مالـك بـن أنس

95 - 179 هـ

هو إمام دار الهجرة، مالك بن أنس الأصبحي الحميدي أبو عبد الله، أحد أئمّة أهل السنّة الأربعة، وإليه تُنسَب المالكية. ينتمي أصله إلى أسرةٍ يمنيّةٍ، تحوّلت إلى الحجاز في زمن جد مالك. 

 

وُلِدَ في شمالي المدينة المنوّرة في العشرة الأخيرة من القرن الأوّل الهجري. حَفِظَ القرآن الكريم وبعضُ السُّنّة النّبوية قبل بلوغه السّنوات العشر. ثم التحق بمسجد رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بُغية تلقّي العلم حيث كان المسجد أشبه بالجامعة التي تُلقِّن العلوم كافةً. فعند كل سارية في المسجد، يربض شيخ أو عالم ينشر علماً معينًا. واختار مالك حلقة "ربيعة الرأي" الذي كان آنذاك فقيهًا، يجتهد رأيه لإستنباط الحكم عندما لا يجده في نصّ. كان أكثر العلماء دعوةً للإجتهاد والأخذ بالرأي حتى سُمّي "ربيعة الرأي". فكان الإمام مالك يجلس في حلقته ـ وهو غلام ـ فيدوّن ما يرويه "ربيعة" من مسائل صعبة الحفظ تحتاج إلى عقلٍ ناضجٍ؛ وكان ينتقل كثيراً بين الحلقات الأخرى لينهل من علوم أصحابها. 

 

توفّي والده ومالك متفرغ لطلب العلم. فوجد نفسه مضّطراً إلى إعالة زوجته وابنته، وكانت له تجارةٌ ورثها عن والده بأربعمئة دينار، ولكنه من شدة حرصه على تحصيل العلم، نُفِقَت تلك الأموال واضّطر إلى العمل ببيع الخشب من سقف بيته ليعيل أسرته ونفسه. فبدأ يطالب الحُكّام بتمكين أهل العلم من التّفرغ للبحث والمعرفة، وأن يؤمّنوا لهم رواتب تكفل لهم الحياة الكريمة. وصادَقَ في تلك الفترة طالبًا شاباً من أهل مصر، هو اللّيث بن سعد. وقد كان يزور المدينة ويتردّد إلى حلقات الفقهاء في المسجد النّبوي أثناء حجّه بين عامٍ وآخر. فأُعجِبَ كلّ من مالك واللّيث بذكاء صاحبه وعلمه ، ونشأت بينهما علاقة ودٍّ واحترامٍ متبادلين. ولاحظ اللّيث أناقة الإمام مالك رغم فقره وحاجته، فمنح صاحبه مالاً كثيراً واستحلفه بقبوله. 

 

بعد حينٍ، استجاب الخلفاء لنداء الإمام مالك وأقرّوا الرواتب لطلاّب العلم حتّى يتفرغوا لتحصيل علمهم. وما لبث نجم الإمام مالك أن سطع ولمع، فأصبح مرجع المدينة المنوّرة بل البلاد الإسلامية كلها. ويُروى أنّ رجلاًً جاءه من أقصى المغرب موفَداً من قِبَل أحد فقهائها ليسأله في مسألةٍ؛ فقال له الإمام مالك لشدّة وَرَعه من الإفتاء بغير علمٍ: "أخبِر الذي أرسلك ألاّ علم لي بها". فألحّ الرجل متذرّعاً بكونه جاء من مسافةٍ بعيدةٍ، فطلب إليه الإمام تأجيل ردّ طلبه لليوم التالي، ريثما يكون وجد الإجابة المناسبة. فعاود الرجل زيارته في اليوم التالي، فقال له: "سألتني وما أدري ما هي". 

 

قضى الإمام مالك في المدينة المنوّرة طيلة عمره حتى توفّي، ولم يبرحها قط إلاّ لحجٍّ أو عمرةٍ، وكان يقول إذا حلّت مناسبات الإرتحال عنها: "المدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون". 

 

وقد أعطى المدينة المنوّرة حظاً كبيراً من عطائه الفكريّ. فلها عنده حجّة مثل إجماع فقهاء المدينة وعَمَل أهل المدينة... وعُرْف أهل المدينة. وقد بالغ الإمام مالك في احترام المدينة المنوّرة، إذ روى الإمام الشّافعي أنّه رأى على باب مالك هدايا من بغال وخيل، فقال لمالك بن أنس: "ما أحسن هذه الأفراس والبغال". فقال مالك: "هي لك، فَخُذْها جميعًا". فأجابه الشّافعي: "ألا تُبْقي منها دابّة تَركَبها ؟" فقال مالك: "إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربةً فيها رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بحافر دابّة". 

 

وكان الإمام مالك، إذا أراد أن يحدّث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضّأ وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته وتمكّن في جلوسه بوقارٍ وهيبةٍ، ثم حدّث فسُئِل عن ذلك فأجاب: "أحبّ أن أعظّم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا أحدّث به إلاّ متمكّناً على طهارة". وكان يكره أن يحدّث على الطريق أو قائماً أو مستعجلاً، فيقول: "أحبّ أن أتفهّم ما أحدّث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". ولم يخُض الإمام مالك لجّة الصّراع السياسي، فالمدينة كانت بعيدة عن مواقع الفتن والثورات ومحاولات مناهضة الحكّام والجدل في الدّين. 

 

وحرص الإمام مالك على أن يبقى موقفه حيادياً، فلم يهاجم الأموييّن ولا العباسييّن من بعدهم. فأخذ من عطاءاتهم حتى أصبح ميسوراً. وتفرّغ للتّدريس في المسجد النّبوي. ولكن قدّر الله أن يُصاب الإمام مالك بمِحنةٍ تجلّت عندما كان يشرح الحديث النّبوي الشريف: "ليس على مُستَكرهٍ يمينٌ". فبيّن للناس أنّ من يُطلّق مكرهاً لا يقع منه طلاق. فإذا بأحد أحفاد الحسن بن علي، وهو محمد النّفس الزّكية يثورُ على الخليفة المنصور. فنقَضَ بعض الناس في المدينة بيعة المنصور وانضمّ إلى محمد النّفس الزّكية إعمالاً لهذا الحديث وتطبيقاً للسُّنة الشّريفة. فأرسل والي المدينة إلى الإمام مالك يأمره بالكفّ عن الكلام في هذا الحديث وكتمانه عن الناس، لأنه يحرّضهم على الثّورة ونقض البيعة، لكن الإمام مالك أبى أن يكتم هذا العلم فأمر الوالي رجاله بضربه بالسّوط ثم جذبوه جذباً عنيفاً من يده وعذّبوه ثم ألزموه بالمُكوث في داره فلا يخرج منها حتى للصّلاة ولا يلقى فيها أحدًا. ثم قمع المنصور ثورة محمد وقضى عليها. واعتذر الخليفة بنفسه من الإمام مالك الذي وضع كتابه المشهور "الموطأ" الذّي يُعدّ من أشهر كُتُب الحديث حتى قيل: "ما على وجه الأرض أصحّ من موطأ مالك". 

 

وقد عرض عليه الخليفة أن يُلزِم به الرّعية ويجمعهم عليه، فرفض الإمام مالك. 

 

تتلمذ على يد الإمام مالك جَمْعٌ غفيرٌ من العلماء، منهم الشّافعي والسّيدة نفيسة المشهورة وغيرهما... وللإمام محمّد بن حسن الشّيباني، صاحب أبي حنيفة، رواية خاصّة للموطأ. 

 

 

قال الإمام الشافعي: "إذا ذكر الحديث فمالك النّجم الثاقب". وقال اللّيث بن سعد: "مالك وعاء العلم". 

 

وقال ابن وهب: "سمعت منادياً ينادي في المدينة ألا لا يفتي النّاس إلاّ مالك بن أنس وابن أبي ذُؤيب". 

 

وقال مالك عن نفسه: "قَلّ رجلٌ كنتُ أتعلّم منه، ما مات حتّى يجيئني ويستفتيني".  

 

كانت وفاته في المدينة المنوّرة، ودُفِنَ في البقيع.

 

قال عنه ابن خلكان في وفيات الأعيان: ((الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غميان - بغين معجمة وياء تحتها نقطتان - ويقال عثمان - بعين مهملة وثاء مثلثة - ابن جثيل - بجيم وثاء مثلثة وياء ساكنة تحتها نقطتان - وقال ابن سعد: هو خثيل بخاء معجمة، ابن عمرو بن ذي أصبح الأصبحي المدني إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأعلام. أخذ القراءة عرضا عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري ونافعا مولى ابن عمر، رضي الله عنهما، وروى عنه الأوزاعي ويحيى بن سعيد، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي - وقد تقدم ذكره - ثم أفتى معه عند السلطان. وقال مالك: قل رجل كنت أتعلم منه ومات حتى يجيئني ويستفتيني. وقال ابن وهب: سمعت مناديا ينادي بالمدينة: ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب.

 

وكان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدث به إلا متمكنا على طهارة، وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائما أو مستعجلا ويقول: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول: لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفونة.

 

وقال الشافعي، قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالكا، رضي الله عنهما، قال: قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم، قال: قلت: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فعلى أي شيء يقيس؟ وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدا يعزيه ولا يقضي له حقا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره.

 

وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو ابن عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمرا عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة وكأنما كانت السياط حليا حلي به. وذكر ابن الجوزي في شذور العقود في سنة سبع وأربعين ومائة: وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان، والله أعلم.

 

وكانت ولادته في سنة خمس وتسعين للهجرة، وحمل به ثلاث سنين. وتوفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، رضي الله عنه، فعاش أربعا وثمانين سنة، وقال الواقدي: مات وله تسعون سنة والله أعلم بالصواب وقال ابن الفرات في تاريخه المرتب على السنين: توفي مالك بن أنس الأصبحي لعشر مضين من شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، وقيل إنه توفي سنة ثمان وسبعين ومائة، وقيل إن مولده سنة تسعين للهجرة، وقال السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة الأصبحي: إنه ولد في سنة ثلاث أو أربع وتسعين، والله أعلم بالصواب.

 

وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال: حدث القعنبي قال: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ قال فقال لي: يا ابن قعنب، وما لي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط سوط، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي، أو كما قال.

 

وكانت وفاته بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ودفن بالبقيع جوار إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وكان شديد البياض إلى الشقرة، طويلا عظيم الهامة أصلع، يلبس الثياب العدنية الجياد، ويكره حلق الشارب ويعيبه ويراه من المثلة، ولا يغير شيبه.

 

ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج - وقد سبق ذكره - بقوله:

سقى جدثا ضم البقـيع لـمـالـك

 

من المزن مرعاد السحائب مبراق

إمام موطاه الذي طـبـقـت بـه

 

أقاليم في الدنيا فـسـاح وآفـاق

أقام به شرع النـبـي مـحـمـد

 

له حذر من أن يضام وإشـفـاق

له سند عـال صـحـيح وهـيبة

 

فللكل منه حـين يرويه إطـراق

وأصحاب صدق كلهم علم فـسـل

 

بهم إنهم إن أنت ساءلـت حـذاق

ولو لم يكن إلا ابن إدريس وحـده

 

كفاه ألا إن الـسـعـادة أرزاق

 

والأصبحي: بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وبعدها حاء مهملة، هذه النسبة الى ذي أصبح، واسمه الحارث بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة، وهو من يعرب بن قحطان، وهي قبيلة كبيرة باليمن، واليها تنسب السياط الأصبحية. وقال هشام بن الكلبي في جهرة النسب ذو أصبح هو الحارث بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جثم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن همسيع بن حمير بن سبأبن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه يقطن، بن عابر بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، والذي ذكرناه أولا ذكره الحازمي في كتاب العجالة والله أعلم بالصواب)). 

 

المراجع: وفيات الأعيان لابن خلكان

  


المدينة المنورة
النبي