الصابئ صاحب الرسائل

توفي 384 هـ

هو أبو اسحق إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حبون الحراني الصابىء، صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع.

 

قال  عنه ابن خلكان في "وفيات الأعيان": ((أبو إسحاق إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حبون الحراني الصابىء، صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع؛ كان كاتب الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه الديلمي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، وتقلد ديوان الرسائل سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وكانت تصدر عنه مكاتبات إلى عضد الدولة بن بويه بما يؤلمه، فحقد عليه، فلما قتل عز الدولة وملك عضد الدولة بغداد اعتقله في سنة سبع وستين وثلثمائة، وعزم على إلقائه تحت أيدي الفيلة، فشفعوا فيه، ثم أطلقه في سنة إحدى وسبعين، وكان قد أمره أن يصنع له كتاباً في أخبار الدولة الديلمية، فعمل الكتاب التاجي فقيل لعضد الدولة: إنن صديقا للصابىء دخل عليه فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبيض فسأله عما يعمل، فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فحركت ساكنه وهيجت حقده، ولم يزل مبعدا في أيامه. وكان متشددا في دينه، وجهد عليه عز الدولة أن يسلم فلم يفعل. وكان يصوم شهر رمضان مع المسلمين، ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ، وكان يستعملهه في رسائله، وكان له عبد أسود اسمه يمن، وكان يهواه، وله فيه المعاني البديعة، فمن جملة ما ذكره له الثعالبي في كتاب الغلمان، قوله: قد قال يمن وهو أسود للذي ببياضهه استعلى علو الخاتن

 

مافخر وجهك بالبياض؟ وهل ترى

 

أن قد أفدت به مزيد محـاسـن؟

ولو أن منـي فـيه خـالاً زانـه

 

ولوأن منه في خـالاً شـانـنـي

 

قلت: ومعنى البيت الثالث ينظر إلى قول ابن الرومي من جملة أبيات في جاريته السوداء، وهو قوله:

وبعض ما فضل السواد به

 

والحق ذو سلم وذو نفـق

أن لايعيب السواد حلكتـه

 

وقد يعاب البياض بالبهق

 

وهي أبيات مشهورة أحسن فيها كل الإحسان.

 

وذكر له الثعالبي فيه أيضاً:

لك وجه كأن يمناي خـطـت

 

ه بلفظ تـمـلـه آمـالـي

فيه معنى من البدور ولـكـن

 

نفضت صبغها عليه الليالـي

لم يشنك السواد بل زدت حسناً

 

إنما يلبس السواد المـوالـي

فبما لي أفديك إن لم تكن لـي

 

وبروحي أفديك إن كنت مالي

 

وله كل شيء حسن، من المنظوم والمنثور.

 

وتوفي يوم الاثنين - وقيل: يوم الخميس - لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وثمانين وثلثمائة، ببغداد، وعمره إحدى وسبعون سنة.

 

وذكر أبو الفرج محمد بن إسحاق الوراق المعروف بابن أبي يعقوب النديم البغدادي في كتابه الفهرست، أن الصابىء المذكور ولد سنة نيف وعشرين وثلثمائة وتوفي قبل سنة ثمانين وثلثمائة ودفن بالشونيزي.

 

ورثاه الشريف الرضي بقصيدته الدالية المشهورة التي أولها:

أرأيت من حملوا على الأعواد؟

 

أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟

 

وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفاً يرثي صابئاً، فقال: إنما رثيت فضله.

وزهرون: بفتح الزاي المعجمة وسكون الهاء وضم الراء المهملة وبعد الواو نون.

وحبون: بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة وبعد الواو نون.

 

والصابىء: بهمزة آخره. وقد اختلفوا في هذه النسبة، فقيل: إنها إلى صابىء بن متوشلح بن إدريس عليه السلام، وكان على الحنيفية الأولى. وقيل: إلى صابىء بن ماري، وكان في عصر الخليل عليه السلام، وقيل: الصابىء عند العرب من خرج عن دين قومه، ولذلك كانت قريش تسمي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صابئا لخروجه عن دين قومه، والله أعلم)).

 

وذكره ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" بقوله: ((الصابئ أبو علي ين أبي إسحاق صاحب الرسائل، ووالد هلال بن المحسن صاحب التواريخ والرسائل. كان أديباً فاضلاً بارعاً، قد لقي الأدباء والعلماء وأخذ عنهم كأبي سعيد السيرافي وأبي علي الفارسي وأبي عبيد الله المرزباني. مات في ثامن محرم سنة إحدى وأربعمائة عن ابنه هلال وله شعر حسن من مثله، وكان بوجهه شامة حمراء فكان بعرف بصاحب الشامة، وابنه هلال بن المحسن أعلى منزلة منه. ومات هذا على دين أبيه، وأما ابنه فأسلم على ما ذكرته في بابه، وكان لأبي إسحاق ابن آخر يقال له أبو سعيد سنان ليس بالنبيه، وآخر كنيته أبو العلاء صاعد. ومات أبو سعيد سنان في حياة أبيه في رجب سنة ثمانين. ولمات قبض على أبيه أبي إسحاق قبض معه على ولديه أبي علي هذا وأبي سعيد. فحدث أبو الحسين هلال قال: حدثني أبو علي والدي قال: أمر عضد الدولة أبا القاسم المطهر بن عبد الله وزيره وقال له: أفرج عن ابن أبي إسحاق صاحب الشامة، فإن له قديم خدمة فتقدم بذاك، فثقل على أبي سعيد أخي إطلاقي من دونه، ودمدم على والدنا دمدمة قال له عندها: أي أمر لنا يا بني في نفوسنا؟ أم أي ذنب لي فيما لطف به لأخيك وحرمته؟. ثم عدل إلى مسألتي أن أخرج أسبوعاً ويخرج أسبوعاً، ويقع بيننا مناوبة في ذاك فامتنعت وأبيت ورفق بي رفقاً استحييت معه وأجبت، فكتب أبو إسحاق إلى أبي القاسم المطهر:

 

ابناي عيناي كف الحبس لحظهما

 

وعز حسمها عن منظر النـور

أطلقت لي منهما عيناً وقد بقيت

 

عين فصرت من الإبنين كالعور

فسو بينهما في فك أسرهـمـا

 

مستوفراً منهما من أجر مأجور

يفديك بالأنفس التي مننت بـهـا

 

أبوهما وهما من كل محـذور

 

فقال المطهر: الأمر إلى الملك، والذي رسم لي إطلاق ولدك صاحب الشامة، ولو كنت مستطيعاً للجمع بينهما لفعلت، بل لم أقنع حتى تكون أنت المطلق، فعاوده وشكره وقال: إذا كان قد أخذ في تخلية واحد فيجوز أن يتناوبا في الخروج وفسح المطهر في ذلك. قال أبو علي: وكانت خدمتي التي راعاها الملك عضد الدولة أن أبا طاهر بن بقية لما أفرج عن أبي إسحاق والدي بعد القبض عليه عقيب خروج عضد الدولة من مدينة السلام استخلفه على أن يعرفه ما يرد عليه من كتبه ويسلم إليه من يجيئه من رسله، فاتفق أن جاء أبو سعد المدبر إليه بكتاب من عضد الدولة وعمل على تسليمه فاجتهدت به ألا يفعل، فخاف وأشفق ولم يقبل وحمله إلى ابن بقية، فتقدم باعتقاله بعد أن ضربه وقرره، وشق ذلك على لما يراعي من عواقبه، وحملني الشباب ونزقه، والاغترار وبواعثه، على أن قمت ليلاً وحملت معي خمسين درهماً في صرة وعشرين درهماً في صرة أخرى، وجئت إلى الحبس متنكراً وعلى رأسي منشفة وقلت للسجان: هذه عشرون درهماً خذها ومكني من الدخول على هذا الجاسوس وأجتمع معه وأخاطبه وأخرج، فأخذها وأدخلني وجئت إلى أبي سعد وتوجعت له مما حصل فيه ووعدته بما أستطيعه من المعاونة على خلاصة ثم قلت له: أنت غريب وربما احتجت إلى شيء وهذه خمسون درهماً اصرفها في نفقتك واستعن بها على أمرك فشكرني وانصرفت، وأظنه ذكر ذلك لعضد الدولة عند خلاصه وعوده إليه، فحصل لي في نفسه ما كانت هذه الحال ثمرته. قرأت بخط أبي علي المحسن في مجموع جمعه لولده هلال ما هذا صورته لبعض المحدثين في عصرنا - وعلى الحاشية بخط ابنه هلال، هذه الأبيات لأبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال رحمه الله -:

 

أأهجو مجوسياً لو أني أمرتـه

 

بنيك أمه جهـر إذا تـأثـمـا

إذا ذكرت يوماً له ريع قلـبـه

 

وأنعظ مشتاقاً إليها مـتـيمـاً

يحن إليهـا حـنـتـين لأنـه

 

يكون لها بعلاً وكان لها ابنمـا

قضاها رضاع الثدي منه بأيره

 

ففر لها فرجاً وفرت له فمـا

فإن طرقت بالحمل يوماً فإنمـا

 

يكون أخاً وابناً له كلما انتمـى

ينيك الاقاصي والأداني محلـلاً

 

بذلك ما كان الإله محـرمـا

إذا ماذوو الأديان صلوا لربهـم

 

تقدم يهذي في الصلاة مزمزما

ويخرج مما كلفوا من مشـقة

 

ويحتسب اللذات أجراً ومغنمـا

 

وكتب أبو علي إلى أبيه في بعض نكباته:

لا تأس للمال إن غالـتـه غـائلة

 

ففي حياتك من فقد اللهي عوض

إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت

 

يداك من طارف أو تالد عـرض

 

فأجابه أبو إسحاق بأبيات ذكرتها في بابه فأغني. قرأت بخط أبي علي المحسن: أنشدني القاضي أبو سعيد الحسن ابن عبد الله السرافي رحمه الله:

 

الجواد والغول والعنقاء ثالـثة

 

أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن

 

وأنشدني:

ألهي بني جشم عن كل مكرمة

 

قصيدة قالها عمرو بن كلثـوم

يفاخرون بها مذ كان أولـهـم

 

يا للرجال لفخر غيرهم مسؤوم

 

وأنشدني في المعنى:

كأن وجوه شماس بـن لأي

 

من السوءات ملبسة عصيما

إذا ذكروا الحطيئة لم يعدوا

 

حديثاً بعد ذاك ولا قـديمـا

 

وأنشدني:

يا ابن صليبا أين طـبـك والـذي

 

به كنت تشفي من به مثل دائكا؟

أأنكرت مما قيل ما قد عرفـتـه

 

بغيرك أم آثرتهم بـشـفـائكـا؟

بل الموت ميقات النفوس متى يحن

 

فداء الذي داويتـه فـي دوائكـا

 

ومن خط أبي علي المحسن قال: سألت القاضي أبا سعيد السيرافي رحمه الله عن الأخبار التي يرويها عن أبي بكر بن دريد وكنت أقرؤها عليه: أكان يمليها من حفظه؟ فقال: لا، كانت تجمع من كتبه وغيرها ثم تقرأ عليه. وسألت أبا عبد الله محمد بن عمران المرزباني رحمه الله عن ذلك فقال: لم يكن يمليها من كتاب ولا حفظ، ولكن كان يكتبها ثم يخرجها إلينا بخطه، فإذا كتبناها خرق ما كانت فيه. وقرأت بخط أبي على المحسن: لأبي الحسن محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي إلي يتقاضاني دفتراً أعطانيه:

كنت يا سيدي استعرت كتـابـاً

 

لي فيه قصـائد لـلـخـلـيع

في الـربـيع وهـذا ربــيع

 

فتفضـل بـرده يا ربـيعـي

تغتنم مدحتي وإن جـدت أيضـاً

 

لي بفلسين لـم يكـن بـبـديع

يا جميل الصنيع لم قـد تـغـير

 

ت وعملتني بسوء الصـنـيع؟

من عذيري يا آل زهرون منكم

 

من تراه يطفي لهيب ضلوعي؟

لست في المنع بالملوم تـعـلـم

 

ت من السيد الجليل الـرفـيع

كنت أعددتـكـم لـنـائبة الـده

 

ر وللحادث الملم الـفـظـيع

ورجوت الغني فخاب رجـائي

 

لم يخب فيك أنت بل في الجميع

واقريضي واخيبتي وأعـنـائي

 

واضنائي واذلتي واخضوعـي

واشبابي الذي تقضي ضـياعـاً

 

واسهادي وافقد طيب هجوعي

واشقائي من ذل بختي علـيكـم

 

من إليكم يا قوم كان شفيعـي؟

كنت أبكي منكم فلما نكـبـتـم

 

قمت أبكي لكم فعزت دموعي

 

قال أبو علي: وكنت مع أبي الحسن بن سكرة على المائدة فحمل بعض الغلمان غضارة فيها مضيرة فاضطربت يده وانقلب شيء منها على ثياب أبي الحسن فادعى عليه أنه ضرط وهجاه بأبيات لم يبق في حفظي منها غير بيتين وهما:

قليل الصواب كثير الغلط

 

شديد العثار قبيح السقـط

جني بالمضيرة ما قد جنى

 

ولم يكفه ذاك حتى ضرط

 

المراجع: وفيات الأعيان لابن خلكان/ معجم الأدباء لياقوت الحموي

 

 



عضد الدولة
رمضان