كافور الإخشيدي

355 هـ

أبو المسك كافور بن عبد الله الإخشيدي.

  

كان عبدا لبعض أهل مصر، ثم اشتراه أبو بكر محمد ابن طغج الإخشيد في سنة اثنتي عشرة وثلثمائة بمصر من محمود بن وهب بن عباس وترقى عنده إلى أن جعله أتابك ولديه. وقال محمد وكيل الأستاذ كافور: خدمت الأستاذ والجراية التي يطلقها ثلاث عشرة جراية في كل يوم، ومات وقد بلغت علي يدي ثلاثة عشر ألفا في كل يوم.

 

ولما توفي الإخشيد تولى مملكة مصر والشام ولده الأكبر وهو أبو القاسم أنوجور، ومعناه بالعربي محمود، بعقد الراضي له، وقام كافور بتدبير دولته أحسن قيام إلى أن توفي أنوجور يوم السبت لثمان وقيل لسبع خلون من ذي العقدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وحمل إلى القدس ودفن عند أبيه. وكانت ولادته بدمشق يوم الخميس لتسع خلون من ذي الحجة سنة تسع عشرة وثلثمائة. وتولى بعدة أخوه أبو الحسن علي، وملك الروم في أيامه حلب والمصيصة وطرسوس وذلك الصقع أجمع، فاستمر كافور على نيابته وحسن إيالته، إلى أن توفي علي المذكور في سنة خمس وخمسين وثلثمائة، وقيل بل توفي لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة أربع وخمسين، وكانت ولادته يوم الثلاثاء لأربع بقين من صفر سنة ست وعشرين وثلثمائة بمصر.

 

ثم استقل كافور بالمملكة من هذا التاريخ وأشير عليه بإقامة الدعوة لولد أبي الحسن علي بن الإخشيد، فاحتج بصغر سنة، وركب بالمطارد، وأظهر خلعا جاءته من العراق وكتابا بتكنيته، وركب بالخلع يوم الثلاثاء لعشر خلون من صفر سنة خمس وخمسين وثلثمائة وكان وزيره أبا الفضل جعفر بن الفرات .

 

وكان كافور يرغب في أهل الخير ويعظمهم، وكان أسود اللون شديد السواد بصاصا، واشتراه الإخشيد بثمانية عشر دينارا على ما نقل. وكان أبو الطيب المتنبي قد فارق سيف الدولة بن حمدان مغاضبا له، وقصد مصر وامتدح كافورا بأحسن المدائح، فمن ذلك قوله في أول قصيدة أنشأها له في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلثمائة، وقد وصف فيها الخيل ثم قال:

قواصد كافور تـوارك غـيره

 

ومن قصد البحر استقل السواقيا

فجاءت بنا إنسان عين زمـانـه

 

وخلت بياضا خلفهـا ومـآقـيا

 

ولقد أحسن في هذا غاية الإحسان. وأنشده أيضا في شوال سنة سبع وأربعين قصيدته البائية التي يقول فيها:  

وأخلاق كافور إذا شئت مدحه

 

وإن لم أشأ تملي علي فأكتب

إذا ترك الإنسان أهـلا وراءه

 

ويمم كافورا فما يتـغـرب

 

ومن جملتها:

يضاحك في ذا العيد كل حبيبـه

 

حذائي وأبكي من أحب وأندب

أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهـم

 

وأين من المشتاق عنقاء مغرب

فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم

 

فإنك أحلى في فؤادي وأعذب

وكل امرئ يولي الجميل محبب

 

وكل مكان ينبت العـز طـيب

 

وحكي عن المتنبي أنه قال: كنت إذا دخلت على كافور أنشده يضحك إلي ويبش في وجهي، إلى أن أنشدته:

 

ولما صار ود الناس خـبـا

 

جزيت على ابتسام بابتسـام

وصرت أشك فيمن أصطفيه

 

لعلمي أنه بعـض الأنـام

 

قال: فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا، فعجبت من فطنته وذكائه.

وآخر شيء أنشده في شوال سنة تسع وأربعين ولم يلقه بعدها قصيدته البائية وشابها بطرف من العتب، ومنها:

أرى لي بقربي منك عينا قريرة

 

وإن كان قربا بالبـعـاد يشـاب

وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا

 

ودون الذي أملت منك حجـاب

أقل سلامي حب ما خف عنكـم

 

وأسكت كيما لا يكـون جـواب

وفي النفس حاجات وفيك فطانة

 

سكوتي بيان عندها وخـطـاب

وما أنا بالباغي على الحب رشوة

 

ضعيف هوى يبغي عليه ثـواب

وما شئت إلا أن أدل عـواذلـي

 

على أن رأيي في هواك صواب

وأعلم قوما خالفوني فشـرقـوا

 

وغربت أنى قد ظفرت وخابـوا

جرى الخلف إلا فيك أنك واحـد

 

وأنك لـيث والـمـلـوك ذئاب

وأنك إن قويست صحف قـارئ

 

ذئابا ولم يخطئ فـقـال ذبـاب

وإن مديح الناس حق وبـاطـل

 

ومدحك حق ليس فـيه كـذاب

إذا نلت منك الود فالمـال هـين

 

وكل الذي فوق التراب تـراب

وما كنت لولا أنت إلا مهاجـرا

 

له كل يوم بـلـدة وصـحـاب

ولكنك الـدنـيا إلـي حـبـيبة

 

فما عنك لي إلا إلـيك ذهـاب

 

وأقام المتنبي بعد إنشاده هذه القصيدة بمصر سنة لا يلقى كافورا غضبا عليه لكنه يركب في خدمته خوفا منه ولا يجتمع به، واستعد للرحيل في الباطن، وجهز جميع ما يحتاج إليه، وقال في يوم عرفة سنة خمسين وثلاثمائة قبل مفارقته مصر بيوم واحد قصيدته الدالية التي هجا كافورا فيها، وفي آخر هذه القصيدة:

من علم الأسود المخصي مكرمة

 

أقومه البيض أم آباؤه الـصـيد

أم أذنه في يد النـحـاس دامـية

 

أم قدره وهو بالفلسـين مـردود

وذاك أن الفحول البيض عاجـزة

 

عن الجميل فكيف الخصية السود

 

وله فيه أهاج كثيرة تضمنها ديوانه، ثم فارقه بعد ذلك، ورحل إلى عضد الدولة بن بويه بشيراز.

 

دخل على كافور غلام فقال: ما اسمك؟ قال: كافور، فقال: نعم ما كل من اسمه محمد نبي. وله مع الشيخ عبد الله بن جابار الصوفي الزاهد شيخ البقاعي، وكان من كبار المشايخ، قصة عجيبة هي من غرر مناقبه، ذكر المسبحي في تاريخه قال: حدثني أبو الدابة كاتب أبي بكر القمي عن أبي الحسن البغدادي قال: وردت إلى مصر مع والدي وأنا صبي دون البلوغ في أيام كافور، وكان أبو بكر المحلي يتولى نفقات مصالحه وخواص خدمه، وقد نتجت بينه وبين أبي مودة، وكان يزوره ويصله، قال: فجاءه ذات يوم فتذاكرا أخبار كافور وطريقته وما هو عليه من الخشوع، فقال أبو بكر لأبي وأنا أسمع: هذا الأستاذ كافور له في كل عيد أضحى عادة، وهي أن يسلم إلي بغلا محملا ذهبا وورقا وجريدة تتضمن أسماء قوم من حد القرافة إلى المنامة وما بينهما، ويمضي معي صاحب الشرطة ونقيب يعرف المنازل، وأطوف من بعد العشاء الآخرة إلى آخر الليل حتى أسلم ذلك إلى من جعل له وتتضمن اسمه الجريدة، وأطوف منزل كل إنسان ما بين رجل وامرأة وأقول: الأستاذ أبو المسك كافور يهنيك بعيدك ويقول لك: اصرف هذا في منفعتك، فادفع إليه ما جعل له، فلما كان في هذا العيد جريت على العادة ورأيته زادني في الجريدة الشيخ أبو عبد الله ابن جابار مائة دينار فأنفقت المال في أربابه ولم يبق إلا الصرة، فجعلتها في كمي وسرت مع النقيب حتى أتينا منزله بظاهر القرافة، فطرقت الباب فنزل إلينا شيخ عليه أثر السهر فسلمت عليه فلم يرد علي وقال: ما حاجتك؟ قلت: الأستاذ أبو المسك كافور يخص الشيخ بالسلام، فقال: والي بلدنا؟ قلت: نعم، قال: حفظه الله، الله يعلم أنني أدعو له في الخلوات وأدبار الصلوات وللمسلمين بما الله سامعه ومجيبه، قلت: وقد أنفذ معي هذه الصرة وهو يسألك قبولها لتصرفها في مؤونة هذا العيد المبارك فقال: نحن رعيته ونحن نحبه في الله تعالى وما نفسد هذا بعلة، فراجعته القول فتبين لي الضجر في وجهه والقلق والتلهف واستحييت من الله تعالى أن أقطعه عما هو عليه فتركته وانصرفت، قال: فجئت فوجدت الأمير قد تهيأ للركوب وهو ينتظرني فلما رآني قال: هيه يا أبا بكر، فقلت له: أرجو أن يستجيب الله تعالى فيك كل دعوة صالحة دعيت لك في هذه الليلة وفي هذا اليوم الشريف، فقال: الحمد لله الذي جعلني سببا لإيصال الراحة إلى عياله، ثم أخبرته بامتناع ابن جابار فقال: نعم هو بذلك جدير، لم يجر بيننا وبينه معاملة قبل هذا اليوم، ثم قال لي: عد إليه واركب دابة من دواب النوبة فلست أشك فيما لقيت دابتك في هذه الليلة من التعب، ثم امض إليه واطرق بابه فإذا نزل إليك فإنه سيقول: ألم تكن عندنا؟ فلا ترد عليه جوابا ثم استفتح واقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى. تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى. الرحمن على العرش استوى، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى). يا ابن جابار، يقول لك كافور: ومن كافور العبد الأسود ومن مولاه ومن الخلق؟ أبقي لأحد مع الله تعالى ملكة أو شركة؟ تلاشى الناس كلهم، ها هنا تدري من معطيك وعلى من رددت أنت ما سألت، هو أرسل إليك يا ابن جابار، ما تفرق بين السبب والمسبب! قال: فركبت وسرت فطرقت منزله فنزل إلي وقال لي مثل لفظ كافور، فأضربت عن الجواب وقرأت طه ثم قلت له ما قال كافور، فبكى ابن جابار وقال: أين ما حملت؟ فأخرجت له الصرة فأخذها وقال: علمنا الأستاذ كيف التصوف، قل له: أحسن الله جزاءك، قال: فعدت إليه فأخبرته فسر بذلك ثم سجد لله تعالى شكرا وقال: الحمد لله الذي جعلني سببا لإيصال الراحة إلى عبادة، ثم ركب حينئذ.

 

ولم يزل مستقلا بالأمر إلى أن توفي يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الأولى بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى، وقبته مشهورة هناك، ولم تطل مدته في الاستقلال على ما ظهر من تاريخ موت علي بن الإخشيد إلى هذا التاريخ.

 

 وكانت بلاد الشام في مملكته أيضا مع مصر وكان يدعى له على المنابر بمكة والحجاز جميعه والديار المصرية وبلاد الشام من دمشق وحلب وأنطاكية وطرسوس والمصيصة وغير ذلك.

 

المرجع: وفيات الأعيان

  



الشام
دمشق
عضد الدولة