقع بعدها عين، وجعلناه – على حلل مواهبه- قلادةً لا يحتاج معها زين، ودعوناه من جيب الكنانة آيةً بيضاء الكتابة، لم يبق معها شك ولا مين، وقرأنا منه وثيقة ودً هضم فيها عن غريم الزمان دين، ورأينا منه إنشاءً، خدم اليراع بين يديه وشاءً، واحتزم بهميان عقدته مشاءً، وسئل عن معانيه الإختراع فقال: (إنا انشأناهن إنشاءً)؛ فأهلاً به من عربي أبيً يصف السانح والبانة، ويبين فيحسن الإبانة، أدى الأمانة، وسئل عن حيه فانتمى إلى كنانة، وافصح وهو لا ينبس، وتهللت قسماته وليل حبره يعبس؛ وكأن خاتمه المقفل على صوانه، المتحف بباكر الورد في غير اوانه، رعف من مسك عنوانه؛ ولله من قلم دبج تلك الحلل، ونقع بمجاج الدواة المستمدة من عين الحياة الغلل؛ فلقد تخارق في الجود، مقتدياً بالخلافة التي خلد فخرها في الوجود، فجاد بسر البيان ولبابه، وسمح في سبيل الكرم حتى بماء شبابه، وجمع لفرط بشاشته وفهامته، بند شهادة السيف بشهامته، فمشى من الترحيب، في الطرس الرحيب، على أم هامته.

 

وأكرم به من حكيم، أفصح بملغوز الإكسير، في اللفظ اليسير، وشرح بلسان الخبير، سر صناعة التدبير، كأنما خدم الملكة الساحرة بتلك البلاد، قبل اشتجار الجلاد، فآثرته بالطارف من سحرها والتلاد، أو عثر بالمعلقة، وتيك القديمة المطلقة، بدفينة دار، أو كنز تحت جدار، أو ظفر لباني الحنايا، قبل أن تقطع به عن أمانيه المنايا،  ببديعة، أو خلف جرجير الروم، قبل منازلة القروم، على وديعة، أو أسلمه ابن أبي سرح، في نشب للفتح وسرح، أو حتم له روح بن حاتم ببلوغ المطلب، أو غلب الحظوظ بخدمة آل الأغلب، أو خصه زيادة الله بمزيد، أو شارك الشيعة في أمر أبي يزيد، أو سار على منهاج، في مناصحة بني صنهاج، وفضح بتخليد أمداحهم كل هاج. وأعجب به، وقد عزز منه مثنى البيان بثالث، فجلب سحر الأسماع، واسترقاق الطباع، بين مثانٍ للإبداع ومثالث، كيف اقتدر على هذا المحيد، وناصح مع التثليث فقام التوحيد؛ نستغفر الله ولي العون، على الصمت والصون، فالقلم هو الموحد قبل الكون، والمتصف من صفات السادة، أولي العبادة، بضمور الجسم وصفرة اللون؛ إنما هي كرامة فاروقية، واثارة من حديث سارية وبقية؛ سفر وجهها في الأعقاب، بعد طول الانتقاب، وتداول الأحقاب، ولسان مناب، عن كريم جناب؛ وإصابة السهم لسواه محسوبة، وإلى الرامي الذي سدده منسوبة؛ ولا تنكر على الغمام بارقة، ولا على المتحققين بمقام التوحيد كرامةً خارقة، فما شاءه الفضل من غرائب بر وجد، ومحاريب خلق كريم ركع الشكر فيها وسجد؛ حديقة بيان استثارت نواسم الإبداع من مهبها، واستزارت غمائم الطباع من مصبها، فآتت أكلها مرتين بإذن ربها؛ لا. بل كتيبة عزً طاعنت بقنا الألفات سطورها، فلا يرومها النقد ولا يطورها، ونزعت عن قسي النونات خطوطها، واصطفت من بياض الطرس، وسواد النقس، بلق تحوطها.

 

فما كأس المدير، على الغدير، بين الخورنق والسدير، تقامر بنرد الحباب، عقول ذوي الألباب، وتغم ق كسرى في العباب، وتهدي،- وهي الشمطاء- نشاط الشباب؛ وقد اسرج ابن سريج وألجم، وافصح الغريض بعد ما جمجم، وأعرب التاي الأعجم، ووقع معبد بالقضيب، وشرعت في حساب العقد بنان الكف الخضيب؛ وكأن الأنامل فوق مثالث العود ومثانيه، وعند إغراء الثقيل بثانية، وإجابة صدى الغناء بين مغانيه، المراود تشرع في الوشي، أو العناكب تسرع في المشي؛ وما المخبر بنيل الرغائب، أو قدوم الحبيب الغائب؛ لا. بل إشارة البشير، بكم المشير، على العشير، بأجلب للسرور، من زائره المتلقى بالبرور، وادعى للحبور، من سفيره المبهج السفور؛ فلم نر مثله من كتيبة كتاب تجنب الجرد، تمرح في الأرسان، وتتشوف مجالي ظهورها إلى عرائس الفرسان، وتهز معاطف الارتياح، من صهيلها الصراح، بالنغمات الحسان؛ إذا أوجست الصريخ نازعت أفناء الأعنة، وكاثرت بأسنة آذانها مشرعة الأسنة؛ فإن ادعى الظليم أشكالها فهو ظالم، أو نازعها الظبي هواديها واكفالها فهو هاذٍ أو حالم، وإن سئل الأصمعي عن عيوب الغرر والأوضاح، قال مشيراً إلى وجوهها الصباح:

"جلدة بين العين والأنف سالم "

من كل عبل الشوى، مسابق للنجم إذا هوى، سامي التليل، عريض ما تحت الشليل، ممسوحة أعطافه بمنديل النسيم البليل.

 

من أحمر كالمدام، تجلى على الندام، عقب الفدام، أتحف لونه بالورد، في زمن البرد، وحبي أفق محياه بكوكب السعد، وتشوف الواصفون إلى عذ محاسنه فأعيت على العد؛ بحر يساجل البحر عند المد، وريح تباري الريح عند الشد، بالذراع الأشد؛ حكم له مدير فلك الكفل باعتدال فصل القد، وميزه قدره المميز عند الاستباق، بقصب السباق، عند اعتبار الحد، وولد مختط غرته أشكال الجمال، على الكمال، بين البياض والحمرة ونقاء الخد؛ وحفظ الخلق الوجيه، عن جده الوجيه، ولا تنكر الرواية على الحافظ ابن الجد.

 

وأشقر، أبى الخلق، والوجه الطلق أن يحقر، كأنما صيغ من العسجد، وطرف بالدر وأنعل بالزبرجد، ووسم في الحديث بسمة اليمن والبركة، واختص بفلج الخصام، عند اشتجار المعركة، وانفرد بمضاعف السهام، المنكسرة على الهام، فم الفرائض المشتركة؛ واتصف فلك كفله بحركتي الإرادة والطبع من أصناف الحركة، أصغى إلى السماء بأذن ملهم؛ وأغرى لسان الصهيل- عند التباس معاني الهمز والتسهيل- ببيان المبهم؛ وفتنت العيون من ذهب جسمه، ولجين نجمه، بالدينار والدرهم؛ فإن انقض فرجم، أو ريح لها حجم، وإن اعترض فشفق لاح به للنجم نجم.

 

وأصفر قيد الأوابد الحرة، وأمسك المحاسن وأطلق الغرة؛ وسئل من أنت في قواد الكتائب، وأولي الأخبار العجائب؟ فقال: أنا المهلب بن أبي صفرة؛ نرجس هذه الألوان، في رياض الأكوان، تحثى به وجوه الحرب العوان؛ أغار بنخوة الصائل، على معصفرات الأصائل، فارتداها، وعمد إلى خيوط شعاع الشمس، عند جانحة الأمس، فألحم منها حفته وأسداها، واستعدت عليه تلك المحاسن فما أعداها؛ فهو أصيل تمسك بذيل الليل عرفه وذيله، وكوكب يطلعه من القتام ليله، فيحسده فرقد الأفق وسهيله.

 

وأشهب تغشى من لونه مفاضة، وتسربل منه لأمةً فضفاضة، قد احتفل زينه، لما رقم بالنبال لجينه، فهو الأشمط، الذي حقه لا يغمط، والذارع المسارع، والأعزل الذارع، وراقي الهضاب الفارع، ومكتوب الكتيبة البارع. وأكرم به من مرتاض سالك، ومجتهد على غايات السابقين الأولين متهالك، وأشهب يروي من الخليفة، ذي الشيم المنيفة، عن مالك.

 

وحباري كلما سابق وبارى، استعار جناح الحبارى؛ فإذا أعملت الحسبة، قيل من هنا جاءت النسبة، طرد النمر، لما عظم أمره وامر، فنسخ وجوده بعدمه، وابتزه الفروة ملطخةً بدمه؛ وكأن مضاعف الورد نثر عليه من طبقه، أو الفلك، لما ذهب الحلك، مزج فيه بياض صبحه بحمرة شفقه.

 

وقرطاسيٍ حقه لا يجهل، "متى ما ترقى العين فيه تسفل "؛ إن نزع عنه جله، فهو نجم كله؛ انفرد بمادة الألوان، قبل أن تشوبها يد الأكوان، أو تمزجها اقلام الملوان؛ يتقدم الكتيبة منه لواء ناصع، أو أبيض مناصع؛ لبس وقار المشيب، في ريعان العمر القشيب، وانصتت الآذان من صهيله المطيل المطيب، لما ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب؛ وإن تعتب منه للتأخير متعتب، قلنا: الواو لا ترتب، ما بين فحل وحرة، وبهرمانةٍ ودرة؛ ويا لله من ابتسام غزة، ووضوح يمنن في طرة، وبهجة للعين وقرة؛ وإن ولع الناس بامتداح القديم، وخصوا الحديث بفري الأديم، واوجب المتعصب، وإن أبى المنصب، مرتبة التقديم، وطمح إلى رتبة المخدوم طرف الخديم، وقورن المثري بالعديم، وبخس في شوق الكسد الكيل، ودجا الليل، وظهر في فلك الإنصاف الميل، لما تذوكرت الخيل؛ فجيء بالوجيه والخطار، والذائد وذي الخمار، وداحس والسكب، والأبجر وزاد الركب، والجموح واليحمّوم، والكميت ومكتوم، والأعوج وحلوان، ولاحق والغضبان، وعفزر والزعفران والمحبر واللعاب، والأغر والغراب، وشعلة والعقاب، والفياض واليعبوب، والمذهب واليعسوب، والصموت والقطيب، وهيدب والصبيب، وأهلوب وهداج، والحرون وخراج، وعلوى والجناح، والأحوى ومجاح، والعصا والنعامة، والبلقاء والحمامة، وسكاب والجرادة، وخوصاء والعرادة؛ فكم بين الشاهد والغائب، والفروض والرغائب، وفرق ما بين الأثر والعيان، غني عن البيان؛ وشتان بين الضريح والمشتبه؛ ولله در القائل:

"خذ ما شراه ودع شيئاً سمعت به "

 

والناسخ يختلف به الحكم، وشر الدواب عند التفضيل بين هذه الدواب الضم البكم، إلا ما ركبه نبي، أو كان له يوم الافتخار برهان خفي ومفضل ما سمع على ما رأى غبي؛ فلو أنصفت محاسنها التي وصفت، لأقضمت حب القلوب علفا، وأوردت ماء الشبيبة نطفاً؛ واتخذت لها من عذر الخدود الملاح عذر موشية، وعللت بصفير ألحان القيان كل عشية؛ وأنعلت بالأهلة، وغطيت بالرياض بدل الأجلة.

 

إلى الرقيق، الخليق بالحسن الحقيق، يسوقه إلى مثوى الرعاية روقة الفتيان رعاته، ويهدي عقيقها من سبجه أشكالاً تشهد للمخترع سبحانه بإحكام مخترعاته، وقفت ناظر الاستحسان لا يريم، لما بهره منظرها الوسيم، وتخامل الظليم، وتضاؤل الريم وأخرس مفوه اللسان، وهو بملكات البيان، الحفيظ العليم؛ وناب لسان الحال، عن لسان المقال، عند الاعتقال، فقال يخاطب المقام الذي اطلعت أزهارها غمائم جوده، واقتضت اختيارها بركات وجوده: لو علمنا أيها الملك الأصيل، اللأي كرم منه الإجمال والتفضيل، أن الثناء يوازيها، لكلنا لك بكيلك، أو الشكر يعادلها ويجازيها، لتعرضنا بالوشل إلى نيل نيلك، أو قلنا هي التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر بقوله: "أدرك بخيلك "، حين شرق بدمعه الشرق، وانهزم الجمع واستولى الفرق، واتسع فيه – والحكم لله- الخرق ورأى إن مقام التوحيد بالمظاهرة على التثليث، وحزبه الخبيث، الأولى والأحق.

 

والآن قد أغنى الله بتلك النية، عن اتخاذ الطوال الردينية، وبالدعاء من تلك المثابة الدينية إلى رب البنية، عن الأمداد السنية والأجواد تخوض بحر الماء إلى بحر المنية، وعن الجرد العربية، في مقاود الليوث الأبية؛ وجدد برسم هذه الهدية، مراسيم العهود الودية، والذمم الموحدية، لتكون علامة على الأصل، ومكذبة لدعوى الوقف والفصل، وإشعاراً بالألفة التي لا تزال ألفها ألف الوصل، ولأمها حراماً على النصل.

 

وحضر بين يدينا رسولكم، فقرر من فضلكم ما لا ينكره من عرف علو مقداركم، وأصالة داركم، وفلك إبداركم، وقطب مداركم؛ واجبناه عنه بجهد ما كنا لنقنع من جناه المهتصر، بالمقتضب المختصر، ولا لنقابل طول طوله بالقصر، لولا طرو الحصر. وقد كان بين الأسلاف- رحمة الله عليهم ورضوانه- ود أبرمت من اجل الله معاقده، ووثرت للخلوص، الجلي النصوص، مضاجعه القارة ومراقده، وتعاهد بالجميل يوجع لفقده فاقد، أبى الله إلا أن يكون لكم الفضل في تجديده، والعطف بتوكيده؛ فنحن الآن لا ندري أفي مكارمكم نذكر، أو أفي فواضلكم نشرح أو نشكر، أم فاتحتكم التي هي في الحقيقة عندنا فتح، أم هديتكم، وفي وصفها للأقلام سبح، ولعدو الإسلام بحكمة حكمتها كبح، إنما نكل الشكر لمن يوفي جزاء الأعمال البرة، ولا يبخس مثقال الذرة ولا ادنى من مثقال الذرة، ذي الرحمة الثرة، والألطاف المتصلة المستمرة، لا إله إلا هو.

 

وإن تشوفتم إلى الأحوال الراهنة، وأسباب الكفر الواهية- بقدرة الله- الواهنة، فنحن نطرفكم بطرفها، ونطلعكم على سبيل الإجمال بطرفها؛ وهو أننا لما أعادنا من التمحيص، إلى مثابة التخصيص، من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرر على من قبلنا وعلينا- أن الدنيا- وإن غر الغرور وأنام على سرر الغفلة السرور، فلم ينفع الخطور على أجداث الأحباب والمرور- جسر يعبر، ومتاع لا يغبط من حبي به ولا يحبر، إنما هو خبر يخبر؛ وأن الحسرة بمقدار ما على تركه يجبر، وأن الأعمار أحلام، وأن الناس نيام؛ وربما رحل الراحل عن الخان، وقد جلله بالأذى والدخان، أو ترك به طيباً، وثناء يقوم بعد للآتي خطيباً، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا، والتفقد للثغور مسواكا، وضجيع المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} من حجج الاستشهاد؛ وبادرنا رمق الحصون المضاعة وجنح التقية دامس، وعواريها لا ترد يد لامس، وساكنها بائس، والأعصم في شعفاتها من العصمة يائس؛ فزينا ببيض الشرفات ثناياها، وافعمنا بالعذب الفرات ركاياها وغشينا بالصفيح المضاعف أبوابها، واحتسبنا عند موفي الأجور ثوابها، وبيضنا بناصع الكلس أثوابها؛ فهي اليوم توهم حس العيان، أنها قطع من بيض العنان، وتكاد تناول قرص البدر بالبنان، متكفلة للمؤمنين من فزع الدنيا والآخرة بالأمان؛ وأقرضنا الله قرضا، واوسعنا مدونة الجيش عرضا، وفرضنا إنصافه مع الأهلة فرضا؛ واستندنا من التوكل على الله الغني الحميد إلى ظل لواء، ونبذنا إلى الطاغية عهده على سواء وقلنا: ربنا أنت العزيز، وكل جبار لعزك ذليل، وحزبك هو الكثير، وما سواه قليل؛ أنت الكافي، ووعدك الوعد الوافي، فأفض علينا مدارع الصابرين، واكتبنا من الفائزين بحظوظ رضاك الظافرين، وثبت أقدمنا وانصرنا على القوم الكافرين.

 

فتحركنا أول الحركات، وفاتحة مصحف البركات، في خف من الحشود، واقتصار على ما بحضرتنا من العساكر المظفرة والجنود، إلى حصن آشر البازي المطل، وركاب العدو الضال المضل، ومهدي نفثات الصل، على امتناعه وارتفاعه، وسمو يفاعه، وما بذل العدو فيه من استعداده، وتوفير أسلحته وأزواده، وانتخاب أنجاده؛ فصلينا بنفسنا ناره، وزاحمنا عليه الشهداء نصابر أواره ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة، وجلامده الملمومة وأحجاره، حتى فرعنا- بحول من لا حول ولا قوة الا به- أبراجه المنيعة وأسواره، وكففنا عن البلاد والعباد أضراره، بعد أن استضفنا إليه حصن السهلة جاره؛ ورحلنا عنه بعد أن شحناه رابطة وحامية، وأزوادا نامية، وعملنا بيدنا في رم ما ثلم القتال، وبقر من بطون مسابقة الرجال، واقتدينا بنبينا- صلوات الله عليه وسلامه- في الخندق لما حمى ذلك المجال، ووقع الارتجاز المنقول حديثة والارتجال؛ وما كان ليقر للإسلام مع تركه القرار، وقد كثب الجوار، وتداعى الدعرة وتعاوى الشرار.

 

وقد كنا أغرينا من بالجهة الغربية من المسلمين بمدينة برغه التي سدت بين القاعدتين رندة ومالقة الطريق، وألبست ذل الفراق ذلك الفريق، ومنعتهما ان يسيغا الريق؛ فلا سبيل إلى الإلمام، لطيف المنام، إلا في الأحلام، ولا رسالة إلا في أجنحة هدل الحمام؛ فيسر الله فتحها، وعجل منحها، بعد حرب انبتت فيها النحور، وتزينت الحور. وتبع هذه الأم بنات شهيرة، وبقع للزرع والضرع خيرة، فشفي الثغر من بؤسه، وتهلل وجه الإسلام بتلك الناحية الناجية بعد عبوسة.

 

ثم أعملنا الحركة إلى مدينة إطريرة، على بعد المدى، وتغلغلها في بلاد العدا، واقتحام هول الفلا وغول الردى؛ مدينة تبنتها حمص فأوسعت الدار، واغلت الشوار، وراعت الاشتكثار، وبسطت الاعتمار؛ رجح لدينا قصدها على البعد، والطريق الجعد، ما اشفت به المسلمين من استئصال طائفة من اسراهم، مروا بها آمنين، وبطائرها المشئوم متيفنين، قد أنهكهم الاعتقال، والقيود الثقال، وأضرعهم الإنكسار وجللهم الانكسار، فجدلوهم في مصرع واحد، وتركوهم عبرة للرائي والمشاهد، وأهدوا بوقيعتهم إلى الإسلام ثكل الواجد، وترة الماجد؛ فكبسناها كبسا، وفجأناها بإلهام من لا يضل ولا ينسى، وصبحتها الخيل، ثم تلاحق الرجل لما جن الليل، وحاق بها الويل؛ فأبيح منها الذمار، وأخذها الذمار، ومحقت من مصانعها البيض الأهلة وخسفت الأقمار، وشفيت من دماء أهلها الضلوع الحرار، وسلطت على هياكلها النار، واستولى على الآلاف العديدة من تسبيها الأسار، وانتهى إلى إشبيليه الثكلى المغار فجلل وجوه من بها من كبار النصرانية الصغار، واستولت الأيدي على ما لا يسعه الوصف ولا تقله الأوقار.

 

وعدنا والأرض تموج سبياً، لم نترك بعفرين شبلا ولا بوجرة ظبيا، والعقائل حسرى، والعيون يبهرها الصنع الأسرى وصبح السرى قد حمد من بعد المسرى، فسبحان الذي اشرى؛ ولسان الحمية ينادي، في تلك الكنائس المخربة والنوادي: يا لثارات الأسرى!

 

ولم يكن إلا أن نفلت الأنفال، ووسمت بالأوضاح الأغفال، وتميزت الهوادي والأكفال، وكان إلى غزو مدينة جيان الاحتفال، قدنا إليها الجرد تلاعب الظلال نشاطا، والأبطال تقتحم الأخطار رضى بما عند الله واغتباطاً، والمهندة الدلق تسبق إلى الرقاب استلالا واختراطاً، واستكثرنا من عدد القتال احتياطاً، وأزحنا العلل عمن أراد جهاداً منجياً غباره من دخان جهنم ورباطا، ونادينا الجهاد! الجهاد! يا أمة الجهاد! راية النبي الهاد! الجنة تحت ظلال السيوف الحداد!؛ فهز النداء إلى الله تعالى كل عامر وغامر، وائتمر الجم من دعوى الحق إلى أمر آمر، وأتى الناس من الفجوج العميقة رجالاً وعلى كل ضامر، وكاثرت الرايات ازهار البطاح لوناً وعداً، وسدت الحشود مسالك الطريق العريضة سداً، ومد بحرها الزاخر مداً، فلا يجد لها الناظر ولا المناظر حداً.

 

وهذه المدينة هي الأم الولود، والجنة التي في النار لسكانها من الكفار الخلود؛ وكرسي الملك، ومجنبة الوسطى من السلك؛ باءت بالمزايا العديدة ونجحت، وعند الوزان. بغيرها من أمات البلدان، رجحت، غاب الأسود، وجحر الحيات السود، ومنصب التماثيل الهائلة، ومعلق النواقيس المصلصلة.

 

فأدنينا إليها المراحل، وعنينا ببحار المحلات المستقلات منها الساحل، ولما أكثبنا جوارها، وكدنا نلتمح نارها، تحركنا إليها ووشاح الأفق المرقوم، بزهر النجوم، فد دار  دائره، والليل من خوف الصباح، على سطحه المستباح، قد شابت غدائره، والنسر يرفرف باليمن طائره، والسماك الرامح يثأر بعز الإسلام ثائره، والنعائم راعدة فرائص الجسد، من خوف الأسد، والقوس يرسل سهم السعادة، بوتر العادة، إلى أهداف النعم المعادة، والجوزاء عابرة نهر المجرة، والزهرة تغار من الشعرى العبور بالضرة؛ وعطارد يسدي في حبل الحروب، على البلد المحروب ويلحمه، ويناظر على أشكالها الهندسية فيفحمه، والأحمر يبهر، وبعلمه الأبيض يغري وينهر، والمشتري يبدى غ في فضل الجهاد ويعيد، ويزاحم في الحلقات، على ما للسعادة من الصفقات، ويزيد؛ وزحل عن الطالع منزحل، وعن العاشر مرتحل، وفي زلق السعود وحل؛ والبدر يطالع حجر المنجنيق، كيف يهوي إلى النيق، ومطلع الشمس يرقب، وجدار الأفق يكاد بالعيون عنها ينقب. ولما فشا سر الصباح، واهتزت أعطاف الرايات بتحيات مبشرات الرياح، أطللنا عليها إطلال الأسود على الفرائس، والفحول على العرائس؛ فنظرنا  منظراً يروع بأساً ومنعة، ويروق وضعاً وصنعة، تلفعت معاقله الشم للسحاب ببرود، ووردت من غدر المزن في برود، واشرعت لاقتطاف أزهار النجوم والذراع بين النطاق معاصم رود، وبلداً يعمي الماسح والذارع، وينتظم المحاني والأجارع؛ فقلنا: اللهم نفله أيدي عبادك، وأرنا فيه آية من آيات جهادك؛ ونزلنا بساحتها العريضة المتون، نزول الغيث الهتون، وتيمنا من فحصها بسورة " التين والزيتون "، متبرئة من من أمان الرحمان للبلد المفتون؛ وأعجلنا الناس بحمية نفوسهم النفيسة، وسجية شجاعتهم البئيسة، عن أن تبوأ للقتال المقاعد، وتدني بأسماع شهير النفير منهم الأباعد، وقبل أن يلتقي الخديم بالمخدوم، ويركع المنجنيق ركعتي القدوم؛ فدفعوا من أصحر إليهم من الفرسان. وسبق إلى حومة الميدان، حتى أحجروهم في البلد، وسلبوهم لباس الجلد، في موقف يذهل الوالد عن الولد، صابت السهام فيه غماماً، وطارت كأسراب الحمام تهدى حماما، وأضحت القنا قصداً، بعد أن كانت شهاباً رصداً، وماج بحر القتام بأمواج النصول، وأخذ الأرض الرجفان لزلزال الصياح الموصول؛ فلا ترى إلا شهيدا تظلل مصرعه الحور، وصريعاً تقذف به إلى الساحل تلك البحور؛ ونواشب تبأى بها الوجوه الوجيهة عند الله والنحور؛ فالمقضب، فوده يخضب، والأسمر، غصنه يستثمر، والمغفر، حماه يخفر، وظهور القسي تقصم، وعصم الجند الكوافر تفصم، وورق اليلب في المنقلب يسقط،  والبيض تكتب والسمر تنقط، فاقتحم الربض الأعظم لحينه، وأظهر الله لعيون المبصرين والمستبصرين عزة دينه، وتبرأ الشيطان من خدينه، ونهب الكفار وخذلوا، وبكل مرصد جدلوا؛ ثم دخل البلد بعده غلاباً، وجلل قتلاً واستلاباً؛ فلا تسل إلا الظبا والأسل عن قيام ساعته، وهول يومها وشناعته، وتخريب المبائت والمباني، وغنى الأيدي من خزائن تلك المغاني، ونقل الوجود الأول إلى الوجود الثاني؛ وتخارق السيف فجاء بغير المعتاد، ونهلت القنا الردينية من الدماء، حتى كادت تورق كالأغصان المغترسة والأوتاد، وهمت أفلاك القسي وسحت، وأرنت حتى بخت، ونفدت موادها فشخت، مما ألحت، وسدت المسالك جثث القتلى فمنعت العابر، واستأصل الله من عدوه الشأفة وقطع الدابر، وأزلف الشهيد وأحسب الصابر، وسبقت رسل الفتح الذي يسلم يسمع بمثله في الزمن الغابر. تنقل البشرى من أفواه المحابر، إلى آذان المنابر.

أقمنا بها أياماً نعقر الأشجار، ونستأصل بالتخريب الوجار، ولسان الانتقام من عبدة الأصنام، ينادي: يا لثارات الإسكندرية تشفياً من الفجار، ورعياً لحق الجار؛ وقفلنا وأجنحة الرايات، برياح العنايات، خافقة وأوفاق، التوفيق، الناشئة من خطوط الطريق، موافقة، وأشواق العز بالله نافقة، وحملاء الرفق مصاحبة- والحمد لله- مرافقة؛ وقد ضاقت ذروع الجبال، عن أعناق الصهب السبال، ورفعت على الأكفال، ردفاء كرائم الأنفال، وقلقلت من النواقيس أجرام الجبال، بالهندام والاحتيال؛ وهلك بمهلك هذه الأم بنات كن يرتضعن ثديها الحوافل، ويستوثرن حجرها الكافل؛ شمل التخريب أسوارها، وعجلت النار بوارها.

 

ثم تحركنا بعدها حركة الفتح، وأرسلنا دلاء الأدلاء قبل المتح، فبشرت بالمنح؛ وقصدنا مدينة أبدة، وهي ثانية الجناحين، وكبرى الأختين، ومساهمة جيان في حين الحين؛ مدينة أخذت عرض الفضاء الأخرق، وتمشت فيه أرباضها تمشي الكتابة الجامحة في المهرق؛ المشتملة على المتاجر والمكاسب، والوضع المتناسب، والفلح المعي ريعه عمل الحاسب وكوارة الدبر اللاسب المتعددة اليعاسب؛ فأناخ العفاء بربوعها العامرة، ودارت كؤوس عقار الحتوف، ببنان السيوف، على متديريها المعاقرة، وصبحتها طلائع الفاقرة، وأغريت ببطون أسوارها عوج المعاول الباقرة؛ ودخلت مدينتها عنوة السيف، في أسرع من خطرة الطيف، ولا تسال عن الكيف، فلم يبلغ العفاء من  مدينة حافلة، وعقيلة في حلل المحاسن رافلة، ما بلغ من هذه البائسة التي سجدت لآلهة النيران أبراجها، وتضاءل بالرغام معراجها؛ وضفت على أعطافها ملابس الخذلان، وأقفر من كنائسها كناس الغزلان.

 

ثم تأهبنا لغزو أم القرى الكافرة، وخزائن المزاين الوافرة، و رئة الشهرة السافرة، والأنباء المسافرة؛ قرطبة، وما أدراك ما هيه! ذات الأرجاء الحالية الكاسية، والأطواد الراسخة الراسية، والمباني المباهية، والزهراء الزاهية، والمحاسن غير المتناهية؛ حيث هالة بدر السماء قد استدارت من السور المشيد البناء داراً، ونهر المجرة من نهرها الفياض، المسلول حسامه من غمود الغياض، قد لصق بها جاراً، وفلك الدولاب، المعتدل الانقلاب، قد استقام مداراً، ورجع الحنين اشتياقا إلى الحبيب الأول وأذكاراً حيث الطود كالتاج، يزدان بلجين العذب المجاج، فيزري بتاج كسرى وداراً؛ حيث قسي الجسور المديدة، كأنها عوج المطي العديدة، تعبر النهر قطاراً؛ حيث آثار العامري المجاهد، تعبق بين تلك المعاهد، شذى معطاراً؛ حيث كرائم السحائب، تزور عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الذر نثاراً؛ حيث شمول الشمال تدار على الأدواح، بالغدو والرواح، فترى الغصون سكارى، وما هي بسكارى؛ حيث أيدي الافتتاح، تفتض من شقائق البطاح، أبكاراً؛ حيث ثغور الأقاح الباسم، تقبلها بالسحر زوار النواسم، فتخفق قلوب النجوم الغيارى؛ حيث المصلى العتيق، قد رحب مجالاً وطال مناراً، وأزرى ببلاط الوليد احتقاراً؛ حيث الظهور المثارة بسلاح الفلاح، تجب عن مثل أسنمة المهارى، والبطون كأنها لتدميث الغمائم، بطون العذارى، والأدواح العالية، تخترق أعلامها الهادية، بالجداول الحيارى. فما شئت من جو بقيل، ومعرس للحسن ومقيل، ومالك للعقل وعقيل؛ وخمائل، كم فيها للبلابل، من قال وقيل، وخفيف يجاوز بثقيل؛ وسنابل تحكي من فوق سوقها، وقصب بسوقها، الهمزات على الألفات، والعصافير البديعة الصفات، فوق القضب المؤتلفات، تميل لهبوب الصبا والجنوب،. مالئة الجيوب، بدر الحبوب، وبطاح لا تعرف عين المحل، فتطلبه بالذحل، ولا تصرف في خدمة بيض قباب الأزهار، عند افتتاح السوسن والبهار، غير الغبدان من سودان النحل؛ وبحر الفلاحة الذي لا يدرك ساحله، ولا يبلغ الطية البعيدة راحله؛ إلى الوادي، وسمر النوادي، وقرار دموع الغوادي؛ للتجاسر على تخطيه، عند  تمطيه، الجسر العادي، والوطن الذي ليس من عمرو ولا زيد، والفرا الذي في جوفه كل صيد؛ أقل كرسيه خلافة الإسلام، وأغار بالرصافة والجسر دار السلام، وما عسى أن تطنب في وصفه السنة الأقلام أو تعبر به عن ذلك الكمال فنون الكلام.

 

فأعملنا إليها السرى والسير، وقدنا إليها الخيل قد عقد الله في نواصيها الخير. ولما وقفنا بظاهرها المبهت المعجب، واصطففنا بخارجها المنبت المنجب؛ والقلوب تلتمس الإعانة من فنعم مجزل، وتستنزل مدد الملائكة من منجد منزل، والركائب واقفة من خلفنا بمعزل، تتناشد في معاهد الإسلام:

"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل "

 

برز من حاميتها المحاميه، ووقود النار الحاميه، وبقية السيف الوافرة على الحصاد النامية، قطع الغمائم الهامية، وأمواج البحور الطامية؛ واستجنت بظلال أبطال المجال، أعداد الرجال، الناشبة والرامية، وتصدى للنزال، من صناديدها الصهب السبال، أمثال الهضاب الراسية، تجنها جنن السوابغ الكاسية، وقواميسها المفادية للصلبان يوم بوسها بنفوسها المواسية، وخنازيرها التي عدتها عن قبول حجج الله ورسوله، ستور الظلم الغاشية، وصخور القلوب القاسية؛ فكان بين الفريقين أمام جسرها الذي فرق البحر، وحلى بلجينه، ولآليء زينه، منها النحر، حرث لم تنسج الأزمان على منوالها، ولا أتت الأيام الحبالى بمثل أجنة اهوالها؛ من قاسها بالفجار أفك وفجر؛ أو مثلها بجفر الهباءة خرف وهجر؛ ومن شبهها بحرب داحس والغبراء، فما عرف الخبر، فليسأل من جرب وخبر؛ ومن نظرها بيوم شعب جبله فهو ذو بله؛ أو عادلها ببطن عاقل، فغير عاقل؛ أو احتبئ بيوم ذي قار، فهو إلى المعرفة ذو افتقار؛ أو ناضل بيوم الكديد، فسهمه غير السديد؛ إنما كان مقاماً غير معتاد، ومرعى نفوس سلم يف بوصفه لسان مرتاد وزلزال جبال أوتاد، ومتلف مذخور لسلطان الشيطان وعتاد؛ اعلم فيه البطل الباسل، وتورد الأبيض الباتر، وتأود الأسمر العاسل، ودوم الجليد المتكاسل، وانبعث من حدب الحنية، إلى هدف الرمية، الناشر الناسل، ورويت لمرسلات السهام المراسل؛ ثم أفضى أمر الرماح إلى التشاجر والإرتباك، ونشبت الأسنة في الدروع نشب السمك في الشباك؛ ثم اختلط المرعي بالهمل، وعزل الرديني عن العمل؛ وعادت السيوف من فوق  المفارق تيجاناً، بعد أن شقت غدر السوابغ خلجاناً؛ واتحدت جداول الدروع، فصارت بحراً وكان التعانق، فلا ترى إلا نحراً يلازم نحراً، عناق وداع، وموقف شمل ذي انصداع، وإجابة منادٍ إلى فراق الأبد وداع؛ واستكشفت مآل الصبر الأنفس الشفافة، وهبت بريح النصر الطلائع المبشرة الهفافة؛ ثم أمد السيل ذلك العباب، وصقل الاستبصار الألباب، واستخلص العزم صفوة اللباب، وقال لسان النصر: ( ادخلوا عليهم الباب)؛ فأصبحت طوائف الكفار، حصائد مناجل الشفار، فمغافرهم قد رضيت حرماتها بالأخفار، ورؤوسهم محطوطة في غير مقام الاستغفار، وعلت الرايات من فوق تلك الأبراج المستطرقة والأسوار، ورفرف على المدينة جناح البوار، لولا الانتهاء إلى الحد والمقدار، والوقوف عند اختفاء سر الأقدار.

ثم عبرنا نهرها، وشددنا بأيدي الله قهرها، وضيقنا حصرها، وأدرنا بلالىء القباب البيض خضرها؛ وأقمنا بها أياما تحوم عقبان البنود على فريستها حياما، وترمي الأدواح ببوارها، وتسلط النيران على أقطارها؛ فلولا عائق المطر، لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر، فرأينا أن نروضها بالأجتثاث والانتساف، ونوالي على زروعها وربوعها كرات رياح الاعتساف؛ حى يتهيأ للإسلام لوك طعمتها، ويتهنا بفضل الله إرث نعمتها؛ ثم كانت من موقفها الإفاضة من بعد نحر النحور، وقذف جمار الدمار على العدو المدحور، وتدافعت خلفنا السيقات المتسقات تدافع أمواج البحور.

 

وبعد أن ألححنا على جناتها المصحرة، وكرومها المستبحرة إلحاح الغريم، وعوضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم، وطاف عليها طائف من ربنا فاصبحت كالصريم، وأغرينا حلاق النار بجمم الجميم، وراكمنا في أحواف أجرافها غمائم الدخان؛ يذكر طيبه البان بيوم العميم، وأرسلنا رياح الغارات (لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم )؛ واستقبلنا الوادي يهول مداً، ويروع سيفه الصقيل حداً؛ فيسره الله من بعد الأعواز، وانطلقت على الفرصة بتلك الفرضة أيدي الانتهاز، وسألنا من سائله أسد بن الفرات فأفتى برجحان الجواز، فعم الاكتساح والاستباح جميع الأحواز فأديل المصون، وانتهبت القرى، وهذت الحصون، واجتثت الأصول، وحطمت الغصون؛ ولم نرفع عنها إلى اليوم غارة تصابحها بالبوس، وتطلع عليها غررها الضاحكة باليوم العبوس؛ فهي الآن مجرى السوابق ومجر العوالي، على التوالي، والحسرات تتجدد في أطلالها  البوالي؛ وكان بها قد ضرعت، وإلى الدعوة المحمدية أسرعت، بقدرة من لو أنزل القرآن على الجبال لخشعت من خشية الله وتصدعت، وعزة من أذعنت الجبابرة لعره وخضعت، وعدنا والبنود لا يعرف اللص نشرها، والوجوه المجاهدة لا يخالط التقطيب بشرها؛ والأيدي بالعروة الوثقى متعلقة، والألسن بشكر نعم الله منطلقة، والسيوف في مضاجع الغمود قلقه، وسراييل الدروع خلقه، والجياد من ردها إلى المرابط والأواري، رد العواري، حنقة، وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقة؛ ننظر إلينا نظر العاتب، وتعود من ميادين الاختيال والمراح، تحت حلل السلاح، عود الصبيان إلى المكاتب؛ والطبل بلسان العز هادر، والعزم إلى منادي العود الحميد مبادر، ووجود نوع الرماح، من بعد ذلك الكفاح نادر، والقاسم يرتب بين يديه من السبي النوادر، ووارد مناهل الأجور، غير المحلاء ولا المهجور، غير صادر، ومناظر الفصل الآتي، عقب أخيه الشاتي، على المطلوب المواتي مصادر والله على تيسير الصعاب، وتخويل المنن الرغاب، قادر؛ لا اله إلا هو. فما أجمل لنا صنعه الحفي، وإكرم بنا لطفه الخفي، الفهم لا نحصي ثناء عليك، ولا نلجأ منك إلا إليك، ولا نلتمس خيم الدنيا والآخرة إلا لديك؛ فأعد علينا عوإئد نصرك، يا مبدىء يا معيد، وأعنا من وسائل شكرك، على ما ينثال به المزيد، يا حي يا قيوم يا فعال لما يريد.

 

وقارنت رسالتكم الميمونة لدينا حذق فتح بعيد صيته مشرئبً ليته، وفخر من فوق النجوم العواتم مبيته، عجبناً من تأتي أمله الشارد، وقلنا: البركة في قدم الوارد؛ وهو أن ملك النصارى لاطفنا بجملةٍ من الحصون كانت من مملكة الإسلام قد غصبت، والتماثيل فيها ببيوت الله قد نصبت ادالها الله- بمحاولتنا- الطيب من الخبيث، والتوحيد من التثليث، وعاد إليها الإسلام عود الأب الغائب، إلى البنات الحبائب، يسأل عن شؤونها، ويمسح دموع الرقة من جفونها؛ وهي للروم خطة خسف قلما ارتكبوها فيما نعلم من العهود، ونادرة من نوادر الوجود. وإلى الله علينا وعليكم عوارف الجود، وجعلنا في محاريب الشكر من الركع السجود.

 

عرفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير، ويمن من الله وتيسير، إذ استيفاء الجزئيات عسير لنسركم بما منح الله دينكم، ونتوج بعز الملة الحنيفية جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم؛ فإن دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض، وكفيل بالمواهب.

 

المسئولة من المنعم الوهاب متقاض؛ وأنتم أولى من ساهم في بر، وعامل الله بخلوص سر؛ وأين يذهب الفضل عن بيتكم، وهو صفة حيكم، وتراث ميتكم، ولكم مزية القدم، ورسوخ القدم؛ والخلافة مقرها إيوانكم، وأصحاب الإمام مالك- رضي الله عنه- مستقرها قيروانكم، وهجير المنابر ذكر إمامكم، والتوحيد إعلام أعلامكم، والوقائع الشهيرة في الكفر منسوبة إلى أيامكم، والصحابة الكرام فتحة أوطانكم، وسلالة الفاروق عليه السلام وشائج سلطانكم؛ ونحن نستكثر من بركة خطابكم، ووصلة جنابكم؛ ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيدات تعريف أبوابكم.

 

والله- عز وجل- يتولى عنا من شكركم المحتوم، ما قصر المكتوب منه عن المكتوم؛ ويبقيكم لإقامة الرسوم، ويحل محبتكم من القلوب محل الأرواح من الجسوم؛ وهو سبحانه يصل سعدكم، وبحرس مجدكم، ويوالي نعمه عندكم.

 

والسلام الكريم، الطيب الزكي المبارك البر العميم، يخصكم كثيراً أثيراً، ما أطلع الصبح وجهاً منيرا، بعد أن أرسل النسيم سفيراً، وكان الوميض الباسم لأكواس الغمائم، على أزهار الكمائم، مديرا؛ ورحمة الله وبركاته.

 

وكتب إلي يهنئني بمولود، ويعاتب على تأخير الخبر بولاده عنه:

هنيئاً أبا الفضل الرضا وأبا زيد          وأفنت من بغي يخاف ومن كيد

بطالع يمني طال في السعد شأوه          فما هو من عمرو الرجال و، زيد

وقيد بشكر الله أنعمه التي                أوابدها تأبى سوى الشكر من قيد

 أهلا بدري المكاتب، وصدري المراتب، وعتبى الزمن العاتب وبكر المشتري والكاتب؛ ومرحباً بالطالع، في أسعد المطالع، والثاقب، في أجلى المراقب؛ وسهلاً بغيي البشير، وعزة الأهل والعشير، وتاج الفخر الذي يقصر عنه كسرى واردشير؛ الآن اعتضدت الحلة الحضرمية بالفارس، وأمن السارح في حمى الحارس، وسعدت بالمنير الكبير، أفلاك التدوير، من حلقات المدارس، وقرت بالجنى الكريم عين الغارس، واحتقرت أنظار الآبلي وأبحاث ابن الدارس؛ وقيل للمشكلات: طالما الفت الخمرة، وأمضيت على الأذهان الإمرة، فتأهبي للغارة المبيحة لحماك، وتحيزي إلى فئة البطل المستأثر برشف لماك. ولله من نصبة احتفى سفيها المشتري واحتفل، وكفى سني تربيتها وكفل، واختال عطارد في حلل الجذل لها ورفل، واتضحت الحدود، وتهللت الوجوه، وتنافست المثلثات تؤمل الحظ وترجوه، ونبه البيت على واجبه، وأشار لحظ الشرف بحاجبه، وأسرع نير النوبة في الأوبة، قائما في الإعتذار مقام التوبة؛ واستأثر بالبروج المولدة بيت البنين، وتخطت خطا القمر رأس الجوزهر وذنب التنين؛ وساوق منها حكم الأصل، حذوك النعل بالنعل، تحويل السنين، وحقق هذا المولود بين المواليد نسبة عمر الوالد، فتجاوز درجة المئين؛ واقترن بعاشره السعدان اقتران الجسد، وثبت بدقيقة مركزه قلب الأسد، وسرق من بيت أعدائه خرثي الغل والحسد؛ ونظفت طرق التسيير، كما نفعل بين يدي السادة عند المسير، وسقط الشيخ الهرم من الدرج في البير، ودفع المقاتل إلى الوبال الكبير:

لم لا ينال العلا أو يعقد التاج            والمشتري طالع والشمس هيلاج

والسعد يركض في ميدانها مرحاً          جذلان والفلك الدوار هملاج

كان به- والله يهديه- قد انتقل من مهد التنويم، إلى النهج القويم؛ ومن أريكة الذراع، إلى تصريف اليراع، ومن كتد الداية، إلى مقام الهداية، والغاية المختطفة البداية؛ جعل الله وقايته عليه عودة، وقسم حسدته قسمة محرم الفحم، بين منخنقةٍ ونطيحةٍ ومترديةٍ  وموقوذة؛ وحفظ هلاله في البدار إلى تمه وبعد تمه، وأقر به عين أبيه وأمه، غير أني- والله يغفر لسيدي- بيد أني راكع في سبيل الشكر وساجد، فأنا عاتب وواجد؛ إذ كان ظني أن البريد بهذا الخبر إلي يعمل، وأن إتحافي به لا يهمل، فانعكست القضية، ورابت الحال المرضية، وفضلت الأمور الذاتية الأمور العرضية، والحكم جازم، واحذ الفرضين لازم؛ إما عدم السوية، ويعارضه اعتناء حبله مغار، وعهدة سلمٍ لم يدخلها جزية ولا صغار؛ أو جهل بمقدار الهبة، ويعارضه علم بمقدار الحقوق، ورضى مناف للعقوق، فوقع الاشكال؛ وربما لطف عذر كان عليه الاتكال. وإذا لم يبشر مثلي بمنحة الله قبل تلك الذات السرية، الخليقة بالنعم الحرية؛ فمن الذي يبشر، وعلى من يعرض بزها أو ينشر، وهي التي واصلت التفقد، وبهرجت المعاملة وأبت أن تنقد، وأنست الغربة وجرحها غير فندمل، ونفست الكربة وجنحها على الجوانح مشتمل؛ فمتى فرض نسيان الحقوق لم ينلني فرض، ولا شهد به علي سماء ولا أرض؛ وإن قصر فيما يجب لسيدي عمل، لم يقصر رجاء ولا أمل، ولي في شرح حمده ناقة وجمل. ومنه جل وعلا نسأل أن يريه قرة العين في نفسه وماله وبنيه، ويجعل أكبر عطايا الهيالج أصغر سنيه، ويقلد عواتق الكواكب البابانية حمائل أمانيه. وإن تشوف سيدي لحال وليه، فخلوة طيبة، ورحمة من جانب الله صيبة، وبرق يشام، فيقال: حدث ما وراءك يا هشام. ولله در شيخنا إذ يقول:

لا بارك الله في إن لم           أصرف النفس في الأهم

وكثر الله في همومي          إن كان غير الخلاص همي

 

وإن انعم سيدي بالإلماع بحالة، وحال الولد المبارك، فذلك من غرر إحسانه، ومنزلته في لحظ لحظي بمنزلة إنسانه؛ والسلام.

العودة إلى المغرب الأقصي ولما كنت في الاعتمال في مشايعة السلطان عبد العزيز ملك المغرب، كما ذكرت تفاصيله، وأنا مقيم ببسكرة في جوار صاحبها أحمد بن يوسف بن مزنى، وهو صاحب زمام رياح، وأكثر عطائهم من السلطان مفترض عليه في جباية الزاب، وهم يرجعون إليه في الكثير من أمورهم؛ فلم أشعر إلا وقد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب، ووغر صدره، وصدق في ظنونه وتوهماته، وطاوع الوشاة فيما يوردون على سمعه من التقول والاختلاق، وجاش صدره بذلك؛ فكتب إلى ونزمار بن عريف، ولي السلطان، وصاحب شواره، يتنفس الصعداء من ذلك، فأنهاه إلى السلطان؛ فاستدعاني لوقته، وارتحلت من بسكرة بالأهل والولد، في يوم المولد الكريم، سنة أربع وسبعينى وسبعمائة، متوجها إلى السلطان، وقد كان طرقه المرض؛ فما هو إلا أن وصلت مليانة من أعمال المغرب الأوسط؛ فلقيني هنالك خبر وفاته، وأن ابنه أبا بكر السعيد نصب بعده للأمر، في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي وانه ارتحل إلى المغرب الأقصى مغذاً السير إلى فاس؛ وكان على مليانة يومئذ علي بن حسون بن أبي علي اليناطي من قواد السلطان وموالي بيته، فارتحلت معه إلى أحياء العطاف، ونزلنا على أولاد يعقوب بن موسى من أمرائهم، وبذرق لي بعضهم إلى حلة أولاد عريف: أمراء سويد؛ ثم لحق بنا بعد أيام، علي بن حسون في عسكره، وارتحلنا جميعاً إلى المغرب على طريق الصحراء؛ وكان أبو حمّو قد رجع بعد مهلك السلطان من مكان انتباذه بالقفر في تيكورارين إلى تلمسان، فاستولى عليها وعلى سائر أعماله؛ فأوعز إلى بني يغمور من شيوخ عبيد الله من المعقل أن يعترضونا بحدود بلادهم من رأس العين مخرج وادي زا فاعترضونا هنالك، فنجا من نجا منا على خيولهم إلى جبل دبدو، وانتهبوا جميع ما كان معنا، وأرجلوا الكثير من الفرسان وكنت فيهم؛ وبقيت يومين في قفره، ضاحياً عارياً إلى أن خلصت إلى العمران، ولحقت بأصحابي بجبل دبدو، ووقع في خلال من الألطاف ما لا يعبر عنه، ولا يسع الوفاء بشكره. ثم سرنا إلى فاس، ووفدت على الوزير أبي بكر، وابن عمه محمد بن عثمان بفاس، في جمادى من السنة؛ وكان لي معه قديم صحبة واختصاص، منذ نزع معي إلى السلطان أبي سالم بجبل الصفيحة عند إجازته من الأندلس، لطلب ملكه، كما مرّ في غير موضع من الكتاب؛ فلقيني من بر الوزير وكرامته، وتوفير جرايته واقطاعه، فوق ما احتسب، وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل، نابه الرتبة، عريض الجاه، منوه المجلس. ثم انصرم فصل الشتاء، وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي، وبين السلطان ابن الأحمر، منافرة بسبب ابن الخطيب، وما دعا إليه ابن الأحمر من إبعاده عنهم؛ وانف الوزير من ذلك، فأظلم الجو بينهما؛ واخذ الوزير في تجهيز بعض القرابة من بني الأحمر ليشغل به ونزع ابن، الأحمر إلى إطلاق الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن من ولد السلطان أبي علي، والوزير مسعود بن رخو بن ماساي، كان حبسهما أيام السلطان عبد العزيز، وبإشارته بذلك لابن الخطيب حين كان ي وزارته بالأندلس؛ فأطلقهما الآن، وبعثهما لطلب الملك بالمغرب، واجازهما في الأسطول إلى سواحل غساسة، فنزلوا بها، ولحقوا بقبائل بالوية هنالك، فاشتملوا عليهم، وقاموا بدعوة الأمير عبد الرحمن. ونهض ابن الأحمر من غرناطة في عساكر الأندلس؛ فنزل على جبل الفتح يحاصره. وبلغت الأخبار بذلك إلى الوزير أبي بكر بن غازي القائم بدولة بني مرين، فجهز لحينه ابن عمه محمد بن الكاس إلى سنته لامداد الحامية الذين لهم بالجبل، ونهض هو في العساكر إلى بطوية لقتال الأمير عبد الرحمن، فوجده قد ملك تازى، فأقام عليها يحاصره؛ وكان السلطان عبد العزيز قد جمع شباباً من بني أبيه المرشحين، فحبسهم بطنجة، فلما وافى محمد بن الكاس سبتة، وقعت المراسلة بينه وبين ابن الأحمر، وعتب كل منهما صاحبه على ما كان منه، واشتد عذل ابن الأحمر على إخلائهم الكرسي من كفئه، ونصبهم السعيد بن عبد العزيز صبياً لم يثغر؛ فاستعتب له محمد، واستقال من ذلك، فحمله ابن الأحمر على أن يبايع لأحد الأبناء المحبوسين بطنجة؛ وقد كان الوزير أبو بكر أوصاه أيضاً بأنه إن تضايق عليه الأمر من الأمير عبد الرحمن، فيفرج عنه بالبيعة لأحد أولئك الأبناء.

 

وكان محمد بن الكاس قد استوزره السلطان أبو سالم لابنه أحمد أيام ملكه، فبادر من وقته إلى طنجة، وأخرج أحمد ابن السلطان أبي سالم من محبسه، وبايع له، وسار به إلى سبتة، وكتب لابن الأحمر يعرفه بذلك، ويطلب منه المدد على أن ينزل له عن جبل الفتح؛ فأمده بما شاء من بالمال والعسكر، واستولى على جبل الفتح، وشحنه بحاميته، وكان أحمد ابن السلطان أبي سالم، قد تعاهد مع بني أبيه في محبسهم، على أن من صار الملك إليه منهم، يجيز الباقين إلى الأندلس؛ فلما بويع له ذهب إلى الوفاء لهم بعهدهم، وأجازهم جميعاً؛ فنزلوا على السلطان ابن الأحمر، فأكرم نزلهم ووفر جراياتهم. وبلغ الخبر بذلك كله إلى الوزير أبي بكر بمكانه من حصار الأمير عبد الرحمن بتازة، فأخذه المقيم المقعد من فعلة ابن عمه، وقوض راجعاً إلى  الملك، وعسكر بكدية العرائس من ظاهرها، وتوعد ابن عمه محمد بن عثمان، فاعتذر بأنه إنما امتثل وصيته، فاستشاط وتهدده؛ واتسع الخرق بينهما، وارتحل محمد بن عثمان بسلطانه ومدده من عسكر الأندلس إلى أن احتل بجبل زرهون المطل على مكناسة، وعسكر به، واشتملوا عليه؛ وزحف إليهم الوزير أبو بكر، وصعد الجبل، فقاتلوه وهزموه، ورجع إلى مكانه بظاهر دار الملك. وكان السلطان ابن الأحمر قد أوصى محمد بن عثمان بالاستعانة بالأمير عبد الرحمن، والاعتضاد به، ومساهمته في جانب من أعمال المغرب يستبد به لنفسه؛ فراسله محمد بن عثمان في ذلك، واستدعاه، واستمده. وكان ونزمار بن عريف ولي سلفهم قد أظلم الجو بينه وبين الوزير أبي بكر، لأنه سأله- وهو يحاصر تازى- في الصلح مع الأمير عبد الرحمن فامتنع- واتهمه بمداخلته، والميل له، فاعتزم على القبض عليه، ودس إليه بذلك بعض عيونه، فركب الفيل، ولحق باحياء الأحلاف من المعقل، وكانوا شيعة للأمير عبد الرحمن، ومعهم علي بن عمر الويعلاني كبير بني ورتاخن، كان انتقض على الوزير ابن غازي، ولحق بالسوس، ثم خاض القفر إلى هؤلاء. الأحلاف، فنزل بينهم مقيماً لدعوة الأمير عبد الرحمن. فجاءهم ونزمار مفلتا من حبالة الوزير أبي بكر، وحرضهم على ما هم فيه، ثم بلغهم خبر السلطان أحمد بن أبي سالم، ووزيره محمد بن عثمان؛ وجاءهم وافد الأمير عبد الرحمن يستدعيهم، وخرج من تازى فلقيهم، ونزل بين أحيائهم، ورحلوا جميعاً بلى إمداد السلطان أبي العباس، حتى انتهوا إلى صفووى. ثم اجتمعوا جميعا على وادي النجا، وتعاقدوا على شأنهم، وأصبحوا من الغد على التعبئة، كل من ناحيته.

 

 وركب الوزير أبو بكر لقتالهم فلم يطق، وولى منهزما، فانحجر بالبلد الجديد، وخيم القوم بكدية العرائس محاصرين له، وذلك أيام عيد الفطر من خمس وسبعين وسبعمائة، فحاصروها ثلاثة أشهر، واخذوا بمخنقها إلى أن جهد الحصار الوزير ومن معه، فأذعن للصلح على خلع الصبي المنصوب السعيد ابن السلطان عبد العزيز، وخروجه إلى السلطان أبي العباس ابن عمه، والبيعة له، وكان السلطان أبو العباس، والأمير عبد الرحمن، قد تعاهدوا- عند الاجتماع بوادي النجا- على التعاون والتناصر، على أن الملك للسلطان أبي العباس بسائر أعمال المغرب، وأن للأمير عبد الرحمن بلداً سجلماسة ودركة، والأعمال التي كانت لجذه السلطان أبي علي أخي السلطان أبي الحسن؛ ثم بدا للأمير عبد الرحمن في ذلك أيام الحصار، واشتط بطلب مراكش وأعمالها، فأغضوا له في ذلك، وشارطوه عليه حتى يتم لهم الفتح؛ فلما انعقد بما بين السلطان أبي العباس، والوزير أبي بكر، وخرج إليه من البلد الجديد، وخلع سلطانه الضبي المنصوب، ودخل السلطان أبو العباس إلى دار الملك، فاتح ست وسبعين وسبعمائة، وارتحل الأمير عبد الرحمن يغذ السير إلى مراكش، وبدا للسلطان أبي العباس، ووزيره محمد بن عثمان في شأنه، فسرحوا العساكر في اتباعه، وانتهوا خلفه إلى وادي بهت، فواقفوه ساعة من نهار، ثم أحجموا عنه، وولوا على راياتهم وسار هو إلى مراكش، ورجع عنه وزيره مسعود بن ماساي، بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودع بها، فسرحه لذلك، وسار إلى مراكش فملكها.

 

وأما أنا فكنت مقيماً بفاس، في ظل الدولة وعنايتها، منذ ندمت على الوزير سنة أربع وسبعين كما مرّ، عاكفاً على قراءة العلم وتدريسه؛ فلما جاء السلطان أبو العباس، والأمير عبد الرحمن، وعسكروا بكدية العرائس، وخرج أهل الدولة إليهم، من الفقهاء والكتاب، والجند، وأذن للناس جميعاً في مباكرة أبواب السلطانين من غير نكير في ذلك، فكنت أباكرهما معا. وكان بيني وبين الوزير محمد بن عثمان ما مرّ ذكره قبل هذا، فكان يظهر لي رعاية ذلك، ويكثر من المواعيد؛ وكان الأمير عبد الرحمن يميل إلي ويستدعيني أكثر أوقاته يشاورني في أحواله؛ فغص بذلك الوزير محمد بن عثمان، وأغرى سلطانه فقبض علي. وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك، وعلم أني إنما أوتيت من جراه، فحلف ليقوضن خيامه، وبعث وزيره مسعود بن ماساي لذلك، فأطلقوني من الغد، ثم كان افتراقهما لثالثه. ودخل السلطان أبو العباس دار الملك، وسار الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وكنت أنا يومئذٍ مستوحشاً، فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزماً على الإجازة إلى الأندلس من ساحل اشفي، معولا في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماساي لهواي فيه، فلما رجع مسعود انثنى عزمي في ذلك، ولحقنا بونزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف لنقدمه وسيلة إلى السلطان أبي العباس، صاحب فاس في الجواز إلى الأندلس، ووافينا عنده داعي السلطان فصحبناه إلى فاس، واستأذنه في شأني، فاذن لي بعد مطاولة، وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان، وسليمان بن داود بن أعراب، ورجال الدولة.

 

وكان الأخ يحيى لما رحل السلطان أبو حمّو من تلمسان، رجع عنه من بلاد زغبة إلى السلطان عبد العزيز فاستقر في خدمته، وبعده في خدمة ابنه محمد السعيد المنصوب مكانه. ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد، استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان، فأذن له، وقدم على السلطان أبي حمّو، فأعاده إلى كتابة سره كما كان أول مرة، وأذن لي أنا بعده، فانطلقت إلى الأندلس بقصد القرار والدعة، إلى أن كان ما نذكر. 

 

الاجازة الثانية إلي الاندلس، ثم إلى تلمسان، واللحاق باحياء العرب، والمقامة عند أولاد عريف:

ولما كان ما قصصته من تنكر السلطان أبي العباس صاحب فاس، والذهاب مع الأمير عبد الرحمن، ثم الرجوع عنه إلى ونزمار بن عريف، طلباً لوسيلته في انصرافي إلى الأندلس بقصد القرار والانقباض، والعكوف على قراءة العلم؛ فتم ذلك، ووقع الإسعاف به بعد الامتناع، وأجزت إلى الأندلس في ربيع سنة ست وسبعين وسبعمائة؛ ولقيني السلطان بالبر والكرامة وحسن النزل على عادته، وكنت لقيت بجبل الفتح كاتب السلطان ابن الأحمر، من بعد ابن الخطيب، الفقيه أبا عبد الله بن زمرك، ذاهباً إلى فاس في غرض التهنئة، وأجاز إلى سبتة في أسطوله، وأوصيته بإجازة أهلي وولدي إلى غرناظة؛ فلما وصل إلى فاس، وتحدث مع أهل الدولة في إجازتهم، تنكروا لذلك، وساءهم استقراري بالأندلس، واتهموا أني ربما احمل السلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبد الرحمن، الذي اتهموني بملابسته، ومنعوا اهلي من اللحاق بي. وخاطبوا السلطان ابن الأحمر في أن يرجعني إليهم؛ فأبى من ذلك، فطلبوا منه أن يجيزني إلى عدوة تلمسان؛ وكان مسعود بن ماسي قد أذنوا له في اللحاق بالأندلس، فحملوه على مشافهة السلطان بذلك، وأبدوا له أني كنت ساعياً في خلاص ابن الخطيب، وكانوا قد اعتقلوه لأول استيلائهم على البلد الجديد وظفرهم به. وبعث إلي ابن الخطيب من محبسه مستصرخاً بي، ومتوسلاً. فخاطبت في شأنه أهل الدولة، وعولت فيه منهم على ونزمار، وابن ماساي، فلم تنجح تلك السعاية، وقتل ابن الخطيب بمحبسه؛ فلما قدم ابن ماساي على السلطان ابن الأحمر- وقد اغروه بي- فألقى إلى السلطان ما كان مني في شأن ابن الخطيب، فاستوحش لذلك، وأسعفهم بإجازتي إلى الغدوة، ونزلت بهنين، والجو بيني وبين السلطان أبي حمّو مظلم، بما كان مني في إجلاب العرب عليه بالزاب كما مرّ. فأوعز بمقامي بهنين، ثم وفد عليه محمد بن عريف فعذله في شأني فبعث عني إلى تلمسان، واستقررت بها بالعباد. ولحق بي اهلي وولدي من فاس، وأقاموا معي، وذلك في عيد الفطر سنة ست وسبعين وسبعمائة، وأخذت في بث العلم، وعرض للسلطان أبي حمّو أثناء ذلك رأي في الدواودة، وحاجة إلى استئلافهم؛ فاستدعاني، وكلفني السفارة إليهم في هذا الغرض، فاستوحشت منه، ونكرته على نفسي، لما آثرته من التخلي والانقطاع، واجبته إلى ذلك ظاهراً، وخرجت مسافراً من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء، فعدلت ذات اليمين إلى منداس، ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول، فتلقوني بالتحفي والكرامة، وأقمت بينهم أياماً حتى بعثوا عن أهلي وولدي من تلمسان، وأحسنوا العذر إلى السلطان عني في العجز عن قضاء خدمته، وأنزلوني باهلي في قلعة ابن سلامة، من بلاد بني توجين التي صارت لهم بإقطاع السلطان، فأقمت بها أربعة أعوام، متخلياً عن الشواغل كلها؛ وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا فقيم بها، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها، وتألفت نتائجها؛ وكانت من بعد ذلك الفيئة إلى تونس كما نذكره.

 

الفيئة إلي السلطان أبي العباس بتونس والمقام بها:

ولما نزلت بقلعة ابن سلامة بين أحياء أولاد عريف، وسكنت منها بقصر أبي بكر بن عريف الذي اختطه بها، وكان من أحفل المساكن وأوثقها. ثم طال مقامي هنالك، وأنا مستوحش من دولة المغرب وتلمسان، وعاكف على تأليف هذا الكتاب، وقد فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب والبربر وزناتة، وتشوفت إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار، بعد أن أمليت الكثير من حفظي، واردت التنقيح والتصحيح؛ ثم طرقني مرض أوفى بي على، الثنية، لولا ما تدارك من لطف الله؛ فحدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي العباس، والرحلة إلى تونس، حيث قرار آبائي، ومساكنهم، وآثارهم، وقبورهم؛ فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته، والمراجعة، وانتظرت، فما كان غير بعيد، وإذا بخطابه وعهوده بالأمان، والاستحثاث للقدوم؛ فكان الخفوف للرحلة؛ فطعنت عن أولاد عريف مع عرب الأخضر من بادية رياح، كانوا هنالك ينتجعون الميرة بمنداس. وارتحلنا في رجب سنة ثمانين وسبعمائة، وسلكنا القفر إلى الدوسن من أطراف الزاب. ثم صعدت إلى التل مع حاشية يعقوب بن علي وجدتهم بفرفار، الضيعة التي اختطها بالزاب، فرحلتهم معي إلى أن نزلنا عليه بضاحية قسنطينة، ومعه صاحبها الأمير إبراهيم أن السلطان أبي العباس بمخيمه، وفي عسكره؛ فحضرت عنده، وقسم لي من بره، وكرامته فوق الرضى. وأذن لي في الدخول إلى قسنطينة، واقامة أهلي في كفالة إحسانه، بينما أصل إلى حضرة أبيه. وبعث يعقوب بن علي معي ابن أخيه أبي دينار في جماعة من قومه، وسرت إلى السلطان أبي العباس، وهو يومئذ قد خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد، لاستنزال شيوخها عن كراسي الفتنة التي كانوا عليها، فوافيته بظاهر سوسة، فحيا وفادتي، وبز مقدمي، وبالغ في تأنيسي، وشاورني في مهمات أموره؛ ثم ردني إلى تونس، وأوعز إلى نائبه بها مولاه فارح بتهيئة المنزل، والكفاية في الجراية، والعلوفة، وجزيل الإحسان؛ فرجعت إلى  تونس في شعبان من السنة، وآويت إلى ظلٍ ظليل من عناية السلطان وحرمته، وبعثت عن الأهل والولد، وجمعت شملهم في مرعى تلك النعمة، وألقيت عصا التسيار؛ وطالت غيبة السلطان إلى أن افتتح أمصار الجريد، وذهب فلهم في النواحي، ولحق زعيمهم يحيى بن يملول ببسكرة، ونزل على صهره ابن مزني، وقسم السلطان بلاد الجريد بين ولده، فأنزل ابنه محمداً المنتصر بتوزر، وجعل نفطة، ونفزاوة من أعماله، وأنزل ابنه أبا بكر بقفصة، وعاد إلى تونس مظفراً، مزهراً، فأقبل علي، واستدناني لمجالسته، والنجي في خلوته، فغمق بطانته بذلك، وأفاضوا في السعايات عند السلطان فلم تنجح؛ وكانوا يعكفون على إمام الجامع، وشيخ الفتيا، محمد بن عرفة، وكانت في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في المربى بمجالس الشيوخ، فكثيراً ما كان يظهر شفوفي عليه، وإن كان أسن مني، فاسودت تلك النكتة في قلبه، ولم تفارقه. ولما قدمت تونس انثال علي طلبه العلم من أصحابه وسواهم؛ يطلبون الإفادة والاستغال، واسعفتهم بذلك، فعظم عليه. وكان يسم التنفير إلى الكثير منهم فلم يقبلوا، واشتدت غيرته، ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه، فاتفقوا على شأنهم في التأنيب علي، والسعاية بي، والسلطان خلال ذلك معرض عنهم في ذلك، وقد كلفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوفه إلى المعارف والأخبار، وأقتناء الفضائل، فأكملت منه أخبار البربر، وزناته. وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل إلي منها، وأكملت منه نسخة رفعتها إلى خزانته، وكان مما يغرون به السلطان علي، قعودي عن امتداحه، فإني كنت قد أهملت الشعر وانتحاله جملة، وتفرغت للعلم فقط، فكانوا يقولون له إنما ترك ذلك استهانة بسلطانك، لكثرة امتداحه للملوك قبلك، وتنسمت ذلك عنهم من جهة بعض الصديق من بطانتهم؛ فلما رفعت له الكتاب، وتوجته باسمه، أنشدت في ذلك اليوم، هذه الق صيدة أمتدحه، وأذكر سيره وفتوحاته، وأعتذر عن انتحال الشعر، وأستعطفه بهدية الكتاب إليه؛ وهي هذه:

هل غير بابك للغريب مؤمل               أوعن جنابك للأماني معدل

هي همة بعثت إليك على النوى         عزما كما شحذا الحسام الصيقل

متبؤأ الدنيا ومنتجع المنى                 والغيث حيث العارض المتهلل

حيث القصور الزاهرات منيفة           تعنى بها زهر النجوم وتحفل

حيث الخيام البيض يرفع للعلا          والمكرمات طرافها المتهدل

حيث الحمى للعزفي ساحاته                     ظل أفاءته الوشيج الذبل

حيث الكرام ينوب عن نار القرى       عرف الكباء بحيهم والمندل

حيث المحرماح يكاد يورق عودها                   مما تعل من الدماء وتنهل

حيث الجياد املن شجعان الوغى                 مما أطالوا في المنار واوغلوا

حيث الوجوه الغرقنعها الحيا               والبشر في صفحاتها يتهلل

حيث الملوك الصيد والنفر الألى                   عز الجوار لديهم والمنزل

من شيعة المهدي بل من شيعة                 التوحيد به الكتاب مفصل

بل شيعة الرحمن ألقى حبهم                  في خلقه فسموا بذاك وفضلوا

شادوا على التقوى مباني عزهم                 لله ما شادوا بذاك وأثلوا

قوم أبو حفصٍ أب لهم وما                            ادراك! والفاروق جد اول

نسب كما اطردت انابيب القنا                      واتى على تقويمهن معدل

سام على هام الزمان كأنه                        للفخر تاج بالبد ورمكلل فضل

فضل الأنام حديثهم وقد يمهم                      ولأنت إن فضلوا اعز وافضل

وبنوا على قلل النجوم ووطدوا                      وبناؤك العالي أشذ واطول

*  * *

ولقد اقول لخائض بحر الفلا

ماضٍ على غول الذجى لايتقي

متقلب فوق الرحال كأنه

يبغي منال الفوز من طرق الغنى

ارح الركاب فقد ظفرت بواهبٍ

لله من خلق كريمٍ في الندى

هذا امير المؤمنين إمامنا

هذا ابوالعئاس خيرخليفة

مستنصر بالله في قهر العداً

سبق الملوك إلى العلا متمهلاً

والليل مزبد الجوانب أليل

تيها وذابله ذبال مشعل

طيف بأطراف المهاد موكل

ويرود مخصبها الذي لا يمجل

يعطي عطاء المنعمين فيجزل

كالروض حياه ندقي مخضوضل

في الدين والذنيا إليه الموئل

شهدت له الشيم التي لا تجهل

وعلى إعانة ربه متوكل

لله منك السابق المتمهل

فلا أنت اعلى المالكين وإن غدوا

قايس قديماً منكم بقديمهم

دانوا لقومكم بأقوم طاعةٍ

سائل تلمساناً بها وزناتةً

واسال باندلس مدائن ملكها

واسال بذا مراً كشاً وقصورها

يتسابقون إلى العلاء وأكمل

فالامر فيه واضح لا يجهل

هي عروة الدين التي لا تفصل

ومرين قبلهم كما قد ينقل

تخبرك حين استياشوا واستوهلوا

ولقد تجيب رشومها من يسأل

يا أيها الملك الذي في نعته ملاء القلوب وفوق ما يتمثل

لله منك مؤيد، عزماته تمضي كما يمضي القضاء المرسل

جئت الزمان بحيث أعضل خطبة فافتر عنه وهو أكلح أعصل

والشمل من ابنائه فتضدع وحمى خلافته مضاع مهمل

والخلق قد صرفوا إليك قلوبهم ورجوا صلاح الحال منك واملوا

فعجلته لما انتدبت لأمره بالبأس والعزم الذي لا يمهل

ذئلت منه جامحا ًلا ينثني سهلت وعراً كاد لا يتسهل

وألنت من سوس العتاة وذدتهم عن ذلك الخرك الذي قد حللوا

كانت بصولة صولة ولقومة يعدو ذويب بها وتسطو المعقل

ومهلهل تسدي وتلحم في التي ما أحكم وها فهي بعد مهلهل

المراد بصولة هنا صولة بن خالد بن حمزه أمير أولاد أبي الليل. وذؤيب: هو ابن عمه أحمد بن حمزة. والمعقل فريق من العرب من احلافهم. ومهلهل: هم بنو مهلهل ابن قاسم أنظارهم وأقتالهم. ثم رجعت إلى وصف العرب وأحيائهم:

عجب الأنام لشأنهم بادون قد                  قذفت بحيهم المطيئ الذلل

رفعوا القباب على العماد وعندها                  الجرد السلاهب والرماح العسل

في كل ظامي الترب متقد الحصى               تهدي للجته الظماء فتنهل

جن شرابهم السراب ورزقهم                       رمح يروح به الكمي ومنصل

حيئ حلول بالعراء ودونهم            قذف النوى إن يظعنوا او يقلبوا

كانوا يروعون الملوك بما بدوا             وغدت ترفه بالنعيم وتخضل

فبدوت لا تلوي على دعةٍ ولا

اطورا يصافحك الهجير وتارة

وإذا تعاطي ضمراً يوم الوغى

مخشوشناً في العزمعتملاً له

تفري حشى البيداء لايسري بها

وتجر أذيال الكتائب فوقها

ترميهم منها بكل مدجج

وبكل اشمر غصنه متاؤد

حتى تفرق ذلك الجمع الألى

ثم استملتهم بانعمك التي

ونزعت من أهل الجريد غواية

خربت من بنيانها ما شيدوا

ونظمت من أمصاره وثغوره

فسددت مطلع النفاق وأنت لا

بشكيمة مرهوبةٍ وسياسةٍ

عذب الزمان لها ولذ مذاقه

فضوى الأنام لعز أروع مالكٍ

وتطابقت فيك القلوب على الرضى

يامالكاً و!سع الزمان وأهله

فالأرض لا ئخشى بها غول ولا

والسفر يجتابون كل تنوفة

سبحان منن بعلاك قد أحيا المنى

سبحان من بهداك أوضح للورى

فكأنما الدنيا عروس تجتلى

وكأن مطبقة البلاد بعدله

وكأن أنوار الكواكب ضوعفت

تأوي إلى ظلل القصور تهدل

فيه بخفاق البنود تظلل

كأس النجيع فبالصهيل تعلل

في مثل هذا يحسن المستعمل

ركب ولا يهوي إليه جحفل

تختال في السمر الطوال وترفل

شاكي السلاح إذا استعار الأعزل

وبكل أبيض شطه متهدل

عصفت بهم ريح الجلاد فزلولوا

خضعوا لعزك بعدها وتذللوا

كانت بهم أبدا تجد وتهزل

وقطعت من أسبابها ما اصلوا

للملك عقدا بالفتوح يفضل

تنبو ظباك ولا العزيمة تنكل

تجري كما يجري فرات سلسل

من بعدماقدمرمنه الحنظل

سهل الخليقة، ماجد متفضل

سيان منها الطفل والمتكهل

دعة وامنا فوق ما قد أملوا

يعدو بساحتها الهزبر المشبل

سرب القطا ما راعهن الأجدل

وأعاد حلي الجيد وهو معطل

قصد السبيل فابصر المتافل

فتميس في حلل الجمال وترفل

عادت فسيحاً ليس فيه مجهل

من نور غرته التي هي اجمل

وكأنما رفع الحجاب لناظرٍ

فرأى الحقيقة في الذي يتخيل

ومنها في العذر عن مدحه:

مولاي غاضت فكرتي وتبلدت

تسمو إلى درك الحقائق همتي

وأجد ليلي في امتراء قريحتي

فابيت يعتلج الكلام بخاطري

من بعدحول انتقيه ولم يكن

فاصونه عن أهله متوارياً

وهي البضاعة في القمول نفاقها

وبنات فكري إن أتتك كليلة

فلها الفخار إذا منحت قبولها

مني الطباع فكل شي  مشكل

فأصذ عن إدراكهن وأعزل

وتعود غوراً بينما تسترسل

والنظم يشرد والقوافي تجفل

في الشعرلي قول يعاب ويمهل

أن لا يضمهم وشعري محفل

سيان فيها الفحل والمتطفل

مرهاء تخطرفي القصوروتخطل

وأنا على ذاك البليغ المقول

ومنها في ذكر الكتاب المؤلف لخزانته:

وإليك من سير الزمان وأهله

صحفا تترجم عن أحاديث الألى

تبدي التبابع والعمالق سرها

والقائمون بملة الإسلام من

لخصت كتب الأولين لجمعها

وألنت حوشي الكلام كأنما

أهديت منه إلى علاك جواهراً

وجعلمه لصوان ملكك مفخراً

والله ما أسرفت فيما قلته

ولأنت أرسخ في المعالي رتبة

فملاك كل فضيلة وحقيقة

والحق عندك في الأمور مقدم

والله اعطاك التي لا فوقها

عبراً يدين بفضلها من يعدل

درجوا فتجمل عنهم وتفصل

وثمود قبلهم وعاد الأول

مضر و بربرهم إذا ما حصلوا

وأتيت أولها بما قد أغفلوا

شي اللغات بها لنطقي ذلل

مكنونة وكواكباً لا تأفل

يبأى الندي به ويزهو المحفل

شيئاً ولا الاسراف مني يجمل

من أن يموة عنده متطفل

بيديك تعرف وضعها إن بدلوا

أبداً فماذا يدعيه المبطل

فاخكم بما ترضى فانت الأعدل

أبقاك ربك للعباد تربهم

فالله يخلقهم ورعيك يكفل

وكنت لما انصرفت عنه من معسكره على سوسة إلى تونس، بلغني- وأنا مقيم بها- أنه أصابه في طريقه مرض، وعقبه إبلال، فخاطبته بهذه القصيدة:

ضحكت وجوه الدهر بعد عبوس                      وتخللتنا رحمة من بوس

وتوضحت غرر البشائر بعد ما                        انبهمت فأطلعها حداة العيس

صدعوا بها ليل الهموم كأنما                          صدعوا الظلام بجذوة المقبوس

فكانهم بثوا حياة في الورى                         نشرت لها الامال من مرموس

قرت عيون الخلق منها بالتي                       اضفت من النعماء خير لبوس

فكأن قومي نادمتهم قرقف                          شربوا النعيم لها بغير كؤوس

يتمايلون من المسرة والرضى                      ويقابلون أهلة بشموس

من راكب وافى يحيي راكباً                         وجليس أنس قاده لجليس

ومشفع لبه يؤنس عنده                            أثرالهدى في المعهد المأنوس

يعتد منها رحمة قدسية                              فيبوء للرحمن بالتقديس

طب بإخلاص الدعاء وإنه                             يشفي من الداء العياء ويوسي

والمعنى به إمام الجامع الأعظم، جامع الزيتونة بتونس.

يا ابن الخلائف والذين بنورهم                      نهجت سبيل الحق بعد دروس

والناصر الدين القويم بعزمة                         طرد استقامتها بغير عكوس

هجرالمنى فيها ولذات المنى                      في لذة التهجيير والتغليس

حاط الرعية بالسياسة فانضوت                   منه لإكرم مالك وسؤوس

أسد يحامي عن حمى اشباله                   حتى ضووا منه لأمنع خيس

قسماً بموشي البطاح وقد غدت                  تختال زهواً في ثياب عروس

والماثلات من الحنايا جثماً                   يخبرن عن طسم وفل جديس

خوص مضفرة البطون كانها              أنضاء ركب في الفلاة حبيس

وخز البلى منها الغوارب والذرى        فلفتن خزراً بالعيون الشوس

لبقاك حرز الأنام وعصمة                      وحياة أرواح لنا ونفوس

ولأنت كافل ديننا بحماية                 لولاك ضيع عهدها وتنوسي

الله أعطاك التي لا فوقها                 وحباك حظا ليس بالموكوس

تعنو القلوب إليك قبل وجوهنا          سيان من رأس ومن مرؤوس

فإذا أقصت فإن رعبك راجل              يحمي على الأعداء كل وطيس

وإذا رحلت فللسعادة آية                 تقتادها في موكب وخميس

وإذا الأدلة في الكمال تطابقت          جاءت بمسموع لها ومقيس

فانعم بملكك دولة عادية                تشقي الأعادي بالعذاب البيس

* * *

وإليكها مني على خجل بها

عذراك فقد طمس الشباب ونوره

لولا عنايتك التي أوليتني

والله ما أبقت ممارسة النوى

أنحى الزمان علي في الأدب الذي

فسطا على وفري وروع مأمني

ورضاك رحمتي التي أعتدها            عذراء قد حليت بكل نفيس

وأضاء صبح الشيب عند طموس

ما كنت أعنى بعدها بطروس

مني سوى مرس أحم دريس

دارسته بمجامع ودروس

واجتث من دوح النشاط غروسي

تحيي منى نفسي وتذهب بوسي

 

ثم كثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات، وابن عربة يزيد في إغرائهم، اجتمعوا إليه، إلى ان أغروا السلطان بسفري معه، ولقنوا النائب بتونس القائد فارح من موالي السلطان أن يتفادى من مقامي معه، خشية على أمره مني بزعمه، وتواطأوا على أن يشهد ابن عرفة بذلك للسلطان، فشهد به في غيبة مني، ونكر السلطان عليهم ذلك، ثم بعث إليّ وأمرني بالسفر معه، فسارعت إلى الامتثال، وقد شق ذلك علي، إلا أني لم أجد محيصاً [عنه] ، فخرجت معه، وانتهيت إلى تبسة، وسط وطن تلول أفريقية، وكان منحدراً في عساكره وتواليفه من العرب إلى توزر؛ لأن ابن يملول كان أجلب عليها سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، واستنقذها من يد إبنه، فسار السلطان إليه، وشرده عنها، وأعاد إليها ابنه وأولياءه. ولما نهض من تبسة، رخعني إلى تونس؛ فأقصت بضيعتي الرياحين من نواحيها لضم زروعي بها، إلى أن قفل السلطان ظافرا منصورا، فصحبته إلى تونس.ولما كان شهر شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، أجمع السلطان الحركة إلى الزاب؛ بما كان صاحبه ابن مزنى قد آوى ابن يملول إليه، ومهد له في جواره؛ فخشيت أن يعود في شأني ما كان في السفرة قبلها. وكانت بالمرسى سفينة لتجار الإسكندرية قد شحنها التجار بأمتعهم وعروضهم، وهي مقلعة إلى الإسكندرية، فتطارحت على السلطان، وتوسلت إليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي، فأذن لي في ذلك، وخرجت إلى المرسى، والناس متسايلون على أثري من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم. فودعتهم، وركبت البحر منتصف شعبان من السنة، وقوضت عنهم بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه، وتفرغت لتجديد ما كان عندي من آثار العلم، والله ولي الأمور سبحانه.

 

الرحلة الى المشرق، وولاية القضاء بمصر:

ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، أقمنا في البحر نحواً من أربعين ليلة، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر. ولعشر ليالٍ من جلوس الملك الظاهر على التخت، واقتعاد كرسى الملك دون أهله بني قلاوون؛ وكنا على ترقب ذلك، لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سموه لذلك، وتمهيده له. وأقمت بالإسكندرية شهراً لتهيئة أسباب الحج ولم يقذر عامئذ، فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الحوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه؛ قد مثل بشاطىء بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجه؛ ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نحدث عن هذا البلد، وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال؛ ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا، حاجهم وتاجرهم، بالحديث عنه. سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس، وكبير العلماء بالمغرب؛ أبا عبد الله المغربي، مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة، فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال  من لم يرها لم يعرف عز الإسلام.

 

وسألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال: كأنما انطلق أهله من الحساب؛ يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب.

 

وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس، الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان، منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر، وتأدية رسالته النبوية إلى الضريح الكريم، سنة ست وخمسين وسبعمائة وسأله عن القاهرة فقال: أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إن الذي يتخيله الإنسان، فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها، لاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيها. فأعجب السلطان والحاضرون لذلك.

 

ولما دخلتها، أقمت أياماً، وانثال علي طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قفة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً؛ فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها.

 

ثم كان الاتصال بالسلطان، فأبر مقامي اللقاء، وأنس الغربة، ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس، وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر، اغتباطا بعودي إليه، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه في تخلية سبيلهم، فخاطبه في ذلك بما نصه.

 

بسم الله الرحمن الرحيم.

عبد الله ووليه أخوه برقوق <…………..>

السلطان الأعظم، المالك الملك الظاهر، السيد الأجل، العالم العادل، المؤيد المجاهد، المرابط المثاغر، المظفر، الشاهنشاه، سيف الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، اسكندر الزمان، مولي الاحسان، مملك أصحاب التخوت والأسرة والتيجان، واهب الأقاليم والأقطار، مبيد الطغاة والبغاة والكفار، ملك البحرين، مسلك سبيل القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، سلطان البسيطة مؤمن الأرض المحيطة، سيد الملوك والسلاطين، قسيم أمير المؤمنين، أبو سعيد برقوق ابن الشهيد شرف الدنيا والدين أبي المعالي أنس. خلد الله سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه- يخص الحضرة السنية السرية، المظفرة الميمونة، المنصورة المصونة، حضرة السلطان العالم، العادل المؤيد، المجاهد الأوحد، أبي العباس، ذخر الإسلام والمسلمين، عدة الدنيا والدين، قدوة الموحدين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدول. لا زالت مملكته بقوته عامرة، ومهابته لنفوس الجبابرة قاهرة، ومعدلته تبوئه غرفات العز في الدنيا والآخرة. سلام صفا ورده وضفا برده، وثناء فاح نده، ولاح سعده، ووداد زاد وجده، وجاد جده.

 

أما بعد حمد الله الذي جعل القلوب أجناداً مجندة، وأسباب الوداد على البعاد مؤكدة، ووسائل المحبة بين الملوك في كل يوم مجددة؛ والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، الذي نصره لله بالرعب مسيرة شهر وأيده وأعلى به منار الدين وشئده؛ وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا طريقه وسؤدده، صلاة دائمة مؤبده. فإننا نوضح لعلمه الكريم، ان الله- وله الحمد- جعل جبلتنا الشريفة مجبولة على تعظيم العلم الشريف وأهله، ورفعة شأنه، ونشر أعلامه، ومحبة أهله وخذامه، وتيسير مقاصدهم، وتحقيق أملهم، والإحسان إليهم، والتقرب إلى الله بذلك في السر والعلانية؛ فإن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، وهداة خلق الله في أرضه؛ لاسيما من رزقه الله الدراية فيما علمه من ذلك، وهداه للدخول إليه من أحسن المسالك، مثل من سطرنا هذه المكاتبة بسببه: المجلس السامي، الشيخي، الأجلي، الكبيرى، العالمي، الفاضلي، الأثيلي، الأثيري، الإمامي، 1لعلامي ا لقدوة،  المقتدي، الفريدى؛ المحققي، الأصيلي، الأوحدي، الماجدي، الولوي، جمال الإسلام والمسلمين، جمال العلماء في العالمين، أوحد الفضلاء، قدوة البلغاء، علامة الأمة، إمام الأئمة، مفيد الطالبين، خالصه الملوك والسلاطين عبد الرحمن بن خلدون المالكي. أدام الله نعمته؛ فإنه أولى بالإكرام، وأحرى، وأحق بالرعاية وأجل قدراً؛ وقد هاجر إلى ممالكنا الشريفة، وآثر الإقامة عندنا بالديار المصرية، لا رغبة عن بلاده، بل تحبباً إلينا، وتقرباً إلى خواطرنا، بالجواهر النفيسة، من ذاته الحسنة، وصفاته الجميلة؛ ووجدنا منه فوق ما في النفوس، مما يجل عن الوصف ويُربي على التعداد. ياله من غريب وصف ودار، قد أتى عنكم بكل غريب؛ وما برح- من حين ورد علينا- يبالغ في شكر الحضرة العلية، ومدح صفاتها الجميلة، إلى أن استمال خواطرنا الشريفة إلى حُبَّها، وآثرنا المُكاتبة إليها "والعين تعشق قبل الأذن أحياناً".

 

وذكر لنا في أثناء ذلك، أن أهله وأولاده، في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العليّة، وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده، ويجتمع شمله بهم مدة إقامته عندنا، فاقتضت آراؤنا الشريفة، الكتابة إلى الحضرة العليّة لهذين السببين الجميلين؛ وقد آثرنا إعلام الحضرة العليّة بذلك، ليكون على خاطره الكريم، والقصد من محبته، يُقدَّمُ أمرَه العالي بطلب أهل الشيخ وليَّ الدين المشار إليه، وإزاحة أعذارهم، وإزالة عوائقهم، والوصيَّة بهم، وتجهيزهم إليه مُكرَّمين، محترمين، على أجمل الوجوه صُحبة قاصِده الشيخ الصالح، العارف السالك الأوحد، سعد الدين مسعود المكْناسي، الواصل بهذه المكاتبة أعزه الله؛ ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة العلية، مع تَوصيةَ من بها من البحرية بمضاعفة إِكرام المشار إليهم وَرِعايتهم، والتَّأكيد عليهم في هذا المعنى، وإذا وصَل من بها مَن البحرية، كان لهم الأمن والإحسان فوق ما في أنفُسهم، ويُرْبي على أملهِم؛ بحيثُ يَهتَمُّ بذلك على ما عُهد من محبَّتِه، وجميل اعتمادِه، مع ما يُتحفُ به من مراسلاته، ومقاصده ومكاتباته. والله تعالى يَحرسُهُ بملائكته وآياته، بِمَنّه ويُمْنِه إن شاء الله.

 

كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ست وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف. الحمد لله وصلواته على سيّدنا محمَّد وآله وصَحبه وسلّم.

 

ثم هلك بعضُ المدرَّسين بمدرسة القمحية بمصر، من وَقْف صلاح الدين بن أَيُّوب، فولاَّني تدريسها مكانه، وبَينا أَنا في ذلك، إِذ سَخِط السلطان قاضي المالكية في دولته، لبعض النَّزَعات فعزله، وهو رابعُ أربعة بعدد المذاهب، يُدعى كلُّ منهم قاضي القُضاة، تمييزاً عن الحُكَّام بالنيابة عنهم، لاَّتساع خُطَّة هذا المعْمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفعُ من الخصومات في جوانبه؛ وكبيرُ جماعتهم قاضي الشَّافعية، لِعُموم ولايته في الأعمال شرقاً وغرباً، وبالصَّعيد والفيوم، واستقلاله بالنظر في أموال الأيتام، والوصايا؛ ولقد يقال بأنّ مباشرة السلطان قديماً بالولاية إنّما كانت تكون له.

 

فلما غزل هذا القاضي المالكيّ سنة ست وثمانين وسبعمائة، اختصنى السلطان بهذه الولاية، تأهيلاً لمكاني، وتنويهاً بذكري، وشافهته بالتفادي من ذلك، فأبى إلاّ إمضاءه؛ وخلع علي بإيوانه، وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقصت بما دفع إليّ من ذلك المقام المحمّود، ووفّيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الحق لومة، ولا يزغبني عنه جاه ولا سطوة، مسّوياً في ذلك بين الخصمين، آخذاً بحقَّ الضعيف من الحكمين، مُعْرِضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين؛ جانحاً إلى التثّبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل الشهادات؛ فقد كان البرّ منهم مختلطاً بالفاجر، والطيّب ملتبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم، لما يموّهون به من الاعتصام بأهل الشوكة؛ فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة، فيظنّون بهم الخير، ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء؛ والتوسّل لهم؛ فاعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم؛ ووقفتُ على بعضِها فعاقبت فيه بموجع العِقَاب، ومؤلم النِكال؛ وتأدّى لعلمى الجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمّل الشهادة؛ وكان منهم كتاب الدواوين القضاة، والتوقيع في مجالسهم، قد درّبوا على إملاء الدعاوي، وتسجيل الحكومات، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود، بإحكام كتابتها، وتوثيق شروطها؛ فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم، وتمويهٌ على القضاة بجاههم، يدّرعون به مما يتوقعونه من مغبتهم، لتعرّضهم لذلك بفعلاتهم؛ وقد يسلّط بعضٌ منهم قَلَمَهُ على العقود المُحْكَمَة، فيُوجِدُ السبيلَ إلى حلّها بوجة فِقهيّ، أو كتابيّ؛ ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاَه أو منحة؛ وخصوصاً في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه؛ فأصبحت خافية الشهرة، مجهولة الأعيان، عرضةً للبُطلان، باختلاف المذاهب المنصوبة للأحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعاً أو تمليكاً شارطوه وأجابوه، مفتاتين فيه على الحكّام الذين ضربوا فيه سدّ الحظر والمنع حمايةً عن التّلاعب؛ وفشا في ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الغرر في العقود والأملاك.

 

فعاملتُ الله في حسم ذلك بما آسفهم عليّ وأحقدهم؛ ثم التفت إلى الفتيا بالمذهب، وكان الحكام منهم على جانب من الحيرة، لكثرة معارضتهم، وتلقينهم الخصوم، وفتياهم بعد نفوذ الحكم؛ وإذا فيهم أصاغر، بيناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون؛ إذا بهم ظهروا إلى مراتب الفتيا والتدريس، فاقتعدوها، وتناولوها بالخزاف، وأجازوها من غير مرتّب ولا مستند للأهلية ولا مرشح؛ إذ الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقّة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مُرْسَلَ، يتجاذب كل الخصوم منها رَسَناً، ويتناول من حافته شِقّاً، يروم به الفتح على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المُفتي من ذلك ملءَ رضاه، وكَفاءَ أمنيته، متتبعاً إياه في شغب الخلاف؛ فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم؛ والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذَّر، وأهلية المفتي و شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي؛ فلا يكاد هذا المدى ينحسم، ولا الشغب ينقطع.

 

فصدعت في ذلك بالحق، وكبحتُ أعنّة أهل الهوى والجَهْل، ورددتهم على أعقابهم. وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب؛ يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك، ولا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يعرف لهم كتاب فى فنّ، قد اتخذوا الناس هزواً، وعقدوا المجالس مثلبةً للأعراض، ومأبنه للحرم؛ فارغمهم ذلك مني، وملأهم حسدا وحقداً عليّ، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، ليشترون بها الجاه ليجيروا به على الله؛ وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم، فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخّصون به الإصلاح، لا يزعهم الدين عن التعرّض لأحكام الله بالجهل؛ فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيتُ حكم الله فيمن أجازوه، فلم يغنوا عنه من الله شيئاً، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطّلة. وانطلقوا يراطؤن السفهاء من النيل من عرضي، وسوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك، وقول الزور، ويبثّونه في الناس، ويدسّون إلى السلطان التظلّم مني فلا يصغي إليهم؛ وأَنا في ذلك مُحْتسِبٌ عند الله ما منيت به من هذا الأمر، ومُعْرِضٌ فيه عن الجاهلين، وماضٍ على سبيل سويّ من الصرامة، وقوّة الشكيمة، وتحرّي العدَالة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والأعراض متى غمزني لامِسُها؛ ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه مني،  ودعوني إلى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الاعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذرّت، بناءً على أن الحاكم لا يتعيّن علبه الحكم مع وجود غيره، وهم يعملون أن قد تمالؤا عليه.

 

وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة، إذا علموا خلافها؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك: "من قضيت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقضي له من النار".

فأبيت في ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقّها؛ والوفاء لها ولمن قلّدنيها، فأصبح الجميع علىّ ألبا، ولمن ينأدي بالتأفّف مني عوناً، وفي النكير عليّ أمّة؛ وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير الحق، لاعتمادي على عِلْمي في الجَرْح، وهي قضية إجماع؛ وانطلقَتِ الألسنُ، وارتفع الصخبُ، وأرادني بعض على الحكم بغرضهم فتوقفت، وأغروا بي الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان؛ وجمع القضاة وأهل الفتياء في مجلس حفل للنظر في ذلك، فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز، وتبين امرهم للسلطان، وأمضيت فيها حكم الله إرغاماً لهم، فغدوا على حَرَد قادرين، ودسوا لأولياء السلطان وعظماء الدولة، يقبحون لهم إهمال جاههم، ورد شفاعتهم مموهين بأن الحامل على ذلك جهل المصطلح، وينفقون هذا  الباطل بعظائم ينسبونها إلي، تبعث الحليم، وتغري الرشيد، يستثيرون حفائظهم علي، ويشربونهم البغضاء لي؛ والله مجازيهم وسائلهم.

 

فكثر الشغب علي من كل جانب، وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة. ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته، خشية من نكير السلطان وسخطه؛ فوقفت بين الورْد والصَدْر، وعلى صراط الرجاء واليأس؛ وعن قريب تداركني اللطف الربّاني، وشملتني نعمة السلطان- أيده الله- في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت- كما زعموا- مصطلحها؛ فردها إلى صاحبها الأول، وأنشطني من عقالها؛ فانطلقت حميد الأثر، مشيعاً من الكإفة بالأسف والدعاء وحميد الثناء؛ تلحظني العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال في بالعودة؛ ورَتَعْتُ فيما كنت راتعاً فيه قبل من مراعي نعمته وظل رضاه وعنايته، قانعا بالعافية التي سألها رسول الله من ربه، عاكفاً على تدريس علم، أو قراءة كتاب، أو أعمال قلم في تدوين أو تأليف، مؤمّلاً من الله؛ قطع صبابة العمر في العبادة، ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته.

 

السفر لقضاء الحج

ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين، واعتزمت على قضاء الفريضة؛ فودعت السلطان والأمراء، وزودوا وأعانوا فوق الكفاية. وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة، إلى مرسى الطور بالجانب الشرقي من بحر السويس؛ وركبت البحر من هنالك، عاشر الفطر، ووصلنا إلى اليَنْبُع لشهر، فوافينا المحمل، ورافقتهم من هنالك إلى مكة، ودخلتها ثاني ذي الحجة، فقضيت الفريضة في هذه السنة، ثم عدت إلى الينبع، فأقمت به خمسين ليلة حتى تهيأ لنا ركوب البحر، ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور، فاعترضتنا الرياح، فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الغربي. ونزلنا بساحل القصير، ثم بَذْرَقْنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص قاعدة الصعيد، فأرحنا بها أياماً، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر، فوصلنا إليها لشهر من سفرنا، ودخلتها في جمادى سنة  تسعين؛ وقضيت حق السلطان في لقائه، وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له، فتقبل ذلك (مني) بقبول حسن، وأقمت فيما عهدت من رعايته وظل إحسانه.

 

وكنت لما نزلت بالينبع، لقيت بها الفقيه الأديب المتفنن، أبا القاسم بن محمد ابن شيخ الجماعة، وفارس الأدباء، ومنفق سوق البلاغة، أبي إسحق إبراهيم الساحلي المعروف جدّه بالطُّوَيْجن، وقد قدم حاجاً، وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم، كاتب سر السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة، الحظي لديه، أبي عبد الله بن زمرك؛ خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوق، ويذكر بعهود الصحبة نصه:

سلوا البارق النجدي من علمي نجد          تبسم فاستبكى جفوني من الوجد

أجاد ربوعي باللوى بورك اللوى             وسح به صوب الغمائم من بعدي

ويا زاجري الأظعان وهي ضوامر            دعوها ترد هيما عطا شفا على نجد

ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصبا       فإن زفير الشوق من مثلها يعدي

يراها الهوى بري القداح وخطها          حروفا على صفح من القفر ممتد

عجبت لها أني تجاذبني الهوى                وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي

لئن شاقها بين العذيب وبارق                      مياه بفيء الظل للبان والرند

فما شاقني إلا بدور خدورها                 وقد لحن يوم النفر في قصب ملد

فكم في قباب الحي من شمس كلة                 وفي فلك الأزرار من قمر سعد

وكم صارِم قد سُل من لَحظِ أحْوَرٍ                  وكم ذابلٍ قد هُزَّ من ناعم القَدِّ

خُذوا الحِذر من سُكَّان رامَة إِنْها                   ضعِيفات كرِّ اللَّحْظِ تَفتكُ بالأسْدِ

سِهام جُفونٍ عن قِسِّيَ حواجِبٍ                  يُصَابُ بها قَلبُ البَريء على عَمْدِ

وروض جَمال ضاعَ عَرْفُ نَسِيمِه                    وما ضاع غيرُ الوَرْد في صَفحة الخدِّ

ونرجِس لَخظٍ أرسل الدَّمعَ لؤْلؤاً                   فَرَشَّ بماءِ الوَرْد رَوضاً من الوَردِ

وكم غُصُنٍ قد عانَق الغُصْنَ مثلَهُ                  وكلٌّ على كلٍّ  من الشًوْق يَسْتَعْدي

قبيحُ وداعُ قد جَلَا لعُيُونِنا                             محاسِنَ من روضِ الجمال بلا عَدِّ

رعَى الله لَيْلَى لو عَلمتُ طريقَها                  فَرَشْتُ لأخفاف المَطِيِّ به خَذي

وما شاقني والطَيْفُ يُرهِبُ أدْمُعى                وَيسْبَح في بحرٍ من الئَيْل مزْبَذ

وقد سُلَّ خفَّاقُ الذُّؤابة بارقٌ                         كما سُلَّ لَمَّاع الصِّقالِ من الغِمْدِ

وهُزتْ مُحَلاَّةً يدُ الشوقِ في الدُّجى              فَحُلَّ الذي أبْرَمْتُ للصَّبْرِ من عَقْدي

وأفلق خفَّاقُ الجوانح نسْمَةً                          تَنِتُم مع الإصباح خافقَة البُردِ

وهبَّ عليلٌ لَفَّ طيّ بُرُودِهِ                  أحاديثَ أهْداها إلى الغَور من نَجْدِ

سَوَى صادِحٍ في الأيكِ لم يَدْرِ ما الهَوَى          ولكن دعا مِنِّي الشُجُونَ على وعدِ

فهَلْ عِندَ لَيْلَى نَعَّم الله لَيْلَها              بانَّ جُفوني ما تَمَل من السهْدِ

وليلةَ إِذْ ولَّى الحَجِيجُ على مِنىً                  وفَت لي المُنَى منها بما شئتُ من قَصْدِ

فَقضيتُ منها فوقَ ما احسَبُ المُنَى             وبُرْدُ عَفافي صانَه الله من بُردِ

وليْسَ سوى لَحظٍ خفيّ نُجِيلُهُ                   وشَكْوى كما آرفضق الجُمانُ من العِقْد

غَفَرْتُ لِدَهْري بعدها كلّ ما جَنى                  سِوَى ما جَنَى وفْدُ المَشِيبِ على فَوْدِي

*  *  *  *

إليكَ أبا زيْد شَكاةً رفعْتُها                وما أنتَ من عَمْرو لدَيّ ولا زَيْد

 

بعَيشِكَ خَبِّرني وما زلتَ مفْضِلا                    أعِندَك من شَوقٍ  كمِثل الذي عِندي

فكمِ ثارَ بي شَوْق إليك مُبرِّحٌ                                   فظَلّت يَدُ الأشواق تَقْدَح من زَنْدي

وصَفقَ حتى الرِّيحُ في لُمَمِ الرُّبَى                 وأشفَق حتى الطَفْلُ في كَبدِ المَهْدِ

يُقابِلُني منكَ الصَّباحُ بوَجْنَةٍ                                     حَكَى شفقاً فيه الحَياءُ الذي تُبْدي

وتُوهِمُني الشمْسَ المنيرةَ غُرَّةٌ                   بوَجْهك صان الله وجهَكَ عن رَدِّ

مُحيَّاك أجْلَى في العُيون من الضُحى                        وذِكرُكَ أحْلَى في الشِّفاهِ من الشهْدِ

وما أنتَ إِلّاَ الشَّمسُ في عُلْو أُفْقِها               تُفيدُك من قُرْب وتُلحَظُ من بُعْدِ

وفي عَمَةٍ من لا تَرَى الشَّمسَ عينُه                         وما نَفْعُ  نُورِ الشَّمًسِ في الأعين الرُّمْدِ

مَن القَوْم صانوا المَجْدَ صَوْنَ عُيُونهِم                         كما قد أباحُوا المَال يُنْهَب لِلرِّفْدِ

إِذا ازدَحَمت يوْماً على المال أُسْرةٌ                فما ازدَحمّوا إِلَّا مَوْرِد المَجْدِ

ومَهْما أغارُوا مُنجِدينَ صَرِيخَهم                     يَشُبُّونَ نارَ الحَرْبِ في الغَوْر والنَّجْد

ولم يَقْتَنُوا بَعْدَ البِناءِ ذَخِيرَة                          سِوَى الصَّارم  المَصْقُول والصَافِنِ النَّهْدِ

وما اقتَسمَ الأنفالَ إِلآَ مُمَدَّحٌ                        بَلاَها بأعْرافِ المُطَهَّمَةِ الجُرْدِ

أتَنسَى ولا تَنْسَى ليالينَا التي                    خَلَسْنا بِهنَ العَيْشَ في جَنةِ الخُلْدِ

ركِبنا إلى اللَّذاتِ في طَلَق الصِّبا                  مَطايا اللَّيالي وادِعينَ إلى حَدّ

فإِن لم نَرِدْ فيها الكُؤُسَ فإنَنا                                    ورَدْنا بها للأنْسِ مُسْتَعْذَبَ الوِرْدِ

أتيتُك في غَرْب وأنتَ رئيسُهُ                                    وبابُكَ للأعْلاَم مُجْتَمَع الوَفْدِ

فآنسْتَ حتى ما شَكَوْتُ بِغُرْبَة                                 ووالَيْت حتى لم أجِد مَضَضَ الفَقْدِ

وعُدت لقطْرِي شاكراً ما بَلَوْتُه                      مِنَ الخُلُق المَحمّودِ والحَسَبِ العِدّ

إلى أن أجَزْتَ البَحْر يا بَحْرُ نَحْوَنا                   وزُرتَ مَزار الغَيْثِ في عَقِب الجَهْد

ألذّ منَ النُّعْمَى على حالِ فاقَةٍ                    وأشْهَى من الوَصْلِ الهَنيً على صَدِّ

وإِن ساءني أن قَوَضَتْ رِحْلَك النوَى               وعُوِّضتَ عَنا بالذَمِيلِ وبالوَخْدِ

لقَد سَرَّني أن لُحْت فيِ أفُقِ العُلا                 على الطَّائِر المَيْمُونِ والطَّالِعِ السَّعد

طَلَعتَ بأفْقِ الشَّرقِ نجْمَ هِدايةٍ                   فجئْت معَ الأنْوار فيه على وعد

*  *  * *

يَميناً بمَن تَسْرِي المَطِيُّ سَواهِماً                عَليها سِهامٌ  قَد رَمَت هَدفَ القَصدِ

 

إِلى بيْتِه كيْما تَزُورَ معاهداً                         أبان بها جِبْرِيلُ عَن كَرَم العَهْدِ

لأنتَ الذي مَهْما دَجا لَيْلُ مشْكِلٍ                  قَدَحْتَ به للنّور واريِةَ الزَّنْدِ

وحيثُ استقلَّت بي ركابٌ لِطِية                   فأنتَ نَجيُّ النَفْس في القُرْبِ والبُعْدِ

*  *  *  *

وإني ببَابِ المُلْك حيث عَهِدتَني                   مديدَ ظِلال الجاه مُسْتَحْصَفَ العَقْد

أُجَهِّز بالإنشاءِكُ كل كَتِيبةٍ                 منَ الكُتْبِ ؛ والكُتَّابى في عَرْضِها جُنْدي

نَلوذُ مِنَ المولَى الإمام محمَّدٍ                     بظل على نَهْر المَجرَّة مُمتَدِّ

إِذا فاض من يُمناه بحرُ سَماحةٍ                    وعمَّ به الطّوفانُ في النجْد والوَهْد

رَكبنا إلى الإحْسان في سفُن الرَّجَا              بحورَ عطاءٍ ليس تجزُرُ عن مَدِّ

فَمَن مُبلِغُ الأمصار عني ألوكةً                      مغَلْغَلَةً في الصِّدق مُنْجَزَةَ الوَعْد

بآيةِ ما أعطى الخليفةَ رَبُّهُ                          مفاتيحَ فَتْحٍ ساقها سائقُ السعدِ

ودُونك من رَوض المحامِدِ  نَفحْةً                    تفوت إذا اصطفَّ النَّديُّ عن النِّدِّ

ثناءً يَقولُ المِسْك إِن ضاعَ عرفُه                    أيا لك من نَدٍّ أما لك من نِدِّ

وما الماءُ في جَوف السَّحابُ مُرَوَّقاً                بأطهر ذَاتاً منكَ في كَنفِ بالمَهْدِ

فكيْفَ وقد حَلَتْك أسْرابَها الحُلى                   وباهَت بكَ الأعلاَم بالعَلَم الفَرد

وما الظَلُ في ثَغْرٍ منَ الدَّهر ِباسِمٍ                 بأصْفَى وأذكَى مِن ثَنائِي ومِن وُدِّي

ولا البَدْرُ مَعْصُوباً بتاجِ تَمامِهِ                         بأبهر من وُدِّي وأسْيَرَ مَنْ حَمْدِي

بَقيتُ ابنَ خَلْدُون إِمامَ هِدايهَ                     ولا زِلْت من دُنْياك في جَنَةِ الخُلْدِ

 

ووصَلها بقولة: سَيِّدي علَم الأعلام، كبير رؤساءِ الإسلام ، مُشرِّف حَمَلة السُّيوِف والأقْلام ، جمال الخَواصّ والظُّهَراء ، أثير الذُّوَل ، خالِصَة المُلُوك ، مُجْتَبَى الْخُلفاء ، نيِّر أفُق العَلاء، أوْحَد الفُضَلاء، قُدْوة العُلَماء، حجَّة البلَغاء .

 

أبقاكم اللّه بقاءً جميلاً يَعْقِد لوَاء الفَخْر، وُيعْلىِ منارَ الفَضْل، ويَرفَع عِمادَ المَجْد، ويوَضِح مَعالم السُّؤدُد ، وُيرسِل أشِعَّة السّعادة، وُيفِيض أنوارَ الهِداية ، وُيطلق ألسنَة المحامد ، ويَنشُرُ أفُقَ المَعارِف ، وُيعْذِب مَوارِد العِناية وُيمْتِعُ بعُمُر النِّهاية ولا نهايةَ .

 

بآيّ التَّحِيات أفاتحُك وقدرُك أعلى ، ومَطْلِع فَضْلِكَ أوْضَحُ وأجْلى ؛ إِن قُلْتُ تحيَّةُ كِسرى في السناء وتبّع فأثرك لا يقتفى ولا يتبع، تلك تحية عجماء لا تبينُ ولا تُبين، وزمزمةٌ  نافَرَها اللسان العربي المبين، وهذه جهالة جهلاء، لا ينطبق على حروفها الاستعلاء، قد محا رسومها الجفاء، وعلى آثار دمنتها العفاء؛ وإن كانت التحيتان طالما أوجف بهما الركاب وقعقع البريد، ولكن أين يقعان مما أريد.

 

تحية الإسلام آصل في الفخر نسباً، وأوْصَلُ بالشرع سبباً، فالأولى أن أحييك بما حيا الله في كتابه رسله وأنبياءه، وحيت به ملائكته في جواره أولياءه فأقول:

سلام عليكم يُرْسِلُ من رحمات الله غماماً، ويفتق من الطُّرُوس عن أزهار المحامد كماماً، ويستصحب من البركات ما يكون على الذي أحسن من ذلك تماما؛ وأجدد السؤال عن الحال الحالية بالعلم والذين، المستمدة من أنوارها سرج المهتدين. زادهاً الله صلاحاً، وعرفها نجاحاً يتبع فلاحاً؛ وأقرر ما عندي من تعظيم أرتقي كل آونة شرفه، واعتقاد جميل يرفع عن وجه البدر كلفه، وثناء انشر بيد الترك صحفه؛ وعلى ذلك أيها السيد المالك، فقد تشعبت علي في مخاطبتك المسالك؛ إن أخذتُ في تقرير فخرك العميم، ونسبك الصميم، فو الله ما ادري بأي ثنية للفخر يرفع العلم، وفي أى بحر من ثنائك يسبح القلم، الأمر جَلَل، "والشمس تكبر عن حلي وعن حلل "، وإن أخذت في شكاة الفراق، والاستعداء على الأشواق، اتسع المجال، وحصرت الروية والارتجال، فالأولى أن اترك عذبة اللسان تلعب بها رياح الأشواق، وأسلة اليراع تخضب مفارق الطُّروس بصبيغ الحبر المُرَاق؛ وغيرك من تركض في مخاطبته جياد اليراع، في مجال الرقاع، مستولية على أمد الإبدإع والاختراع؛ فإنما هو بثُّ يُبْكى، وفراق يُشْكى، فيعلم الله مرضي على أن أشافه عن أنبائك ثغور البروق البواسم، وأن أحملك الرسائل حتى مع سفراء النواسم، وأن اجتلي غرر ذلك الجبين في مُحَيّا الشارق، ولمح البارق.

 

ولقد وجهت لك جملة من الكتب والقصائد، ولا كالقصيدة الفريدة في تأبين الجواهر التي استأثر بهن البحر؛ قدس الله أرواحهم، وأعظم أجرك فيهم؛ فإنها أنافت على مائة وخمسين بيتاً، ولا أدري هل بلغكم ذلك أم غاله الضياع، وغدر وصوله بعد المسافة؛ والذي يطرق لي سوء الظن بذلك، ما صدر في مقابله منكم. فإني على علم من كرم قصدكم، وحسن عهدكم. ومن حين استغرنباكم بذلك بالأفق الشرقي، لم يصلني منكم كتاب، مع علمي بضياع إثنين منها بهذا الأفق الغربي. انتهى.

 

وفي الكتاب إشارة إلى أنه بعث قصيدة في مدح الملك الظاهر صاحب مصر، ويطلب مني رفعها إلى السلطان، وعرضها عليه بحسب الإمكان؛ وهي على روي الهمزة، ومطلعها:

أمدامع منهلة أم لؤلؤ          لما استهل العارض المتلألىء

وبعثها في طيّ الكتاب، واعتذر بأنه استناب في نسخها، فكتبت همزة رويها ألفاً، قال وحقها أن تكتب بالواو، لأنها تبدل بالواو، وتسهل بين الهمزة والواو، وحرف الإطلاق أيضاً يسوقها واواً. هذا مقتضى الصناعة، وإن قال بعض الشيوخ تكتب ألفاً على كل حال، على لغة من لا يسهل، لكنه ليس بشيء.

 

وأذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخط المشرقى لتسهل قراءتها عليهم ففعلت ذلك، ورفعت النسخة والأصل للسلطان، وقرأها كاتب سّره عليه، ولم يرجع إلي منهما شيء، ولم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السلطان، فضاعت من يدي.

 

وكان في الكتاب فصل عرّفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحّو المستبد بأمر المغرب لذلك العهد، وما جاء به من الانتقاض عليهم، والكفران لصنيعهم، يقول فيه: كان مسعود بن رخو الذي أقام بالأندلس عشرين عاماً يتَبَثَّك النعيم؛ ويقود الدنيا، ويتحيّز العيش والجاه، قد أجيز صحبة وُلدَ أبي عثمان، كما تعرفتم من نسخة كتاب أنشأئه بجبل الفتح لأهل الحضرة، فاستولى على المملكة، وحصل على الدنيا، وانفرد برياسة دار المغرب، لضعف السلطان رحمه الله؛ ولم يكن إلا أن كفرت الحقوق، وحُنْظِلَت نخلته السحوق؛ وشف على سواد جلدته العقوق؛ وداخل من بسبتة، فانتقضت طاعة أهلها، وظنوا أن القصبة لا تثبت لهم؛ وكان قائدها الشيخ البهمة، فل الحصار وحلي القتال، ومحش الحرب، أبو زكريا بن شعيب، فثبت للصدمة، ونوّر للأندلس فبادره المدد من الجبل، ومن مالقة. وتوالت الأمداد، وخاف أهل البلد، وراجع شرفاؤه، ودخلوا القصبة. واستغاث أهل البلد بمن جاورهم وجاءهم المدد أيضاً. ثم دخل الصالحون في رغبة هذا المقام، ورفع القتال. وفي أثناء ذلك غدروا ثانية، فاستدعى الحال إجازة السلطان المخلوع أبي العباس لتبادر القصبة به، ويتوجه منها إلى المغرب، لرغبة (بني) مرين وغيرهم فيه، وهو ولد السلطان المرحوم أبي سالم الذي قلدكم رياسة داره، وأوجب لكم المزية على أوليائه وأنصاره انتهى.

 

وبعده فصل آخر يطلب فيه كتبا من مصر يقول فيه:

والمرغوب من سيدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت وأشياخهم على الفاتحة، إذ لا يمكن بعث تفسير كامل؛ لأني أثبت في تفسيرها ما أرجو النفع به عند الله. وقد أعلمتكم أن عندي التفسير أوصله إلى المغرب عثمان النجاني من تأليف الطيبي، والسفر الأول من تفسير أبي حيان، وملخص إعرابه، وكتاب المغني لابن هشام وسمعت عن بدأة تفسير للإمام بهاء الدين بن عقيل، ووصلت إلي بدأة من كلام أكمل الذين الأثيري رضي الله عن جميعهم. ولكن لم يصل إلا للبسملة، وذكر أبو حيان في صدر تفسيره أن شيخه سليمان النقيب، أو أبو سليمان. لا أدري الآن، صنف كتاباً في البيان في سفرين، جعله مقدمة في كتاب تفسيرة الكبير، فإن أمكن سيدي توجيهه لا بأس. انتهى.

 

وفي الكتاب فصول أخرى في أغراض متعددة لا حاجة إلى ذكرها هنا. ثم ختم الكتاب بالسلام، وكتب اسمه: محمد بن يوسف بن زَمْرَك الصّريحي، وتاريخه العشرون من محرم تسع وثمانين وسبعمائة. وكتب إلي قاضي الجماعة بغرناطة؛ أبو الحسن علي بن الحسن البنّي:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله. يا سيدي وواحدي وُدُّاً وحبًّا، ونجي الروح بعداً وقرباً. أبقاكم الله، وثوب سيادتكم سابغ، وقمرُ سعادتكم- كلما افلت الأقمار- بازغ، أسلم بأتم السلام عليكم، وأقرر بعض ما لدي من الأشواق إليكم، من حضرة غرناطة- مهّدها الله-، عن ذكر لكم يتضوع طيبُه، وشكر لا يذوي- وإن طال الزمان- طيبه وقد كان بلغ ما جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلدتم أمرها، وتحملتم أمرها، فتمثلّت بما قاله شيخنا أبو الحسن ابن الجياب، عند انفصال صاحبه الشريف أبي القاسم عن خطة القضاء:

لا مرحبا بالناشز الفارك           إذ جهلت رفعة مقدارك

لو أنها قد أوتيت رشدها         ما برحت تعشو إلى نارك

ثم تعرّفت كيفية انفصالكم، وأنه كان عن رغبة من السلطان المؤيد هنا لكم، فرددت- وقد توهمت مشاهدتكم- هذه الأبيات:

لك الله يا بدر السماحة والبشر      لقد حزت في الأحكام منزلة الفخر

ولكنك استعفيت عنها تورعا        وتلك سبيل الصالحين كما تدري

جريت على نهج السلامة في الذي       تخيرته أبشر بأمنك في الحشر

وحقق بأن العلم ولاك خطة             من العز لا تنفك عنها مدى العمر

تزيد على مرّ الجديدين جدة                وتسري النجوم الزاهرات ولا تسري

ومن لاحظ الأحوال وازن بينها        ولم ير للدنيا الدنية من خطر

وأمسى لأنواع الولايات نابذا              فغير نكير أن تواجه بالنكر

فيهنيك يهنيك الذي أنت أهله            من الزهد فيها والتوقي من الوزر

ولا تكترث من حاسديك فإنهم          حصى والحصى لا يرتقي مرتقى البدر

ومن عامل الأقوام بالته مخلصا       له منهم نال الجزيل من الأجر

بقيت لربع الفضل تحمي ذماره         وخار لك الرحمن في كل ما تجري

إيه سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم، وأطنبتم في كتابكم في الثناء على السلطان الذي أنعم بالإعفاء، والمساعدة على الانفصال عن خطة القضاء، واستوهبتم الدعاء له من هنا من الأولياء، ولله دركم في التنبيه على الإرشاد إلى ذلكم، فالدعاء له من الواجب، إذ فيه استقامة الأمور، وصلاح الخاصة والجمهور، وعند ذلك ارتفعت أصوات العلماء والصلحاء بهذا القطر له ولكم بجميل الدعاء. أجاب الله فيكم أحسنه وأجمله، وبلغ كل واحد منكم ما قصده وأمله. وأنتم أيضاً من أنتم من أهل العلم والجلالة، والفضل والأصالة، وقد بلغتم بهذه البلاد الغاية من التنويه، والحظ الشريف النبيه؛ لكن أراد الله سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد المعظمة ظهور، وتحدث بعد الأمور أمور؛ وبكل اعتبارٍ ، فالزَّمان بكم – حَيثُ كنتُم – مباه ، والمحامدُ مجموعةٌ لكم جمعَ تثناه . ولما وقَف على مَكتوبكم إِليّ مَولانا السلطان أبو عَبدِ الله ، أطال الثناءَ على مقاصدكم ، وتحقَّقَ صحيحَ ودادكم ، وجَميل اعتقادِكم ، وعَمَّر مَجْلِسَه يومئذ بالثَّناءِ عليكم ، والشكر لما لديكم .

 

ثم ختم الكتابَ بالسَّلام من كاتِبه عليّ بن عبد الله بن الحَسن مؤرخاً بصَفرِ تسعين وسبعمائة. وفي طيِّه مُدْرَجَة بخطه ، وقَد قصَّر فيها عَن الإجادة نَصُّها :

سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم ، وأظفَر يمناكم بذَوائب مُناكم . أعتذر لكم عن الكِتاب المدْرَج به هذا بِغَيْر خطّي ، فإني في الوَقْت بِحالٍ مَرَض من عَينيَّ ، ولكم العافية الوَاقية، فيَسَعُني سَمْحُكم  وربما أن لديكم تشوفّ لما نَزَل في هذه المدة بالمغْرب من الهرْج أماطه الله ، وأمَّن جَميعَ بلاد المسلمين .

 

والموجب أن الحصَّة الموجهة لتلك البِلادِ في خِدمةِ أميرهم الوَاثق، ظهر له ولوزيره ومن ساعده على رأيه إِمساكُها رهينة، وجعْلُهم في القيود إلى أن يقعَ الخروجُ لهم عن مدينة سَبتة. وكان القائد على هذه الحصَّة العِلج المسمى مهنَّد، وصاحبُه الفتى المدعو نَصر الله. وكثر التَّردّد في القضية، إلى أن أبرز القَدَرُ توجيهَ السلطان أبي العباسِ -تولاَّه الله - صحبةَ فَرَج بن رِضْوان بحصَّة ثانية، وكان ما كان، حسبما تلقيتم من الركبان ، هذا ما وسِع الوَقْت من الكلام . ثم دعا، وخَتَم الكتاب.

 

وإِنما كتبتُ هذه الأخبار وإن كانت خارجة عن غَرض هذا التَّعريف بالمؤلِّف، لأن فيها تَحقيقاً لهذه الواقِعات، وهي مذكورة في أماكنها من الكِتاب، فربَّما يحتاج الناظر إلى تحقِيقها من هذا الموضع.

وبعدَ قَضاءِ الفريضة، رجعتُ إلى القاهرة محفُوفاً بستر الله ولُطفه ولقيتُ السلطان، فتلقَّاني - أيَّده الله - بِمَعهودِ مَبَرَّته وعِنايته. وكانت فتنَةُ النَاصِري بعدها سَنَة إحدى وتسعين وسبعمائة. ولحقَت السلطانَ النكبة التي مَحصَهُ الله فيها وأقالَه، وجَعَلَ إلى الخْير فيها عاقبتَه ومآلَه؛ ثم أعاده إلى كرسيّه للنظر في مصالح عباده؛ فطوَّقه القِلادة التي ألبَسه كما كانت ؛ فأعاد لي ما كان أجراهُ من نِعمته ، ولزمتُ كِسْر البيتِ ممتًعأ بالعافية، لابساً بُرْد العُزْلة، عاكفاً على قراءَة العلم وتدريسِه ، لهذا العهد فاتح سبع وتسعين .

 

ولاية الدروس والخوانق:

أهل هذه الدَّولة التركية بمصر والشام مَعنِيُّون - على القِدَم مُنذُ عَهد مَواليهم مُلوك بني أيوب - بإنشاءِ المدارس لتدريس العلم، والخَوانق لإقامةُ رُسُومِ الفُقراء في التَخلق بآداب الصُّوفية السُّنِّية في مُطارحة الأذكار، ونَوافِل الصَلوات. أخَذُوا ذلك عَمن قَبْلَهم من الدُّول الخِلافِية؛ فيَخْتَطُّون مَبانِيها ويَقِفُون الأراضِي المُغِلة للإنفاق منها على طلَبَة العِلْم، ومُتَدَربي الفقراء. وإن استفضَل الريْعُ شَيئاً عن ذلك، جعلوه في أعقابهم خَوفاً على الذُرية الضِّعاف من العَيْلة. واقْتَدَى بِسُنَّتِهم في ذلك من تَحتَ أيديهم من أهل الرِّياسَة والثَّروة، فكثُرت لذلك المدارسُ والخَوانقُ بمدِينة القاهرة، وأصبَحت مَعاشاً للفُقراء من الفُقهاء والصوفية، وكان ذلك مِن محاسِن هذه الدولة التُركية، وآثارها الجَميلة الخالِدة.

وكنتُ لأول قُدُومي على القاهرة، وحُصولي في كفالَة السلطان ، شَغَرَتْ مَدرسة بِمصْر من إنشاء صلاح الدين بن أيوب ، وقَفها على المالكية يتدارسَون بها الفِقه ، ووقف عليها أراضي من الفَيُوم تُغِل القمح ، فسُمًيت لذلك القَمْحِيَّة ؛ كما وقَف أُخرَى على الشافعية هنالك ؛  وتُوفي مُدَرّسُها حينئذ، فَولاني السلطانُ تَدْرِيسَها ، وأعقَبه بولاية قضاء المالكية سنةَ ستِ وثمانين وسبعمائة، كما ذكرت ذلك من قَبْل ؛ وحضَرني يومَ جُلوسي للتدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويهاً بذكري ، وعِنايةً من السلطان ومنهم بجانبي ؛ وخطبتُ يومَ جلوسي في ذلك الحفل بخُطبة ألممتُ فيها بذكر القوم بما يُناسِبهم ، وُيوفي حَقَّهم ، ووَصَفْت المَقَام ، وكان نَصُها :

الحمد لله الذي بدأ بالنِّعَم قبل سُؤالها، ووفَّق مَن هَداه للشُكر على مَنَالِها، وجعَل جزاءَ المُحْسِنين في مَحبَّته، ففازوا بعَظيم نَوالِها. وَعَلمَ الإنسانَ الأسماءَ والبَيان، وما تم يَعْلَمْ من أمثالِها، ومَيَّزه بالعَقْل الذي فَضَّله على أصناف الموجُودات وأجْيالها، وهَدَاه لقَبول أمانةِ التَكليف، وحَمْل أثقالِها. وخَلَق الجنَّ والإنسَ للعِبادة، فَفازَ مِنهُمِ بالسعادة مَنْ جَدَّ في امتثَالها وَيسَّر كلاًّ لما خُلِق لَه، من هداية نَفْسِه أو إضلالها؛ وفَرغ ربُّك من خلْقها وخُلقها وأرْزاقها وآجالها. والصَّلاةُ على سَيدنا ومولانا محمد نُكتَةِ الأكوان وجمالها، والحجة البالغة لله على كمالها، الذي رَقَّاه في أطوار الاصْطفاء، وآدم بين الطين والماء؛ فجاء خاتم أنبيائها وأرسالها؛ ونسخ الملل بشريعته البيضاء فتميز حرامها من حلالها؛ ورضي لنا الإسلام ديناً، فأتم علينا النعمة بإكمالها.

 

والرضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته المنسجمة وطلالها، وليوث ملاحمه المشتهرة وأبطالها. وخير أمة أخرجت للناس، في توسطها واعتدالها، وظهور الهداية والاستقامة في أحوالها، صلى الله عليه وعليهم صلاة تتصل الخيرات باتصالها، وتنال البركات من خلالها.

 

أما بعد فإن الله سبحانه لما أقر هذه الملة الإسلامية في نصابها، وشفاها من أدوائها واوصابها، وأورث الأرض عباده الصالحين من أيدي غصابها، بعد أن باهلت فارس بتاجها، وعصابها، وخلت الروم إلى تماثيلها وأنصابها؛ وجعل لها من العلماء حفطة وقواما، ونجوما يهتدي بها التابع وأعلاما، يقربونها للدراية تبيانا وإفهاما، ويوسعونها بالتدوين ترتيبا وإحكاما، وتهذيبا لأصولها وفروعها ونظاما. ثم اختار لها الملوك يرفعون عمدها، ويقيمون صغاها بإقامة السياسة وأودها، ويدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها؛ فكان لها بالعلماء الظهور والانتشار، والذكر السيار، والبركات المخلدة والآثار؛ ولها بالملوك العز والفخار، والصولة التي يلين لها الجبار، ويذل لعزة المؤمنين بها الكفار، وتجلل وجوه الشرك معها الصغار؛ ولم تزل الأجيال تتداول على ذلك والأعصار، والدول تحتفل والأمصار، والليل يختلف والنهار، حتى أظلت الإسلام دول هذه العصابة المنصورة من الترك، الماحين بأنوار أسنتهم ظلم الضلالة والشك، القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين والإفك، المصيبين بسهامهم النافذة ثغر الجهالة والشرك، المظهرين سر قوله: "لا تزال طائفة من أمتي " فيما يتناولونه من الأخذ والترك؛ ففسحوا خطة الإسلام، وقاموا بالدعوة الخلافية أحسن القيام، وبثوها في أقصى التخوم من الحجاز والشام، واعتمدوا في خدمة الحرمين الشريفين ما فضلوا به ملوك الأنام. واقتعدوا كرسي مصر الذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام، على قدم الأيام؛ فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران، وتجاوبت فيها المدارس بترجيع المثاني والقرآن، وعمرت المساجد بالصلوات والأذان، تكاثر عدد الحصى والشهبان. وقامت المآذن على قدم الاستغفار والسبحان معلنة بشعار الإيمان، وازدان جوها بالقصر والإيوان فالإيوان. ونظم دستها بالعزيز، والظاهر، والأمير، والسلطان. فما شئت من ملك يخفق العز في أعلامه، وتتوقد في ليل المواكب نيران الكواكب من أسنته وسهامه؛ ومن أسرة للعلماء نتناول العلم بوعد الصادق ولو تعلق بأعنان السماء، وتنير سراجه في جوانب الشبه المدلهمة الظلماء؛ ومن قضاة يباهون بالعلم والسؤدد عند الانتماء، ويشتملون الفضائل والمناقب اشتمال الصماء، ويفصلون الخصومات برأي يفرق بين اللبن والماء.

 

ولا كدولة السلطان الظاهر، والعزيز القاهر، يعسوب العصائب والجماهر، ومطلع أنواع العز الباهر، ومصرف الكتائب تزري بالبحر الزاخر، وتقوم بالحجة للقسي على الأهلة في المفاخر؛ سيف الله المنتضى على العدو الكافر، ورحمته المتكفلة للعباد باللطف الساتر؛ رب التيجان والأسرة والمنابر، والأواوين العالية والقصور الأزاهر، والملك المؤيد بالبيض البواتر، والرماح الشواجر، والأقلام المرتضعة أحلاف العز في مهود المحابر، والفيض الرباني الذي فاق قدرة القادر، وسبقت به العناية للأواخر. سيد الملوك والسلاطين، كافل امير المؤمنين، أبو سعيد أمده الله بالنصر المصاحب، والسعد المؤازر، وعرفه آثار عنايته في الموارد والمصادر، واراه حسن العاقبة في الأولى وسرور المنقلب في الاخر؛ فإنه لما تناول الأمر بعزائمه وعزمه، وآوى الملك إلى كنفه العزيز وحزمه، أصاب شاكلة الرأي عندما سدد من سهمه، واوقع الرعايا في ظل من أمنه، وعدل من حكمه، وقسم البأس والجود بين حربه وسلمه؛ ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله لأركانها، وشدّ بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها؛ من بين مصرف لعنانها، متقدم القدم على أعيانها، في بساط إيوانها؛ ورب مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها، ولا يذهب الصواب عن مكانها؛ ومنفذ أحكام يشرق الحق في بيانها، ويضوع العدل من أردانها ونجي خلوة في المهم الأعظم من شأنها؛ وصاحب قلم يفضي بالأسرار إلى الأسل الجرار، فيشفي الغليل بإعلانها. حفظ الله جميعهم وشمل بالسعادة والخيرات المبدأة المعادة تابعهم ومتبوعهم.

 

ولما سبحت في اللج الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث نهر النهار ينصب من صفحه المشرق، وشجرة الملك التي اعتز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق، وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق، وينابيع العلوم والفضائل تمدو شلنا من فراته المغدق؛ أو لوني عناية وتشريفاً، وغمروني إحساناً ومعروفاً، وأوسعوا بهمتي إيضاحاً، ونكرتي تعريفاً؛ ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف، من حسنات السلطان صلاح الدين أيوب ملك الجلاد والجهاد، وماحي آثار التثليث والرفض الخبيث من البلاد، ومطهر القدس الشريف من رجس الكفر بعد أن كانت النواقيس والصلبان فيه بمكان العقود من الأجياد. وصاحب الأعمال المتقبلة يسعى نورها بين يديه في يوم التناد؛ فأقامني السلطان- أيده الله- لتدريس العلم بهذا المكان، لا تقدماً على الأعيان، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشان؛ وإني موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في هذا القضاء؛ وأنا أرغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء، أن يلمحوا بعين الارتضاء، ويتغمدوا بالصفح والاغضاء، والبضاعة بينهم مزجاة، والاعتراف من اللوم- إن شاء الله- منجاة؛ والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله تعالى يرفع لمولانا السلطان في مدارج القبول أعماله، ويبلغه في الدارين آماله، ويجعل للحسنى والمقر الأسنى، منقلبه ومآله؛ ويُديُم على السادة الأمراء نعمته، ويحفظ على المسلمين بانتظام الشمل دولتهم ودولته، ويمد قضاة المسلمين وحكامهم بالعون والتسديد، ويمتعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد، ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السعيد، بمنِّه وكرمه.

 

وانفض ذلك المجلس، وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار، وتناجت النفوس بالأهلية للمناصب؛ وأقمت على الاشتعال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية، فعزله، واستدعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه؛ فتفاديت من ذلك، وأبى إلا إمضاءه. وخلع علي، وبعث معي من أجلسني بمقعد الحكم في المدرسة الصالحية في رجب ست وثمانين وسبعمائة؛ فقمت في ذلك المقام المحمّود، ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق، وتحري المعدلة، حتى سخطني من لم تُرْضِه أحكام الله، ووقع من شغب أهل الباطل والمِراء ما تقدم ذكره.

 

وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس؛ فمنعهم سلطان تونس من اللحاق بي اغتباطاً بمكاني، فرغبت من السلطان أن يشفع عنده في شأنهم، فأجاب، وكتب إليه بالشفاعة؛ فركبوا البحر من تونس في السِّفين؛ فما هو إلا أن وصلوا إلى مرسى الإسكندرية؛ فعصفت بهم الرياح وغرق المركب بمن فيه، وما فيه، وذهب الموجود والمولود؛ فعظم الأسف، واختلط الفكر، وأعفاني السلطان من هذه الوظيفة وأراحني، وفرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريساً وتأليفاً.

 

ثم فرغ السلطان من اختطاط مدرسته بين القصرين، وجعل فيها مدافن أهله، وعين لي فيها تدريس المالكية، فأنشأت خطبة أقوم بها في يوم مفتتح التدريس على عادتهم في ذلك ونصها:

"الحمد لله الذي من على عباده، بنعمة خلقه وإيجاده، وصرفهم في أطوار استعباده بين قدره ومراده، وعرفهم أشرار توحيده، في مظاهر وجوده، وآثار لطفه في وقائع عباده، وعرضهم على أمانة التكاليف ليبلوهم بصادق وعده وإبعاده، ويسر كلا لما خلق له، من هدايته أو إضلاله، وغَيِّه أو رشاده، واستخلف الإنسان في الأرض بعد أن هداه النجدين لصلاحه أو فساده، وعلمه ما لم يكن يعلم، من مدارك سمعه وبصره والبيان عما في فؤاده؛ وجعل منهم أنبياء وملوكاً يجاهدون في الله حق جهاده، ويثابرون على مرضاته في اعتمال العدل واعتماده؛ ورفع البيوت المقدسة بسبحات الذكر وأوراده.

 

والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد سيد البشر من نسل آدم وأولاده، لا. بل سيد الثقلين في العالم من إنسه وجنه وأرواحه و أجساده، لا. بل سيد الملائكة والنبيين، الذي ختم الله، كمالهم بكماله وآمادهم بآماده، الذي شرف به الأكوان فأضاءت أرجاء العالم لنور ولاده؛ وفصل له الذكر الحكيم تفصيلاً، كذلك ليثبت من فؤاده وألقى على قلبه الروح الأمين بتنزيل رب العالمين، ليكون من المنذرين لعباده؛ فدعا إلى الله على بصيرة بصادق جداله وجلاده وانزل عليه النصر العزيز، وكانت ملائكة السماء من إمداده، حتى ظهر نور الله على رغم من رغم. بإطفائه وإخماده، وكمل الدين الحنيف فلا تخشى والحمد لله غائلة انقطاعه ولا نفاده؛ ثم أعد له من الكرامات ما أعد في معاده، وفضله بالمقام المحمّود في عرصات القيامة بين أشهاده، وجعل له الشفاعة فيمن انتظم في أمته، واعتصم بمقاده.

 

والرضى عن آله وأصحابه، غيوث رحمته، ولُيوث إنجاده، من ذوي رحمه الطاهرة وأهل وداده المتزودين بالتقوى من خير أزواده، والمراغمين بسيوفهم من جاهر بمكابرة الحق وعناده، وأراد في الدين بظلمه وإلحاده، حتى استقام الميسم في دين الله وبلاده، وانتظمت دعوة الإسلام أقطار العالم، وشعوب الأنام، من عربه وعجمه وفارسه ورومه وتركه وأكراده. صلى الله عليه وعليهم صلاة تؤذن باتصال الخير واعتياده، وتؤهل لاقتناء الثواب وزيادة، وسلم كثيراً؛ وعن الأئمة الأربعة، علماء السنة المتبعة، والفئة المجتباة المصطنعة؛ وعن إمامنا من بينهم الذي حمل الشريعة وبينها، وحرر مقاصدها الشريفة وعينها، وتعرض في الآفاق منها والمطالع، بين شهبها اللوامع؛ فزينها. نكتة الهداية إذا حقق مناطها، وشرط التحصيل والدراية إذا روعيت أشراطها، وقصد الركاب إذا ضربت في طلب العلم آباطها؛ عالم المدينة وإمام هذه الأمة الأمينة، ومقبس أنوار النبوة من مشكاتها المبينة، الإمام مالك بن انس. ألحقه الله برضوانه، وعرفنا بركة الاقتداء بهدية وعرفانه؛ وعن سلف المؤمنين والمهتدين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد فإن الخلق عيال الله يكنفهم بلطفه ورحمته، ويكفلهم بفضله ونعمته، وييسرهم لأسباب السعادة بآداب دينه وشرعته، ويحملهم في العناية بأمورهم، و الرعاية لجمهورهم، على مناهج سنته ولطائف حكمته. ولذلك اختار لهم الملوك الذين جبلهم على العدل وفطرته، وهداهم إلى التمسك بكلمته. ثم فضلهم بما خولهم من سعة الرزق وبسطته واشتقاق التمكين في الأرض من قدرته، فتسابقوا بالخيرات إلى جزائه ومثوبته، وذهبوا بالدرجات العلى في وفور الأجر ومزيته.

 

وإن مولانا السلطان الملك الظاهر، العزيز القاهر، العادل الطاهر، القائم بأمور الإسلام عندما أعيا حملها الأكتاد، وقطب دائرة الملك الذي أطلع الله من حاشيته الأبدال وانبت الأوتاد، ومنفق أسواق العز بما بذل فيها من جميل نظره المدخور والعتاد؛ رحمة الله الكافلة للخلق، ويداه المبسوطتان بالأجل والرزق، وظله الواقي للعباد بما اكتنفهم في العدل والحق، قاصم الجبابرة، والمعفي على آثار الأعاظم من القياصرة، وذوي التيجان من التبابعة والأكاسرة، أولي الأقيال والأساورة؛ وحائز قصب السبق في الملوك عند المناضلة والمفاخرة، ومفوض الأمور بإخلاصه إلى ولي الدنيا والآخرة؛ مؤيد كلمة الموحدين، ورافع دعائم الدين، وظهير خلافة المؤمنين، سلطان المسلمين أبو سعيد. صدق الله فيما يقتفي من الله ظنونه، وجعل النصر ظهيره، كما جعل السعد قرينه، والعز خدينه، وكان وليه على القيام بأمور المسلمين ومعينه، وبلغ الأمة في اتصال أيامه، ودوام سلطانه، ما يرجونه من الله ويؤملونه. لما قلده الله هذا الأمر الذي استوى له على كرسي الفلك، وانتظمت عقود الدول في لبات الأيام، وكانت دولته واسطة السلك وجمع له الدين بولاية الحرمين، والدنيا بسلطان الترك. وأجرى له أنهار مصر من الماء والمال؛ فكان مجازه فيها بالعدل في الأخذ والترك. وجمع عليه قلوب العباد. فشهد سرها بمحبه الله له، شهادة خالصة من الريب، بريئة من الشك. حتى استولى من العز والملك على المقام الذي رضيه وحمده. ثم تاقت نفسه إلى ما عند الله، فصرف قصده إليه واعتمده، وسارع إلى فعل الخيرات بنفس مطمئنة، لا يسال عليها أجراً ولا يكدرها بالمنِّة، وأحسن رعاية الدين والملك تشهد بها الإنس والجنة، لا؛ بل النَّسَم والأجنة. ثم آوى الخلق إلى عدله تصديقاً بأن الله يؤوه يوم القيامة إلى ظلاله المستجنة، ونافس في اتخاذ المدارس والربط لتعليم الكتاب والسنة، وبناء المساجد المقدسة يبني له بها الله البيوت في الجنة، والله لا يضيع عمل عامل فيما أظهره أو أكنه.

 

وإن ما أنتجته قرائح همته وعنايته، وأطلعته آفاق عدله وهدايته، ووضحت شواهده على بعد مداه في الفخر وغايته، ونجح مقاصده في الدين وسعايته؛ هذا المصنع الشريف، والهيكل السامي المنيف، الذي راق الكواكب حسنه وظرفه، وأعجز الهمم البشرية ترتيبه ورصفه، لا بل! الكلم السحرية تمثيله ووصفه وشمخ بمطاولة السحب ومناولة الشهب مارِنه العزيز وأنفه، وازدهى بلبوس السعادة والقبول من الله عطفه؛ إن فاخر بلاط الوليد، كان له الفخار أو باهى القصر والإيوان، شهد له المحراب والمنار؛ أو ناظر صنعاء وغمدان، قامت بحجته الآثار. إنما هو بهو ملؤه دين وإسلام، وقصر عليه تحية وسلام، وفضاء رباني ينشأ في جوه للرحمة والسكينة ظلة وغمام، وكوكب شرق يضاحك وجه الشمس منه ثغر بسام؛ دفع إلى تشييد أركانه، ورفع القواعد من بنيانه، سيف دولته الذي استله من قراب ملكه وانتصاه، وسهمه الذي عجم عيدان كنانته فارتضاه، وحسام أمره الذي صقل فرندة بالعز والعزم وأمضاه، فارتضاه، وحسام أمره الذي طالب غريم الأيام، بالأمل العزيز المرام؛ فاستوفى دينه واقتضاه، الأمير الأعزَّ الأعلى جهركس الخليلي أمير الماخورية باسطبله المنيع. حرسه الله من خطوب الأيام، وقسم له من عناية السلطان أوفر الحظوظ والسهام؛ فقام بالخطو الوساع، لأمره المطاع، وأغرى بها أيدي الاتقان والابداع. واختصها من اصناف الفعلة بالماهر الصناع، يتناظرون في إجاده الأشكال منها والأوضاع، ويتناولون الأعمال بالهندام إذا توارت عن قدرتهم بالامتناع؛ فكأن العبقري، يفري- الفري، أو العفاريت، قدمت من أماريت. وكأنما حشرت الجن والشياطين، أو نشرت القهارمة من الحكماء  الأول والأساطين، جابوا لها الصخر بالأذواد لا بالواد، واستنزلوا صم الأطواد على مطايا الأعواد، ورفعوا سمكها إلى أقصى الآماد، على بعيد المهوى من العماد. وغشوها من الوشي الأزهر، المصاعف الصدف والمرمر، ومائع الفجين الأبيض والذهب الأحمر، بكل مسهم الحواشي حالي الأبراد؛ وقدروه مساجد للصلوات والأذكار، ومقاعد للسبحات بالعشي والإبكار، ومجالس للتلاوة والاستغفار، في الآصال والأسحار، وزوايا للتخلي عن ملاحظة الأسماع والأبصار، والتعرض للفتوح الربانية والأنوار؛ ومدارس لقدح زناد الأفكار، ويتاج المعارف الأبكار، وصوغ اللجين والتضار، في محك القرائح والأبصار. تتفجر ينابيع الحكمة في رياضه وبستانه، وتتفتح أبواب الجنة من غرفه وإيوانه، وتقتاد غر السوابق من العلوم والحقائق، في طلق ميدانه، ويصعد الكلم الطيب والعمل الصالح إلى الله من نواحي اركانه؛ وتوفر الأجور لغاشيته محتسبة عند الله في ديوانه، راجحة في ميزانه.

 

ثم اختار لها من أئمة المذاهب الأربعة أعياناً، ومن شيوخ الحقائق الصوفية فرساناً؛ تصفح لهم أهل مملكته إنساناً، وأشاد بقدرهم عناية وإحساناً، ودفعهم إلى وظائفه توسعاً في مذاهب الخير وافتناناً. وعهد إليهم برياضة المريدين، وإفادة المستفيدين، احتساباً لله وقرباناً، وتقُّيلا لمذاهب الملوك من قومه واستناناً؛ ثم نظمني معهم تطولا وامتناناً، ونعمة عظمت موقعاً وجفت شاناً؛ وأنا وإن كنت لقصور البضاعة، متأخراً عن الجماعة، ولقعود الهمة، عيالاً على هؤلاء الأئمة، فسمحهم يغطي ويلحف، وبمواهب العفو والتجاوز يمنح ويُتْحف. وإنما هي رحمة من مولانا السلطان- أيده الله- خَصّت كما عفت، ووسمت اغفال النكرة والإهمال وسمَّت؛ وكملت بها مواهب عطفه وجبره وتمت؛ وقد ينتظم الدّر  مع المرجان، وتلتبس العصائب بالتيجان؛ وتراض المسومة العراب على مسابقة الهجان؛ والكل في نظر مولانا السلطان وتصريفه، والأهلية بتأهيله والمعرفة بتعريفه، وقوام الحياة والآمال بلطائف إحسانه وصنوفه؛ والله يوزعنا شكر معروفه، ويوفقنا للوفاء بشرطه في هذا الوقف وتكليفه، ويحمي حماه من غير الدهر و صروفه، ويفيء على ممالك الإسلام ظلال أعلامه ورماحه وسيوفه، ويريه قرة العين في نفسه وبنيه، وحاشيته وذويه، وخاصته ولفيفه، بمن الله وفضله.

 

ثم تعاون العداة عند أمير الماخورية، القائم للسلطان بأمور مدرسته، وأغروه بصدي عنها، وقطع أسبابي من ولايتها، ولم يمكن السلطان إلا إسعافه فأعرضت عن ذلك، وشغلت بما أنا عليه من التدريس والتأليف.

 

ثم خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة للحج، واقتضيت إذن السلطان في ذلك فأسعف، وزود هو وأمراؤه بما أوسع الحال وارغده؛ وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع؛ ثم صعدت مع المحمل إلى مكة؛ فقضيت الفرض عامئذ. وعدت في البحر؛ فنزلت بساحل القصير؛ ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر الصعيد، وركبت منها بحر النيل إلى مصر، ولقيت السلطان، وأخبرته بدعائي له في أماكن الإجابة، وأعادني إلى ما عهدت من كرامته، وتفيّثىء ظله.

 

ثم شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فولاني إياها بدلاً من مدرسته وجلست للتدريس فيها في محرم أحد وتسعين وسبعمائة، وقمت ذلك اليوم- على العادة- بخطبة نصها:

 

" الحمد لله إجلالاً وإعظاماً، واعترافاً بحقوق النعم والتزاماً، واقتباساً للمزيد منها واغتناماً، وشكراً على الذي أحسن وتماماً، وسع كل شيء رحمة وإنعاماً، وأقام على توحيده من أكوانه ووجوده آيات واضحة وأعلاماً، وصرف الكائنات في قبضة قدرته ظهوراً وخفاء وإيجاداً وإعداماً، وأعطى كل شيء خلقه ثم هداه إلى مصالحه إلهاماً، وأودع مقدور قضائه في مسطور كتابه، فلا يجد محيصاً عنه ولا مراماً.

 

والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة الهامية غماماً والملحمة التي أراقت من الكفر نجيعاً وحطمت أصناماً، والعروة الوثقى، فاز من اتخذها عصاماً، أول النبيين رتبة وآخرهم ختاماً، وسيدهم ليلة قاب قوسين إذ بات للملائكة والرسل إماماً؛ وعلى أله وأصحابه الذين كانوا ركناً لدعوته وسناماً وحرباً على عدوه وسماماً، وصلوا في مظاهرته جداً واعتزاماً، وقطعوا في ذات الله وابتغاء مرضاته أنساباً وأرحاماً، حتى ملأوا الأرض إيماناً وإسلاماً، وأوسعوا الجاحد والمعاند تبكيتاً وإرغاماً فأصبح ثغر الدين بساماً ووجه الكفر والباطل عبوساً جهاماً. صلى الله عليه وعليهم ما عاقب ضياء  ظلاماً، صلاة ترجح القبول ميزاناً، وتبوىء عند الله مقاماً.

 

والرضى عن الأئمة الأربعة، الهداة المتبعة، مصابيج الأمان ومفاتيح السنة الذين أحسنوا بالعلم قياما وكانوا للمتقين إماماً.

 

أما بعد فإن الله سبحانه تكفل لهذا الدين بالعلاء والطهور، والعز الخالد على الظهور، وانفساح خطته في آفاق المعمور، فلم يزل دولة عظيمة الآثار، غزيرة الأنصار، بعيدة الصيت عالية المقدار جامعة- بمحاسن آدابه وعزة جنابه- معاني الفخار، منفقة بضائع علومه في الأقطار، مفجرة ينابيعها كالبحار، مطلعة كواكبها المنيرة في الآفاق أضوأً من النهار؛ ولا كالدولة التي استأثرت بقبلة الإسلام ومنابره، وفاخرت بحرمات الله وشعائره واعتمدت بركة الإيمان وأواصره ، في خدمة الحرمين الشريفين- بالمتين من أسباب الدين وأواصره، واعتملت في إقامة رسوم العلم ليكون من مفاخره، وشاهدا بالكمال لأوَّله وآخره.

 

وإن مولانا السلطان الملك الظاهر، العزيز القاهر، شرف الأوائل والأواخر، ورافع لواء المعالي والمفاخر، رب التيجان والأسرة والمنابر، والمجلي في ميدان السابقين من الملوك الأكابر، في الزمن الغابر، حامل الأمة بنظره الرشيد ورأيه الظافر، وكافل الرعايا في ظله المديد وعدله الوافر، ومطلع أنوار العز والسعادة من أفقه السافر؛ واسطة السلك من هذا النظام، والتاج المحلى في مفارق الدول والأيام، سيد الملوك والسلاطين، بركة الإسلام والمسلمين، كافل أمير المؤمنين، أبو سعيد. أعلى الله مقامه، وكافأ عن الأمة إحسانه الجزيل وإنعامه، وأطال في السعادة والخيرات المبداة المعادة لياليه وأيامه؛ لما أوسع الدين والملك نظراً جميلاً من عنايته، وأنام الخلق في حجر كفالته، ومهاد كفايته، وأيقظ لتفقد الأمور، وصلاح الخاصة والجمهور، عين كلاءته، كما قلده الله رعايته وأقام حكام الشريعة والسياسة يوسعون نطاق الحق إلى غايته، ويطلعون وجه العدل سافراً عن آيته. ونصب في دست النيابة من وثق بعدله وسياسته، ورضي الدين بحسن إيالته، وأمنه على سلطانه ودولته، وهو الوفي- والحمد لله- بأمانته؛ ثم  صرف نظره إلى بيوت الله يعنى بإنشائها وتأسيسها، ويعمل النظر الجميل في إشادتها وتقديسها، ويقرض الله القرض الحسن في وقفها وتحبيسها وينصب فيها لبث العلم من يؤهله لوظائفها ودروسها؛ فيضفي عليه بذلك من العناية أفخر لبوسها، حتى زهت الدولة بملكها ومصرها، وفاخرت الأنام بزمانها الزاهر وعصرها. وخضعت الأواوين لإيوانها العالي وقصرها؛ فابتهج العالم سروراً بمكانها، واهتزت الأكوان للمفاخرة بشأنها، وتكفل الرحمن، لمن اعتز به الإيمان، وصلح على يده الزمان، بوفور المثوبة ورجحانها.

 

وكان مما قد من به الآن تدريس الحديث بهذه المدرسة وقف الأمير صرغتمش من سلف أمراء الترك، خفف الله حسابه وثقل في الميزان- يوم يعرض على الرحمن- كتابه، وأعظم جزاءه في هذه الصدقة الجارية وثوابه، عناية جدد لي لباسها، وإيثاراً بالنعمة التي صححت قياسها، وعرفت منه أنواعها وأجناسها، فامتثلت المرسوم، وانطلقت أقيم الرسوم، وأشكر من الله وسلطانه الحظ المقسوم. وأنا مع هذا معترف بالقصور، بين أهل العصور، مستعيذ بالله وبركة هؤلاء الحضور، السادة الصدور، أن يجمح بي مركب الغرور، أو يلج شيطان الدعوى والزور، في شيء من الأمور. والله تعالى ينفع مولانا السلطان بصالح أعماله، ويعرفه الحسنى وزيادة الحظ الأسنى في عاقبته ومآله، ويريه في سلطانه وبنيه وحاشيته وذويه قرة عينه ورضى آماله، ويديم على السادة الأمراء ما خولهم من رضاه وإقباله، ويحفظ المسلمين في هذا الأمر السعيد بدوامه واتصاله، ويسدد قضاتهم وحكامهم لاعتماد الحق واعتماله بمن الله وإفضاله.

 

وقد رأيت أن أقرر للقراءه في هذا الدرس، كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه، فإنه من أصول السنن، وأمهات الحديث، وهو مع ذلك أصل مذهبنا الذي عليه مدار مسائله، ومناط أحكامه، وإلى آثاره يرجع الكثير من فقهه.

 

فلنفتتح الكلام بالتعريف بمؤلفه- رضي الله عنه- ومكانه من الأمانة والديانة، ومنزلة كتابه "الموطأ" من كتب الحديث. ثم نذكر الروايات والطرق التي وقعت في هذا الكتاب، وكيف اقتصر الناس منها على رواية يحيى بن يحيى، ونذكر أساندي فيها، ثم نرجع إلى الكلام على متن الكتاب.

 

أما الإمام مالك- رضي الله عنه- فهو إمام دار الهجرة، وشيخ أهل الحجاز في الحديث والفقه غير منازع، والمقلد المتبوع لأهل الأمصار وخصوصا أهل المغرب.

 

قال البخاري: مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي. كنيته أبو عبد الله، حليف عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي ابن أخي طلحة بن عبيد الله. كان إماماً، روى عنه يحيى بن سعيد. انتهى كلام البخاري.

 

وجده أبو عامر بن الحرث بن عثمان ويقال: غيمان بغين معجمة مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة؛ ابن جثيل بجيم مضمومة وثاء مثلثة مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة؛ ويقال حثيل أوخثيل بحاء مضمومة مهملة أو معجمة، عوض الجيم؛ ويقال حسل بحاء مهملة مكسورة، وسين مهملة ساكنة، ابن عمرو بن الحرث؛ وهو ذو أصبح. وذو اصبح بطن من حمير، وهم إخوة يحصب، ونسبهم معروف؛ فهو حميري صليبة، وقرشي حلفا. ولد سنة إحدى وتسعين- فيما قال ابن بكير، واربع وتسعين- فيما قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ونشأ بالمدينة، وتفقه بها. إخذ عن ربيعة الرأي، وابن شهاب وعن عمه أبي سهيل، وعن جماعة ممن عاصرهم من التابعين وتابعي التابعين؛ وجلس للفتيا والحديث في مسجد رسول الله شاباً يناهز العشرين، وأقام مفتياً بالمدينة ستين سنة. واخذ عنه الجم الغفير من العلماء الأعلام، وارتحل إليه من الأمصار من لا يحصى كثرة؛ وأعظم من أخذ عنه الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وابن وهب، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وابن المبارك- في أمثال لهم وانظار. وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة باتفاق من الناقلين لوفاته، وقال الواقدي: عاش مالك تسعين سنة، وقال سحنون عن ابن نافع: توفي مالك ابن سبع وثمانين سنة، ولم يختلف أهل زمانه في أمانته، وإتقانه، وحفظه وتثبته وورعه، حتى لقد قال سفيان بن عيينة: كنا نرى في الحديث الوارد عن رسول الله : "تضرب أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم اعلم من عالم المدينة" أنه مالك بن أنس.

 

وقال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم، وقال: إذا جاءك الحديث فمالك أمير المؤمنين.

 

وقد ألف الناس فضائله كتباً، وشأنه مشهور.

 

 وأما الذي بعثه على تصنيف "الموطأ"- فيما نقل أبو عمر بن عبد البر- فهو أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عمل كتاباً على مثال "الموطأ"، ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة، ولم يذكر فيه شيئاً من الحديث، فأتي به مالك، ووقف عليه وأعجبه، وقال: ما أحسن ما عمل هذا! ولو كنت أنا الذي عملت لبدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام. وقال غيره: حج أبو جعفر المنصور، ولقيه مالك بالمدينة، فأكرمه وفاوضه. وكان فيما فاوضه: يا أبا عبد الله لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وقد شغلتني الخلافة، فصغ أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة. قال مالك: فلقد علمني التأليف؛ فكانت هذه وأمثالها من البواعث لمالك على تصنيف هذا الكتاب، فصنفه وسماه "الموطأ" أي المسهل. قال الجوهري وطؤ يوطؤ وطاءة، أي صار وطيئاً؛ ووطأته توطئة؛ ولا يقال وطيته. ولما شغل بتصنيفه أخذ الناس بالمدينة يومئذ في تصنيف فوطات، فقال لمالك أصحائه: نراك شغلت نفسك بأمر قد شركك فيه الناس؛ وأتي ببعضها فنظر فيه، ثم طرحه من يده وقال: ليعلمن أن هذا لا يرتفع منه إلا ما أريد به وجه الله؛ فكأنما ألقيت تلك الكتب في الابار، وما سمع لشيء منها بعد ذلك ذكر، وأقبل مالك على تهذيب كتابه وتوطئته؛ فيقال إنه أكمله في أربعين سنة. وتلقت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها، ومن لدن ضنف إلى هلم. وطال ثناء العلماء في كل عصر عليه، ولم  يختلف في ذلك إثنان. قال الشافعي، وعبد الرحمن بن مهدي: ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله أنفع، وفي رواية أصح، وفي رواية أكثر صواباً، من "موطأ" مالك. وقال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت كتاباً ألف في العلم أكثر صواباً من "موطأ" مالك.

 

وأما الطرق والروايات التي وقعت في هذا الكتاب، فإنه كتبه عن مالك جماعة نسب الموطأ إليهم بتلك الرواية، وقيل موطأ فلان لرواية عنه فمنها موطأ الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ومنها موطأ عبد الله بن وهب، ومنها موطأ عبد الله بن مسلمة القعنبي، ومنها موطأ مطرف بن عبد الله اليساري نسبة إلى سليمان بن يسار، ومنها موطأ عبد الرحمن بن القاسم رواه عنه سحنون بن سعيد؛ ومنها موطأ يحيى بن يحيى الأندلسي. رحل إلى مالك بن أنس من الأندلس وأخذ عنه الفقه والحديث، ورجع بعلم كثير وحديث جم؛ وكان فيما أخذ عنه "الموطأ"، وأدخله الأندلس والمغرب؛ فأكب الناس عليه، واقتصروا على روايته دون ما سواها، وعولوا على نسقها وترتيبها في شرحهم لكتاب "الموطأ" وتفاسيرهم، ويشيرون إلى الرويات الأخرى إذا عرضت في أمكنتها، فهجرت الروايات الأخرى، وسائر تلك الطرق، ودرست تلك الموطآت إلا موطأ يحيى ابن يحيى، فبروايته أخذ الناس في هذا الكتاب لهذا العهد شرقاً وغرباً.

 

وأما سندي في هذا الكتاب المتصل بيحيى بن فعلى ما أصفه:

 

حدثني به جماعة من شيوخنا رحمة الله عليهم. منهم إمام المالكية، قاضي الجماعة بتونس وشيخ الفتيا بها، أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري، سمعته عليه بمنزله بتونس، من أوله إلى آخره. ومنهم شيخ المسندين بتونس، الرحالة أبو عبد الله محمد بن جابر ابن سلطان القيسي الوادي آشي، سمعت عليه بعضه، وأجازني بسائره. ومنهم شيخ المحدثين بالأندلس، وكبير القضاة بها، أبو البركات محمد بن محمد بن محمد- ثلاثة من المحدثين- بن إبراهيم بن الحاج البلفيقي، لقيته بفاس سنة ست وخمسين وسبعمائة من هذه المائة الثامنة، مقدمه من السفارة بين ملك الأندلس وملك المغرب. وحضرت مجلسه بجامع القرويين من فاس؛ فسمعت عليه بعضاً من هذا الكتاب، وأجازني بسائره. ثم لقيته لقاءة أخرى سنة إثنتين وستين وسبعمائة، استقدمه ملك المغرب، السلطان أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن للأخذ عنه؛ وكنت أنا القارىء فيما يأخذه عنه، فقرأت عليه صدرا من كتاب " الموطأ"، وأجازنى بسائره إجازة أخرى.

 

ومنهم شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقلية، ومفيد جماعتهم، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي، قرأت عليه بعضه، وأجازني بسائره، قالوا كفهم: حدثنا الشيخ المعفر، أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي، عن القاضي أبي القاسم أحمد بن يزيد بن بقي، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الحق الخزرجي.

 

وحدثني به أيضا شيخنا أبو البركات، عن إمام المالكية ببجاية، ناصر الدين أبي علي، منصور بن أحمد بن عبد الحق المشدالي، عن الإمام شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسي، عن أبي الحسن علي بن موسى بن النقرات عن أبي الحسن على بن أحمد الكناني. قال الخزرجي والكناني: حدثنا أبو عبد الله محمد بن فرج مولى ابن الطلاع، عن القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث بن الصفار قاضي الجماعة بقرطبة.

 

وحدثني به أيضاً شيخنا أبو عبد الله بن جابر عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز، عن شيخه أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي، عن القاضي أبي القاسم عبد الرحمن بن حبيش، وأبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون، شارح كتاب "الموطأ"، قال ابن زرقون: حدثنا به أبو عبد الله الخولاني، عن أبي عمرو عثمان بن أحمد القيجاطي، وقال ابن حبيش: حدثنا به القاضي أبو عبد الله بن اصبغ ويونس بن محمد بوق مغيث، قالا: قرأناه على أبي عبد الله محمد بن الطلاع. وقال ابن حبيش أيضاً: حدثنا به أبو القاسم أحمد بن محمد ورد، عن القاضي أبي عبد الله محمد ابن خلف بن المرابط، عن المقرىء أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الطلمنكي؛ قال القاضي أبو الوليد بن مغيث، والقيجاطي، والطلمنكي: حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى عن عم أبيه أبي مروان عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى. وقال الطلمنكي: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن حدير البزار، قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ، قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن وضاح، قال حدثنا يحيى بن يحيى عن مالك، إلا ثلاثة أبواب من آخر كتاب الاعتكاف، أولها خروج المعتكف إلى العيد فإن يحيى شك في سماعها عن مالك، فسمعها من زياد بن عبد الرحمن الملقب شبطون عن مالك.

 

ولي في هذا الكتاب طرق أخرى لم يحضرني الآن اتصال سندي فيها.

فمنها عن شيخنا أبي محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي كاتب السلطان أبي الحسن، لقيته بتونس عند استيلاء السلطان عليها، وهو في جملته سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وحضرت مجلسه، وأخذت عنه كثيرا، وسمعت عليه بعض "الموطأ"، وأجازني بالاجازة العامة، وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وعن شيخه الأستاذ أبي إسحق الغافقي، وعن أبي القاسم القبتوري، وجماعة من مشيخة أهل سبتة؛ ويتصل سنده فيه بالقاضي عياض، وأبي العباسى العزفي صاحب كتاب (الدر المنظم في المولد المعظم).

 

 ومنها عن شيخنا أبي عبد الله الكوسي خطيب الجامع الأعظم بغرناظة، سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير عن القاضي أبي عبد الله بن بكار، وجماعة من مشيخة أهل الأندلس،. ويتصل سنده فيه بالقاضي أبي الوليد الباجي، والحافظ أبي عمر بن عبد البر بسندهما.

 

ومنها عن شيخنا المكتب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برال الأنصاري شيخ القراءة بتونس، ومعلمي كتاب الله؛ قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السبع وعرضت عليه قصيدتي الشاطبي في القراءة، وفي الرسم، وعرضت عليه كتاب التقصي لابن عبد البر، وغير ذلك، وأجازني بالإجازة العامة، وفي هذه بالإجازة الخاصة، وهو يروي هذا الكتاب عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز، وعن شيخه أبي العباس أحمد بن موسى البطرني بسندهما.

 

ومنها عن شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمد بن الصفار المراكشي، شيخ القراآت بالمغرب، سمعت عليه بعض هذا الكتاب بمجلس السلطان أبي عثمان ملك المغرب، وهو يسمعه إياه، وأجازني بسائره؛ وهو يرويه عن شيخه محدث المغرب أبي عبد الله محمد بن رشيد الفهري السبتي عن مشيخة أهل سبتة، وأهل الأندلس، حسبما ذلك مذكور في كتب رواياتهم وطرق أسانيدهم، إلا أنها لم تحضرني الآن، وفيما ذكرناه كفاية والله يوفقنا أجمعين لطاعته وهذا حين أبتدي، وبالله أهتدي.

 

وانفض ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيون، واستشعرت أهليتي للمناصب القلوب، واخلص النجي في ذلك الخاصة والجمهور، وأنا انتاب مجلس السلطان في أكثر الأحيان، لتأدية الواجب من التحية والمشافهة بالدعاء، إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية، فابعده، وأخره عن خطة القضاء في رجب ست وثمانين وسبعمائة، ودعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه فتفاديت من ذلك، وأبى إلا إمضاءه، وخلع علي، وبعث الأمراء معي إلى مقعد الحكم بمدرسة القضاء؛ فقمت في ذلك المقام المحمّود، ووفيت عهد الله وعهده في إقامة رسوم الحق، وتحري المعدلة، حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله، ووقع في ذلك ما تقدم ذكره، وكثر شغب أهل الباطل والمراء، فأعفاني السلطان منها لحول من يوم الولاية، وكان تقدمها وصول الخبر بغرق السفين الواصل من تونس إلى الإسكندرية، وتلف الموجود والمولود، وعظم الأسف، وحسن العزاء، والله قادر على ما يشاء.

ثم خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة لقضاء الفرض، وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع، ورافقت المحمل إلى مكة، فقضيت الحج عامئذ، وعدت إلى مصر في البحر كما سافرت أولا. وشغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش، فولاني السلطان إياها بدلاً من مدرسته في محرم أحد وتسعين وسبعمائة، ومضيت على حالي من الانقباض، والتدريس، والتأليف، حتى ولاّني خانقاه بيبرس، ثم عزلني عنها بعد سنة أو أزيد، بسبب أنا اذكره الآن.

ولاية خانقاه بيبرس، والعزل منها:

لما رجعت من قضاء الفرض سنة تسعين وسبعمائة، ومضيت على حالي من التدريس والتأليف، وتعاهد السلطان باللقاء والتحية والدعاء، وهو ينظر إلي بعين الشفقة، ويحسن المواعيد. وكانت بالقاهرة خانقاه شيدها السلطان بيبرس، ثامن ملوك الترك الذي استبد على الناصر محمد بن قلاوون هو ورفيقه سلار وأنف الناصر من استبدادهما، وخرج للصيد، فلمّا حاذى الكرك امتنع به، وتركهم وشأنهم، فجلس بيبرس على التخت مكانه، وكاتب الناصر أمراء الشام من مماليك ابيه، واستدعوه للقيام معه، وزحف بهم إلى مصر، وعاد إلى سلطانه، وقتل بيبرس وسلار سنة ثمان وسبعمائة. وشيد بيبرس هذا أيام سلطانه داخل باب النصر من أعظم المصانع وأحفلها، وأوفرها ريعا، وأكثرها أوقافا، وعين مشيختها، ونظرها لمن يستعد له بشرطه في وقفه، فكان رزق النظر فيها والمشيخة واسعا لمن يتولاه، وكان ناظرها يومئذ شرف الدين الأشقر إمام السلطان الظاهر. فتوفي عند منصرفي من قضاء الفرض، فولاني السلطان مكانه توسعة علي، وإحساناً إلي، وأقمت على ذلك إلى أن وقعت فتنة الناصري.

فتنة الناصري

وسياقه الخبر عنها بلد تقديم كلام في احوال الدول يليق بهذا الموضع، ويطلعك علي أسرار في تنقل أحوال الدول بالتدريج إلي الضخامة والاستيلاء، ثم إلى الضعف والاضمحلال، والله بالغ امره وذلك أن الدول الكلية، وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحداً بعد واحد في مده طويلة، قائمين على ذلك بعصبية النسب أو الولاء، وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلبهم، فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم، وغلب مستحقين آخرين ينرعونه من أيديهم بالعصبية التي يقتدرون بها على ذلك، ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى؛ يفضون جبايتها بينهم على تفاضل البأس والرجولة والكثرة في العصابة أو القلة؛ وهم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس، والاقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة، وعدم الثروة من قبل. ثم تنمو الثروة فيهم بنمو الجباية التي ملكوها، ويزين حب الشهوات للاقتدار عليها، فيعظم الترف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك، وسائر الأحوال، ويتزايد شيئاً فشيئاً بتزايد النعم وتتسع الأحوال أوسع ما تكون، ويقصر الدخل عن الخرج، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم، ويحصل ذلك لكل أحد ممن تحت أيديهم، لأن الناس تبع لملوكهم ودولتهم، ويراجع كل أحد نظره فيما فيه من ذلك، فيرجع وراءه، ويطلب كفاء خرجه بدخله.

 

ثم إن البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا إليه من رقة الحاشية والتنعم؛ فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة، ويحملهم على الإقلاع عن الترف، ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك؛ فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع، وهو أحق الناس به، وأقربهم إليه؛ فيصير الملك له، وفي عشيره؛ وتصير كأنها دولة أخرى، تمر عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى؛ فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها، وتخرج عن القوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب، أو الولاء. سنة الله في عباده. وكان مبدأ هذه الدولة التركية، أن بني أيوب لما ملكوا مصر والشام، كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقل بها كبيرهم صلاح الدين، وشغل بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسواحل، وكان قليل العصابة، إنما كان عشيره من الكرد يعرفون ببني هذان، وهم قليلون، وإنما كثر منهم جماعة المسلمين، بهمة الجهاد الذي كان صلاح الدين يدعو إليه؛ فعظمت عصابته بالمسلمين، وأسمع داعيه، ونصر الله الذين على يده. وانتزع السواحل كلها من أيدي نصارى الفرنج، حتى مسجد بيت المقدس؛ فانهم كانوا ملكوه وافحشوا فيه بالقتل والسبي؛ فاذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين، وانقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم؛ واقتسموا مدن الشام، ومصر بينهم، إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر أخي صلاح الدين، وأراد الاستكثار من العصابة لحماية الدولة، وإقامة رسوم الملك، وان ذلك يحصل باتخاذ المماليك، والاكثار منهم، كما كان آخراً في الدولة العباسية ببغداد؛ وأخذ التجار في جلبهم إليه، فاشترى منهم أعداداً، وأقام لتربيتهم أساتيذ معلمين لحرفة الجندية، من الثقافة والرمي، بعد تعليم الآداب الدينية والخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جم يناهز الألف؛ وكان مقيما بأحواز دمياط في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلبين على حصنها دمياط. وكان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سمَّاها المنصورة، وبها توفي رحمه الله، فكان نجم الدين نازلاً بها في مدافعة ساكني دمياط من الفرنج، فأصابه هنالك حدث الموت، وكان ابنه المعظم تورنشاه نائبا ًفي حصن كيفا من ديار بكر وراء الفرات، فاجتمع الجند على بيعته، وبعثوا عنه، وانتظروا. وتفطن الفرنج لشأنهم، فهجموا عليهم، واقتتلوا فنصر الله المسلمين، وأسر ملك الفرنج ريد إفرنس؛ فبعثوا به إلى مصر. وحبس بدار لقمان، إلى أن فادَوْه بدمياط، كما هو مذكور في أخبار بني أيوب. ونصبوا- للملك، ولهذا اللقاء- زوجة الصالح أيوب واسمها شجرة الدر، فكانت تحكم بين الجند، وتكتب على المراسيم، وركبت بوم لقاء الفرنج، تحت الصناجق، والجند محدقون بها، حتى أعز الله دينه، وأتم نصره. ثم وصل تورنشاه المعظم؛ فأقاموه في خطة الملك مكان أبيه الصالح أيوب، ووصل معه مماليك يدلون بمكانهم منه، ولهم به اختصاص، ومنه مكان؛ وكان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة من عهد أبيه وجده. اقطاي الجمدار وايبك التركماني، وقلاوون الصالحي، فانفوا من تصرفات مماليك تورنشاه، واستعلائهم بالحظ من السلطان، وسخطوهم وسخطوه، وأجمعوا قتله. فلما رحل إلى القاهرة اغتالوه في طريقه بفارسكو، وقتلوه، ونصبوا للأمر أيبك التركماني منهم، واستحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها؛ وهلك بعد أيبك ابنه علي المنصور، ثم مولاه قطز، ثم الظاهر بيبرس البندقداري. ثم ظهر أمر الطَّطَر، واستفحل ملكهم. وزحف هولاكو بن طولي بن جنكيزخان من خراسان إلى بغداد؛ فملكها، وقتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس. ثم زحف إلى الشام؛ فملك مدنه وحواضره من أيدي بني أيوب، إلى أن استوعبها. وجاء الخبر بأن بركة صاحب صراي شريكه في نسب جنكزخان، زحف إلى خراسان؛ فامتعض لذلك، وكر راجعاً، وشغل بالفتنة معه إلى أن هلك. وخرج قطز من مصر عندما شغل هولاكو بفتنة بركة؛ فملك الشام كله، أمصاره ومدنه، واضاره للترك موالي بني أيوب.، استفحلت دولة هؤلاء المماليك، واتصلت أيامها واحداً بعد واحد، كما ذكرنا في أخبارهم. ثم جاء قلاوون عندما ملك بيبرس الظاهر منهم، فتظاهر به، وأصهر إليه، والترف يومئذ لم يأخذ منهم، والشدة والشكيمة موجودة فيهم، والبأس والرجولة شعار لهم؛ وهلك الظاهر بيبرس، وابناه من بعده، كما في أخبارهم. وقام قلاوون بالأمر، فاتسع نطاق ملكه، وطال ذرع سلطانه، وقصرت أيدي الطَّطَر عن الشام بمهلك هولاكو، وولاية الأصاغر من ولده، فعظم مُلك قَلاَوُون، وحَسُنت آثارُ سياسته، وأصبح حجة على من بعده؛ ثم ملك بعده ابناه: خليل الأشرف، ثم محمد الناصر. وطالت أيامه، وكثرت عصابته من مماليكه، حتى كَمُل منهم عَدد لم يقع لغيره. ورتَّب للدَّولة المراتب، وقَدَّم منهم في كل رُتبة الأمراء، وأوسع لهم الإقطاع والولايات، حتى توفرت أرزاقهم واتسعت بالتَّرَف أحوالهم. ورحل أربابُ البضائع من العلماءِ والتُّجَّار إلى مصر؛ فأوسَعهم حِباءً وبرّا. وتنافست أمراءُ دَولته في اتخاذ المدارس والرُّبط والخوانق، وأصبحت دولتهم غُرَّة في الزمان، وواسطةً في الدوَل. ثم هلك الناصر بعد أربعين وسبعمائة، فطفِق أمراء دولته ينصبُون بنيه للملك، واحداً بعد آخر، مستبدّين عليهم، متنافسين في الملك، حتى يغلبَ واحد منهم الآخر، فيقتُلَه، ويقتُلَ سلطانه من أولاد الناصر، وينصب آخر منهم مكانه، إلى أن انساق الأمرُ لولده حسن النَّصر؛ فقتَلَ مُستَبدَّه شيخون، وملك أمره. وألقى زمام الدولة بيد مملوكه يلبُغا؛ فقام بها، ونافسه أقرانُه، وأغروا به سلطانه؛ فاجمع قتله. ونُمي إليه الخبرُ وهو في علوفة البرسيم عند خيله المُرتبطة لذلك؛ فاعتزم على الامتناع، واستعدّ للّقاء. واستدعاه سلطانُه؛ فتثاقل عن القدوم. واستشاط السلطان، وركب في خاصته إليه، فركب هو لمصادمته. وهاجم السلطان ففلَّه، ورجع إلى القلعة، وهو في اتِّباعه، فلم يُلفه بقصره، وأغرى به البحث فتقبَّض عليه، واستصفاه، وقتله؛ ونصب للملك محمد المنصور بن المظفّر حاجي بن الناصر. وقام بالدولة أحسن قيام، وأغرى نفسه بالاستكثار من المماليك، وتهذيبهم بالتَّربية، وتوفير النِّعم عندهم بالاقطاع، والولايات، حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة. ثم خلع المنصور بن المظفَّر لسنتين، ونصب مكانه للملك شعبان الأشرف بن حسين بن النَّاصر؛ فأقام على التخت وهو في كفالته، وهو على أوَّله في إعزاز الدولة، وإظفار التَّرَف والثروة، حتى ظهرت مخايل العزّ والنّعم، في المساكن والجياد والمماليك والزينة؛ ثم بطرُوا النِّعمة؛ وكفروا الحقوق، فحنقوا عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم في الآداب، فهمّوا بقتله وخلصوا نجيا لذلك في مُتَصيَّدهم الشَّتوي، وقد برزوا له بخيامهم وسلطانهم على عادتهم. ولما أحسّ بذلك ركب ناجياً بنفسه إلى القاهرة؛ فدخلوا على السلطان الأشرف، وجاءوا به على إثره، وأجازوا البحر؛ فقبضوا عليه عشيّ يومهم، ثم قتلوه في محبسه عشاء. وانطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرات لم يعهدوها من أول دولتهم، من النّهب والتّخطُّف وطُروق المنازل والحمّامات للعبث بالحُرم، وإطلاق أعنّة الشّهوات والبغي في كل ناحية؛ فمرج أمر النّاس، ورفع الأمر إلى السُّلطان، وكثر الدعاء واللَّجَأُ إلى الله. واجتمع أكابر الأمر إلى السلطان، وفاوضوه في كفِّ عاديتهم، فأمرهم بالركوب، ونادى في جُنده ورعيته بانطلاق الأيدي عليهم، والاحتياط بهم في قَبضَة القهر؛ فلم يكن إلا كلمح البصر، وإذا بهم في قبضة الأسر. ثم عُمِّرت بهم السّجُون، وصفِّدوا وطيف بهم على الجمال ينادى بهم، إبلاغاً في الشهرة؛ ثم وُسِّط أكثرهم، وتُتُبِّع البقيَّةُ بالنَّفي والحبس بالثغور القَصِيَّة، ثم أُطلِقوا بعد ذلك. وكان فيمن أطلق جماعةٌ منهم بحبس الكرك: فيهم برقوق الذي ملك امرهم بعد ذلك، وبركة الجوباني، وألطُنُبغا الجوباني وجهركس الخليلي.

 

وكان طشتمر، دوادار يلبغا، قد لطف محلَّه عند السلطان الأشرف، وولي الدوادارية له، وكان يؤمّل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا، فكان يحتال في ذلك بجمع هؤلاء المماليك اليلبغاوية من حيث سقطوا، يريد بذلك اجتماعهم عصبة له على هواه، ويغري السلطان بها شفاها ورسالة، إلى أن اجتمع أكثرهم بباب السلطان الأشرف، وجعلهم في خدمة ابنه علي ولي عهده. فما كثروا، واخذتهم أريحية العز بعصبيتهم، صاروا يشتطون على السلطان في المطالب، ويعتزون بعصبية اليلبغاوية. واعتزم السلطان الأشرف عام سبعة وسبعين وسبعمائة على قضاء الفرض، فخرج لذلك خروجاً فخماً، واستناب ابنه عليّا على قلعته وملكه في كفالة قرطاي من أكابر اليلبغاوية، وأخرج معه الخليفة والقضاة. فلما بلغ العقبة اشتط المماليك في طلب جرايتهم من العلُّوفة والزّاد، واشتطَّ الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولّين للجباية. وصار الذين مع السلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال والأفعال، وطشتمر الدوادار يغضي عنهم، يحسب وقت استبداده قد أزف، إلى أن راغمهم السلطان بالزجر؛ فركبوا عليه هنالك، وركب من خيالته مع لفيف من خاصته، فنضحوه بالنبل، ورجع إلى خيامه، ثم ركب الهجن مساء، وسار فصبّح. القاهرة، وعرّس هو ولفيفه بقبّة النّصر.

 

وكان قرطاي كافل ابنه عليّ المنصور حدث بينه وبين ناظر الخاص المقسي مكالمة عند مغيب السلطان أحقدته. وجاشت بما كان في نفسه؛ فأغرى عليّا المنصور بن السلطان بالتوثّب على المُلك، فارتاح لذلك وأجابه، وأصبح يوم ثورة المماليك بالعقبة؛ وقد أجلس عليَّا مكفوله بباب الاسطبل، وعقد له الراية بالنداء على جلوسه بالتخت؛ وبينما هم في ذلك، صبَّحهم الخبر بوصول السلطان الأشرف إلى قبة النصر ليلتئذ، فطاروا إليه زرافات ووحدانا، فوجدوا أصحابه نياما هنالك، وقد تسلل من بينهم هو ويلبغا الناصري من أكابر اليلبغاوية؛ فقطعوا رءوسهم جميعاً، ورجعوا بها تسيل دماً. ووجموا لفقدان الأشرف، وتابعوا النداء عليه، وإذا بامرأة قد دلَّتهم عليه في مكان عرفته؛ فتسابقوا إليه، وجاءوا به فقتلوه لوقته بخلع أكتافه، وانعقدت بيعة ابنه المنصور. وجاء طشتمر الدوادار من الغد بمن بقي بالعقبة من الحرم، ومخلّف السلطان، واعتزم على قتالهم طمعاً في الاستبداد الذي في نفسه؛ فدافعوه وغلبوه وحصل في قبضتهم، فخلعوا عليه بنيابة الشام، وصرفوه لذلك، وأقاموا في سلطانهم. وكان أينبك أميراً آخر من اليلبغاوية قد ساهم قرطاي في هذا الحادث، وأصهر إليه في بعض حرمه؛ فاستنام له قرطاي، وطمع هو في الاستيلاء. وكان قرطاي مواصلا صبوحه بغبوقه، ويستغرق في ذلك؛ فركب في بعض أيامه؛ وأركب معه السلطان عليا، واحتاز الأمر من يد قرطاي، وصيره إلى صفد، واسّتقّلّ بالدولة، ثم انتقض طشتمر بالشّام مع سائر أمرائه؛ فخرج أينبك في العساكر، وسرّح المقدّمة مع جماعة من الأمراء؛ وكان منهم برقوق وبركة المستوليان عقب ذلك؛ وخرج هو والسلطان في السّاقة؛ فلما انتهوا إلى بلبيس، ثار الأمراء الذين في المقدمة عليه، ورجع إليه أخوه منهزماً؛ فرجع إلى القلعة. ثم اختلف عليه الأمراء، وطالبوه بالحرب في قبة النصر؛ فسرّح العساكر لذلك؛ فلمّا فصلوا فرّ هو هارباً، وقبض عليه وثقف بالإسكندرية. واجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي، ويلبغا الناصري ودمرداش اليوسفي وبركة وبرقوق؛ فتصدى دمرداش ويلبغا وبركة وبرقوق، إلى الاستقلال بالأمر وتغلبوا على سائر الأمراء؛ واعتقلوهم بالاسكندرية. وفوضوا الأمر إلى يلبغا الناصري، وهم يرونه غير خبير، فأشاروا باستدعاء طشتمر، وبعثوا إليه، وانتظروا. فلما جاءه الخبر بذلك ظنها منية نفسه، وسار إلى مصر؛ فدفعوا الأمر إليه، وجعلوا له التولية والعزل وأخذ برقوق، وبركة يستكثران من المماليك، بالاستخدام والجاه، وتوفير الاقطاع، إكثافاً لعصبيتهما؛ فانصرفت الوجوه عن سواهما، وارتاب طشتمر بنفسه، وأغراه أصحابه بالتوثّب؛ ولما كان الأضحى في سنة تسع وسبعين وسبعمائة استعجل أصحابه على غير روية، وركبوا وبعثوا إليه فأحجم، وقاتلوا فانهزموا. وتقبض على طشتمر، وحبس بالإسكندرية، وبعث معه يلبغا الناصري، وخلت الدولة للأميرين برقوق وبركة من المنازعين، وعمروا المراتب بأصحابهما. ثم كثر شغب التركمان والعرب بنواحي الشام، فدفعوا يلبغا الناصري إلى النيابة بحلب ليستكفوا به في تلك الناحية. ثم تنافس برقوق وبركة في الاستقلال، وأضمر كل واحد منهما لصاحبه، وخشي معه، فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليحض بذلك جناحه؛ فارتاع لذلك بركة، وخرج بعصابته إلى قبة النصر ليواضع برقوقا وأصحابه الحرب هنالك، ورجا أن تكون الدائرة له. وأقام برقوق بمكانه من الاسطبل، وسرب أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك. وأقاموا كذلك أياماً يغادونهم ويراوحونهم ثلاثا، إلى أن عضت بركة وأصحابه الحرب؛ فانفضوا عنه، وجيء ببركة، وبعث به إلى الإسكندرية؛ فحبس هنالك إلى أن قتله ابن عرام نائب الإسكندرية. وارتفع اصحابه إلى برقوق شاكين؛ فثأرهم منه بإطلاق أيديهم في النصفة؛ فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة، بعد ان سمر، وحمل على جمل عقابا له؛ ولم يقنعهم ذلك، فاطلق أيديهم فيما شاءوا منه، ففعلوا ما فعلوا. وانفرد برقوق- بعد ذلك- بحمل الدولة ينظر في اعطافها بالتهديد، والتسديد، والمقاربة، والحرص على مكافأة الدخل بالخرج. ونقص ما أفاض فيه بنو قلاوون من الإمعان في الترف، والسرف في العوائد والنفقات، حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال الراجح، وعجزت الدولة عن تمشية أحوالها؛ وراقب ذلك كفه برقوق، ونظر في سد خلل الدولة منه، وإصلاحها من مفاسده، يعتد ذلك ذريعة للجلوس على التخت، وحيازة اسم السلطان من أولاد قلاوون، بما أفسد الترف منهم، وأحال الدولة بسببهم، إلى ان حصل من ذلك على البغية، ورضي به أصحابه وعصابته؛ فجلس على التخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وتلقب بالظاهر. ورتب أهل عصابته في مراتب الدولة؛ فقام وقاموا بها احسن قيام، وانقلبت الدولة من آل قلاوون إلى برقوق الظاهر وبنيه. واستمر الحال على ذلك، ونافسه اليلبغاوية- رفقاؤه في ولاء يلبغا- فيما صار إليه من الأمر، وخصوصا يلبغا نائب حلب، فاعتزم على الانتقاض. وشعر به الظاهر فبعث باستدعائه؛ فجاء وحبسه مده، ثم رجعه إلى نيابة حلب، وقد وغر صدره من هذه المعاملة. وارتاب به الظاهر؛ فبعث سنة تسعين وسبعمائة دواداره للقبض عليه، ويستعين في ذلك بالحاجب. وانتقض، واستدعى نائب ملطية، وهو منطاش من أمراء اليلبغاوية، وكان قد انتقض قبله، ودعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلبا على الظاهر؛ فأجابوه، وساروا في جملته، وتحت لوائه؛ وبلغ الخبر إلى الظاهر برقوق؛ فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من اصحابه: وهم الدوادار الأكبر يونس، وجهركس الخليلي أمير الاسطبل، والأتابكي ايتمش، وايدكار حاجب الحجاب واحمد بن يلبغا أستاذهم. وخرج الناصري من حلب في عسكره، واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام؛ ولما تراءى الجمعان بناحية دمشق، نزع كثير من عسكر السلطان إليهم، وصدقوا الحملة على من بقي فانفضوا. ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق؛ فدخلها، وقتل جهركس، ويونس، ودخل الناصري دمشق؛ ثم أجمع المسير إلى مصر، وعميت أنباؤهم حتى أطلوا على مصر.

 

وفي خلال ذلك أطلق السلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة انمى عنه، أنه داخله شيطان من شياطين الجند، يعرف بقرط في قتل السلطان يوم ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين، فلما صح الخبر أمر بقتله، وحبس الخليفة سبعا إلى تلك السنة، فأطلقه عند هذا الواقع؛ ولما وصل إلى قيطا اجتمعت العساكر، ووقف السلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل، ثم دخل إلى بيته وخرج متنكرا، وتسرب في غيابات المدينة، وباكر الناصري وأصحابه القلعة، وأمير حاج بن الأشرف؛ فأعادوه إلى التخت ولقبوه المنصور. وبعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وكان فيهم الطنبغا الجوباني الذي كان أمير مجلس، وقبض السلطان الظاهر عليه، وحبسه أياما، ثم أطلقه وبعثه نائبا على دمشق، ثم ارتفعت عنه الأقوال بأنه يروم الانتقاض، وداخل الناصر في نائب حلب في ذلك، وأكد ذلك عند السلطان ما كان بينه وبين الناصري من المصافاة والمخالصة، فبعث عنه. ولما جاء حبسه بالإسكندرية؛ فلما ملك الناصري مصر، وأجلس أمير حاج بن الأشرف على التخت، بعث عنه ليستعين به على أمره؛ وارتابوا لغيبة الظاهر، وبالغوا في البحث عنه، فاستدعى الجوباني واستنام له، واستحلفه على الأمان؛ فحلف له، وجاء به إلى القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصر في المضي إليه وتأمينه. وحبسوه في بعض قصور الملك، وتشاوروا في أمره؛ فأشار أمراء اليلبغاوية كلهم بقتله، وبالغ في ذلك منطاش، ووصل نعير أمير بني مهنا بالشام للصحابة بينه وبين الناصري، فحضهم على قتله، ومنع الجوباني من ذلك وفاء بيمينه، فغلت صدورهم منه. واعتزموا على بعثه إلى الكرك، ودافعوا منطاشا بأنهم يبعثونه إلى الإسكندرية، فيعترضه عند البحر بما شاء من رأيه. ووثق بذلك، فقعد له عند المرساة، وخالفوا به الطريق إلى الكرك، وولوا عليها نائبا واوصوه به؛ فأخفق مسعى منطاش، ودبر في اغتيال الدولة، وتمارض في بيته. وجاءه الجوباني عائذا فقبض عليه، وحبسه بالإسكندرية، وركب منتقضا، ووقف عند مدرسة الناصر حسن يحاصر الناصري بالقلعة. واستحاش هو بأمراء اليلبغاوية؛ فداهنوا في إجابته، ووقفوا بالرميلة أمام القلعة. ولم يزل ذلك بينهم أياما حتى انفض جمع الناصري، وخرج هاربا؛ فاعترضه اصحاب الطريق بفارسكو، وردوه؛ فحبسه منطاش بالإسكندرية مع صاحبه، واستقل بأمر الملك. وبعث إلى الكرك بقتل الظاهر؛ فامتنع النائب، واعتذر بوقوفه على خط السلطان والخليفة والقضاة. وبث الظاهر عطاءه في عامة أهل الكرك؛ فانتدبت طائفة منهم لقتل البريدي الذي جاء في ذلك؛ فقتلوه؛ وأخرجوا الظاهر من محبسه فأصحروا. واستألف أفاريق من العرب، واتصل به بعض مماليكه، وسار إلى الشام. واعترضه ابن باكيش نائب غزة، فأوقع به الظاهر، وسار إلى دمشق، واخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج، وسار على التعبئة ليمانع الظاهر عن دمشق. وسبقه الظاهر فمنعه جنتمر نائب دمشق؛ فواقعه، وأقام محاصرا له. ووصل إليه كمشبغا الحمّوي نائب حلب، وكان اظهر دعوته في عمله، وتجهز للقائه بعسكره؛ فلقيه وأزال علله، فأقام له أبهة الملك. وبينا هم في الحصار إذ جاء الخبر بوصول منطاش بسلطانه وعساكره لقتالهم، فلقيهم الظاهر بشقحب، فلما تراءى الجمعان، حمل الظاهر على السلطان أمير حاج وعساكره ففضهم، وانهزم كمشبغا إلى حلب. وسار منطاش في اتباعه؛ فهجم الظاهر على تعبئة أمير حاج؛ ففضها، واحتاز السلطان، والخليفة والقضاة، ووكل بهم. واختلط الفريقان، وصاروا في عمياء من أمرهم، وفر منطاش إلى دمشق. واضطرب الظاهر أخبيته، ونزل على دمشق محاصرا لها. وخرج إليه منطاش من الغد فهزمه، وجمع القضاة والخليفة؛ فشهدوا على أمير حاج بالخلع، وعلى الخليفة بإعادة الظاهر إلى ملكه. ورحل إلى مصر فلقيه بالطريق خبر القلعة بمصر، وتغلب مماليكه عليها؛ وذلك أن القلعة لما خلت من السلطان ومنطاش والحامية، وكان مماليك السلطان محبوسين هنالك في مطبق أعد لهم، فتناجوا في التسور منه إلى ظاهره، والتوثب على القلعة والملك، فخرجوا، وهرب دوادار منطاش الذي كان هنالك بمن كان معه من الحاشية. وملك مماليك الظاهر القلعة، ورأسهم مملوكه بطا، وساس امرهم، وانتظر خبر سلطانه، فلما وصل الخبر بذلك إلى الظاهر، أغذ السير إلى مصر. وتلقاه الناس فرحين مسرورين بعوده وجبره. ودخل منتصف صفر من سنة إحدى وتسعين، وولى بطا دوادارا، وبعث عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وأعتبهم، وأعادهم إلى مراتبهم. وبعث الجوباني إلى دمشق، والناصري إلى حلب كما كانا، وعادت الدولة إلى ما كانت عليه. وولى سودون على نيابته، وكان ناظرا بالخانقاه التي كنت فيها، وكان ينقم علي أحوالا من معاصاته فيما يريد من الأحكام في القضاء ازمان كنت عليه، ومن تصرفات دواداره بالخانقاه، وكان يستنيبه عليها؛ فوغر صدره من ذلك؛ وكان الظاهر ينقم علينا معشر الفقهاء فتاوى استدعاها منا منطاش، واكرهنا على كتابها؛ فكتبناها، وورينا فيها بما قدرنا عليه. ولم يقبل السلطان ذلك، وعتب عليه، وخصوصا علي؛ فصادف سودون منه إجابة في إخراج الخانقاه عني، فولى فيها غيري وعزلني عنها. وكتبت إلى الجوباني بأبيات أعتذر عن ذلك ليطالعه بها؛ فتغافل عنها، وأعرض عني مدة، ثم عاد إلى ما أعرف من رضاه وإحسانه، ونص الأبيات:

سيدي والظنون فيك جميلة            وأياديك بالأماني كفيله

لا تحل عن جميل رأيك إني          ما لي اليوم غير رأيك حيله

واصطنعني كما اصطنعت بإسداء      يد من شفاعة أو وسيله

لا تضعني فلست منك مضيعا         ذمة الحب، والأيادي الجميله

وأجرني فالخطب عض بنابيه        وأجرى إلى حماي خيوله

ولو أني دعا بنصري داع            كنت لي خير معشر وفصيله

أنه أمري إلى الذي جعل الله           أمور الدنيا له مكفوله

وأراه في ملكه الآية الكبرى            فولاه ثم كان مديله

أشهدته عناية الله في التمحيص          أن كان عونه ومنيله

العزيز السلطان والملك الظا          هر فخر الدنيا وعز القبيله

ومجير الإسلام من كل خطب           كاد زلزال بأسه أن يزيله

ومديل العدو بالطعنة النجلا         ء تفري ماذيه ونصوله

وشكور لأنعم الله يفني                في رضاه غدوه وأصيله

وتلطف في وصف حالي وشكوى         خلتي يا صفيه وخليله

قل له والققالُ يَكرمُ من مثْلك في مَحفِل العُلا أن يَقُولَه

يا خوندَ الملوك يا معدل الذَهر إِذا عَدل الزمان فُصُولَه

لا تقصِّر في جَبر كسْرى فما زِلْتُ أرجيك للأيادي الطَويلَة

أنا جارٌ لكم منعتم حماه ونَهجتم إلى المعالي سَبليه

وغريب أنَستَموه على الوَحْشة والحُزْن بالرضى والسُّهولَه

وجَمعتم من شمله فقضى الله فراقاً وما قَضَى مأمولَه

غالَه الدّهرُ في البنين وفي الأهـل وما كان ظنُّه أن يَغُوله

ورمته النَّوَى فقيداً قد اجْتَاحت عليه فُروعَه وأُصولَه

فجذبتم بضَيْعِه وأنَلتُم كل ما شاءت العُلَا أن تُنيلَه

ورفعتم من قدره قبل أن يشكو إِليكم عَياءَه وخُمُولَه

وفرضتم له حقيقةَ وُدٍّ  حاش لله أن تُرَى مُسْتَحِيلَه

همةٌ ما عرفتُها لسواكم وأنا من خَبرتُ دَهرِي وجِيلَه

والعِدا نمَّقوا أحاديث إِفْكٍ  كلها في طرائق معلولَه

روًجوا في شأني غرائب زور نصبوها لأمرهم أُحبُولَه

ورَموا بالذي أرادوا من البهتان ظناً بأنها مقبولَة

زعموا أنني أتيت من الأقوال ما لا يظنُ بي أن أقولَه

كيف لي أغمطُ الحقوق وأنِّي شكرُ نَعماكم عليّ الجزيله ؟

كيفَ لي أنكرُ الأيادي التي تعرِفها الشمْسُ والظِّلالُ  الظليله ؟

إن يكن ذا فقد برئتُ من الله تعالى رخُنتُ جهراً رسولَه

طوقونا أمر الكتاب فكانت لقداح الظنون فينا مُجيلَه

لا ورَبِّ الكتاب أنزله الله  على قلب من وعَى تنزيلَه

ما رضينا بذاك فعلاً ولا جئنا طوعاً ولا اقتفينا دليلَه

إِنما سامنا الكتابَ ظَلُوم لا يُرَجَّى دِفاعًه بالحِيلَه

سَخطٌ ناجزٌ وحِلمٌ  بَطيءٌ  وسلاح  للوْخز فينا صَقِيلَه

ودعوني ولست من مَنْصِب الحكم ولا سَاحباً لَدَيهم ذُيولَه

غيرَ أنَي وشَى بذكريَ واش يَتَقَصَّ أوتارَه وذُحُوله

فكتبنا معوِّلين على حلمك تمحو الاصار عَنَا الثَّقيلَه

ما أشرنا بهِ لِزيد ولا عمرو ولا عينوا لنا تفصيله

إِنما يذكرون عمَّن وفيمَن مُبْهماتٍ  أحكامُها منقولَه

ويظنُّون أنَ ذاك على ما أضمروا من شناعةٍ أو رذيله

وهْو ظن عن الصًواب بعيدٌ وظلَامٌ  لم يُحْسِنُوا تأويلَه

وجناب السُّلطان نزَهه الله عن العاب بالهُدَى والفضيلهَ

وأجَلُّ الملوك قدراً صفوحٌ  يَرْتَجي ذنبَ دَهره ليُقِيلَه

فاقبلوا الغذرَ إِنَّنا اليوم نرجُو بحياةِ السُلطان منكُم قبُولَه

وأعينوا على الزمان غريباً يشتكي جَدْب عَيشِه ومُحُولَه

جارُكم ضيفُكم نزيلُ حِماكم لا يُضيعُ الكريمُ يوماً نَزِيلَه

جَدِّدوا عندَه رُسومَ رضاكم فَرُسُومُ الكرام غَيرُ مُحيلَه

داركوه برحمة فلقد أمسَتْ عقودُ اصطباره محلولَه

وانحَلوه جَبْرا فليس يُرجِّي غيرَ إحسانكم لهَذِي النحِيلَه

يا حميدَ الآثار في الدهر يا ألطْنبُغا يا رَوْض العُلاَ ومَقِيلَه

كيفَ بالخانِقاه ينقلُ عنَي لا لذَنب أو جُنْحَةٍ مَنقولَه

بل تقلَّدتُها شَغُوراً  بمرسُوم شَريفٍ  وخِلعة مَسْدُولَه

ولقد كنت آملًا لسواها وشواها بوْعدِه أن ينِيلَه

وتوثَّقتُ للزمان علَيْها بعقود ما خِلتُها محلولَه

أبلغن قِصَّتي فمثلُك من يقصد فعل الحسنى بمن ينتمي لَه

واغنموا من مثوبتي ودعائي قُربَةً عند ربكم مقبوله

وفي التَّعريض بسَفَره إلى الشام :

واصحَب العزَ ظافرأ بالأماني واترُك العُصبةَ العِدا مَفْلولَه

واعتَمِل في سعادة الملك الظاهر أن تَمحو الأذَى وتُزيِلَه

وتُعيدَ الدُّنيا لأحْسَن شَمْلٍ حين تُضْحِي بسَعْده مشمُولَه

واطلُب النَّصر من سَعادته يصحَبْك داباً في الظعن والحَيلُولَه

وارتَقِب ما يُحِلُّه بالأعادي في جُمادَى أو زد علَيه قَليلَه

وخذوه فألا بحسن قبول                  صدق الله في الزمان مقوله

فلقد كان يحسن الفال عند             المصطفى دائما ويرضى جميله

 

السعاية في المهاداة والاتحاف بين ملوك المغرب والملك الظاهر:

كثيرا ما يتعاهد الملوك المتجاورون بعضهم بعضا بالإتحاف بطرف أوطانهم، للمواصلة والإعانة متى دعا إليها داع. وكان صلاح الدين بن أيوب هادى يعقوب المنصور ملك المغرب من بني عبد المؤمن، واستجاش به بأسطوله في قطع مدد الفرنج عن سواحل الشام حين كان معنيا بإرجاعهم عنها، وبعث في ذلك رسوله عبد الكريم بن منقذ من أمراء شيزر، فأكرم المنصور رسوله، وقعد عن إجابته في الأسطول لما كان في الكتاب إليه من العدول عن تخطيطه بأمير المؤمنين؛ فوجدها غصة في صدره منعته مي إجابته إلى سؤاله؛ وكان المانع لصلاح الذين من ذلك كاتبه الفاضل عبد الرحيم البيساني بما كان يشاوره في أفوره، وكان مقيما لدعوة الخليفة العباسي بمصر؛ فرأى الفاضل أن الخلافة لا تنعقد لإثنين في الملة كما هو المشهور، وإن اعتمد أهل المغرب سوى ذلك، لما يرون أن الخلافة ليست لقبا فقط، وإنما هي لصاحب العصبية القائم عليها بالشدة والحماية؛ والخلاف في ذلك معروف بين أهل الحق. فلما انقرضت دولة الموحدين، وجاءت دولة بني مرين من بعدهم، وصار كبراؤهم ورؤساؤهم يتعاهدون قضاء فرضهم لهذه البلاد الشرقية، فيتعاهدهم ملوكها بالإحسان إليهم، وتسهيل طريقهم؛ فحسن في مكارم الأخلاق انتحال البر والمواصلة، بالإتحاف والاستطراف والمكافأة في ذلك بالهمم الملوكية؛ فسنت لذلك طرائق وأخبار مشهورة، من حقها أن تذكر؛ وكان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ثالث ملوك بني مرين، أهدى لصاحب مصر عام سبعمائة، وهو يومئذ الناصر بن محمد بن قلاوون، هدية ضخمة، اصحبها كريمة من كرائم داره، احتفل فيها ما شاء من أنواع الطرف، وأصناف الذخائر، وخصوصا الخيل والبغال.

 

 

أخبرني الفقيه أبو إسحق الحسناوي، كاتب الموحدين بتونس، أنه عاين تلك الهدية عند مرورها بتونس، قال: وعددت من صنف البغال الفارهة فيها أربعمائة، وسكت عما سوى ذلك. وكان مع هذه الهدية من فقهاء المغرب، أبو الحسن التنسي كبير أهل الفتيا بتلمسان ثم كافأ الناصر عن هذه الهدية بأعلى منها وأحفل مع أميرين من أمراء دولته، أدركا يوسف بن يعقوب وهو يحاصر تلمسان، فبعثهما إلى مراكش للنزاهة في محاسنها، وأدركه الموت في مغيبهما، ورجعا من مراكش؛ فجهزهما حافده أبو ثابت المالك بعده، وشيعهما إلى مصر؛ فاعترضتهما قبائل حصين ونهبوهما، ودخلا بجاية، ثم مضيا إلى تونس، ووصلا من هنالك إلى مصر.

 

ولما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان، اقترحت عليه جارية أبيه أبي سعيد، وكانت لها عليه تربية؛ فأرادت الحج في أيامه وبعنايته؛ فأذن لها في ذلك، وبعث في خدمتها وليه عريف بن يحيى من أمراء سويد، وجماعة من أمرائه وبطانته، واستصحبوا هدية منه للملك الناصر احتفل فيها ما شاء. وانتقى من الخيل العتاق، والمطايا الفره وقماش الحرير والكتان، والصوف ومدبوغ الجلود الناعمة، والأواني المتخذة من النحاس والفخار المخصوص كل مصر من المغرب بأصناف من صنائعها، متشابهة الأشكال والأنواع، حتى لقد زعموا أنه كان فيها مكيلة من اللآلىء والفصوص، وكان ذلك وقر خمس مائة بعير، وكانت عتاق الخيل فيها خمس مائة فرس، بالسروج الذهبية المرصعة بالجواهر، واللجم المذهبة، والسيوف المحلاة بالذهب واللآلىء؛ كانت قيمة المركب الأول منها عشرة آلاف دينار، وتدرجت على الولاء إلى آخر الخمس مائة؛ فكانت قيمته مائة دينار. تحدث الناس بهذه الهدية دهراً، وعرضت بين يدي الملك الناصر، فأشار إلى خاسكيته بانتهابها فنهبت بين يديه، وبولغ في كرامة أولئك الضيوف، في إنزالهم وقراهم وأزوادهم إلى الحجاز والى بلادهم؛ وبقي شأن الهدية حديثا يتجاراه الناس في مجالسهم وأسمارهم؛ وكان ذلك عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة. ولما فصل أرسال ملك المغرب، وقد قضوا فرضهم، بعث الملك الناصر معهم هدية كفاء هديتهم، وكانت أصنافها حمل القماش من ثياب الحرير والقماش المصنوعة بالإسكندرية، تحمل كل عام إلى دار السلطان، قيمة ذلك الحمل خمسون ألف دينار، وخيمة من خيام السلطان المصنوعة بالشام على مثال القصور، تشتمل على بيوت للمراقد، واواوين للجلوس والطبخ، وأبراج للإشراف على الطرقات، وأبراج أحدها لجلوس السلطان للعرض؛ وفيها تمثال مسجد بمحرابه، وعمده، ومأذنته؛ حوائطها كلها من خرق الكتان الموصولة بحبك الخياطة مفضلة على الأشكال التي يقترحها المتخذون لها. وكان فيها خيمة أخرى مستديرة الشكل،، عالية السمك، مخروطة الرأس، رحبة الفناء، تظل خمس مائة فارس أو أكثر، وعشرة من عتاق الخيل بالمراكب الذهبية الضقيلة، ولجمها كذلك؛ ومرت هذه الهدية بتونس، ومعها الخدام القائمون بنصب الأبنية، فعرضوها على السلطان بتونس. وعاينت يومئذ أصناف تلك الهدية، وتوجهوا بها إلى سلطانهم، وبقي التعجب منها دهرا على الألسنة. وكان ملوك تونس من الموحدين، يتعاهدون ملوك مصر بالهدية في الأوقات.

 

ولما وصلت إلى مصر، واتصلت بالملك الظاهر، وغمرني بنعمه وكرامته، كاتبت السلطان بتونس يومئذ، وأخبرته بما عند الملك الظاهر من التشوف إلى جياد الخيل، وخصوصا من المغرب، لما فيها من تحمل الشدة والصبر على المتاعب، وكان يقول مثل ذلك، وأن خيل مصر قصرت بها الراحة والتنعم، عن الصبر على التعب؛ فحضضت السلطان بتونس على إتحاف الملك والظاهر بما ينتقيه من الجياد الرائعة، فبعث له خمسة انتقاها من مراكبه، وحملها في البحر في السفين الواصل بأهلي وولدي؛ فغرقت بمرسى الإسكندرية، ونفقت تلك الجياد، مع ما ضاع في ذلك السفين، وكل شيء بقدر.

 

ثم وصل إلينا عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة شيخ الأعراب: المعقل بالمغرب، يوسف بن علي بن غانم، كبير أولاد حسين ناجياً من سخط السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم، من ملوك بني مرين بفاس، لروم قضاء فرضه، ويتوسل بذلك لرضى سلطانه؛ فوجد السلطان غائبا بالشام في فتنة منطاش؛ فعرضته لصاحب المحمل. فلمّا عاد من قضاء فرضه، وكان السلطان قد عاد من الشام، فوصلته به، وحضر بين يديه، وشكا بثه؛ فكتب الظاهر فيه شفاعة لسلطان وطنه بالمغرب، وحفله مع ذلك هدية إليه من قماش وطيب وتسي، وأوصاه بانتقاء الخيل له من قطر المغرب، وانصرف؛ فاقبل سلطانه فيه شفاعة الظاهر، وأعاده إلى منزلته. وانتقى الخيول الرائعة لمهاداة الملك الظاهر، وأحسن في انتقاء أصناف الهدية؛ فعاجلته المنية دون ذلك، وولي ابنه أبو فارس، وبقي أياما ثم هلك، وولى أخوه أبو عامر، فاستكمل الهدبة، وبعثها صحبة يوسف بن علي الوارد الأول.

 

وكان السلطان الملك الظاهر، لما أبطأ عليه وصول الخيل من المغرب، أراد أن يبعث من أمرائه من ينتقي له ما يشاء بالشراء، فعين لذلك مملوكا من مماليكه منسوبا إلى تربية الخليلي، اسمه قطلوبغا، وبعث عني، فحضرت بين يديه، وشاورني في ذلك فوافقته، وسألني كيف يكون طريقه، فأشرت بالكتاب في ذلك إلى سلطان تونس من الموحدين، وسلطان تلمسان من بني عبد الواد، وسلطان فاس والمغرب من بني مرين، وحمله لكل واحد منهم هدية خفيفة من القماش والطيب والقسي، وانصرف عام تسعة وتسعين وسبعمائة إلى المغرب، وشيعه كل واحد من ملوكه إلى مأمنه. وبالغ في إكرامه بما يتعين. ووصل إلى فاس، فوجد الهدية قد استكملت، ويوسف بن علي على المسير بها عن سلطانه أبي عامر من ولد السلطان أبي العباس المخاطب أولا. وأظلهم عيد الأضحى بفاس، وخرجوا متوجهين إلى مصر، وقد أفاض السلطان من إحسانه وعطائه، على الرسول قطلوبغا ومن في جملته بما أقر عيونهم، وأطلق بالشكر ألسنتهم، وملأ بالثناء ضمائرهم، ومروا بتلمسان، وبها يومئذ أبو زئان، ابن السلطان أبي حمّو من آل يغمراسن بن زيان، فبعث معهم هدية أخرى من الجياد بمراكبها، وكان يحوك الشعر، فأمتدح الملك الظاهر بقصيدة بعثها مع هديته، ونصها من أولها إلى اخرها:

لمن الركاب سيرهن ذميل

يا أيها الحادي رويدك إنها

رفقا بمن حملته فوق ظهورها

لله آية أنجم: شفافة

شهب بآفاق الصدور طلوعها

في الهودج المزرور منها غادة

فكأنها قمر على غصن على

ثارت مطايا فثار بي الهوى

أومت لتوديعي فغالب عبرتي

دمع أغيض منه خوف رقيبها

ويح المحب وشت به عبراته

صان الهوى وجفونه يوم النوى

وتهابه أسد الشرى في خيسها

والصبر- إلا بعدهن- جميل

ظعن يميل القلب حيث تميل

فالحسن فوق ظهورها محمّول

تنجاب عنها للظلام سدول

ولها بأستار الجدول أفول

تزع الدجى بجبينها فيحول

متني كثيب والكثيب مهيل

واعتاد قلبي زفرة وغليل

نظر تخالسه العيون كليل

طورا ويغلبني الأسى فيسيل

فكأنها قال عليه وقيل

لمصون جوهر دمعهن تذيل

ويروعه ظبي الحمى المكحول

تأبى النفوس الضيم إلا في الهوى

يا بانة الوادي ويا أهل الحمى

ما لي إذا هب النسيم من الحمى

خفوا الضبا يخلص إلي نسيمها

ما لي أحلأ عن ورود محله

والباب ليس بمرتج عن مرتج

فالحر عبد والعزيز ذليل

هل ساعة تصغين لي فأقول

أرتاح شوقا للحمى وأميل

إن الصبا لصبابتي تعليل

وأذاد عنه وورده منهول

والظن في المولى الجميل جميل

من لي بزورة روضة الهادي الذي

هو أحمد ومحمد والمصطفى

يا خير من أهدى الهدى وأجل من

وحي من الرحمن يلقيه على

مدحتك آيات الكتاب وبشرت

جملة الصلاة عليك تحلو في فمي

فوربعك المأهول إن بأضلعي

هل من سبيل للسرى حتى أرى

حتام تمطلني الليالي وعدها

ما عاقني إلا عظيم جرائمي

أنا مغرم فتعطفوا أنا مذنب

وأنا البعيد فقربوا والمستجير

يا سائقاً نحو الحجاز حمّولة

لمحمد بلغ سلام سميه

وسل الإله له اغتفار ذنوبه

ما مثله في المرسلين رسول

والمجتبى وله انتهى التفضيل

أثنى عليه الوحي والتنزيل

قلب النبي محمد جبريل

بقدومك التوراة والإنجيل

مهما تكرر ذكرك المعسول

قلبا بحبك ربعه مأهول

خير الورى فهو المنى والسول

إن الزمان بوعده لبخيل

إن الجرائم حملهن ثقيل

فتجاوزوا أنا عاثر فأقيلوا

فأمنوا والمرتجى فأنيلوا

والقلب بين حمّوله محمّول

فذمامه بمحمد موصول

يسمع هناك دعاؤك المقبول

وعن المليك أبي سعيد فلتنب

متحمل لله كسوة بيته

سعد المليك أبي سعيد إنه

فلكم له نحو الرسول رسول

يا حبذاك المحمل المحمّول

سيف على أعدائه مسلول

ملك بجح المغرب الأقصىبه              فلهم به نحو الرسول وصول

ملك به نام الأنام وأمنت                 سبل المخاف فلا يخاف سبيل

فالملك ضخم والجناب               مؤمل والفضل جم والعطاء جزيل

والصنع أجمل والفخار               مؤثل والمجد أكمل والوفاء أصيل

يا مالك البحرين بلغت المنى          قد عاد مصر على العراق يصول

يا خادم الحرمين حق لك الهنا          فعليك من روح الإله قبول

يا متحفي ومفاتحي برسالة             سلسالة يزهى بها الترسيل

أهديتها حسناء بكرا ما لها             غيري، وإن كثر الرجال، كفيل

ضاء المداد من الوداد بصحفها          حتى اضمحل عبوسه المجبول

جمعت وحاملها بحضرتنا كما           جمعت بثينة في الهوى وجميل

وتأكدت   بهدية        ودية            هي للإخاء  المرتضى تكميل

اطلعت فيها للقسي أهلة                 يرتد عنها الطرف وهو كليل

وحسام نصر زاهيا بنضاره             راق العيون فرنده المعسول

ماضي الشبا لمصابه تعنو الظبا          فبه تصول على العدا وتطول

وبدائع الحلل اليمانية التي                روى معاطفها بمصر النيل

فأجلت فيها ناظري فرأيتها               تحفا يجول الحسن حيث تجول

جلت محاسنها فأهوى نحوها              بفم القبول اللثم والتقبيل

يا مسعدي وأخي العزيز ومنجدي          ومن القلوب إلى هواه تميل

إن كان رسم الود منك مذيلا               بالبر وهو بذيله موصول

فنظيره عندي وليس يضيره               بمعارض وهم ولا تخييل

ود "يزيد" و"ثابت " شهدابه                  و "لخالد" بخلوده تذييل

وإليكها تنبيك صدق مودتي               صح الدليل ووافق المدلول

فإذا بذاك المجلس السامي سمت          فلديك إقبال لها وقبول

دام الوداد على البعاد موصلا              بين القلوب وحبله موصول

وبقيت في ندم لديك مزيدها               وعليك يضفو ظلها المسدول

ثم مروا بعدها بتونس، فبعث سلطان تونس أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي العباس من ملوك الموحدين، هدية ثالثة انتقى لها جياد الخيل، وعزز بها هدية السلطانين وراءه، مع رسوله من كبار الموحدين أبي عبد الله بن تافراكين؛ ووصلت الهدايا الثلاث إلى باب الملك الظاهر في آخر الله، وعرضت بين يدي السلطان، وانتهب الخاسكية ما كان فيها من الأقمشة والسيوف والبسط ومراكب الخيك، وحمل كثيرا منهم على كثير من تلك الجياد وارتبط الباقيات.

 

وكانت هدية صاحب المغرب تشتمل على خمسة وثلاثين من عتاق الخيل بالسروج واللجم الذهبية، والسيوف المحلاة، وخمسة وثلاثين حملا من أقمشة الحرير والكتان والصوف والجلد، منتقاة من أحسن هذه الأصناف.

 

وهدية صاحب تلمسان تشتمل على ثلاثين من الجياد بمراكبها المموهة، وأحمالا من الأقمشة.

 

وهدية صاحب تونس تشتمل على ثلاثين من الجياد مغشاة ببراقع الثياب من غير مراكب، وكلها أنيق في صنعه مستطرف في نوعه؛ وجلس السلطان يوم عرضها جلوسا فخما في إيوانه، وحضر الرسل، وأدوا ما يجب عن ملوكهم. وعاملهم السلطان بالبر والقبول، وانصرفوا إلى منازلهم للجرايات الواسعة، والأحوال الضخمة. ثم حضر وقت خروج الحاج؛ فاستأذنوا في الحج مع محمل السلطان، فاذن لهم، وارغد أزودتهم. وقضوا حجهم، ورجعوا الى حضرة السلطان ومعهود مبرته. ثم انصرفوا إلى مواطنهم، وشيعهم من بر السلطان وإحسانه، ما ملأ حقائبهم، وأسنى ذخيرتهم، وحصل لي أنا من بين ذلك في الفخر ذكر جميل بما تناولت بين هؤلاء الملوك من السعي في الوصلة الباقية على الأبد، خمدت الله على ذلك.

 

ولاية القضاء الثانية بمصر.

ما زلت، منذ العزل عن القضاء الأول سنة سبع وثمانينوسبعمائة، مكبا على الاشتغال بالعلم، تأليفا وتدريساً؛ والسلطان يولي في الوظيفة من يراه أهلا متى دعاه إلى ذلك داع، من موت القائم بالوظيفة، أو عزله؛ وكان يراني الأولى بذلك، لولا وجود الذين شغبوا من قبل في شأني، من أمراء دولته، وكبار حاشيته، حتى انقرضوا. واتفقت وفاة قاضى المالكية إذ ذاك ناصر الدين بن التنسي، وكنت مقيما بالفيوم لضم زرعي هنالك؛ فبعث عني، وقلدني وظيفة القضاء في منتصف رمضان من سنة إحدى وثمانمائة؛ فجريت على السنن المعروف مني، من القيام بما يجب للوظيفة شرعا وعادة؛ وكان رحمه الله يرضى بما يسمع عني في ذلك. ثم أدركته الوفاة في منتصف شوال بعدها، وأحضر الخليفة والقضاة والأمراء، وعهد إلى كبير أبنائه فرج، ولإخوته من بعده واحدا واحدا، وأشهدهم على وصيته بما أراد. وجعل القائم بأمر ابنه في سلطانه إلى أتابكه أيتمش، وقضى رحمة الله عليه، وترتبت الأمور من بعده كما عهد لهم، وكان النائب بالشام يومئذ أمير من خاسكية السلطان يعرف بتنم، وسمع بالواقعات بعد السلطان فغص أن لم يكن هو كافل ابن الظاهر بعده، ويكون زمام الدولة بيده. وطفق سماسرة الفتن يغرونه بذلك، وبينما هم في ذلك إذ وقعت فتنة الأتابك أيتمش، وذلك أنه كان للأتابك دوادار غر يتطاول إلى الرئاسة، ويترفع على أكابر الدولة بحظه من أستاذه، وما له من الكفالة على السلطان؛ فنقموا حالهم مع هذا الدَّوادار، وما يسومهم به من الترفع عليهم، والتعرض لإهمال نصائحهم؛ فأغروا السلطان بالخروج عن ربقه الحجر، وأطاعهم في ذلك، وأحضر القضاة بمجلسه للدعوى على الأتابك باستغنائه عن الكافل، بما علم من قيامه بأمره وحسن تصرفاته. وشهد بذلك في المجلس أمراء أبيه كافة، وأهل المراتب والوظائف منهم، شهادة قبلها القضاة. وأعذروا إلى الأتابك فيهم فلم يدفع في شيء من شهادتهم، ونفذ الحكم يومئذ برفع الحجر عن السلطان في تصرفاته وسياسة ملكه، وانفضّ الجمع، ونزل الأتابك من الاسطبل إلى بيت سكناه. ثم عاود الكثير من الأمراء نظرهم فيما أتوه من ذلك؛ فلم يروه صوابا، وحملوا الأتابك على نقضه، والقيام بما جعل له السلطان من كفالة ابنه في سلطانه. وركب، وركبوا معه في آخر شهر المولد النبوي، وقاتلهم أولياء السلطان فرج عشي يومهم وليلتها؛ فهزموهم، وساروا إلى الشام مستصرخين بالنائب تنم، وقد وقر في نفسه ما وقر من قبل؛ فبر وفادتهم، وأجاب صريخهم. واعتزموا على المضي إلى مصر. وكان السلطان لما انفضت جموع الأتابك، وسار إلى الشام، اعتمله في الحركة والسفر لخضد شوكتهم، وتفريق جماعتهم؛ وخرج في جمادى حش انتهى إلى غزة، فجاءه الخبر بأن نائب الشام تنم، والأتابك، والأمراء الذين معه، خرجوا من الشام زاحفين للقاء السلطان، وقد احتشدوا واوعبوا، وانتهوا قريبا من الرملة؛ فراسلهم السلطان مع قاضي القضاة الشافعي صدر الدين المناوي، وناصر الدين الرماخ، أحد المعلمين لثقافة الرماح، يعذر إليهم، ويحملهم على اجتماع الكلمة، وترك الفتنة، وإجابتهم إلى ما يطلبون من مصالحهم؛ فاشتطوا في المطالب، وصمموا على ما هم فيه. ووصل الرسولان بخبرهم، فركب السلطان من الغد، وعبى عساكره، وصمم لمعاجلتهم؛ فلقيهم أثناء طريقه، وهاجمهم فهاجموه، ثم ولوا الأدبار منهزبين. وصرع الكثير من أعيانهم وأمرائهم في صدر موكبه، فما غشيهم الليل إلا وهم مصفدون في الحديد، يقدمهم الأمير تنم نائب الشام واكابرهم كلهم. ونجا الأتابك أيتمش إلى القلعة بدمشق، فآوى إليها، واعتقله نائب القلعة. وسار السلطان إلى دمشق؛ فدخلها على التعبئة في يوم أغر، وأقام بها أياما، وقتل هؤلاء الأمراء المعتقلين، وكبيرهم الأتابك ذبحا، وقتل تنم من بينهم خنقا، ثم ارتحل راجعا إلى مصر.

 

وكنت استأذنت في التقدم إلى مصر بين يدي السلطان لزيارة بيت المقدس، فأذن لي في ذلك. ووصلت إلى القدس ودخلت المسجد، وتبركت بزيارته والصلاة فيه، وتعففت عن الدخول إلى القمامة لما فيها من الإشادة بتكذيب القرآن، إذ هو بناء أمم النصرانية على مكان الصليب بزعمهم، فنكرته نفسي، ونكرت الدخول إليه. وقضيت من سنن الزيارة ونافلتها ما يجب، وانصرفت إلى مدفن الخليل عليه السلام. ومررت في طريقي إليه ببيت لحم، وهو بناء عظيم على موضع ميلاد المسيح، شيدت القياصرة عليه بناء بسماطين من العمد الصخور، منجدة مصطفة، مرقوما على رؤوسها صور ملوك القياصرة، وتواريخ دولهم، ميسرة لمن يبتغي تحقيق نقلها بالتراجمة العارفين لأوضاعها؛ ولقد يشهد هذا المصنع بعظم ملك القياصرة وضخامة دولتهم. ثم ارتحلت من مدفن الخليل إلى غزة، وارتحلت منها، فوافيت السلطان بظاهر مصر، ودخلت في ركابه اواخر شهر رمضان سنة إثنين وثمانمائة. وكان بمصر فقيه من المالكية يعرف بنور الدين بن الخلال، ينوب أكثر أوقاته عن قضاة القضاة المالكية؛ فحرضه بعض أصحابه على السعي في المنصب، وبذل ما تيسر من موجودة لبعض بطانة السلطان الساعين له في ذلك، فتفت سعايته في ذلك، ولبس منتصف المحرم سنة ثلاث وثنانمائة؛ ورجعت أنا للاشتغال بما كنت مشتغلا به من تدريس العلم وتأليفه، إلى أن كان السفر لمدافعة تمر عن الشام.

 

سفر السلطان إلي الشام لمدافعة الطَّطَر عن بلاده:

هؤلاء الطَّطَر من شعوب الترك، وقد اتفق النسابه والمؤرخون على أن أكثر أمم العالم فرقتان، وهما: العرب والترك، وليس في العالم أمة أوفر منهما عدداً، هؤلاء في جنوب الأرض، وهؤلاء في شمالها، وما زالوا يتناوبون الملك في العالم؛ فتارة يملك العرب ويزحلون الأعاجم إلى آخر الشمال، وأخرى يزحلهم الأعاجم والترك إلى طرف الجنوب، سنة الله في عباده.

 

فلنذكر كيف انساق الملك لهؤلاء الطَّطَر، واستقرت الدول الإسلامية فيهم لهذا العهد فنقول: إن الله سبحانه خلق هذا العالم واعتمره بأصناف البشر على وجه الأرض، في وسط البقعة التي انكشفت من الماء فيه، وهي عند أهل الجغرافيا مقدار الربع منه، وقسموا هذا المعمور بسبعة أجزاء يسمونها الأقاليم، مبتدئة من خط الاستواء بين المشرق والمغرب، وهو الخط الذي تسامت الشمس فيه رؤوس السكان، إلى تمام السبعة أقاليم. وهذا الخط في جنوب المعمور، وتنتهي- السبعة الأقاليم في شماله. وليس في جنوب خط الاستواء عمارة إلى آخر الربع المنكشف، لإفراط الحر فيه، وهو يمنع من التكوين؛ وكذلك ليس بعد الأقاليم السبعة في جهة الشمال عمارة، لإفراط البرد فيها، وهو مانع من التكوين أيضأ. ودخل الماء المحيط بالأرض من جهة الشرق فوق خط الاستواء بثلاث عشرة درجة، في مدخل فسيح، وانساح مع خط الإستواء مغربا؛ فمر بالضين، والهند والسند واليمن، في جنوبها كفها. وانتهى إلى وسط الأرض، عند باب المندب، وهو البحر الهندي والصيني، ثم انحرف من طرفه الغربي في خليج عند باب المندب، ومر في جهة الشمال مغربا باليمن وتهامة والحجاز ومدين وأيلة وفاران، وانتهى إلى مدينة القلزم، وشممى بحر السويس، وفي شرقيه بلاد الصعيد إلى عيذاب، وبلا البجاة؛ وخرج من هذا البحر الهندي من وسطه خليج آخر يسمى الخليج الأخضر، ومر شمالا إلى الأبلة، ويسمى بحر فارس، وعليه في شرقيه بلاد فارس، وكرمان، والسند؛ ودخل الماء أيضا، من جهة الغرب في خليج متضايق في الإقليم الرابع، ويسمى بحر الزقاق، تكون سعته هنالك ثمانية عشر ميلا. ويمر مشرقا ببلاد البربر، من المغرب الأقصى والأوسط وأرض أفريقية والإسكندرية وأرض التيه وفلسطين والشام؛ وعليه في الغرب بلاد الإفرنج كلها؛ وخرج منه في الشمال خليجان: الشرقي منهما خليج القسطنطينية والغربي خليج البنادقة، ويسمى هذا البحر البحر الرومي، والشامي.

 

ثم إن هذه السبعة الأقاليم المعمورة، تنقسم من شرقيها وغربيها بنصفين: فنصفها الغربي في وسطه البحر الرومي، وفي النصف الشرقي من جانبه الجنوبي البحر الهندي، وكان هذا النصف الغربي أقل عمارة من النصف الشرقي، لأن البحر الرومي المتوسط فيه، انفسح في انسياحه، فغمر الكثير من أرضه. والجانب الجنوبي منه قليل العمارة لشدة الحر؛ فالعمران فيه من جانب الشمال فقط، والنصف الشرقي عمرانه أكثر بكثير، لأنه لا بحر في وسطه يزاحم. وجانبه الجنوبي فيه البحر الهندي، وهو متسع جدا؛ فلطف الهواء فيه بمجاورة الماء، وعذل مزاجه للتكوين؛ فصارت أقاليمه كلها قابلة للعمارة؛ فكثر عمرانه. وكان مبدأ هذا العمران في العالم، من لدن آدم صلوات الله عليه، وتناسل ولده أولا في ذلك النصف الشرقي، وبادت تلك الأمم ما بينه وبين نوح، ولم نعلم شيئا من أخبارها، لأن الكتب الإلهية لم يرد علينا فيها إلا أخبار نوح وبنيه؛ وأما ما قبل نوح فلم نعرف شيئا من أخباره؛ وأقدم الكتب المنزلة المتداولة بين أيدينا التوراة، وليس فيها من أخبار تلك الأجيال شيء، ولا سبيل إلى اتصال الأخبار القديمة إلا بالوحي؛ وأما الأخبار فهي تدرس بدروس أهلها.

واتفق النسابون على أن النسل كله منحصر في بني نوح، وفي ثلاثة من ولده، وهم سام، وحام، ويافث؛ فمن سام: العرب، والعبرانيون، والسبائيون؛ ومن حام: القبط، والكنعانيون، والبربر، والسودان؛ ومن يافث: الترك، والروم.، والخزر، والفرس، والديلم؛ والجيل.

 

ولا أدري كيف صح انحصار النسب في هؤلاء الثلاثة عند النسابين؛ أمن النقل؛ وهو بعيد كما قدمناه، او هو رأي تفرع لهم من انقسام جماعة المعمور؛ فجعلوا شعوب كل جهة لأهل نسب واحد يشتركون فيه؛ فجعلوا الجنوب لبني لمسام، والمغرب لبني حام، والشمال لبني يافث. إلا أنه المتناقل بين النسابة في العالم، كما قلناه، فلنعتمده ونقول: أول من ملك الأرض من نسل نوح عليه السلام، النمرود بن كنعان بن كوش، بن حام ووقع ذكره في التوراة. وملك بعده عابر بن شالخ الذي ينسب إليه العبرانيون، والسريانيون، وهم النبط؛ وكانت لهم الدولة العظيمة، وهم ملوك بابل، من نبيط بن اشور بن سام، وقيل نبيط بن ماش بن إرم؛ وهم ملوك الأرض بعد الطوفان على ما قاله المسعودي. وغلبهم الفرس على بابل، وما كان في أيديهم من الأرض، وكانت يومئذ في العالم دولتان عظيمتان، لملوك بابل هؤلاء، وللقبط بمصر: هذه في المغرب، والأخرى في المشرق؛ وكانوا ينتحلون الأعمال السحرئة، ويعولون عليها في كثير من أعمالهم، وبرابي مصر، وفلاحة ابن وحشية، يشهدان بذلك. فلما غلب الفرس على بابل، استقل لهم ملك المشرق، وجاء موسى- صلوات الله عليه- بالشريعة الأولية، وحرم السحر وطرقه، وغلب الله له القبط بإغراق فرعون وقومه؛ ثم ملك بنو إسرائيل الشام، واختطوا بيت المقدس، وظهر الروم في ناحية الشمال والمغرب، فغلبوا الفرس الأولى على ملكهم. وملك ذو القرنين الإسكندر ما كان بأيديهم، ثم صار ملك الفرس بالمشرق إلى ملوكهم الساسانية، وملك بني يونان بالشام والمغرب إلى القياصرة، كما ذكرنا ذلك كله من قبل. وأصبحت الدولتان عظيمتين، وانتظمتا العالم بما فيه. ونازع الترك ملوك فارس في خراسان، وما وراء النهر، وكانت بينهم حروب مشهورة، واستقر ملكهم في بني افراسياب؛ ثم ظهر خاتم الأنبياء محمد صلوات الله عليه، وجمع العرب على كلمة الإسلام، فاجتمعوا له، (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم)، وقبضه الله إليه، وقد أمر بالجهاد، ووعد عن الله بأن الأرض لأمته، فزحفوا إلى كسرى، وقيصر بعد سنتين من وفاته، فانتزعوا الملك من أيديهما، وتجاوزوا الفرس إلى الترك، والروم إلى البربر والمغرب، وأصبح العالم كله منتظما في دعوة الإسلام. ثم اختلف أهل الدين من بعده في رجوعهم إلى من  ينظم أمرهم، وتشيع قوم من العرب فزعموا أنه أوصى بذلك لإبن عمه علي، وامتنع الجماعة من قبول ذلك، وابوا إلا الاجتهاد في تعيينه، فمضى على ذلك السلف في دولة بني أمية التي استفحل الملك والإسلام فيها، وتنافل التشيع بتشعب المذاهب، في استحقاق بني علي، وأيهم يتعين له ذلك، حتى انساق مذهب من مذاهبهم إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس؛ فظهرت شيعته بخراسان، وملكوا تلك الأرض كلها، والعراق بأسره. ثم غلبوا على بنى أمية، وانتزعوا الملك من أيديهم، واستفحل ملكهم، والإسلام باستفحاله، وتعدد خلفاؤهم. ثم خامر الدولة ما يخامر الذول من الترف والراحة؛ ففشلوا. وكثر المنازعون لهم من بني علي وغيرهم؛ فظهرت دولة لبني جعفر الصادق بالمغرب، وهم العبيديون بنو عبيد الله المهدي بن محمد، قام بها كتامة وقبائل البربر، واستولوا على المغرب ومصر؛ ودولة بني العلوي بطبرستان، قام بها الديلم وإخوانهم الجيل؛ ودولة بني أمية النائية بالأندلس، لأن بني العباس لما غلبوهم بالمشرق، وأكثروا القتل فيهم، هرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ونجا إلى المغرب. ثم ركب البحر إلى الأندلس؛ فاجتمع عليه من كان هنالك من العرب وموالي بني أمية، فاستحدث هنالك ملكا آخر لهم، وانقسمت الملة الإسلامية بين هذه الدول الأربع إلى المائة الرابعة. ثم انقرض ملك العلوية من طبرستان، وانتقل إلى الديلم، فاقتسموا خراسان وفارس والعراق، وغلبوا على بغداد، وحجر الخليفة بها بنو بويه منهم. وكان بنو سامان – من اتباع بني طاهر- قد تقلدوا عمالات ما وراء النهر، فلما فشل أمر الخلافة استبدوا بتلك النواحي، وأصاروا لهم فيها ملكاً ضخما، وكان آخرهم محمّود بن سبكتكين من مواليهم، فاستبد عليهم، وملك خراسان، وما وراء النهر إلى الشاش، ثم غزنة، وما وراءها جنوبا إلى الهند. وأجاز إلى بلاد الهند؛ فافتتح منها كثيرا، واستخرج من كنوزها ذخائر ليم يعثر عليها أحد قبله. وأقامت الملة على هذا النمط إلى انقضاء المائة الرابعة، وكان الترك منذ تعبدوا للعرب، وأسلموا على ما بأيديهم وراء النهر، من كاشغر والصاغون إلى فرغانة، وولاهم الخلفاء عليها؛ فاستحدثوا بها ملكا، وكانت بوادي الترك في تلك النواحي منتجعة أمطار السماء، وعشب الأرض، وكان الظهور فيهم لقبيلة الغزّ من شعوبهم، وهم الخوز، إلا أن استعمال العرب لها عرب خاءها المعجمة غينا، وأدغمت واوها في الزاي الثانيه؛ فصارت زاياً واحدة مشددة. وكانت رياسة الغزّ هؤلاء شي بني سلجوق بن ميكائيل، وكانوا يستخدمون لملوك الترك بتركستان تارة، ولملوك بني سامان في بخارى أخرى. وتحدث بينهما الفتنة؛ فيتألفون من شاءوا منهما؛ ولما تغلب محمّود بن سبكتكين على بني سامان، وأجاز من خراسان فنزل بخارى، واقتعد كرسيهم، وتقبض على كبار بني سلجوق هؤلاء، وحبسهم بخراسان. ثم مات وقام بالأمر أخوه مسعود، فملك مكانه، وانتقض على بنو سلجوق هؤلاء، وأجاز الغز إلى خراسان فملكوها، وملكوا طبرستان من يد الديلم، ثم  إصبهان وفارس، من أيدي بني بويه، وملكهم يومئذ طغرلبك بن ميكائيل من بني سلجوق، وغلب على بغداد من يد بني معز الدولة بن بويه المستبدين على الخليفة يومئذ المطيع، وحجره عن التصرف في أمور الخلافة والملك، ثم تجاوز إلى عراق العرب، فغلب على ملوكه، وأبادهم، ثم بلاد البحرين وعمان، ثم على الشام، وبلاد الروم، واستوعب ممالك الإسلام كفها، فأصارها في ملكه؛ وانقبضت العرب راجعة إلى الحجاز، مسلوبة من الملك، كأن لم يكن لهم  فيه نصيب، وذلك أعوام الأربعين والأربعمائة، وخرج الإفرنج على بقايا بني أمية بالأندلس، فانتزعوا الملك من ايديهم، واستولوا على حواضر الأندلس وأمصارها، وضاق النطاق على العبيديين بالقاهرة بملوك الغز يزاحمّونهم فيها من الشام، بمحمّود بن زنكي وغيره من أبنائهم ومماليكهم، وبملوك المغرب قد اقتطعوا ما وراء الإسكندرية، بملوك صنهاجة في أفريقية، والملثمين المرابطين بعدهم بالمغرب الأقصى والأوسط، والمصامدة الموحدين بعدهم كذلك، وأمام الغز والسلجوقية في ملك المشرق، وبنوهم ومواليهم من بعدهم إلى انقضاء القرن السادس؛ وقد فشل ريح الغز، واختلت دولتهم، فظهر فيهم جنكيزخان أمير المغل من شعوب الطَّطَر، وكانت كاهناً، وجده النجر كاهناً مثله. ويزعمونه أنه ولد من غير أب؛ فغلب الغز في المفازة، واستولى على ملك الطَّطَر، وزحف إلى كرسي الملك بخوارزم. وهو علاء الدين خوارزم شاه، سلفه من موالي طغرلبك، فغالبه على ملكه، وفر أمامه، واتبعه إلى بحيرة طبرستان؛ فنجا إلى جزيرة فيها، ومرض هنالك ومات، ورجع جنكيزخان إلى زندران، من أمصار طبرستان فنزلها، وأقام بها، وبعث عساكره من المغل حتى استولوا على جميع ما كان للغز، وأنزل ابنه طولى بكرسي خراسان، وابنه دوشيخان بصراي وبلاد الترك، وابنه جقطاي بكرسي الترك فيما وراء النهر، وهي كاشغر وتركستان، وأقام بما زندران إلى أن مات جنكيزخان ودفن بها؛ ومات ابنه طولي وله ولدان، قبلاي وهولاكو، ثم هلك قبلاي، واستقل هولاكو بملك خراسان، وحدث بينه وبين بركة بن دوشيخان فتنة بالمنازعة في القانية، تحاربوا فيها طويلا، ثم اقصروا، وصرف هولاكو وجهه إلى بلاد أصبهان، وفارس، ثم إلى الخلفاء المستبدين ببغداد، وعراق العرب، فاستولى على تلك النواحي، واقتحم بغداد على الخليفة المستعصم، آخر بني العباس وقتله، وأعظم فيها العيث والفساد، وهو يومئذ على دينه من المجوسية؛ ثم تخطاه إلى الشام؛ فملك أمصاره وحواضره إلى القدس، وملوك مصر يومئذ من موالي بني أيوب قد استحاشوا ببركة صاحب صراي؛ فزحف إلى خراسان ليأخذ بحجزة هولاكو عن الشام ومصر. وبلغ خبره إلى هولاكو فحرد لذلك، لما بينهما من المنافسة والعداوة، وكر راجعا إلى العراق، ثم إلى خراسان، لمدافعة بركة. وطالت الفتنة بينهما إلى أن هلك هولاكو. سنة ثلاث وستين من المائة السابعة، وزحف أمراء مصر من موالي بني أيوب، وكبيرهم يومئذ قطز، وهو سلطانهم فاستولى على أمصار الشام التي كان هولاكو انتزعها من أيدي بني أيوب، واحدة واحدة، واستضاف الشام إلى مصر في ملكه. ثم هدى الله أبغا بن هولاكو إلى الإسلام، فأسلم بعد أن كان أسلم بركة ابن عمه صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان على يد مريد من اصحاب شمس.. الدين كبرى، فتواطا هو وابغا بن هولاكو علي الإسلام. ثم اسلم بعد ذلك بنو جقطاي وراء النهر؛ فانتظمت ممالك الإسلام في أيدي ولد جنكيزخان من المغل، ثم من الطَّطَر، ولم يخرج عن ملكهم منها إلا المغرب والأندلس ومصر والحجاز، واصبحوا، وكأنهم في تلك الممالك خلص من السلجوقية والغز. واستمر الأمر على ذلك لهذا العهد، وانقرض ملك بني هولاكو بموت أبي سعيد آخرهم سنة أربعين من المائة الثامنة. وافترقت دولتهم بين عمال الدولة وقرابتها من المغل؛ فملك عراق العرب، واذربيجان وتوريز، الشيخ حسن سبط هولاكو، واتصل ملكها في بنيه لهذا العهد؛ وملك خراسان وطبرستان شاه ولي من تابعة بني هولاكو؛ وملك إصبهان، وفارس، بنو مظفر البردي من عمالهم أيضا؛ وأقاموا بنو دوشي خان في مملكة صراي وآخرهم بها طقطمش بن بردي بك؛ ثم سما لبني جقطاي وراء النهر، وملوكهم أمل في التغلب على أعمال بني هولاكو، وبني دوشي خان، بما استفحل ملكهم هنالك، لعدم الترف والتنعم، فبقوا على البداوة؛ وكان لهم ملك اسمه ساطلمش هلك لهذا العهد، واجلسوا ابنه على التخت مكانه، وأمراء بني جقطاي جميعا في خدمته، وكبيرهم تيمور المعروف بتمر بن طرغاي فقام بأمر هذا الصبي وكفله، وتزوج أمه، ومد يده إلى ممالك بني دوشي خان التي كاممت على دعوتهم وراء النهر، مثل سمرقند، وبخارى، وخوارزم، وأجاز إلى طبرستان وخراسان فملكها. ثم ملك اصبهان، وزحف إلى بغداد؛ فملكها من يد احمد بن أوشى. وفر احمد مستجيرا بملك مصر، وهو الملك الظاهر برقوق، وقد تقدم ذكره؛ فأجاره، ووعده النصر من عدوه. وبعث الأمير تمر رسلا إلى صاحب مصر، يقررون معه الولاية والاتحاد، وحسن الجوار؛ فوصلوا إلى الرحبة؛ فلقيهم عاملها، ودار بينهم الكلام فأوحشوه. في الخطاب، وانزلهم، فبيت جميعهم، وقتلهم. وخرج الظاهر برقوق من مصر، وجمع العرب والتركمان، واناخ على الفرات، وصرخ بطقطمش من كرسيه بصراي؛ فحشد ووصل إلى الأبواب. ثم زحف تمر إلى الشام سنة ست وتسعين وسبعمائة، وبلغ الرها، والظاهر يومئذ على الفرات، فخام تمر عن لقائه. وسار إلى محاربة طقطمش؛ فاستولى على أعماله كفها، ورجعت قبائل المغل إلى تمر؛ وساروا تحت رايته. وذهب طقطمش في ناحية الشمال، وراء بلغار، متذمما بقبائل أروس من شعوب الترك في الجبال. وسارت عصائب الترك كلها تحت رايات تمر؛ ثم اضطرات ملوك الهند، واستصرخ خارج منهم بالأمير تمر؛ فسار إليهم في عساكر المغل، وملك دلي، وفر صاحبها إلى كنباية مرسى بحر الهند، وعاثوا في نواحي بلاد الهند. ثم بلغه هنالك مهلك الظاهر برقوق بمصر؛ فرجع إلى البلاد، ومر على العراق، ثم على أرمينية وأرزنكان، حتى وصل سيواس فخربها، وعاث في نواحيها، ورجع عنها أول سنة ثلاث من المائة التاسعة. ونازل قلعة الروم، فامتنعت، وتجاوزها إلى حلب؛ فقابله نائب الشام وعساكره في ساحتها؛ ففضهم، واقتحم المغل المدينة من كل ناحية. ووقع فيها من العيث والنهب والمصادرة واستباحة الحرم، ما لم يعهد الناس مثله؛ ووصل الخبر إلى مصر، فتجهز السلطان فرج ابن الملك الظاهر إلى المدافعة عن الشام، وخرج في عساكره من الترك مسابقا المغل وملكهم تمر أن يصدهم عنها.

 

لقاء الأمير تمر سلطان المغول والططر

لما وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تمر ملك بلاد الروم، وخرب سيواس، ورجع إلى الشام، جمع السلطان عساكره، وفتح ديوان العطاء، ونادى في الجند بالرحيل إلى الشام، وكنت أنا يومئذ معزولا عن الوظيفة؛ فاستدعاني دواداره يشبك، وأرادني على السفر معه في ركاب السلطان؛ فتجافيت عن ذلك. ثم أظهر العزم علي بلين القول، وجزيل الإنعام فأصخيت، وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث وثمانمائة؛ فوصلنا إلى غزة، فأرحنا بها أياما نترقب الأخبار؛ ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الطَّطَر إلى أن نزلنا شقحب، وأسرينا فصبحنا دمشق، والأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبك قاصدا دمشق، فضرب السلطان خيامه وأبنيته بساحة قبة يلبغا. ويئس الأمير تفر من مهاجمة البلد، فأقام بمرقب على قبة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثاً أو أربعا، فكانت حربهم سجالا؛ ثم نمي الخبر إلى السلطان وأكابر أمرائه، أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها؛ فاجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم، واختلال الدّولة 

 

بذلك، فأسروا ليله الجمعة من شهر [0000]، وركبوا جبل الصالحية، ثم انحطوا في شعابه، وساروا على شافة البحر إلى غزة، وركب الناس ليلا يعتقدون أن السلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر؛ فساروا عصبا وجماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر، وأصبح أهل دمشق متحيرين قد عميت عليهم الأنباء.

 

وجاءني القضاة والفقهاء، واجتمعت بمدرسة العادلية، واتفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تمر على بيوتهم وحرمهم، وشاوروا في ذلك نائب القلعة، فأبى عليهم ذلك ونكره؛ فلم يوافقوه. وخرج القاضي برهان الدين بن مفلح الحنبلي ومعه شيخ الفقراء بزاوية [0000] فأجابهم إلى التأمين، وردهم باستدعاء الوجوه والقضاة، فخرجوا إليه متدلين من السور بما صبحهم من التقدمة، فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان، وردهم على أحسن الآمال، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد، وتصرف الناس في المعاملات، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها، ويملك أمرهم بعزّ ولايته.

 

 وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عني، وهل سافرت مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه؛ فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول. وبلغني الخبر من جوف الليل؛ فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج أو التدلي من السور، لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر؛ فأبوا علي أولا، ثم أصخوا لي، ودلوني من السور؛ فوجدت بطانته عند الباب، ونائبه الذي عينه للولاية على دمشق، واسمه شاه ملك، من بني جقطاي أهل عصابته، فحييتهم وحيوني، وفديت وفدوني، وقدم لي شاه ملك، مركوبا، وبعث معي من بطانة السلطان من أوصلني إليه. فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التعريف باسمي أني القاضي المالكي المغربي، فاستدعاني، ودخلت عليه بخيمة جلوسه، متكئا على مرفقه، وصحاف الطعام تمر بين يديه، يشير بها إلى عصب المغل جلوسا أمام خيمته، حلقاً حلقاً. فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام، وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومد يده إلي فقبلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت. ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم، فأقعده يترجم ما بيننا، وسألني من اين جئت من المغرب؛ ولما جئت؛ فقلت: جئت من بلادي لقضاء الفرض ركبت إليها البحر، ووافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة اربع وثمانين من هذه المائة الثامنة، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظاهر على تخت الملك لتلك العشرة الأيام بعددها. فقال لي: وما فعل معك؟ قلت كل خير، بر مقدمي، وأرغد قراي، وزودني للحج، ولما رجعت وفر جرايتي، وأقمت في ظله ونعمته؛ رحمه الله وجزاه. فقال: وكيف كانت توليته إياك القضاء؟ فقلت: مات قاضي المالكية قبل موته بشهر، وكان يظن بي المقام المحمّود في القيام بالوظيفة، وتحري المعدلة والحق، والإعراض عن الجاه، فولاني مكانه، ومات لشهر بعدها، فلم يرض أهل الدولة بمكاني، فأدالوني منها بغيري جزاهم الله. فقال لي: وأين ولدك؟ فقلت: بالمغرب الجواني كاتب للملك الأعظم هنالك. فقال وما معنى الجواني في وصف المغرب؟ فقلت هو في عرف خطابهم معناه الداخلي، أي الأبعد، لأن المغرب كفه على ساحل البحر الشامي من جنوبه؛ فالأقرب إلى هنا برقه، وإفريقية؛ والمغرب الأوسط: تلمسان وبلاد زناتة؛ والأقصى: فاس ومراكش، وهو معنى الجواني. فقال لي: وأين مكان طنجة من ذلك المغرب؟ فقلت: في الزاوية التي بين البحر المحيط، والخليج المسمى بالزقاق، وهو خليج البحر الشامي؛ فقال: وسبته؛ فقلت: على مسافة من طنجة على ساحل الزقاق، ومنها التعدية إلى الأندلس، لقرب مسافته، لأنها هناك نحو العشرين ميلا. فقال: وفاس؛ فقلت: ليست على البحر، وهي في وسط التلول، وكرسي ملوك المغرب من بني مرين. فقال: وسجلماسة؟ قلت: في الحد ما بين الأرياف والرمال من جهة الجنوب. فقال: لا يقنعني هذا، وأحب أن تكتب لي بلاد المغرب كلها، أقاصيها وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره، حتى كأني أشاهده. فقلت: يحصل ذلك بسعادتك؛ وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك، وأوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنظفة القطع. ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه الرشتة، ويحكمونه على أبلغ ما يمكن؛ فأحضرت الأواني منه، وأشار تعرضها علي، فمثلت قائما، وتناولتها وشربت واستطبت؛ ووفي ذلك منه أحسن المواقع؛ ثم جلست وسكتنا، وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعية، صدر الدين المناوي، اشره التابعون لعسكر مصر. بشقحب، وردوه؛ فحبس عندهم في طلب الفدية منه؛ فأصابنا من ذلك وجل؛ فزورت في نفسي كلاما أخاطبه به، وأتلطفه بتعظيم أحواله، وملكه. وكنت قبل ذلك بالمغرب قد سمعت كثيرا من الحدثان في ظهوره، وكان المنجمون المتكلمون في قرانات العلويين يترقبون القران- العاشر في المثلثة الهوائية، وكان يترقب عام ستة وستين من المائة السابعة. فلقيت ذات يوم من عام أحد وستين بجامع القرويين من فاس، الخطيب أبا علي بن باديس خطيب قسنطينة، وكان ماهرا في ذلك الفن، فسألته عن هذا القران المتوقع، وما هي آثاره؟ فقال لي: يدل على ثائر عظيم في الجانب الشمالي الشرقي، من أمة بادية أهل خيام، تتغلب على الممالك، وتقلب الدول، وتستولي على أكثر المعمور. فقلت: ومتى زمنه؟ فقال: عام أربعة وثمانين تنتشر أخباره. وكتب لي بمثل ذلك الطبيب ابن زرزر اليهودي، طبيب ملك الإفرنج ابن أذفونش ومنجمه. وكان شيخي رحمه الله إمام المعقولات محمد بن إبراهيم الآبلي متى فاوضته في ذلك، أو سابلته عنه يقول: أمره قريب، ولا بذلك إن عشت أن تراه.

 

وأما المتصوفة فكنا نسمع عنهم بالمغرب ترقبهم لهذا الكائن، ويرون إن القائم به هو الفاطمي المشار إليه في الأحاديث النبوية من الشيعة وغيرهم، فأخبرني يحيى بن عبد الله حافد الشيخ أبي يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب، إن الشيخ قال لهم ذات يوم، وقد انفتل من صلاة الغداة: إن هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي، وكان ذلك في عشر الأربعين من المائة الثامنة؛ فكان في نفسي من ذلك كله ترقب له.

 

فوقع في نفسي لأجل الوجل الذي كنت فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح اليه، ويأنس به مني، ففاتحته وقلت: أيدك الله! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك. فقال لي الترجمان عبد الجبار: وما سبب ذلك؛ فقلت: أمران، الأول أنك سلطان العالم، وملك الدنيا، وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإني من أهل العلم، وأبين ذلك فأقول:

إن الملك إنما يكون بالعصبية، وعلى كثرتها يكون قدر الملك؛ واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد، أن أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك، وأنتم تعلمون ملك العرب كيف كان لما اجتمعوا في دينهم على نبئهم، وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس، وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من أيديهم شاهد بنصابهم من الملك. ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى، أو قيصر، أو الإسكندر، أو بختنصر، أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم؛ وأين الفرس من الترك؟ وأما قيصر والإسكندر فملوك الروم، وأين الروم من الترك؛ وأما بختنصر فكبير أهل بابل، والنبط. وأين هؤلاء من الترك؟ وهذا برهان ظاهر على ما ادعيته في هذا الملك.

 

وأما الأمر الثاني مما يحملني على تمنى لقائه، فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب، والأولياء، وذكرت ما قصصته من ذلك قبل. فقال لي: وأراك قد ذكرت بختنصر مع كسرى، وقيصر، والاسكندر، ولم يكن في عدادهم، لأنهم ملوك اكابر. وبختنصر قائد من قواد الفرس، كما أنا نائب من نواب صاحب التخت، وهو هذا، وأشار إلى الصف القائمين وراءه، وكان واقفا معهم، وهو ربيبه الذي تقدم لنا أنه تزوج أمه بعد أبيه ساطلمش فلم يلفه هناك، وذكر له القائمون في ذلك الصف أنه خرج عنهم.

 

 فرجع إليّ فقال: ومن أي الطوائف هو بختنصر؛ فقلت: بين الناس فيه خلاف، فقيل من النبط بقية ملوك بابل، وقيل من الفرس الأولى، فقال: يعني من ولد منوشهر قلت نعم هكذا ذكروا، فقال: ومنوشمهر له علينا ولادة من قبل الأمهات. ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه، وقلت له: وهذا مما يجعلني على بني لقائه.

 

فقال الملك: وأي القولين أرجح عندك فيه؛ فقلت إنه من عقبة ملوك بابل، فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر. فقلت: يعكر علينا رأي الطبري؟ فإنه مؤرخ الأمة ومحدثهم، ولا يرجحه غيره، فقال : وما علينا من الطبري؛ نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم، ونناظرك. فقلت: وأنا أيضا أناظر على رأي الطبري، وانتهى بنا القول، فسكت؛ وجاءه الخبر بفتح باب المدينة، وخروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان، فرفع هن بين أيدينا، لما في ركبته من الداء، وحمل على فرسه فقبض شكائمه، واستوى في مركبه. وضربت الآلات حفافيه حتى ارتج لها الجو. وسار نحو دمشق، ونزل في تربة منجك عند باب الجابية؛ فجلس هناك، ودخل إليه القضاة وأعيان البلد، ودخلت في جملتهم؛ فأشار إليهم بالانصراف، وإلى شاه ملك نائبه أن يخلع عليهم في وظائفهم؛ وأشار إلي بالجلوس، فجلست بين يديه. ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء؛ فأحضروا عرفاء البنيان المهندسين، وتناظروا في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة، لعلهم يعثرون بالصناعة على منفذه؛ فتناظروا في مجلسه طويلا، ثم انصرفوا، وانصرفت إلى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنته في ذلك، فأذن فيه. وأقمت في كسر البيت، واشتغلت بما طلب مني في وصف بلد المغرب؛ فكتبته في أيام قليلة، ورفعته إليه فأخذه من يدي، وأمر موقعه بترجمته إلى اللسان المغلى. ثم اشتد في حصار القلعة ونصب عليها الآلات من المجانيق، والنفوط، والعرادات، والنقب؛ فنصبوا لأيام قليلة ستين منجنيقا إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى، وضاق الحصار بأهل القلعة، وتهذم بناؤها من كل جهة، فطلبوا الأمان.

 

وكان بها جماعة من خدام السلطان ومخلفه، فأفنهم السلطان تمر، وحضروا عنده. وخرب القلعة وطمس معالمها، وصادر أهل البلد على قناطير من الأموال استولى عليها بعد أن أخذ جميع ما خلفه صاحب مصر هنالك، من الأموال والظهر والخيام. ثم أطلق أيدي النهابة على بيوت أهل المدينة؛ فاستوعبوا أناسيها، وأمتعتها، واضرموا النار شيما بقي من سقط الأقمشة والخرثي؛ فاتصلت النار بحيطان الدور المدعمة بالخشب؛ فلم تزل تتوقد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه؛ فسال رصاصه، وتهدمت سقفه وحوائطه، وكان أمرا بلغ مبالغه في الشناعة والقبح. وتصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه  ما يريد، ويحكم في ملكه ما يشاء.

 

وكان أيام مقامي عند السلطان تمر، خرج إليه من القلعة يوم أمن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء بمصر، من ذرية الحاكم العباسي الذي نصبه الظاهر بيبرس؛ فوقف إلى السلطان تمر يسأله النصفة في أمره؛ ويطلب منه منصب الخلافة كما كان لسلفه، فقال له السلطان تمر: أنا أحضر لك الفقهاء والقضاة، فان حكموا لك بشيء أنصفتك فيه، واستدعى الفقهاء والقضاة، واستدعاني فيهم، فحصرنا عنده وحضر هذا الرجل الذي يسأل منصب الخلافة، فقال له عبد الجبار: هذا مجلس النصفة فتكلم. فقال. إن هذه الخلافة لنا ولسلفنا، وإن الحديث صح بأن الأمر لبني العباس ما بقيت الدنيا، يعني أمر الخلافة. وأني أحق من صاحب المنصب الآن بمصر، لأن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقوه، وصار إلى هذا بغير مستند؛ فاستدعى عبد الجبار كلا منا في أمره، فسكتنا برهة، ثم قال: ما تقولون في هذا الحديث؟ فقال برهان الدين بن مفلح: الحديث ليس بصحيح. واستدعى ما عندي في ذلك فقلت: الأمر كما قلتم من أنه غير صحيح، فقال السلطان تمر: فما الذي أصار الخلافة لبني العباس إلى هذا العهد في الإسلام؟ وشافهني بالقول، فقلت: أيدك الله! اختلف المسلمون من لدن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، هل يجب على المسلمين ولاية رجل منهم يقوم بأمورهم في دينهم ودنياهم، أم لا يجب ذلك؛ فذهبت طائفة إلى أنه لا يجب، ومنهم الخوارج، وذهب الجماعة إلى وجوبه، واختلفوا في مستند ذلك الوجوب؛ فذهب الشيعة كلهم إلى حديث الوصية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ،  أوصى بذلك لعليّ، واختلفوا في تنقلها عنه إلى عقبه إلى مذاهب كثيرة تشذ عن الحصر. وأجمع أهل السنة على إنكار هذه الوصية، وأن مستند الوجوب في ذلك إنما هو الاجتهاد، يعنون أن المسلمين يجتهدون في اختيار رجل من أهل الحق والفقه والعدل، يفوضون إليه النظر في أمورهم.

 

ولما تعدّدت فرق العلوية وانتقلت الوصية بزعمهم من بني الحنفية إلى بني العباس، أوصى بها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وبث دعاته بخراسان. وقام أبو مسلم بهذه الدعوة؛ فملك خراسان والعراق، ونزل شيعتهم الكوفة، واختاروا للأمر أبا العباس السفاح بن صاحب هذه الدعوة؛ ثم أرادوا أن تكون بيعته على إجماع من أهل السنة والشيعة، فكاتبوا كبار الأمة يومئذ، وأهل الحل والعقد، بالحجاز والعراق، يشاورونهم في أمره؛ فوقع اختيارهم كلهم على الرضى به، فبايع له شيعته بالكوفة بيعة إجماع وإصفاق. ثم عهد بها إلى أخيه المنصور، وعهد بها المنصور إلى بنيه، فلم تزل متناقلة فيهما، إما بِعَهدٍ أو باختيار أهل العصر، إلى أن كان المستعصم آخرهم ببغداد. فلمّا استولى عليها هولاكو وقتله، افترق قرابته، ولحق بعضهم بمصر، وهو أحمد الحاكم من عقب الراشد، فنصبه الطاهر بيبرس بمصر، بممالأة أهل الحل والعقد من الجند والفقهاء. وانتقل الأمر في بيته إلى هذا الذي بمصر، لا يعلم خلاف ذلك. فقال لهذا الرافع: قد سمعت مقال القضاة، وأهل الفتيا، وظهر أنه ليس لك حق تطلبه عندي. فانصرف راشداً. 

 

الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر:

كنت لما لقيته، وتليت إليه من السور كما مرّ أشار علي بعض الصحاب ممن يخير أحوالهم بما تقدمت له من المعرفة بهم؛ فأشار بأن أطرفه ببعض هدية، وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم، فانتقيت من سوق الكتب مصحفا رائعا حسنا في جزء محذو، وسجادة أنيقة، ونسخة من قصيدة البردة المشهورة لأبوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة. وجئت بذلك فدخلت عليه، وهو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه؛ فلمّا رآني مقبلا مثل قائما وأشار إلي عز يمينه؛ فجلست وأكابر مرّ الجقطية حفافية؛ فجلست قليلا، ثم استدرت بين يديه، وأشرت إلى الهدية التي ذكرتها، وهي بيد خدامي؛ فوضعتها، واستقبلني؛ ففتحت المصحف فلما رآه وعرفه، قام مبادرا فوضعه على رأسه. ثم ناولته البردة، فسألني عنها وعن ناظمها فأخبرته بما وقفت عليه من أمرها. ثم ناولته السجادة، فتناولها وقبلها. ثم وضعت علب الحلوى بين يديه، وتناولت منها حرفا على العادة في التأنيس بذلك. ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه، وتقبل ذلك كله، واشعر بالرضى به. ثم حومت على الكلام بما عندي في شأن نفسي، وشأن اصحاب لي هنالك. فقلت ايدك الله! لي كلام اذكره بين يديك، فقال: قل. فقلت أنا غريب بهذه البلاد غربتين، واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشئي وأخرى من مصر وأهل جيلي بها، وقد حصلت في ظلك، وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غربتي، فقال: قل الذي تريد افعله لك، فقلت: حال الغربة انستني ما أريد، وعساك- أيدك الله- أن تعرف لي ما أريد. فقال: انتقل من المدينة إلى الأردو عندي، وأنا إن شاء الله أوفى كنه قصدك. فقلت يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك، فأشار إليه بإمضاء ذلك، فشكرت ودعوت وقلت: وبقيت لي أخرى، فقال: وما هي؛ فقلت: هؤلاء المخلفون عن سلطان مصر. من القراء والموقعين، والدواوين، والعمال، صاروا إلى إيالتك والملك لا يغفل مثل هؤلاء فسلطانكم كبير، وعمالاتكم متسعة، وحاجة ملككم إلى المتصرفين في صنوف الخدم أشد من حاجة غيركم، فقال وما تريد لهم؛ قلت: مكتوب أمان يستنيمون إليه، ويعولون في أحوالهم عليه. فقال لكاتبه: أكتب لهم بذلك، فشكرت ودعوت. وخرجت مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب الأمان، وختمه شاه ملك بخاتم السلطان، وانصرفت إلى منزلي. ولما قرب سفره واعتزم على الرحيل عن الشام، دخلت عليه ذات يوم، فلما قضينا المعتاد، التفت إلي وقال: عندك بغلة هنا؛ قلت نعم، قال حسنة؛ قلت نعم، قال وتبيعها؛ فأنا اشتريها منك، فقلت أيدك الله! مثلي لا يبيع من مثلك، إنما أنا أخدمك بها، وبأمثالها لو كانت لي، فقال: أنا أردت أن أكافئك عنها بالإحسان، فقلت: وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به، اصطنعتني، واحللتني من مجلسك محل خواصك، وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو الله ان يقابلك بمثله، وسَكَت وسكتُّ وحملت البغلة- وأنا معه في المجلس- إليه، ولم أرها بعد.

 

ثم دخلت عليه يوماً آخر فقال لي: أتسافر إلى مصر؟ فقلت أيَّدك الله، رغبتي إنما هي أنت، وأنت قد آويت وكفلت، فإن كان السفر إلى مصر في خدمتك فنعم، وإلا فلا بغية لي فيه، فقال لا، بل تسافر إلى عيالك واهلك، فالتفت إلى أببه، وكان مسافراً إلى شقحب لمرباع دوابه، واشتغل يحادثه، فقال لي الفقيه عبد الجبار الذي كان يترجم بيننا: إن السلطان يوصي ابنه بك، فدعوت له؛ ثم رأيت أن السفر مع ابنه غير مستبين الوجهة، والسفر إلى صفد اقرب السواحل إلينا أملك لأمري، فقلت له ذلك؛ فاجاب إليه، وأوصى بي قاصدا كان عنده من حاجب صفد ابن الداويداري، فودعته وانصرفت، واختلفت الطريق مع ذلك القاصد، فذهب عني، وذهبت عنه. وسافرت في جمع من أصحابي؛ فاعترضتنا جماعة من العشير قطعوا علينا الطريق، ونهبوا ما معنا، ونجونا إلى قرية هنالك عرايا. واتصلنا بعد يومين أو ثلاث بالصبيبة فخلفنا بعض الملبوس، واجزنا إلى صفد، فاقمنا بها أياما. ثم مرّ بنا مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد الروم، وصل فيه رسول كان سفر إليه عن سلطان مصر، ورجع بجوار رسالته؛ فركبت معهم البحر إلى غزة، ونزلت بها، وسافرت منها إلى مصر، فوصلتها في شعبان من هذه السنة، وهي سنة ثلاث وثمانمائة؛ وكان السلطان صاحب مصر، قد بعث من بابه سفيرا إلى الأمير تمر إجابة إلى الصلح الذي طلب منه؛ فأعقبني إليه. فلما قضى رسالته رجع، وكان وصوله بعد وصولي؛ فبعث إلي مع بعض أصحابه يقول لي: إن الأمير تمر قد بعث معي إليك ثمن البغلة التى ابتاع منك، وهي هذه فخذها، فإنه عزم علينا من خلاص ذمته من مالك هذا. فقلت لا اقبله إلا بعد إذن من السلطان الذي بعثك إليه، وأما دون ذلك فلا. ومضيت إلى صاحب الدولة فأخبرته الخبر فقال وما عليك؛ فقلت إن ذلك لا يجمل بي ان افعله دون اطلاعكم عليه، فاغضى عن ذلك، وبعثوا إلي بذلك المبلغ بعد مدة، واعتذر الحامل عن نقصه بأنه أعطيه كذلك، وحمدت الله على الخلاص.

 

وكتبت حينئذ كتاباً إلى صاحب المغرب، عرفته بما دار بيني وبين سلطان الططرتمر، وكيف كانت واقعته معنا بالشام، وضمنت ذلك في فصل من الكتاب نصه:

 "وإن تفضلتم بالسؤال عن حال المملوك، فهي خير والحمد لله، وكنت في العام الفارط توجهت صحبة الركاب السلطاني إلى الشام عندما زحف الطَّطَر إليه من بلاد الروم والعراق، مع فلكهم تمر، واستولى على حلب وحماة وحمص وبعلبك، وخرّبها جميعاً، وعاثت عساكره فيها بما لم يسمع أشنع منه. ونهض السلطان في عساكره لاستنقاذها، وسبق إلى دمشق، وأقام في مقابلته نحواً من شهر؛ ثم قفل راجعاًأ إلى مصر، وتخلف الكثير من أمرائه وقضاته، وكنت في المخلفين. وسمعت أن سلطانهم تمر سأل عني؛ فلم يسع إلا لقاؤه فخرجت إليه من دمشق، وحضرت مجلسه، وقابلني بخير، واقتضيت منه الأمان لأهل دمشق، وأقمت عنده خمسة وثلاثين يوما، أباكره وأراوجه ثم صرفني، وودعني على أحسن حال، ورجعت إلى مصر. وكان طلب مني بغله كنت أركبها فأعطيته إياها، وسألني البيع فتأففت منه، لما كان يعامل به من الجميل، فبعد انصرافي إلى مصر بعث إلي بثمنها مع رسول كان من جهة السلطان هنالك، وحمدت الله تعالى على الخلاص من ورطات الدنيا.

 

وهؤلاء الطَّطَر هم الذين خرجوا من المفازة وراء النهر، بينه وبين الصين، أعوام عشرين وستمائة مع ملكهم الشهير جنكزخان وملك المشرق كله من أيدي السلجوقية ومواليهم إلى عراق العرب، وقسم الملك بين ثلاثة من بنيه وهم جقطاي، وطولي، ودوشي خان:

فجفَّطاي كبيرهم، وكان في قسمته تركستان وكاشغر، والصاغون، والشاش وفرغانة، وسائر ما وراء النهر من البلاد.

 

وطولي كان في قسمته أعمال خراسان، وعراق العجم، والري إلى عراق العرب وبلاد فارس وسجستان والسند. وكان أبناؤه: قبلاي، وهولاكو.

 

ودوشي خان كان في قسمته بلاد قبجق، ومنها صراي، وبلاد الترك إلى خوارزم. وكان لهم أخ رابع يسمى أوكداي كبيرهم، ويسمونه وشممونه الخان، ومعناه صاحب التخت، وهو بمثابة الخليفة في ملك الإسلام. وانقرض عقبه، وانتقلت الخانية إلى قبلاي، ثم إلى بني دوشي خان، أصحاب صراي. واستمر ملك الطَّطَر في هذه الدول الثلاث، وملك هولاكو بغداد، وعراق العرب، إلى ديار بكر ونهر الفرات. ثم زحف إلى الشام وملكها، ورجع عنها، وزحف إليها بنوه مرارا، وملوك مصر من الترك يدافعونهم عنها، إلى أن انقرض ملك بني هولاكو أعوام أربعين وسبعمائة، وملك بعدهم الشيخ حسن النوين وربنوه. وافترق ملكهم في طوائف من أهل دولتهم، وارتفعت نقمتهم عن ملوك الشام ومصر. ثم في أعوام السبعين أو الثمانين وسبعمائة، ظهر في بني جُقفطاي وراء النهر أمير اسمه تيمور، وشهرته عند الناس تضمر، وهو كافل لصبي متصل النسب معه إلى جَقْفطاي في آباء كفلهم ملوك، وهذا تمر بن طرغاي مما هو ابن عمهم، كفل صاحب التخت منهم اسمه محمّود محمود، وتزوج أمهّ صرغتمش، ومذدَّ يده إلى ممالك التتر كلها؛ لفاستولى عليها إلى ديار بكر، ثم جال في بلاد الروم والهند، وعاثت عساكره في نواحيها، وخرب حصونها ومدنها، في أخبار يطول شرحها. ثم زحف بعد ذلك إلى الشام، ففعل به ما فعل، والله غالب على أمره. ثم رجع آخراً إلى بلاده، والأخبار تتصل بأنه قصد سمرقند، وهي كرسيه.

 

والقوم في عدد لا يسعه الإحصاء، إن قدرت ألف ألف فغير كثير، ولا تقول أنقص، وإن حسخيموا في الأرض ملأوا الساح، وأن سارت كتائبهم في الأرض العريضة ضاق بهم الفضاء؛ وهم في الغارة والنهب والفتك بأهل العمران، وابتلائهم بأنواع العذاب، على ما يحصلونه من فئاتهم آية عجب، وعلى عادة بوادي الأعراب.

 

وهذا الملك تمر من زعماء الملوك وفراعنتهم، والناس ينسبونه إلى العلم، وآخرون إلى اعتقاد الرفض، لما يرون من تفضيله لأهل البيت، وآخرون إلى انتحال السحر؛ وليس من ذلك كله في شىء؛ إنما هو شديد الفطنة والذكاء، كثير البحث واللجاج بما يعلم وبما لا يعلم، عمره بين الستين والسبعين، وركبته اليمنى عاطلة من سهم أصابه في الغارة أيام صباه على ما أخبرني، فيجرها في قريب المشي، ويتناوله الرجال على الأيدي عند طول المسافة، وهو مصنوع له؛ والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده.

 

ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر:

كنت- لما أقمت عند السلطان تمر تلك الأيام التي أقمت- طال مغيبي عن مصر، وشُيعت الأخبار عني بالهلاك، فقدم للوظيفة من يقوم بها من فُضلاء المالكية، وهو جمال الدين الأقفهسي، غزير الحفظ والذكاء، عفيف النفس عن التصدي لحاجات الناس، ورع في دينه؛ فقلدوه منتصف جمادى الآخرة من السنة.

 

فلما رجعتُ إلى مصر، عدلُوا عن ذلك الرأي، وبدا لهم في أمري؛ فولوني في أواخر شعبان من السنة. واستمررت على الحال إلي كنت عليها من القيام بالحق، والإعراض عن الأغراض، والإنصاف من المطالب؛ ووقع الإنكازرُ عليّ مقمن لا يدين للحق، ولا يعطي النصفة من نفسه؛ فسعوا عند السلطان في ولاية شخص من المالكية يعرف بجمال الدين البساطي، بذل في ذلك لسعاة داخلوه، قطعة من ماله، ووجوها من الأغراض في قضائه. قاتل الله جميعهم؛ فخلعوا عليه أواخر رجب، سنة أربع وثمانمائة. ثم راجع السلطان بصيرته، وانتقد رأيه، ورجع إلي الوظيفة خاتم سنة أربع، فأجريت الحال على ما كان. وبقي الأمر كذلك سنة وبعض الأخرى. وأعادوا البساطي إلى ما كان، وبما كان، وعلى ما كان، وخلعوا عليه سادس ربيع الأول سنة ست وثمانمائة ، ثم أعادوني عاشر شعبان سنة سبع وثمانمائة، ثم أدالوا به مني أواخر ذي القعدة من السنة وبيد الله تصاريف الأمور.

 

 



الأزهر
تونس
مكة
القاهرة