ألم يك جهلا بعد سبعين حجة الفرزدق

ألمْ يَكُ جَهْلاً بَعْدَ سَبْعِينَ حِجّةً

تَذَكُّرُ أُمّ الفَضْلِ وَالرّأسُ أشيَبُ

وَقيلُكَ: هَلْ مَعرْوفُها رَاجِعٌ لَنَا،

وَلَيسَ لشيءٍ قَد تَفاوَتَ مَطْلَبُ

على حِينَ وَلّى الدّهْرُ إلاّ أقَلّهُ،

وكادَتْ بَقايا آخِرِ العَيشِ تَذهَبُ

فإنْ تُؤذِنينا بِالفِرَاقِ، فَلَسْتُمُ

بِأوّلِ مَنْ يَنْسَى، وَمَنْ يَتَجَنّبُ

ورُبّ حَبيبٍ قَدْ تَناسَيْتُ فَقْدَهُ،

يَكَادُ فُؤادي إثْرَهُ يَتَلَهّبُ

أخي ثِقَةٍ في كلّ أمْرٍ يَنُوبُني،

وَعِنْدَ جَسِيمِ الأمْرِ لا يَتَغَيّبُ

قَرَعْتُ ظنابيبي على الصّبْرِ بعْدَهُ،

فقدْ جَعلتْ عنهُ الجَنائبُ تُصْحِبُ

دعاني سَيّارٌ وَقَدْ أشْرَفَتْ بِهِ

مَهالِكُ يُلْفَى دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ

فَقُلتُ لَهُ: إِنِّن أخُوكَ الَّذِي بِهِ

تَنُوءُ إذا عَمَّ الدّعَاءَ المُثَوِّبُ

فإنْ تَكُ مَظْلُوماً، فإنّ شِفَاءهُ

بِوَرْدٍ، وبَعْضُ الأمْرِ للأمْرِ مُجلبُ

هُوَ الحَكمُ الرّاعي وَأنْتَ رَعِيّةٌ،

وكلُّ قضَاءٍ سَوْفَ يُحصَى وَيُكتَبُ

وأنْتَ وَليُّ الحَقّ تَقْضي بِفَصْلِهِ؛

وَأنْتَ وَليُّ العَفْوِ إذْ هُوَ مُذْنِبُ

يَزِينُ عُبَيْداً كُلُّ شَيءٍ بَنَيْتَهُ،

وَأنْتَ فَتَاهَا وَالصّرِيحُ المُهَذَّبُ

نَمَتْكَ قُرُومٌ مِنْ حَنيفَةَ جِلّةٌ،

إلى عيصها الأعلى الذي لا يُشَذَّبُ

وَجُرْثُومَةُ العِزّ التي لا يَرْومُهَا

عَدُوٌّ، وَلا يَسْطِيعُهَا المُتَوثِّبُ

وَمَا قَايَسَتْ حَيّاً حَنِيفَةُ سُوقَةً،

وَلَوْ جَهِدوا، إلاّ حَنيفَةُ أطْيَبُ

وكانَتْ إذا خافَتْ تَضَايُق مُقْدَمٍ،

تَمُدّ بأيديها السّيُوفَ فَتَضْرِبُ

إذا مَنَعُوا لمْ يُرْج شيءٌ وَرَاءهُمْ،

وَإنْ لَقِحتْ حرْبٌ يجيئوا فَيرْكبوا

إلَيْهِمْ رَأتْ ذاكُمْ مَعَدٌّ وَغَيرُهَا

يُحِلّ اليَتَامَى وَالصّعِيبُ المُعَصَّبُ

تَحُلّ بُيُوتُ المُعْتَفِينَ إلَيْهِمُ،

إذا كانَ عامٌ خادعُ النَّوْء مُجْدِبُ

وَقعْتُمْ بصُفْرِيّ الخَضَارِمِ وَقْعَةً،

فَجَلّلْتُمُوها عارَها لَيسَ يَذهَبُ

وَلَمّا رَأوْا بِالأبْرَقَيْنِ كَتِيبَةً

مُلَملَمةً تَحمي الذّمارَ وَتَغضَبُ

دَعَا كُلُّ مَنحوبٍ حَنيفةَ فالتَقَتْ

عَجاجَةُ مَوْتٍ وَالدّماءُ تَصَبّبُ

وَجَاؤوا بِوِرْدٍ مِنْ حَنيفَةَ صَادِقٍ

تُطاعِنُ عَنْ أحسابِها وَتُذَبِّبُ

مَصَاليتُ نَزّالُونَ في حَوْمَةِ الوَغَى،

تَخُوضُ المَنايا والرّمَاحُ تُخَضَّبُ

ورائمةٍ وَلّهْتُمُوها، وَفَاقِدٍ

تَرَكْتُمْ لهَا شَجواً تُرِنّ وَتَنحَبُ

وَقدْ عَصَبَتْ أهل الشّوَاجنِ خيلُهم؛

وَقَدْ سَارَ مِنهَا بِالمَجازَةِ مِقْنَبُ

إذا ورَدُوا المَاءَ الرَّوَاءَ تَظَامَأتْ

أوَائِلُهُمْ أوْ يَحْفِرُوا ثُمّ يشربَوا

تَفارَطُ هَمْدَانَ الجِبَالَ وَغافِقاً،

وَزُهدَ بَني نَهدٍ فتُسمى وَتَحرُبُ

تَوَثَّبُ بالفُرْسَانِ خُوصاً كَأنّهَا

سَعَالٍ طَوَاهَا غَزْوُهم فهيَ شُزَّبُ

وَهُمْ من بَعيدٍ في الحُرُوبِ تَناوَلُوا

عِياذاً وعَبَدَ الله وَالخَيْلُ تُجذَبُ

بذي الغافِ من وَادي عُمانَ فأصْبحتْ

دِماؤهُمُ يُجْرَى بها حيثُ تَشخَبُ

أذاقُوهُمُ طَعْمَ المَنَايَا، فَعَجَّلوا،

وَمن يَلقَهم في عَرْصة الموْتِ يُشجُبوا

شَفَوْا مِنهما ما في النفوسِ وَشَذّبُوا

بِوَقْعِ العَوَالي كُلَّ مَنْ يَتَكَتّبُ

وَأضْحَى سَعيدٌ في الحَديدِ مُكَبَّلاً،

يُعَاني، وَأحْيَاناً يُقَادُ فَيَصْحبُ

رَأى قَوْمَهُ إذْ كانَ غَدْواً جِلادُهمْ

مَعَ الصّبحِ حتى كادتِ الشمسُ تغرُبُ

فَما أُعطيَ المَاعُونُ حتى تَحاسَرَتْ

عَليهِمْ جُموعٌ من حَنيفَةَ لُجَّبُ

وَحَتى عَلَوْهُمْ بِالسّيُوفِ كَأنّهَا

مَصَابِيحُ تَعْلُو مَرّةً وَتَصَبَّبُ

فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ كَانَ أكْثَرَ عَوْلَةً،

وَأيْتَم للوِلْدانِ مِنْ يَوْمِ عُوتِبُوا

وَمَنْ يَصْطَلي في الحَرْبِ ناراً تحُشّها

حَنيفَةُ يَشقى في الحرُوبِ وَيُغْلَبُ

وَمَا زَالَ دَرْءٌ مِنْ حَنِيفَةَ يُتّقَى؛

ومَا زَالَ قَرْمٌ من حَنيفَةَ مُصْعَبُ

لَهُ بَسْطَةٌ لا يَملِكُ النّاسُ رَدَّها،

يَدينُ لَهُ أهْلُ البلادِ وَيُحْجَبُوا

تَرَى للوُفُودِ عَسْكَراً عِنْدَ بَابِهِ،

إذا غابَ مِنهُمْ مَوْكِبٌ جاء موكِبُ