ابن طفيل ورواية حي بن يقظان

تو. 1185 م
هو ابو بكر بن طفيل المولود في العقد الاول من القرن الثاني عشر في وادي آشي، القرية الصغيرة الواقعة في الشمال الشرقي من غرناطة بالأندلس. درس الطب والفلسفة في أشبيلية وقرطبة ثم اتصل بخليفة الموحدين أبي يعقوب يوسف الذي اشتهر برعايته للعلم وشغفه بالفلسفة. وذكرت بعض المصادر ان ابن طفيل عمل طبيباً خاصاً لأبي يعقوب ومعاوناً ومستشاراً ولكنه لم يعين وزيراً . ولما توفي الخليفة سنة 1184 م بقي ابن طفيل في البلاط خلال السنة الاولى من ولاية ابن ابي يعقوب.


يُذكر ان ابن طفيل ترك عدداً من الكتب في الطب والفلسفة إلا ان مؤلفه الفلسفي الوحيد الذي وصلنا هو كتاب "حي بن يقظان “. وهو رواية فلسفية رمزية. وكان المستعرب البريطاني بوكوك هو اول من لفت الى أهمية هذا الكتاب. وتُرجم الكتاب الى عدد من اللغات الغربية بينها الانكليزية والهولندية والالمانية والاسبانية والفرنسية.


حاول ابن طفيل في هذه الرواية ان يثبت ان المتوحد، متى أدرك الحقيقة بواسطة العقل يستطيع ان يتبين سر الاتفاق بين الفلسفة والعقيدة. ويذكر في تمهيده للقصة ان غرضه من الرواية هو عرض " الحكمة المشرقية " التي يعيدها الى الصوفية.


تدور احداث " حي بن يقظان " في جزيرة نائية تقع في المحيط الهندي ويلعب الدور الرئيس فيها الطفل " حي " الذي ولد في الجزيرة تلقائياً من غير أب وأم فتعهدته ظبية فقدت طلاها وارضعته حتى اشتد عوده وأصبح قادراً على مجاراة البهائم في عدوها. ومع أنه عاش عيشة البهائم فانه لاحظ خلو جلده من الوبر وانه من دون قرون وأنياب. ولما بلغ السابعة إتخذ لنفسه رداءً من اوراق الشجر وجلود الحيوانات. ولما ماتت الظبية التي تعهدته وارضعته حزن عليها حزناً عميقاً وأخذ يفكر في سر الحياة والموت. وبدا له على أثر عملية تشريح بدائية ان سبب الموت هو عطل يلحق بالقلب فيؤدي الى خروج الروح منه. لكنه لاحظ ان الموت لا يقترن بأي خلل جسدي فاستنتج ان الموت يأتي نتيجة انحلال العلاقة بين الروح والجسد. وهكذا اكتشف حي بن يقظان طبيعة الحياة.


إكتشف "حي" بعد ذلك النار فرآها مرتبطة بمبدأ الحياة. ثم أدت اكتشافاته التجريبية الاخرى الى استعمال الادوات وانتقل الى البحث في التناظر العضوي بين النبات والحيوان، وفي حركة العناصر الى أعلى والى أسفل . ومن هذه الملاحظات الحسية إستطاع أن يرقى الى إكتشاف العالم الروحاني فلاحظ اولاً ان كل موجود يتركب من عنصرين: الجسمية وصورة الجسمية. وبالنسبة الى الكائنات الحية، تبين له ان هذه الصورة عبارة عن النفس التي لا تدرك بالحس بل بالعقل . ثم تبين له عن طريق الاستدلال ان مرتبة كل طبقة من الكائنات الحية في سلم الحياة تتوقف على تعدد القوى النفسية التي تختص بها.


لما بلغ "حي" الثامنة والعشرين استطاع ان يرقى الى إدراك عالم الافلاك الذي لا يلحقه فساد، فأقر بضرورة وجود صانع له ووجود سبب أول لقيامه. ولما تأمل في ما يتسم به العالم بجملته من نظام وجمال واستقرا رقال إن السبب لا بد ان يكون كاملاً، عليما، جواداً وجميلاً، أي أنه خال من أي نقص. وكان "حي" قد بلغ آنذاك الخامسة والثلاثين من عمره فأخذ يبحث عن السبيل الذي مكَنه من ادراك هذا الموجود فتبين له انه لن يدركه بواسطة الحس والقوى الجسدية، بل بواسطة الروح التي تنزل بمنزلة " حقيقة ذاته". وهذا الاكتشاف فتح عينيه على سمو الروح وامتيازها على العالم المادي واستقلالها عن جميع احوال الكون والفساد التي تلحق بالجسد. ثم أدرك ان غبطة النفس الاخيرة منوطة بادراك صلتها بواجب الوجود وباقبالها على مشاهدة ذلك الوجود الذي يجب إعتباره الغرض الاقصى للادراك.

إنتهى "حي" الى أن له في هذا العالم غايات ثلاث: أن يرعى جسده او ان يعنى بحاجاته الضرورية لكن فقط بمقدار ما يعينه ذلك على بلوغ غايته القصوى وهي مشاهدة الحق . إلا انه أدرك أن في هذا الضرب النظري من المشاهدة لا تغفل الروح عن ذاتها. فمشاهدتها ليست تامة أو محضة. ومن أراد أن يبلغ هذه المشاهدة المحضية فعليه ان يغفل عن ذاته بالكلية وعندها تتلاشى هذه الذات وتضمحل شأن كل شيء آخر ولا يبقى في الوجود الا الحق الواحد الواجب الوجود.


وعندما بلغ " حي" هذه المرتبة من الفناء العام استطاع ان يشاهد الفلك الاقصى ومعه "ذات بريئة عن المادة ". وهذه الذات تشبه، في وصفه، إنعكاس الشمس في مرآة صقيلة ولكنها في الوقت نفسه ليست الشمس ولا المرآة . ثم شاهد "حي" فلك الكواكب الثابتة وذاتها بدأً بفلك زحل فالكواكب التي تليه والذات التي تقابل كلاً منها، وأخيراً فلك عالم الكون والفساد والذات الخاصة به. ثم شاهد مثالاً بريئاً عن المادة لذاته هو وقد انعكست الاف المرات في الذوات التي كانت متحدة أصلاً بأجسامها. وكانت بعض هذه الذوات ، كذاته ، تشع بهاءً ولذة بينما بدا البعض الآخر كانعكاسات ملتوية في مرايا صدئة .


في ختام هذه الرواية الفلسفية انتقل ابن طفيل الى عرض قضية الوفاق بين العقل والوحي او بين الفلسفة والدين. فهو يروي على لسان بطله "حي" انه كان في جزيرة مجاورة قوم أخذوا باحدى الملل الصحيحة المتواترة عن أحد الانبياء القدامى وكان من اتباعها فتيان فاضلان هما أبسال وسلامان. وكان الأول أشد غوصاً على باطن الشريعة، بينما اكتفى الثاني بمدلولها الظاهر فوقع بينهما الخلاف. ولما سمع أبسال بخبر الجزيرة التي نشأ عليها "حي" عزم الانتقال اليها كي يعتزل الناس وينقطع فيها الى العبادة والصلاة، ولم يكن يعلم بوجود "حي" فيها. وفي ذات يوم شاهده عن قرب فلم يشأ ان يقلق راحته. أما "حي" فلم يدر أي نوع من الحيوانات هو هذا القادم الجديد. وبعد فترة التقيا وتعاونا وتصادقا وتولى أبسال تعليم "حي" الكلام، حتى اذا اتقنه أخذ يصف لأبسال مشاهداته واكتشافاته، لا سيما الصوفية منها. فدهش أبسال وأدرك ان اخبار الدين عن الملائكة والانبياء والنعيم والجحيم هي مثالات حسية للحقائق الروحية التي اكتشفها "حي" بالسليقة. وادرك "حي" من جهته أن كل ما أخبر به أبسال عن التنزيل والفرائض يوافق ما شاهده هو ، فلم يسعه إلا التصديق بكل ما سنه النبي من شرائع وأيده بصدق رسالته .


إلا انه بقي في نفس "حي" مسألتان كان يتعجب منهما: اولاً ، لماذا لجأ النبي الى هذه التمثيلات الحسية في وصفه للعالم الالهي بدل ان يصرح بها في مخاطبته للناس ؛ وثانياً لمَ رسم هذه الفرائض والعبادات واباح إقتناء الاموال وطلب الملذات حتى اقبل الناس على هذه الاباطيل .


أدرك "حي" عندها ان الناس في جهل وبلادة ويحتاجون الى من يرشدهم، فعزم على الذهاب اليهم وايضاح الحق لهم . فعرض الأمر على أبسال الذي وافق على مرافقته فابحرا الى جزيرة أبسال الذي عرَفه على بعض أصدقائه ممن امتازوا عن سائر سكان الجزيرة بالفطنة او بالمرتبة.


كان سلامان قد أصبح في هذا الوقت رئيساً للجزيرة فبدأ "حي" في تعليمه. إلا ان سلامان، وهو من دعاة الظاهر، لم يبد استعداداً للإصغاء الى تأويلات "حي" الباطنية والصوفية. أما الآخرون فقد كانوا اسوأ حالاً إذ انهم كانوا منغمسين في الملذات والمشاغل الدنيوية. عندها أدرك "حي" ان عليه ان يتركهم وشأنهم. وكانت وصيته الوداعية انه لا حرج عليهم ان هم استمروا على ما درجوا عليه من التزام حدود الشرع الظاهرة. وهكذا ودعهم، هو وأبسال وعادا الى جزيرتهما حيث إستأنفا العبادة في عزلتهما.


هكذا وضع ابن طفيل اللمسات الاخيرة على مذهبه القائل بطبقة متفوقة من طلبة الحقيقة المحظوظين الذين يستحقون وحدهم نعمة الاشراق او الاصطفاء.

 



غرناطة
الأندلس