المعتضد بالله

توفي 289 هـ

المعتضد بالله ابن الموفق ابن المتوكل بالله ابن المعتصم بالله ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

 

توفى الموفق سنة (278 هـ = 891 م)، بعد أن أعاد هيبة الخلافة، وثبت سلطة الحكومة المركزية، فبايع الخليفة "المعتمد على الله" ابن أخيه "العباس" بولاية العهد الثانية بعد ابنه "المفوض إلى الله"، ولقبه بـ"المعتضد بالله"، وانتقلت إليه سلطات أبيه الموفق، وكان المعتضد بالله مثل أبيه في الحزم والرأي والشجاعة، شارك أباه في حروبه ضد الزنج، وفي أعماله الإدارية، فاكتسب خبرة واسعة، ونال ثقة الجند وتقديرهم، وطُبع على القيادة وتصريف الأمور؛ ولذلك لم يقنع بولاية العهد الثانية، وتطلع أن يكون خليفة بعد المعتمد مباشرة لا بعد ابنه، وكان الجند في صفه، ولم يجد عمه المعتمد بُدًّا من الرضوخ لابن أخيه، فبايعه بولاية العهد بعده، وعزل ابنه منها، ولم تَدُم حياة المعتمد طويلاً؛ حيث توفي بعد أشهر قليلة في (19 من رجب 279 هـ = 15 من أكتوبر 892م).

 

ولما بويع المعتضد بالخلافة سار على نهج أبيه الموفق في الحزم والعزم، وسلك مسلكه في إقامة العدل، وإقرار الأمن، وإشاعة السلام؛ ولذلك كان ينهض على الفور حين تشب فتنة وتشتغل ثورة فيقضي عليها، ويخرج إليها بنفسه، دلالة على عنايته بها، وإدراكه لخطورتها إذا أهمل في تداركها وقمعها.

 

وكانت الفترة التي ولي فيها المعتضد الخلافة فترة قلاقل وثورات، ولكن الخليفة اليقظ قضى عليها، ولم يدعها تتفاقم وتزداد اشتعالا، ومن ثم شهدت الخلافة استقرارًا وهدوءاً، فأخمد ثورة "بني شيبان" بأرض الجزيرة سنة (280 هـ = 893م)، وكانوا يهاجمون المدن، ويقتلون الناس، ويسلبون أموالهم، كما قضى سنة (281 هـ = 894 م) على ثورة "حمدان بن حمدون"، الذي كان يطمح في تأسيس إمارة له، أيضا استولى على قلعة "ماردين" وتحصن بها، وقمع ثورة الخوارج في الموصل، التي تزعمها "هارون بن عبد الله الشاري" سنة (283هـ = 896م).

 

شهدت فترة المعتضد ظهور حركة القرامطة؛ حيث قدم الكوفة سنة (278 هـ = 891م) رجل يُدعى"حمدان قرمط"، وأقام بها، وتظاهر بالعبادة والزهد، والدعوة إلى إمام من آل البيت، فلقيت دعوته نجاحًا عند أنصار العلويين. وبعد أن وثق من بعضهم بدأ في بث دعوته الغريبة وأفكاره البعيدة عن الإسلام، ثم اشتد خطر هذه الحركة بعد ظهور زعيمها في البحرين "أبي سعيد الجنَّابي" سنة (286 هـ = 899م)، واستطاع أن يبسط نفوذه على "البحرين" و"هجر"، وكسب أنصارًا كثيرين، وتحولت البحرين إلى مركز للقرامطة ومعقلاً لنشاطهم، وخرجت منه حملاتهم الحربية لنشر أفكارهم الهدامة تحت شعارات برّاقة، يخدعون بها البسطاء.

 

ولم ينجح المعتضد في القضاء على هذه الحركة؛ لأنه لم يُقدّر خطورتها حق قدرها، وصرف جهده إلى قمع فتن كانت تبدو لديه أكثر خطورة منها.

 

ويجدر بالذكر أنه ظهر في أيامه "ابن حوشب" في بلاد اليمن؛ حيث كان يقوم بنشر الدعوة للمهدى الفاطمي، و"أبو عبد الله الشيعي"، الذي كان يدعو للفاطميين في بلاد المغرب، إلى أن تمكن من إقامة دولتهم في المغرب بعد ذلك.

 

وأيًّا كان الأمر، فإن الخلافة لم تهتز إزاء هذه الفتنة والثورات، واستطاع بحزمه أن يثبت أركان الدولة، وأن يعيد إليها سلطاتها ونفوذها.

 

يصف المؤرخون الخليفة المعتضد بالله بأنه كان حازمًا مع قواده، شديد الوطأة عليهم، إذا غضب على واحد منهم أمر بإلقائه في حفرة وردم عليه؛ ولذلك سكنت فتنة الأتراك، ولم يجرؤ واحد منهم على إحداث شغب أو إثارة فتنة، وكان يُسمى "السفاح الثاني"؛ لأنه جدد مُلك بني العباس، مثلما أقام أبو العباس السفاح دولتهم.

 

ومع هذه القسوة البالغة كان عادلاً مع رعيته، فقد دفع عنهم الظلم وأسقط عنهم المكوس والضرائب، وأبطل ديوان المواريث، وكان أصحاب التركات يلقون منه عنتًا، وأمر برد ما يفضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام.

 

وكان لاستقرار الدولة في عهده نتائج إيجابية على الوضع الاقتصادي، فعنيت الدولة في عهده بأمور الري، وتسليف الفلاحين الحبوب والحيوانات، وأخَّر موعد استيفاء الخراج.

 

ارتبط اسم المعتضد بزواجه من "قطر الندى" بنت "خماروية بن أحمد بن طولون"، وكانت العلاقة بين دولة الخلافة والطولونيين في مصر على غير ما يُرام في عهد أحمد بن طولون، وقد حاول ابنه خمارويه أن يفتح صفحة جديدة من العلاقات، ويحل الأمن والسلام محل الخصام والحرب، وكان الطرفان يرغبان في ذلك. وزيادةً في توثيق عرى المودة بينهما، تزوج الخليفة المعتضد من قطر الندى ابنة خمارويه، وكان جهازها الذي أعده أبوها أسطوريًا بالغًا في الإسراف إلى حد يفوق الخيال، وهنا أدعُ المؤرخ الكبير "ابن تغري بردي" يصف جهازها ورحلتها من مصر إلى بغداد؛ حيث يقول: "إنه جهزها بجهاز عظيم يتجاوز الوصف حتى قيل: إنه دخل معها في جملة جهازها ألف هاون من الذهب… ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر الندى، أمر فبني لها على رأس كل منزلة تنزل فيها قصرٌ فيما بين مصر وبغداد… وكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فكانت إذا وافت المنزلة وجدت قصرًا قد فرش، فيه جميع ما تحتاج إليه، وقد علقت فيه الستور، وأُعِد فيه كل ما يصلح لمثلها، وكانت في سيرها من مصر إلى بغداد على بُعد الشقة كأنها في قصر أبيها…".

 

وكان هذا الإسراف من قبل خمارويه سببًا في إفلاس مالية البلاد، وكانت مصر من أغنى الدول وأكثرها ثراءً، ويبدو أن الخلافة العباسية عندما يئست من إخضاع دولة الطولونيين بالقوة لجأت إلى إضعافها بالسياسة، حتى قيل: إن المعتضد أراد بزواجه من قطر الندى أن يفقر أباها خمارويه في جهازها.

 

انتقال عاصمة الخلافة إلى بغداد

 

ظلت مدينة "سامراء" عاصمة الخلافة العباسية منذ حوالي سنة(221 هـ = 836م) في عهد الخليفة المعتصم بالله- إلى أوائل خلافة المعتضد الذي بنى القصر الحسني ببغداد، وقرر نقل العاصمة إلى بغداد، وكان من أثر ذلك أن هجر الناس سامراء، وخربت بعد أن كانت تضارع بغداد حسنًا وبهاء، وكان بسامراء قبور ستة من الخلفاء العباسيين هم: الواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد.

 

توفِّي الخليفة المعتضد بعد أن حكم الدولة تسع سنوات وتسعة أشهر، أعاد لها هيبتها ومجدها، وخلفه ابنه "علي المكتفي"، ولم يكن مثل أبيه من الحزم والشدة، فدخلت الدولة في مرحلة الضعف والتفكك.

 

ورد في "سير أعلام النبلاء" للذهبي:

" الخليفة أبو العباس أحمد بن الموفق بالله ولي العهد أبي أحمد طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد الهاشمي العباسي. ولد في أيام جده سنة اثنتين وأربعين ومئتين. ودخل دمشق سنة إحدى وسبعين لحرب ابن طولون واستخلف بعد عمه المعتمد في رجب سنة تسع. وكان ملكاً مهيباً شجاعاً جباراً شديد الوطأة من رجال العالم يقدم على الأسد وحده. وكان أسمر نحيفاً معتدل الخلق كامل العقل.

 

قال المسعودي: كان قليل الرحمة إذا غضب على أمير حفر له حفيرة وألقاه حياً وطم عليه.

 

وكان ذا سياسة عظيمة قيل: إنه تصيد فنزل إلى جانب مقثأة فصاح الناطور فطلبه فقال: إن ثلاثة غلمان دخلوا المقثأة وأخذوا فجيء بهم فاعتقلوا ومن الغد ضربت أعناقهم فقال لابن حمدون: اصدقني عني فذكرت الثلاثة فقال: والله ما سفكت دماً حراماً منذ وليت الخلافة وإنما قتلت حرامية قد قتلوا أوهمت أنهم الثلاثة قلت: فأحمد ابن الطيب قال: دعاني إلى الإلحاد.

 

روى أبو العباس بن سريج عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم ملاح فنظرت إليهم فرآني المعتضد أتأملهم فلما أردت الانصراف أشار إلي ثم قال: أيها القاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط.

 

ودخلت مرة فدفع إلي كتاباً فنظرت فيه فإذا قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء فقلت مصنف هذا زنديق فقال: ألم تصح هذه الأحاديث قلت: بلى ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء وما من عالم إلى وله زلة ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه فأمر بالكتاب فأحرق.

 

قال أبو علي المحسن التنوخي: بلغني عن المعتضد أنه كان جالساً في بيت يبنى له فرأى فيهم أسود منكر الخلقة يصعد السلالم درجتين درجتين ويحمل ضعف ما يحمله غيره فأنكر ذلك وطلبه وسأله عن سبب ذلك فتلجلج فكلمه ابن حمدون فيه وقال: من هذا حتى صرفت فكرك إليه قال: قد وقع في خلدي أمر ما أحسبه باطلاً ثم أمر به فضرب مئة وتهدده بالقتل ودعا بالنطع والسيف فقال: الأمان أنا أعمل في أتون الآجر فدخل من شهور رجل في وسط هميان فأخرج دنانير فوثبت عليه وسددت فاه وكتفته وألقيته في الأتون والذهب معي يقوى به قلبي فاستحضرها فإذا على الهميان اسم صاحبه فنودي في البلد فجاءت امرأة فقالت: هو زوجي ولي منه طفل فسلم الذهب إليها وقتله.

 

قال التنوخي: وبلغني أنه قام ليلة فرأى المماليك المرد واحد منهم فوق آخر ثم دب على ثلاثة واندس بين الغلمان فجاء فوضع يده على صدره فإذا بفؤاده يخفق فرفسه برجله فجلس فذبحه.

 

وأن خادماً أتاه فأخبره أن صياداً أخرج شبكته فثقلت فجذبها فإذا فيها جراب فظنه مالاً فإذا فيه آجر بينه كف مخضوبة فهال ذاك المعتضد وأمر الصياد فعاود طرح الشبكة فخرج جراب آخر فيه رجل فقال: معي في بلدي من يفعل هذا ما هذا بملك فلم يفطر يومه ثم أحضر ثقة له وأعطاه الجراب وقال: طف به على من يعمل الجرب: لمن باعه فغاب الرجل وجاء وقد عرف بائعه وانه اشترى منه عطار جراباً فذهب إليه فقال: نعم اشترى مني فلان الهاشمي عشرة جرب وهو ظالم إلى أن قال: يكفيك أنه كان يعشق مغنية فاكتراها من مولاها وادعى أنها هربت فلما سمع المعتضد ذلك سجد وأحضر الهاشمي فأخرج له اليد والرجل فاصفر واعترف فدفع إلى صاحب الجارية ثمنها وسجن الهاشمي فيقال: قتله.

 

وروى التنوخي عن أبيه قال: رأيت المعتضد وكان صبياً عليه قباء أصفر وقد خرج إلى قتال وصيف بطرسوس. وعن خفيف السمرقندي قال: خرجت مع المعتضد للصيد وانقطع عنه العسكر فخرج علينا الأسد فقال: يا خفيف أمسك فرسي. ونزل فتحزم وسل سيفه وقصد الأسد فتلقاه المعتضد فقطع يده فتشاغل بها الأسد فضربه فلق هامته ومسح سيفه في صوفه وركب وصحبته إلى أن مات فما سمعته يذكر الأسد لقلة احتفاله به.

 

قلت: وكان في المعتضد حرص وجمع للمال حارب الزنج وله مواقف مشهودة وفي دولته سكتت الفتن وكان فتاه بدر على شرطته وعبيد الله بن سليمان على وزارته ومحمد بن شاه على حرسه وأسقط المكس ونشر العدل وقلل من الظلم وكان يسمى السفاح الثاني أحيا رميم الخلافة التي ضعفت من مقتل المتوكل وأنشأ قصراً غرم عليه أربع مئة ألف دينار وكان مزاجه قد تغير من فرط الجماع وعدم الحمية حتى إنه أكل في مرضه زيتوناً وسمكاً.

 

ونقل المسعودي أنهم شكوافي موته فتقدم الطبيب فجس نبضه ففتح عينيه فرفس الطبيب دحرجه أذرعاً فمات الطبيب ثم مات المعتضد من ساعته كذا قال.


وقال الخطبي في تاريخه: حبس الموفق ابنه أبا العباس فلما اشتدت علة الموفق عمد غلمان أبي العباس فأخرجوه وأدخلوه إلى أبيه فلما رآه أيقن بالموت فقيل: إنه قال: لهذا اليوم خبأتك ثم فوض إليه وضم الجيش إليه وخلع عليه قبل موته بثلاث.

 

قال: وكان ابن العباس شهماً جلداً رجلاً بازلاً موصوفاً بالرجلة والجزالة قد لقي الحروب وعرف فضله فقام بالأمر أحسن قيام وهابه الناس ورهبوه ثم عقد له المعتمد مكان الموفق وجعل أولاده تحت يده ثم إن المعتمد جلس مجلساً عاماً أشهد فيه على نفسه بخلع ولده المفوض إلى الله جعفر من ولاية عهده وإفراد أبي العباس بالعهد في المحرم وتوفي في رجب يعني المعتمد فقيل: إنه غم في بساط.

 

وكان المعتضد أسمر نحيفاً معتدل الخلق أقنى الأنف في مقدم لحيته طول وفي مقدم رأسه شامة بيضاء تعلوه هيبة شديدة رأيته في خلافته.

 

قلت: لما بويع قدمت هدايا خمارويه وخضع وذلك عشرون بغلا تحمل الذهب سوى الخيل والجواهر والنفائس وزرافة وقدمت هدية الصفار فولاه خراسان وتزوج المعتضد ببنت خمارويه فقدمت في تجمل لا يعبر عنه وصلى بالناس يوم النحر فكبر في الأولى ستاً وفي الثانية نسي تكبيرها ولم يكد يسمع صوته. وفي سنة ثمان وسبعين: كان أول شأن القرامطة. ولا ريب أن أول وهن على الأمة قتل خليفتها عثمان صبراً فهاجت الفتنة وجرت وقعة الجمل بسببها ثم وقعة صفين وجرت سيول الدماء في ذلك. ثم خرجت الخوارج وكفرت عثمان وعلياً وحاربوا ودامت حروب الخوارج سنين عدة.

 

ثم هاجت المسودة بخراسان وما زالوا حتى قلعوا دولة بني أمية وقامت الدولة الهاشمية بعد قتل أمم لا يحصيهم إلا الله. ثم اقتتل المنصور وعمه عبد الله ثم خذل عبد الله وقتل أبو مسلم صاحب الدعوة. ثم خرج ابنا حسن وكادا أن يتملكا فقتلا. ثم كان حرب كبير بين الأمين والمأمون إلى أن قتل الأمين. وفي أثناء ذلك قام غير واحد يطلب الإمامة: فظهر بعد المئتين بابك الخرمي زنديق بأذربيجان وكان يضرب بفرط شجاعته الأمثال فأخذ عدة مدائن وهزم الجيوش إلى أن اسر بحيلة وقتل.

 

ولما قتل المتوكل غيلة ثم قتل المعتز ثم المستعين والمهتدي وضعف شأن الخلافة توثب ابنا الصفار إلى أن أخذا خراسان بعد أن كانا يعملان في النحاس وأقبلا لأخذ العراق وقلع المعتمد. وتوثب طرقي داهية بالزنج على البصرة وأباد العباد ومزق الجيوش وحاربوه بضع عشرة سنة إلى أن قتل وكان مارقاً بلغ جنده مئة ألف.

 

فبقي يتشبه بهؤلاء كل من في رأسه رئاسة ويتحيل على الأمة ليرديهم في دينهم ودنياهم فتحرك بقوى الكوفة رجل أظهر التعبد والتزهد وكان يسف الخوص ويؤثر ويدعو إلى إمام أهل البيت فتلفق له خلق وتألهوه إلى سنة ست وثمانين فظهر بالبحرين أبو سعيد الجنابي وكان قماحاً فصار معه عسكر كبير ونهبوا وفعلوا القبائح وتزندقوا وذهب الأخوان يدعوان إلى المهدي بالمغرب فثار معهما البربر إلى أن ملك عبد الله الملقب بالمهدي غالب المغرب وأظهر الرفض وأبطن الزندقة وقام بعده ابنه ثم ابن ابنه ثم تملك المعز وأولاده مصر والمغرب واليمن والشام دهراً طويلاً فلا حول ولا قوة إلا بالله. وفي سنة ثمانين: أخذ المعتضد محمد بن سهل من قواد الزنج فبلغه أنه يدعو إلى هاشمي فقرره فقال: لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه فقتله. وعاثت بنو شيبان فسار المعتضد فلحقهم بالسن فقتل وغرق ومزقهم وغنم العسكر من مواشيهم ما لا يوصف حتى أبيع الجمل بخمسة دراهم وصان نساءهم وذراريهم ودخل الموصل فجاءته بنو شيبان وذلوا فأخذ منهم رهائن وأعطاهم نساءهم ومات في السجن المفوض إلى الله وقيل: كان المعتضد ينادمه في السر.

 

قيل: كان لتاجر على أمير مال فمطله ثم جحده فقال له صاحب له: قم معي فأتى بي خياطا في مسجد فقام معنا إلى الأمير فلما رآه هابه ووفاني المال فقلت للخياط: خذ مني ما تريد فغضب فقلت له: فحدثني عن سبب خوفه منك قال: خرجت ليلة فإذا بتركي قد صاد امرأة مليحة وهي تتمنع منه وتستغيث فأنكرت عليه فضربني فلما صليت العشاء جمعت أصحابي وجئت بابه فخرج في غلمانه وعرفني فضربني وشجني وحملت إلى بيتي فلما تنصف الليل قمت فأذنت في المنارة لكي يظن أن الفجر طلع فيخلي المرأة لأنها قالت: زوجي حالف علي بالطلاق أنني لا أبيت عن بيتي فما نزلت حتى أحاط بي بدر وأعوانه فأدخلت على المعتضد فقال: ما هذا الأذان فحدثته بالقصة فطلب التركي وجهز المرأة إلى بيتها وضرب التركي في جوالق حتى مات ثم قال لي: أنكر المنكر وما جرى عليك فأذن كما أذنت فدعوت له وشاع الخبر فما خاطبت أحداً في خصمه إلا أطاعني وخاف. وفيها: ولد بسلمية القائم محمد بن المهدي العبيدي الذي تملك هو وأبوه المغرب. وفيها: غزا صاحب ما وراء النهر إسماعيل بن أحمد بن أسد بلاد الترك وأسر ملكهم في نحو من عشرة آلاف نفس وقتل مثلهم وزلزلت ديبل فسقط أكثر البلد وهلك نحو من ثلاثين ألفاً ثم زلزلت مرات ومات أزيد من مئة ألف. وغزا المسلمون أرض الروم فافتتحوا ملورية. وفي سنة إحدى وثمانين ومئتين: غارت مياه طبرستان حتى لأبيع الماء ثلاثة أرطال بدرهم وجاعوا وأكلوا الميتة.

 

وفيها: سار المعتضد إلى الدينور ورجع ثم قصد الموصل لحرب حمدان بن حمدون جد بني حمدان وكانت الأعراب والأكراد قد تحالفوا وخرجوا فالتقاهم المعتضد فهزمهم فكان من غرق أكثر ثم قصد ماردين فهرب منه حمدان فحاصر ماردين وتسلمها ثم ظفر بحمدان فسجنه ثم حاصر قلعة للأكراد وأميرهم شداد فظفر به وهدمها وهدم دار الندوة بمكة وصيرها مسجداً. وفي سنة اثنتين وثمانين أبطل المعتضد وقيد النيران وشعار النيروز.

 

وقدمت الندى بنت صاحب مصر مع عمها وقيل: مع عمتها العباسة فدخل بها المعتضد فكان جهازها بأزيد من ألف ألف دينار وكان صداقها خمسين ألف دينار وقيل: كان في جهازها أربعة آلاف تكة مجوهرة وكانت بديعة الحسن جيدة العقل قيل: خلا بها المعتضد يوماً فنام على فخذها قال: فوضعت رأسه على مخدة وخرجت فاستيقظ فناداها وغضب وقال: ألم أحلك إكراماً لك فتفعلين هذا قالت: ما جهلت إكرامك لي ولكن فيما أدبني أبي أن قال: لا تنامي بين جلوس ولا تجلسي مع النائم. ويقال: كان لها ألف هاون ذهب.

 

وفيها: قتل خمارويه صاحب مصر والشام غلمانه لأنه راودهم ثم أخذوا وصلبوا وتملك ابنه جيش فقتلوه بعد يسير وملكوا أخاه هارون وقرر على نفسه أن يحمل إلى المعتضد في العام ألف ألف دينار وخمس مئة ألف دينار.

 

وفيها: قتل المعتضد عمه محمداً لأنه بلغه أنه يكاتب خمارويه.

 

وفي سنة ثلاث وثمانين ومئتين: سار المعتضد إلى الموصل لأجل هارون الشاري وكان قد عاث وأفسد وامتدت أيامه فقال الحسين بن حمدان للمعتضد: إن جئتك به فلي ثلاث حوائج قال: سمها قال: تطلق أبي والحاجتان: أذكرهما إذا أتيت به قال: لك ذلك قال: وأريد أن أنتقي ثلاث مئة بطل قال: نعم ثم خرج الحسين في طلب هارون فضايقه في مخاضة والتقوا فانهزم أصحاب هارون واختفى هو ثم دل عليه أعراب فأسره الحسين وقدم به وخلع المعتضد على الحسين وطوقه وسوره وعملت الزينة وأركب هارون فيلاً وازدحم الخلق حتى سقط كرسي جسر بغداد وغرق خلق ووصلت تقادم الصفار منها مئتا حمل مال وكتبت الكتب إلى الأمصار بتوريث ذوي الأرحام.

 

وفيها: غلب رافع بن هرثمة على نيسابور وخطب بها لمحمد بن زيد العلوي فأقبل الصفار وحاصره ثم التقوا فهزمه الصفار وساق خلفه إلى خوارزم فأسر رافعاً وقتله وبعث برأسه إلى المعتضد وليس هو بولد لهرثمة بن أعين بل ابن زوجته. قال ابن جرير: وفي سنة: عزم المعتضد على لعنة معاوية على المنابر فخوفه الوزير فلم يلتفت وحسم مادة اجتماع الشيعة وأهل البيت ومنع القصاص من الكلام جملة وتجمع الخلق يوم الجمعة لقراءة ما كتب في ذلك وكان من إنشاء الوزير فقال يوسف القاضي: راجع أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين تخاف الفتنة فقال: إن تحركت العامة وضعت السيف فيهم قال: فما تصنع بالعلوية الذين هم في كل قطر قد خرجوا عليك فإذا سمع الناس هذا من مناقبهم كانوا إليهم أميل وأبسط ألسنة فأعرض المعتضد عن ذلك وعقد المعتضد لابنه علي المكتفي فصلى بالناس يوم النحر.

 

وفي سنة ست: سار المعتضد بجيوشه فنازل آمد وقد عصى بها ابن الشيخ فطلب الأمان فآمنه وفي وسط العام جاء الحمل من الصفار فمن ذلك أربعة آلاف ألف درهم.

 

وفيها: تحارب الصفار وابن أسد صاحب سمرقند وجرت أمور ثم ظفر ابن أسد بالصفار أسيراً فرفق به واحترمه وجاءت رسل المعتضد تحث في إنفاذه فنفذ وأدخل بغداد أسيراً على جمل وسجن بعد مملكة العجم عشرين سنة ومبدأه: كان هو وأخوه يعقوب صانعين في ضرب النحاس وقيل: بل كان عمرو يكري الحمير فلم يزل مكارياً حتى عظم شأن أخيه يعقوب فترك الحمير ولحق به وكان الصفار يقول: لو شئت أن أعمل على نهر جيحون جسراً من ذهب لفعلت وكان مطبخي يحمل على ست مئة جمل وأركب في مئة ألف ثم صيرني الدهر إلى القيد والذل فيقال: إنه خنق عند وفاة المعتضد.

 

وبني المعتضد على البصرة سوراً وحصنها.

 

وظهر بالبحرين رأس القرامطة أبو سعيد الجنابي وكثرت جموعه وانضاف إليه بقايا الزنج وكان كيالاً بالبصرة فقيراً يرفو الأعدال وهم يستخفون به ويسخرون منه فآل أمره إلى ما آل وهزم عساكر المعتضد مرات وفعل العظائم ثم ذبح في حمام قصره فخلفه ابنه سليمان الذي أخذ الحجر الأسود وقتل الحجيج حول الكعبة وهو وجد أبي علي الذي غلب إلى الشام وهلك الرملة في سنة خمس وستين وثلاث مئة.

 

وفي سنة سبع: استفحل شأن القرامطة وأسرفوا في القتل والسبي والتقى الجنابي وعباس الأمير فأسره الجنابي وأسر عامة عسكره ثم قتل الجميع سوى عباس فجاء إلى المعتضد وحده في أسوا حال.

 

ووقع الفناء بأذربيجان حتى عدمت الأكفان جملة فكفنوا في اللبود.

 

واعتل المعتضد في ربيع الآخر ثم تماثل وانتكس فمات في الشهر وقام المكتفي لثمان بقين من الشهر وكان غائباً بالرقة فنهض بالبيعة له الوزير القاسم بن عبيد الله.

 

وعن وصيف الخادم قال: سمعت المعتضد يقول عند موته:

 

تمتع من الدنيا فـإنـك لا تـبـقـى

 

وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا

ولا تأمنن الـدهـر إنـي أمـنـتـه

 

فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حـقـا

قتلت صناديد الـرجـال فـلـم أدع

 

عدواً ولم أمهل على ظنه خـلـقـا

وأخليت دور الملك من كـل بـازل

 

وشتتهم غرباً ومزقتـهـم شـرقـا

فلما بلغت الـنـجـم عـزاً ورفـعة

 

ودانت رقاب الخلق أجمع لي رقـا

رماني الردى سهماً فأخمد جمرتـي

 

فها أناذا في حفرتي عاجلا ملـقـى

فأفسـدت دنـياي ودينـي سـفـاهة

 

فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقـى

فياليت شعري بعد موتـي مـا أرى

 

إلى رحمة لـلـه أم نـاره ألـقـى

 

وقال الصولي: قال المعتضد:

 

يا لا حظي بالفتـور والـدعـج

 

وقاتلي بـالـدلال والـغـنـج

أشكو إليك الذي لقـيت مـن ال

 

وجد فهل لي إليك مـن فـرج

حللت بالظروف والجمال من النا

 

س محل العـيون والـمـهـج

 

وكانت خلافة المعتضد تسع سنين وتسعة أشهر وأياماً ودفن في دار الرخام.

ولعبد الله بن المعتز يرثيه:

 

يا ساكن القبر في غبراء مظلـمة

 

بالظاهرية مقصى الدار منفـردا

أين الجيوش التي قد كنت تسحبها

 

أين الكنوز التي أحصيتها عـددا

أين السرير الذي قد كنت تملـؤه

 

مهابة من رأته عينـه ارتـعـدا

أين الأعادي الأولى ذللت مصعبهم

 

أين الليوث التي صيرتها بـعـدا

أين الجياد التي حجلـتـهـا بـدم

 

وكن يحملن منك الضيغم الأسـدا

 

 

أين الرماح التي غذيتها مهجاً مذ مت ما وردت قلباً ولا كبدا  

أين الجنان التي تجري جداولهـا

 

وتستجيب إليها الطائر الغـردا

أين الوصائف كالغـزلان رائحة

 

يسحبن من حلل موشية جـددا

أين الملاهي وأين الراح تحسبها

 

ياقوته كسيت من فـضة زردا

أين الوثوب إلى الأعداء مبتغـياً

 

صلاح ملك بني العباس إذ فسدا

مازلت تقسر منهم كل قسـورة

 

وتخبط العالي الجبار معتـمـدا

ثم انقضيت فلا عـين ولا أثـر

 

حتى كأنك يوماً لم تكـن أحـدا

 

وقد ولي الخلافة من بنيه: المكتفي علي والمقتدر جعفر والقاهر محمد وله عدة بنات وهارون.

 

وجاء في "الكامل في التاريخ" لابن الأثير المؤرخ:

" في هذه السنة في ربيع الآخر توفي المعتضد بالله أبوالعباس أحمد بن الموفق بن المتوكل ليلة الاثنين لثمان بقين منه وكان مولده في ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين ومائتين‏.‏

 

ولما اشتد مرضه اجتمع القواد منهم يونس الخادم وموشكير وغيرهما وقالوا للوزير القاسم بن عبيد الله ليجدد البيعة للمكتفي وقالوا‏:‏ إنا لا نأمن فتنة فقال‏:‏ إن هذا المال لأمير المؤمنين ولولده من بعده وأخاف أن أطلق فيبرأ من علته فينكر علي ذلك‏.‏

 

فقال‏:‏ إن برئ من مرضه فنحن المحتجون والمناظرون وإن صار الأمر إلى ولده فلا يلومنأن

 

فأطلق المال وجدد عليه البيعة وأحضر عبد الواحد بن الموفق وأخذ عليه البيعة فوكل به وأحضر ابن المعتز ومضى ابن المؤيد وعبد العزيز بن المعتمد ووكل بهم‏.‏

 

فلما توفي أحضر يوسف بن يعقوب وأبا حازم وأبا عمر محمد بن يوسف بن يعقوب فتولى غسله محمد بن يوسف وصلى عليه الوزير ودفن ليلًا في دار محمد بن طاهر وجلس الوزير في دار الخلافة للعزاء‏.‏

 

وجدد البيعة للمكتفي‏.‏

 

وكانت أم المعتضد واسمها ضرار قد توفيت قبل خلافته وكانت خلافته سبع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يومًا وخلف من الولد الذكور‏:‏ عليًا وهوالمكتفي وجعفرًا وهوالمقتدر وهارون ومن البنات إحدى عشرة بنتا وقيل سبع عشرة ولما حضرته الوفاة أنشد‏:‏ تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا ولا تأمن الدهر إن قد أمتنه فلم يبق لي حالًا ولم يرع لي حقًا قتلت صناديد الرجال ولم أدع عدوًا ولم أمهل على طغيه خلقا وأخلبت دار الملك من كل نازع فشردتهم غربًا ومزقتهم شرقا فلما بلغت النجم عزًا ورفعةً وصارت راقاب الخلق أجمع لي رقا رماني الردى سهمًا فأخمد جمرتي فها أنا ذا في حفرتي عاجلًا ألقي فيا ليت شعري بعد موتي ما ألقى إلى نعم الرحمن أم ناره ألقى.

 

كان المعتضد اسمر نحيف الجسم معتدل الخلق قد وخطه الشيب وكان شهما شجاعا مقداما وكان ذا عزم وكان فيه شح بلغه خبر وصيف خادم ابن أبي الساج وعليه قباء اصفر فسار من ساعته وظفر بوصيف وعاد فدخل أنطاكية وعليه القباء فقال بعض أهلها‏:‏ الخليفة بغير سواد فقال بعض أصحابه‏:‏ إنه سار فيه ولم ينزعه إلى الآن‏.‏

 

وكان عفيفًا‏.‏

 

حكى القاضي إسماعيل بن إسحاق قال‏:‏ دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه فأطلت النظر إليهم فلما قمت أمرني بالقعود فجلست فلما تفرق الناس قال‏:‏ يا قاضي والله ما حللت سراويلي على غير حلال قط‏.‏

 

وكان مهيبًا عند أصحابه يتقون سطوته ويكفون عن الظلم خوفًا منه‏".‏

 



المعتصم
العباس
القرامطة
الكوفة
البحرين
مصر