الحكم بن هشام

154- 206 هـ

الحكم بن هشام بن عبد الرحمن، أشهر أمراء الأندلس.

 

ولد عام 154 هـ في قرطبة، وتولى الحكم وهو في السادسة والعشرين من عمره، وكان "الحكم" أول من أظهر فخامة الملك في الأندلس، وأول من أنشأ بلاطا إسلاميا ملكيا، ورتب نظمه ورسومه.

 

ورث الحكم عن والده الٌذي كان يفضله عن أخيه الأكبر عبد الملك. كانت بداية حكمه صعبة حيث أنٌه في سنة 796م طلب ملك أستورياس ألفونس الثاني مساعدة شارلمان واحتلٌ مدينة لشبونة في سنة 798م. أحد أعمام الحكم كان قد طلب مساعدة شرلمان أيضا حتى قرر هذا الأخير مهاجمة الأندلس سنة 798م. وفي سنة 800م أسقط الأمير لويس الأول مدينتي وشقة ولاردة وحاصر مدينة برشلونة التي سقطت سنة 803م.

 

إغتنم الولاة ومن بينهم بنو قاسي هذه الخسائر في الحرب كعلة للثورة عليه مما جعله يصبح شديد البطش في حكمه لينهي هذه الثورة. في تلك الأثناء حاز عبيد الله على السلطة في مدينة طليطلة وأعلن استقلالها فلم يتردد الحكم في إعدام جميع أعيان المدينة.

 

لم يستطع الحكم مقاومة تقدم غزو الفرنكيين، بيد أنٌ النتائج التي حققها هؤلاء لم تكن في حجم العتاد الٌذي إستغلٌوه في الحرب. عزٌز الحكم نفوذ ومكانة الأمراء في المنطقة وترك لإبنه الٌذي خلفه عبد الرحمن الثاني إمارة في حالة سلم واستقرار، ممٌا سمح لهذا الأخير بالعمل على ازدهار الحضارة الأندلسية. ولم يكن الحكم غريبا عن ميدان الفنون، فقد كان هو من دعى زرياب إلى قرطبة، كما أنٌه كان من أدخل إلى الأندلس العادات الشرقية في ميادين الفنٌ، العلوم والثقافة.

 

ورد في "سير أعلام النبلاء" للذهبي:

"ابن الداخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ابن الحكم الأموي المرواني أبو العاص أمير الأندلس وابن أميرها وحفيد أميرها ويلقب بالمرتضى ويعرف بالربضي لما فعل بأهل الربض. بويع بالملك عند موت أبيه في صفر سنة ثمانين ومئة.

 

وكان من جبابرة الملوك وفساقهم ومتمرديهم وكان فارساً شجاعاً فاتكاً ذا دهاء وحزم وعتو وظلم تملك سبعاً وعشرين سنة.

 

وكان في أول أمره على سيرة حميدة تلا فيها أباه ثم تغير وتجاهر بالمعاصي.

 

قال أبو محمد بن حزم: كان من المجاهرين بالمعاصي سفاكاً للدماء كان يأخذ أولاد الناس الملاح فيخصيهم ويمسكهم لنفسه. وله شعر جيد.

 

قال اليسع بن حزم: همت الروم بما لم ينالوا من طلب الثغور فنكثوا العهد فتجهز الحكم إليهم حتى جاز جبل السارة - شمالي طليطلة - ففرت الروم أمامه حتى تجمعوا بسمورة فلما التقى الجمعان نزل النصر وانهزم الكفر وتحصنوا بمدينة سمورة وهي كبيرة جداً فحصرها المسلمون بالمجانيق حتى افتتحوها عنوة وملكوا أكثر شوارعها واشتغل الجند بالغنائم وانضمت الروم إلى جهة من البلد وخرجوا على حمية فقتلوا خلقاً في خروجهم فكانت غزوته من أعظم المغازي لولا ما طرأ فيها من تضييع الحزم ورامت الروم السلم فأبى عليهم الحكم ثم خرج من بلادهم خوفاً من الثلوج فلما كان العام الآتي استعد أعظم استعداد وقصد سمورة فقتل وسبى كل ما مر به ثم نازلها شهرين ثم دخلوها بعد جهد وبذلوا فيها السيف إلى المساء ثم انحاز المسلمون فباتوا على أسوارها ثم صبحوها من الغد لا يبقون على محتلم.

 

قال الرازي في مغازي الأندلس: الذي أحصي ممن قتل في سمورة ثلاث مئة ألف نفس فلما بلغ الخبر ملك رومية كتب إلى الحكم يرغب في الأمان فوضع على الروم ما كان جده وضع عليهم وزاد عليهم أن يجلبوا من تراب مدينة رومية نفسها ما يصنع به أكوام بشرقي قرطبة صغاراً لهم وإعلاء لمنار الإسلام فهما كومان من التراب الأحمر في بسيط مدرتها السوداء.

 

قلت: وكثرت العلماء بالأندلس في دولته حتى قيل: إنه كان بقرطبة أربعة آلاف متقلس متزيين بزي العلماء فلما أراد الله فناءهم عز عليهم انتهاك الحكم للحرمات وائتمروا ليخلعوه ثم جيشوا لقتاله وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله فلا قوة إلا بالله فذكر ابن مزين في تاريخه: طالوت بن عبد الجبار المعافري وأنه أحد العلماء العاملين الشهداء الذين هموا بخلع الحكم وقالوا: إنه غير عدل ونكثوه في نفوس العوام وزعموا أنه لا يحل المكث ولا الصبر على هذه السيرة الذميمة وعولوا على تقديم أحد أهل الشورى بقرطبة وهو أبو الشماس أحمد بن المنذر بن الداخل الأموي ابن عم الحكم لما عرفوا من صلاحه وعقله ودينه فقصدوه وعرفوه بالأمر فأبدى الميل إليهم والبشرى بهم وقال لهم: أنتم أضيافي الليلة فإن الليل أستر وناموا وقام هو إلى ابن عمه بجهل فأخبره بشأنهم فاغتاظ لذلك وقال: جئت لسفك دمي أو دمائهم وهم أعلام فمن أين نتوصل إلى ما ذكرت؟ فقال: أرسل معي من تثق به ليتحقق فوجه من أحب فأدخلهم أحمد في بيته تحت ستر ودخل الليل وجاء القوم فقال: خبروني من معكم؟ فقالوا: فلان الفقيه وفلان الوزير وعدوا كباراً والكاتب يكتب حتى امتلأ الرق فمد أحدهم يده وراء الستر فرأى القوم فقام وقاموا وقالوا: فعلتها يا عدو الله فمن فر لحينه نجا ومن لا قبض عليه فكان ممن فر عيسى بن ديار الفقيه ويحيى بن يحيى الفقيه صاحب مالك وقرعوس بن العباس الثقفي.

 

وقبض على ناس كأبي كعب وأخيه ومالك بن يزيد القاضي وموسى بن سالم الخولاني ويحيى بن مضر الفقيه وأمثالهم من أهل العلم والدين في سبعة وسبعين رجلاً فضربت أعناقهم وصلبوا. وأضاف إليهم عميه كليباً وأمية فصلبا وأحرق القلوب عليهم وسار بأمرهم الرفاق وعلم الحكم أنه محقود من الناس كلهم فأخذ في جمع الجنود والحشم وتهيأ وأخذت العامة في الهيج واستأسد الناس وتنمروا وتأهبوا فاتفق أن مملوكاً خرج من القصر بسيف دفعه إلى الصيقل فماطله فسبه فجاوبه الصيقل فتضاربا ونال منه المملوك حتى كاد أن يتلفه فلما تركه أخذ الصيقل السيف فقتل به المملوك فتألب إلى المقتول جماعة وإلى القاتل جماعة أخرى واستفحل الشر وذلك في رمضان سنة اثنتين ومئتين وتداعى أهل قرطبة من أرباضهم وتألبوا بالسلاح وقصدوا القصر فركب الجيش والإمام الحكم فهزموا العامة وجاءهم عسكر من خلفهم فوضعوا فيهم السيف وكانت وقعة هائلة شنيعة مضى فيها عدد كثير زهاء عن أربعين ألفاً من أهل الربض وعاينوا البلاء من قدامهم ومن خلفهم فتداعوا بالطاعة وأذعنوا ولاذوا بالعفو فعفا عنهم على أن يخرجوا من قرطبة ففعلوا وهدمت ديارهم ومساجدهم ونزل منهم ألوف بطليطلة وخلق في الثغور وجاز آخرون البحر ونزلوا بلاد البربر وثبت جمع بفاس وابتنوا على ساحلها مدينة غلب على اسمها مدينة الأندلس وسار جمع منهم زهاء خمسة عشر ألفاً وفيهم عمر بن شعيب الغليظ فاحتلوا بالإسكندرية فاتفق بعد ذلك أن رجلاً منهم اشترى لحماً من جزار فتضاجر معه ورماه الجزار بكرش في وجهه فرجع بتلك الحالة إلى قومه فجاءوا فقتلوا اللحام فقام عليهم أهل الإسكندرية فاقتتلوا وأخرج الأندلسيون أهلها هاربين وتملكوا الإسكندرية فاتصل الخبر بالمأمون فأرسل إليهم وابتاع المدينة منهم على أن يخرجوا منها وينزلوا جزيرة إقريطش فخرجوا ونزلوها وافتتحوها فلم يزالوا فيها إلى أن غلب عليها أرمانوس بن قسطنطين سنة خمس وثلاث مئة.

 

وأما الحكم فإنه اطمأن وكتب إلى القائد محمد بن رستم كتاباً فيه: وأنه تداعى فسقة من أهل قرطبة إلى الثورة وشهروا السلاح فأنهضنا لهم الرجال فقتلنا فيهم قتلاً ذريعاً وأعان الله عليهم فأمسكنا عن أموالهم وحرمهم.

 

ثم كتب الحكم كتاب أمان عام وكان طالوت اختفى سنة عند يهودي ثم خرج وقصد الوزير أبا البسام ليختفي عنده فأسلمه إلى الحكم فقال: ما رأي الأمير في كبش سمين وقف على مذوده عاماً فقال الحكم: لحم ثقيل ما الخبر؟ قال: طالوت عندي فأمره بإحضاره فأحضر فقال: يا طالوت أخبرني لو أن أباك أو ابنك ملك هذه الدار أكنت فيها في الإكرام والبر على ما كنت أفعل معك؟ ألم أفعل كذا ألم أمش في جنازة امرأتك ورجعت معك إلى دارك؟ أفما رضيت إلا بسفك دمي؟ فقال الفقيه في نفسه: لا أجد أنفع من الصدق فقال: إني كنت أبغضك لله فلم يمنعك ما صنعت معي لغير الله وإني لمعترف بذلك أصلحك الله فوجم الخليفة وقال: أعلم أن الذي أبغضني له قد صرفني عنك فانصرف في حفظ الله ولست بتارك برك وليت الذي كان لم يكن ولكن أين ظفر بك أبو البسام لا كان فقال: أنا أظفرته بنفسي وقصدته قال: فأين كنت في عامك؟ قال: في دار يهودي حفظني لله فأطرق الخليفة ملياً ورفع رأسه إلى أبي البسام وقال: حفظه يهودي وستر عليه لمكانه من العلم والدين وغدرت به إذ قصدك وخفرت ذمته لا أرانا الله في القيامة وجهه إن رأينا لك وجهاً. وطرده وكتب لليهودي كتاباً بالجزية فيما ملك وزاد في إحسانه فلما رأى اليهودي ذلك أسلم مكانه.

 

قال ابن مزين: وكان أهل طليطلة لهم نفوس أبية وكانوا لا يصبرون على ظلم بني أمية فإن ولاتهم كان فيهم ظلم وتعد فكانوا يثبون على الوالي ويخرجونه فولى عليهم الحكم عمروساً رجلاً منهم وكان عمروس داهية فداخل الحكم وعمل على رؤوس أهل طليطلة حتى قتل جماعة منهم.

 

قال ابن مزين: فأشار أولاً على الأعيان ببناء قلعة تحميهم ففعلوا فبعث إلى الخليفة كتباً بمعاملة منه فيه شتمه وسبه فقام له وقعد وسب وأفحش وبعث للخليفة ولده للغزو فاحتال عمروس على الأكابر حتى خرجوا وتلقوه ورغبوه في الدخول إلى قلعتهم ومد سماطاً واستدعاهم فكان الداخل يدخل على باب ويخرج من باب آخر فتضرب عنقه حتى كمل كذلك نحو الخمسة آلاف حتى غلا بخار الدماء وظهرت الرائحة ثم بعث الحكم أماناً ليحيى بن يحيى الليثي.

 

مات الحكم سنة ست ومئتين في آخرها وله ثلاث وخمسون سنة وولي الأندلس بعده ابنه أبو المطرف عبد الرحمن".

 

 



الأندلس
عبد الملك