سَلَوْتُ عَنِ الدّهرِ الذي كان مُعجِباً، |
وَمثلُ الذي قد كان من دَهرِنا يُسْلي |
وَأيْقَنْتُ أنّي لا مَحَالَةَ مَيّتٌ، |
فَمُتّبِعٌ آثَارَ مَنْ قَدْ خَلا قَبْلي |
وَإنّي الذِي لا بُدّ أنْ سَيُصِيبُهُ |
حِمَامُ المَنايا مِنْ وَفَاةٍ وَمن قَتْلِ |
فَما أنَا بالباقي، ولا الدّهرُ، فَاعلَمي |
بِرَاضٍ بما قَدْ كانَ أذهبَ من عقلي |
وَلا مُنصِفي يَوْماً، فأُدْرِكَ عِنْدَهُ |
مَظالَمهُ عِندِي، وَلا تارِكاً أكْلي |
وَأينَ أخِلاَئي الّذِينَ عَهدْتُهُمْ، |
وَكُلُّهُمُ قَد كان في غِبطَةٍ مِثْلي |
دَعَتهُمْ مَقادِيرٌ، فأصْبَحتُ بَعدهمْ |
بَقِيّةَ دَهْرٍ لَيسَ يُسبَقُ بالذَّحلِ |
بَلَوْتُ مِنَ الدّهرِ الذي فيهِ وَاعِظٌ، |
وَجارَيتُ بالنُّعمَى وَطالَبتُ بالتَّبْلِ |
وَجُرّبْتُ عِندَ المُضْلِعاتِ، فلمْ أكنْ |
ضَرِيعَ زَمَانٍ، لا أُمِرُّ وَلا أُحْلي |
وَبَيْدَاءَ تَغْتَالُ المَطيَّ قَطَعْتُها |
برَكّابِ هَوْلٍ لَيسَ بالعاجزِ الوَغلِ |
إذا الأرْضُ سَدّتها الهَواجرُ وارْتدَتْ |
مُلاءَ سَمُومٍ لمْ يُسَدَّينَ بالغَزْلِ |
وَكانَ الّذي يَبْدُو لَنا مِنْ سَرَابِها |
فُضُولُ سُيولِ البحرِ من مائه الضَّحلِ |
وَيَدْعُو القَطا فيها القَطا، فيُجيبُهُ |
تَوَائِمُ أطْفَالٍ منَ السّبسبِ المَحل |
دَوَارِجُ أخْلَفْنَ الشّكِيرَ، كأنّما |
جَرَى في مآقيها مَرَاوِدُ منْ كُحْلِ |
يُسَقِّينَ بِالمَوْماةِ زُغْباً نَوَاهِضاً، |
بَقَايَا نِطافٍ في حَوَاصِلِهَا تَغْلي |
تَمُجّ أداوَي في أداوَى بها استَقَتْ، |
كما استفرَغَ الساقي من السَّجلِ بالسجلِ |
وَقَد أقطَعُ الخَرْقَ البَعيدَ نِياطُهُ، |
بمائرَةِ الضَّبْعَينِ وَجناءَ كالهِقْلِ |
تَزَيّدُ في فَضْلِ الزِّمَامِ، كَأنّهَا |
تُحاذِرُ وَقْعاً مِنْ زَنابيرَ أوْ نَحْلِ |
كَأنّ يَدَيْها في مَرَاتِبِ سُلّمٍ، |
إذا غاوَلتْ أوْبَ الذّرَاعينِ بالرِّجْلِ |
تأوّهُ مِنْ طُولِ الكَلالِ وَتَشتَكي، |
تأوُّهَ مَفْجُوعٍ بثُكلٍ على ثُكْلِ |
إلَيْكَ أمِيرَ المُؤمِنينَ أنَخْتُهَا، |
إلى خَيرِ مَنْ حُلّتْ لهُ عُقَدُ الرّحلِ |
إلى خَيرِهمْ فيهمْ قَديماً وَحَادِثاً، |
مَعَ الحِلمِ والإيمانِ وَالنّائلِ الجَزْلِ |
وَرِثتَ أباكَ المُلكَ تَجرِي بسَمتِهِ، |
كذلك خُوطُ النّبعِ يَنبُتُ في الأصْلِ |
كَداوُدَ إذْ ولَّى سُلَيْمَانَ بَعْدَهُ |
خِلافَتَهُ نِحْلاً من الله ذي الفَضْلِ |
يَسُوسُ من الحِلمِ الذي كانَ رَاجِحاً |
بأجْبالِ سَلمَى من وَفاءٍ وَمن عَدلِ |
هُوَ القَمَرُ البَدْرُ الذي يُهتَدَى بِهِ |
إذا ما ذُوُو الأضْغانِ جارُوا عن السُّبلِ |
أغَرَّ تعرَى نُوراً لبَهْجَةِ مُلْكِهِ، |
عَفُوّاً طَلُوباً، في أنَاةٍ وَفي رِسْلِ |
يَفِيضُ السِّجالَ النّاقِعاتِ من النّدَى، |
كما فاضَ ذو مَوْجٍ يقمِّصُ بالجَفلِ |
وكمْ مِنْ أُناسٍ قَدْ أصَبْتَ بنِعمةٍ، |
وَمنْ مُثقَلٍ خَفّفتَ عنه منَ الثِّقْلِ |
وَمِنْ أمْرِ حَزْمٍ قَدْ وَليتَ نَجِيَّهُ |
برَأيٍ جَميعٍ مُستَمِرٍ قُوَى الحَبْلِ |
قَضَيْتَ قَضَاءً في الخِلافَةِ ثَابِتاً |
مُبِيناً، فقد أسمَعتَ مَن كان ذا عَقلِ |
فمَنْ ذا الذي يَرْجو الخِلافةَ منهُمُ، |
وَقَدْ قُمتَ فيهمْ بالبَيانِ وَبالفَصْلِ |
وَبَيّنْتَ أنْ لا حَقّ فِيها لخاذِلٍ، |
تَرَبّصَ في شَكٍّ، وَأشفَقَ من مَثلِ |
وَلا لامرِىءٍ آتَى المُضِلّينَ بَيْعَةً، |
رَأى الحرْبَ أبدتْ عن نوَاجذها العُصْلِ |
وَمَدّ يَداً مِنْهُ لِبَيْعَةِ خَاسِرٍ، |
وَمال المُكْسِدُ المَغبونُ كالرّابحِ المغلي |
وَعانَدَ لمّا أنْ رَأى الحَرْبَ شَمّرَتْ، |
عِنادَ الخَصيّ الجَوْنِ صَدّ عن الفحلِ |
فَما بالُ أقوَامٍ بَدا الغِشُّ منِهُمُ، |
وَهُمْ كُشُفٌ عندَ الشّدائدِ وَالأزْل |
يُداوُونَ مِنْ قَرْحٍ أدانِيهِ قَد عَتَا |
على الدّاءِ لمْ تُدْركْ أقاصِيهِ بالفُتلِ |
وَقد كانَ فِيما قَد تَلَوْا من حديِثهمْ |
شِفاءٌ، وكانَ الحِلمُ يَشفي من الجَهلِ |
وَإلاّ، فَإنّ المَشْرَفِيّةَ حَدُّهَا |
دَوَاءٌ لهُمْ غَيرَ الدّبيبِ وَلا الخَتْلِ |
أوِ النّفيُ حتى عَرْضُ أرْضٍ وَطولُها |
عَلَيهمْ كَبَيتِ القَينِ أُغلِقَ بالقَفلِ |
وَقد خَذَلوا مَرْوَانَ في الحَرْبِ وَابنَه |
أبَاكَ وَأدْلَوْا فيهما معَ مَنْ يُدْلي |
وَكانَا إذا مَا كان يَوْمُ عَظِيمَةٍ، |
حَمولَينِ للأثقالِ في الأمرِ ذي البَزْلِ |
فَصَلّى على قَبْرَيْهِمَا الله، إنّمَا |
خَلائِقُهُ مِنْهَا على سُنّةِ الرّسْلِ |
فَفُزْتَ بما فَازَا بِهِ مِنْ خِلافَةٍ، |
وَزِدتَ على مَن كانَ قَبلَك بالحَصْلِ |
بعافِيَةٍ كَانَتْ مِنَ الله جَلّلَتْ |
مَشارِقَها أمْناً إلى مَغْرِبِ الأُمْلِ |
وَكُنتَ المُصَفّى من قرَيشٍ وَلمْ يكُنْ |
لوَطْئِكَ فيهمْ زَيْغُ كَعْبٍ وَلا نَعلِ |
أشارُوا بهَا في الأمْرِ غَيرَكَ مِنْهُمُ، |
وَوَلاّكها ذو العرْشِ نَحلاً من النُّحلِ |
حَبَاكَ بهَا الله الّذِي هُوَ سَاقَهَا |
إلَيكَ فقَدْ أبْلاكَ أفْضَلَ ما يُبْلي |
وَسِيقتْ إلى مَن كانَ في الحرْبِ أهلَها |
إلى وَاضِحٍ بادٍ مَعالمُهُ، سَهْلِ |
وَمَا أصْلَتُوا فهيها بسَيْفٍ عَلمْتُهُ، |
وَلا بِسِلاحٍ مِنْ رِمَاحٍ وَلا نَبْلِ |
فَنُصْحي لكُمْ قادَ الهَوَى من بلادِهِ |
إلى مَنبِتِ الزّيتونِ من مَنبِتِ النّخْلِ |