سليم الحص

ولد سليم احمد الحص في العشرين من كانون الأول 1929 في حَي زقاق البلاط من بيروت. والدته وداد الحص. كان والده صيدليا.

 

سليم الحص يروي قصة حياته:

توفي والدي ولي من العمر سبعة أشهر . وقد ترك لنا مصدراً للرزق هو مبنى من طابقين في محلّة زقاق البلاط قِوامه بيتان وثلاثة محلات تجارية ، كلّها مؤجّرة . وما لبِثنا أن غادرنـا البيت الذي كُنّا نشغله في المبنى لنُقيم في بيتٍ صغير جِداً عائد لجدّتي وعلى مقرُبة من مكان إقامتها.

 

عِشنا في حالٍ من الضِيق الشديد إذ كان على والدتي أن تتحمّل من دخلنا المحدود جِداً نفقات معيشتنا والأقساط المدرسية للأطفال الخمسة . وقد بدأت دراستي في مدرسة المقاصد الخيرية الإسلامية للبنات إذ كانت شقيقتاي تصطحباني إليها صباح كل يوم ، وكان الأطفال الذكور يُقبلون في مرحلة الحضانة فقط في مدرسة مُخصّصة للبنات . وفي سنتي الثانية انتقلت إلى مدرسة المقاصد الخيرية الإسلامية للصبيان في منطقة حرج بيروت ، وكنت أتوجّه إليها بصحبة أخي أنيس في سيّارة صغيرة كانت تُحمِّل نحو عشرة أطفال مُكدّسين تكديساً شديداً .

 

وكانت خالتي العانس دريّة الحص ترعى أسرتنا وتُحيطنا بكثيرٍ من العطف ، وكانت تخصّني شخصياً بمحبّة خاصّة ، رُبّما لكوني الأصغر سِــنّاً . وكانت والدتي عندما ترمّلت في السابعة والعشرين من العمر .

 

كنت أتلقّى من والدتي مُخصّصاً عند خروجي إلى المدرسة يومياً مِقداره نصف قرش ، وكنت أشتري به بسكويت وراحة الحلقوم . وأذكر يوماً أنني كنت خارجاً إلى المدرسة وسمعت والدتي تهمس في أذن خالتي أن النقود نفذت كُليّاً من يدها ولم يعُد لديها قرش واحد . فما أن سمعت هذا الكلام حتى بادرت إلى إخراج نصف القرش من جيبي وقدّمته لوالدتي . فضحِكت والدتي ضحكة حزينة وأشارت عليّ بالاحتفاظ به ، فهي تستطيع أن تتدبّر أمرها .

 

خالتي دريّة لم تُعمّر طويلاً فقضت نحبها وأنا طفلٌ صغير . فكان مصابي بفقدانها كبيراً. 

لم أَكُن من المُجلّين بين تلاميذ صفّي . وأذكُر أنّني أتيت البيت يوماً وقد فاتني أن أُسجّل ما كان متوجّباً عليّ . فساقتني خالتي إلى منزل زميلي في الصفّ جميل كبّي لنستفسر منه ما كان متوجّباً. فإذا به غارقٌ في نومٍ عميق . ولدى إيقاظه اكتشفنا أنّ حالهُ كانت كحالي .

 

في العام 1941 ، أي في السنة الثالثة من الحرب العالمية الثانية ، هاجمت القوات البريطانية لبنان من الجنوب ، قادِمةً من فلسطين ، لاقتلاع القوات الفرنسية المرابطة في لبنان . وكانت الأجواء اللبنانية مسرحاً للغارات الجوية اليومية صيف العام 1941 . وقد نزح كثيرُ من سكّان بيروت إلى الجبال لقضاء موسـم الصيف تجنُّباً لأخطار العمليات الحربية التي تركّزت في شكلٍ أساسي على العاصمة بيروت . فاستأجرت جدّتي منزلاً في بلدة صوفر ، واصطحبتنا جميعاً ، فأقمنا في الطابق الثاني ، أما الطابق الأرضي فكان يشغله أصحاب الملك من آل فليحان .

 

كان هؤلاء يحتفظون بخروف ، فوقعت في غرام هذا الخروف وانكببت على إطّعامه بيدي وتنظيفه واصطحابه في نزهاتٍ كنت أقوم بها حول المنزل سيراً على قدميّ . هذا الخروف أَسَرَ مِنّي لُبّي . ومن سوء الطالع أن أصحاب الخروف عمدوا إلى ذبحه بنهاية موسم الصيف . فكان لذلك المشهد أبلغ الأثر في نفسي ، ومنذ ذلك اليوم وأنا مُستنكِفٌ عن أكل اللحوم إلاّ في حالات استثنائية . ولم ألبثّ وأنا في الثلاثين من عمري أن انقلبت نباتياً مُتشدّداً ، لا أتقبّل أي نوعٍ من أنواع اللحوم في أيِّ شكلٍ من الأشكال ، وشملت في امتناعي عن أكل اللحوم لحوم الغنم والبقر والدجاج والأسماك وأمضيت بقيّة حياتي كذلك .

 

كان لي خالة ثانية اسمها نجلا الحص ، متزوّجة من ابن عمّها حسن الحص . وعند دخول القوات البريطانية بيروت سنحت لحسن الحـــص فرصة العمل متعهّداً للأشغال مع الجيش البريطاني ، وأثرى من عمله هذا . في السنة التالية قرّر حسن الحص وعائلته تمضية موسم الصيف في بلدة حمانا ، وقد استأجر لنا منزلاً مُجاوراً لنمضي فصل الصيف إلى جانبه نظراً لما كانت خالتي تكّنُّ لنا من المحبّة .

 

خلال ذلك الصيــف فاتحتُ أمي برغبتي في الانتقال من مدرسة المقاصد الخيرية إلى ابتدائية الآي سي في رأس بيروت بدافِع الرغبة في تعلُّم الإنكليزية بدلاً من الفرنسية التي كنت أتلقنها في مدرسة المقاصد ، فكان ردّ والدتي : الآي سي تستوجِب كثيراً من المال وهذا ما لا نملكه . سمعت ابنة خالتي ، صفية الحص (التي أضحَت فيما بعد زوجة لعثمان الدنا) ، ما قالته أمي فبادرت إلى التبرُّع بتمويل دراسـتي في الآي سي. هكذا انتقلت إلى الدراسة في الآي سي ، وخسرت في هذا السياق سنة من تدرّجي ، إذ كان عليّ أن أبدأ باللغة الإنكليزية من نقطة الصفر .

 

بمُجرّد انتقالي إلى مدرسة جديدة بناء على طلبي وعلى نفقة ابنة خالتي ، بِتُّ أشعُر بالمسؤولية فانقلبت من طالب متوسّط الأداء أو دونه إلى طالب مُجِلٍّ . وبقيت كذلك حتى تخرّجي من الجامعة .

 

تولّت ابنة خالتي شأن مصاريفي المدرسية طِوال أربعة أعوام . ثم انقطعت عن ذلك بعد وفاة خالي كمال الحص الذي كان ميسور الحال فورثتّ جدّتي (أي والدته) منه بعض التركة ، فتولّت جدّتي أمري وقامت بكل أعبائي الدراسـية حتى نهاية سنة الفرشمن (السنة الأولى في الجامعة الأميركية في بيروت.

 

المرحلة الثانوية والجامعية

كنت من المتفوّقين في المرحلة الثانوية من دراستي ، فقررت أن أختصر دراستي سنة فقصدت نائب مدير الآي سي آنذاك الأستاذ فايز أسعد (وكان المدير أميركياً اسمه لسلي لفيت) وعرضت أمامه رغبتي في إتمام سنتين دراسيتين في سنة واحدة وإنما مع مواصلة الدراسة في المدرسة الصيفية لتعويض ما قد يفوتني . فلقيت منه تشجيعاً . هكذا تدرّجت في سنة واحدة من الأول ثانوي إلى الثالث .

 

لدى بلوغي المرحلة الجامعية كانت جدتي قد أضحت غير قادرة على تحمّل نفقات دراستي . فتعهّدت نفسي بنفسي ، فكنت أحصل من الجامعة على عونٍ مالي بفضل سجلّي الدراسي المتميّز ، فكانت قيمة العون تُحسم من الأقساط المترتّبة عليّ . وكنت أُسدّد الرصيد المتوجّب عليّ مِمّا كنت أجنيه من عمل حصلت عليه بفضل رئيس دائرة العلوم التجارية الشيخ سعيد حمادة ، فكنت أعمل ناظِراً على بعض الامتحانات أو مساعداً لأساتذة الدائرة في تصحيح أوراق الامتحانات بناءً على إجابات كان الأساتذة يُزوّدوني بها . وكنت أتقاضى 125 قرشاً على كل ساعة عمل في حدود العشـر ساعات أسبوعياً كحدٍّ أقصى . هكذا كنت أُغطّي كل مصاريف دراستي الجامعية ، وعند تخرّجي بدرجة بكالوريوس (التي نلتها بتفوّق) وجدتُ في حسابي لدى صندوق الجامعة رصيداً ضئيلاً سحبته .

 

كنت خلال مرحلة دراسـتي الثانوية أعتزم التخصص في الجامعة بالأدب العربي . ولكن مع اقتراب موعد انتقالي إلى المرحلة الجامعية فاتحتني والدتي ، ومعها شقيقاتي وصهري سامي ، زوج شقيقتي زينب ، بالقول : " نحن في انتظار الفرج مادياً مع تخرُّجك من الجامعة ، فماذا ستجني من دراسة الأدب العربي ؟" . سألت لتوّي أصدقائي أين سيتوجّهون، وكان بينهم سميح البابا وأحمد الرفاعي . فقرّرت أن أذّهب حيث يذهبون ، فاخترت خطّ الاقتصاد وإدارة الأعمال وانتسبت إلى دائرة العلوم التجارية . وتخرّجت منها عام 1952 بتفوّق .

 

"مطحنة حامد"

أذكر أنّني ، إذ كنت في صفّ السوفومور (السنة الجامعية الثانية) ، سعيت إلى الحصول على عملٍ خلال الصيف ، فتوجّهت إلى وست هول داخل الجامعة لأطالع الإعلانات المُعلّقة على لوحة . كانت هناك إمكانية للعمل عاملاً في حدائق الجامعة . طلبت العمل في هذا المجال فقيل لـــي أنّــهم ارتبطوا مع سِواي ولم يعُــد ثمـــّة مجــال لــي . فاستوقفني إعلان آخر بإجراء مسابقة لأفضل مسرحية ريفيّة تنظّـمهــا جمعــية إنعــاش القرية .

 

فعكفت على إعداد مسرحية عن الحياة الريفية في لبنان بعنــوان " مطحنــة حامِد " ، وقدّمتها إلى مكتب مبنى وست هول في الجامعة . فجاءني إشعار قُبيل نهاية عطلة الصيف من الجمعية يُبلغني أنّني فزت بالجائزة الثانية وقيمتها 45 ليرة . سألت عن الفائز الأول فكان الكاتب المعروف عمر أبو النصر .

 

في الشهر الأخير من دراستي وقبل تخرّجي تناهى إليّ أنّ شركة التابلاين لنقل البترول تحتاج إلى موظّفين . فتقدّمت بطلب للعمل لديها ، فقُبل طلبي . وعملت في هذه الشركة مُحاسباً نحو السنتين ، تلقّيت بنهاية هذه الفترة عرضاً من غرفة التجارة والصناعة ، فالتقطه لأعمل في هذه الغرفة مراسلاً أتولّى تحرير الرسائل باسم المؤســـــسة . وكان سبب حصولي على هذا المنصِب في غرفة بيروت الأستاذ برهان الدجاني ، الذي كان أستاذي في الجامعة وكنت لم أزلّ أتلقّى العلم على يديه لنيل الماجستير .

 

"جائزة شركة سابا"

وكنت عند تخرّجي قد فزتُ بأول جائزة يمنحها مكتب سابا وشركاه للمحاسبة وتدقيق الحسابات، وكان قد خصّص جائزة سنوية للمُتخرِّج الذي يحوز أرفع معدّل في مواد المحاسبة وتدقيق الحسابات في الجامعة الأميركية في بيروت . فأقام صاحب المكتب الأستاذ فؤاد سابا حفلاً في مكتبه لتسليمي الجائزة ، وهي مبلغ ثلاثماية ليرة . فقبضت المبلغ وهرعت لِتوّي إلى شراء غسّالة كهربائية لوالدتي التي كانت تقوم بأعمال الغسل بيديها .

وعند تخرّجي تلقّيت هديّة من ابنة خالتي صفيّة الحص هي جهاز راديو ، وكان أوّل جهاز راديو يدخل منزلي . وكنت أهوى الموسيقى وأستمِع إليها من راديوات الجيران التي كانت تصلني أصواتها من النافذة ، وكنت أحياناً أقصِد منزل شقيقتي زينب ، قرينة سامي الحص ، لأستمع إلى برنامج " ما يطلبه المستمعون " وكنت مأخوذاً بأغاني محمد عبد الوهاب .

 

زواجي

تعرّفت خلال وجودي في غرفة التجارة والصناعة إلى ليلى فرعون ، التي كانت تطبع الرسائل التي أُحرّرها . ونَمَت صِلة المحبّة بيننا فكان أن تزوّجتها في العام 1957 . ورُزقت منها ابنة وحيدة هي وداد .

 

استاذ في الجامعة الاميركية

لازمتني زوجتي ليلى عن كثب ، فكانت تُشـجّعني على التقدّم في ميدان العلم ، وكانت هي التي طبعت أطروحتي للماجستير ، كما طبعت فيما بعد أطروحتي للدكتوراه . وكانت تحوطني بمحبّتها ورِعايتها في حلّي وترحالي . بعد سنة من وجودي في غرفة التجارة ناداني أستاذي الشيخ سعيد حمادة وعرض عليّ مُباشرةً التدريس في الجامعة ، فحللت في منصبي الجامعي محلّ أستاذي موسى الحسيني الذي غادر الجامعة إلى أميركا بإجازة لمتابعة التحصيل العلمي لنيل الدكتوراه . فباشرت التدريس في الجامعة في العام 1955 ، ولم أكُن يومذاك حائزاً إلاّ على البكالوريوس ، فقمت بتدريس مواد المحاسبة على شتّى درجاتها ، بما في ذلك مادّة المحاسبة العُليا التي كانت تُعطى لطلاّب السنة الأخيرة . ونلت الماجستير خلال تلك المرحلة في العام 1957.

 

دعاني الشيخ سعيد حمادة للقائه خلال العام 1958 ، هو عام الأزمة الدامية في لبنان ، وقال لي : " إنّك لن تُرقّى إلى رتبة أســتاذ إلاّ إذا حزت على الدكتوراه ، فعليــك بهــا . " وكنت قد بدأت التدريس برتبة مساعد مُعيد ثم برتبة مُعيد . فبادرته بالقول : " ولكنّني يا أســـتاذي لا أملُك الإمكانات المادية لمتابعة الدراسة في أميركا . " فقال لي : " دَعّ الأمر لي " : فكان أن أمّن لي الشيخ سعيد حمادة مُساعدة من مؤسسة روكفلر ، ضمنت لي ولزوجتي وابنتي الطفلة التمويل اللازم لنفقات سـفرنا وإقامتنا في الولايات المتحدة الأميركية والأقساط الجامعية . وكانت المؤسسة هي التي اقترحت عليّ التوجّه إلى جامعة أنديانا باعتبارها من الجامعات القليلة في أميركا التي تُقــدّم برنامجاً مَزيجاً من الاقتصاد وإدارة الأعمال . في خلال وجودي في أميركا تكاثَرَت عليّ الأعباء الصحّية لكوني أَشكو من مرض الربو ، وقد تتالَت عليّ الأزمات الصدريّة في أميركا ، ربما بسبب الضغط الشديد الذي كنت أعمل في ظلّه سعياً لإنجاز برنامج دراستي في أقصر مُدّة مُمكِنة لأعود بعدها للتدريس في الجامعة الأميركية في بيروت التي منحتني إجازة غير مدفوعة لإتمام دراستي . وقد تَناهى إلى مؤسسة روكفلر بعد حين سوء وضعي المالي فكتب لي المسؤول عنّي في المؤسسة مُعاتِباً لكوني لم أشعرهم بحالي . وأرفق كتاب العِتاب بمبلغ من المال أنقذني من الضائقة التي كنت أرزح تحت وطأتها .

 

شهادة الدكتوراه

وبنهاية السنة الأولى من دراستي في جامعة أنديانا كان عليّ أن أنتقِل إلى العاصمة واشنطن لإجراء الدراسة المطلوبة لأطروحة الدكتوراه ، وذلك في مكتبة الكونغرس ، وهي من أكبر مكتبات العالم . كتبتُ إلى مؤسسة روكفلر في هذا الشأن فقدّموا لي التمويل اللازم لانتقالي وعائلتي إلى واشنطن مع زيادة في المخصص الشهري الذي كنت أتقاضاه نظراً إلى أنّ أعباء المعيشة في واشـنطن كانت أعلى منها في أنديانا . وكان موضوع أطروحتي : " الدور الذي يمكن أن يقوم به مصرف مركزي في لبنان " . ولم يكُن قد أنشئ مثل هذا المصرف في لبنان .

 

أنجزت دراستي الأكاديميّة في خلال سنة (1959- 196) وأنجزت الأطروحة في خلال سنة أخرى ، فنلتُ الدكتوراه في العام 1961 . وعدتُ لتوّي للتدريس في الجامعة الأميركية في بيروت ، فدرّست اقتصاد الأعمال والاقتصاد الهندسي والاقتصاد الكُلّي والمحاسبة.

 

عملي في الكويت

في العام 1963 - 1964 شَغر منصب رئاسة دائرة الأعمال فأُسـندت إليّ هذه المهمّة . وفي هذه الأثناء وردني عرض من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية في الكويت لتولّي مهمّة المستشار المالي للصندوق لسنة واحدة قابِلة للتجديد . وقد جاءني العرض بواسـطة صديقَــيّ عدنان محوك وصائب الجارودي اللذين كانا يعملان في الصندوق . فدار سِجالٌ طويل بين زوجتي ليلى وبيني حول جدوى قبول العَرض ، وكانت هي غير راضية عن العَيش في الكويت . فاتفقت معها على الاحتكام إلى أستاذي الشيخ سـعيد حمادة .

 

وقد قمت وزوجتي بزيارته في منزله وعَرضنا أمامه المسألة . فبادرني بالسؤال : " هَلّ لديك شِقّة خاصّة بِك " . وعندما أجبته بالنَفي قال : " عليك بقبول العَرض ، عَسى أن تستطيع جَمع بعض المال لشراء شِقّة " . فرضَخَت زوجتي لنصيحة الشيخ سعيد وتَوجّهنا إلى الكويت . 


كان رئيس الصندوق آنذاك الشيخ جابر الأحمد بصفته وزيراً للمال ، وهو الذي أضحى فيما بعد أميراً للكويت . وكان مدير عام الصندوق عبد اللطيف الحمد الذي غدا فيما بعد رئيساًً للصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي ، وهو رجلٌ مُتميِّز في ذكائه وسُمو أخلاقه وإخلاصه للقضايا العربية .

 

سُعِدت زوجتي ليلى كثيراً بالحياة في الكويت ، حتى أنّها ، بنهاية السنة الأولى من إقامتي هُناك كانت هي التي طَلَبت مِنّي البَقاء سنة ثانية ، وكانت هي التي طَلبَت مِنّي ، بنهاية السنة الثانية، البَقاء في الكويت صيف العام 1966 في انتظار افتتاح العام الدراسي 1966 - 1967 في الجامعة الأميركية في بيروت .

 

منزلي في الدوحة

تأمّن لي في الكويت من المُدّخرات ما مَكنّني ، لدى عودتي إلى بيروت ، من شراء عقار في منطقة الدوحة ، جنوبي العاصمة ، واستدنت من مصرف لبـــنان ، بعد تعييني رئيساً للجنة الرقابة على المصارف ، مبلغاً مَكنّني من إتمام بناء منزلي هُناك . وقد زارني الشيخ سعيد حمادة في منزلي الجديد قُبيل نهاية العام 1968 ، فجال بنظرِه في أرجاء المنزل وقال: " أشــــرتُ عليك بادخار ما يكفي لشـراء شِقّة ، ولم أطلُبّ إليك تشييد مثل هذا البيت " .

 

لدى عودتي إلى بيروت من الكويت انفجرت أزمة بنك أنترا ، فكان زلزالاً مصرفياً نجمت عنه تداعيات بعيدة الأثر على الاقتصاد الوطني اللبناني . وكان مدير عام وزارة المال الدكتور خليل سالم ، وكان من أعزّ أصدقائي . وكان رئيس الوزراء ، الدكتور عبد اللَّه اليافي ، هو وزير المال . فشكّل لجنة للنظر في الحلول المُمكِنة لأزمة أنترا ، وذلك برئاسة الدكتور سالم وعضويّتي والمحامي سامي الشمّاس . ولقد طرحت في هذه اللجنة أوّل ما طرحت فِكرة تحويل ودائع المصرف المُتعثِّر إلى أسهُم في رأسمال شركة مالية تقوم على أنقاض المصرف . وهو الحَلّ الذي اعتمد في نهاية المطاف .

 

وقد أشرَكَني صديقي الدكتور سالم في المناقشات التي كانت دائرة حول تشريع يُعَدّ لإصلاح الوضع المصرفي ، فصدر القانون 28/67 الذي نصّ على إنشاء لجنة للرقابة على المصارف لدى مصرف لبنان وإنما بالاستقلال الإداري عن مصرف لبــنان ، كما نصّ على نظام جديد لوضع اليد على المصارف المُتعثّرة بهدف تصفيتها من دون الإســاءة إلى مصالح المودعين أو إلى الوضع المصرفي العام .

 

رئيسا للجنة الرقابة على المصارف

عرض الدكتور خليل سالم عليَّ تولّي رئاسة أول لجنة للرقابة على المصارف ، فرحّبت بالعرض ، وطلبت إجازة غير مدفوعة من الجامعة الأميركية للقيام بهذه المهمّة . وقد أقسمت اليمين القانونية قبل مباشرة العمل وزميليّ عُضوي اللجنة بشارة فرنسيس وفلادو خلاط . وقد تلا اليمين أمام رئيس الجمهورية شارل الحلو الأستاذ إلياس سركيس ، مدير عام غرفة رئاســة الجمهورية ، وتلوناه من بعده . وكان ذلك في اليوم الأول من حرب العام 1967، أي في 5/6/1967 ، وكان الرئيس الحلو مُنشغِل البال بأخبار الحرب فكانت جلسة القَسَم مُختصرة جداً .

 

باشرت العمل رئيساً للجنة الرقابة قبل شهرٍ واحد من تعيين إلياس سركيس حاكِماً لمصرف لبنان . ومن موقعه حاكِماً لمصرف لبنان ، وبهذه الصِفة رئيساً للهيئة المصرفية العُليا التي أُنيط بها أمر إتّخاذ قرارات الإصلاح المصرفي ، ومن موقعي رئيــساً للجنة الرقابة على المصارف ، نَفّذنا ، الأستاذ سركيس وأنا ، برنامجاً واسعاً للإصلاح شـــمل تصفية عدد من المصارف ودمج بعض المصارف بمصارف أخرى وإعادة هيكلة بعض المصارف المُعتلّة خصوصاً لجهة إعادة تكوين رساميلها أو أموالها الخاصة .

 

توطّدت العلاقة بين الحاكم إلياس سركيس وبيني على قاعدة الثِقة المُتبادلة ، فأخذ يستشيرني في شتّى المواضيع الاقتصادية وتلك المتعلّقة بالسياسة النقدية التي يُنفّذها مصرف لبنان .

 

رئيسا ومديرا عاما للمصرف الوطني للانماء الاقتصادي والسياحي

شارَكت في المُباحثات الجارية لإنشاء مصرف للإنماء وفي صياغة النصوص المتعلّقة به . فأنشئ المصرف الوطني للإنماء الاقتصادي والسياحي على أساس المُناصفة في رأسـماله بين الدولة اللبنانية والقطاع المصرفي . وقد اشترطت جمعية مصارف لبنان لدخولها في المشروع أن أكون شخصياً رئيس مجلس إدارة المصرف ومديره العام . فقبِلت المُهمّة ، وكان تعييني بمرسوم وقّعه رئيس الوزراء صائب سلام . فباشرت العمل واتخذت للمصرف مَقراً في ساحة التباريس ، وعكفت فوراً على وضع النصوص الداخلية له واستكمال أجهزته الفنيّة والإدارية ، وأعلنت استعداد المصرف لتقبُّل طلبات التمويل لمشاريع صناعية وسياحية . باشر المصرف عمله بزخمٍ مشـهود ، ولكنني بقيت على اتصال مع حاكم مصرف لبنان إلياس سركيس ، الذي كان يدعوني إلى التشاور معه في شؤون مصرفية واقتصادية ونقدية . فكنت ألقاه يومياً تقريباً.

 

سركيس انقذ حياتي

في العام 1975 انفجرت الأزمة الدامية التي استمرت ما يربو على خمسة عشر عاماً . فبِتنا نُشاهد المسلّحين ، وأكثرهم من حزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار ، ينتشرون مُلثّمين أو مُقنّعين في ساحة التباريس حيث مقرّ المصرف . فكنت كلما نزل هؤلاء إلى الشارع أشاهدهم من نافذة مكتبي ، فأدعو موظّفي المصرف إلى الانصراف خِشـــية تعرّضهم لأيّ مكروه . وذات يوم تلقّيت مكالمة هاتفية من الأستاذ إلياس سركيس قال لي فيها : ماذا أنت فاعِل ؟ فسألته ما إذا كان يُريد منّي شيئاً فقال إنّه في حاجة إليّ لأمرٍ عاجل جداً . فغادرت المصرف لتويّ قاصِداً مصرف لبنان . فما أن خرجت من المصعد على الطابق الذي يضمّ مكتب الحاكم حتى وجدت الأستاذ سركيس في انتظاري أمام المصعد . فلم أتمالك أن أسأله : ما الخطب ؟ فأبلغني أنّه علم أنّ قائد ميليشيا الكتائب وليم حاوي لقي مصرعه ، فدعاني هو إليه ليُبعدني عن المسلّحين المنتشرين في مُحيط التباريس لأنّ الحادث قد يفضي إلى تأزّم الوضع الأمني . فقلت له إنّني تركت الموظّفين في مكاتبهم ويتعيّن عَليّ إنقاذهم . فجلسنا ، الأستاذ سركيس وأنا ، أمام الهاتف وأجرينا الاتصالات اللازمة مع قيادة قوى الأمن الداخلي فتمّ إخراج جميع الموظفين بسلام .

 

تصاعد التأزُّم الأمني يوماً بعد يوم ، ما اضطرني أن أنقطِع عن النزول إلى مكتبي ، وأقفلت المصرف خوفاً على سلامة الموظفين . ولكنّني ما انقطعت عن زيارة صديقي الأستاذ إلياس سركيس.

 

في العام 1976 انتخب إلياس سركيس رئيساً للجمهورية بعد أن عدّل مجلس النواب الدستور لتقريب موعد الانتخاب بضعة أشهر عسى أن يساهم انتخاب رئيس جديد في تهدئة الأوضاع . بالطبع كان على الرئيس المنتخب مُغادرة مصرف لبنان نهائياً إلى منزله في منطقة الحازمية (مار مخايل) المطلّة على مخيّم تلّ الزعتر للاجئين الفلسطينيين حيث كانت تدور أعنف المعارك يومياً .

 

كنت خلال هذه الفترة أُلمّ على صديقي الدكتور خليل ســـــالم ، مدير عام وزارة المال ، الذي كان يقطن في منطقة رأس بيروت . وكنت أتّصل يومياً بالرئيس سركيس ، وكان كثيراً ما يطلب مِنّي موافاته في منزله . فكان عليّ أن أجتاز خطوط التماس (خطوط القتال) عند نقطة مستشفى أوتيل ديو . فكنت أستقِلّ سيارة ابنتي وداد الصغيرة ، وأجتاز بها الطريق الفاصل بين المنطقتين المتقابلتين بأقصى سرعة ، فأجِد اللواء ناصيف في انتظاري أمام حاجز للمسلّحين قرب أوتيل ديو فيصطحبني إلى منزل الرئيس سركيس . وكان يرافقني في طريق العودة إلى نفس النقطة .

 

صباح ذات يوم توجّهت لزيارة صديقي خليل سالم على جاري عادتي ، واتصلنا من لدنه بالرئيس سركيس . ثم خرجنا ، الدكتور ســالم إلى مكتب الوزارة في منطقة الصنائع ، وأنا إلى منزل شقيقتي. بعد ساعات بلغني النبأ المشؤوم ، وهو أنّ الدكتور خليل سالم لم يصِل إلى مكتبه وأنّه مفقود . ثم ما لبثت قوى الأمن أن اكتشفت جثّته في صندوق سيارة مهجورة ، هكذا سقط أعزّ أصدقائي غيلة في تلك الحرب القذرة ، فكان لرحيله أبلغ الأثر في نفسي .

 

في شهر أيلول 1976 عقد مؤتمر قمّة عربي في القاهرة ، فاصطحبني الرئيس سركيس معه ، ولم يكُن قد تسلّم مهامه بعد ، كما لم يكُن لي أيّ صِفة رسميّة آنذاك . فصدر عن القمّة قرارات مهمّة منها قرار بإنشاء قوّة ردع عربية قوامها ثلاثون ألف جندي ، وقرار بإنشاء لجنة رباعية من سفراء المملكة العربية السعودية والكويت ومصر ومندوب عسكري من سوريا ، مهمّتها مساعدة الرئيس اللبناني في تنفيذ اتفاق القاهرة المعقود مع منظمة التحرير الفلسطينية قبل بضع سنوات. وكان تفاهم بين المؤتمرين على إمداد لبنان بالمساعدات المادية لإعادة بناء ما دمّرته الأحداث . كُنّا بعبارةٍ أخرى نعيش أجواء نهاية الأزمة . ولكن الواقع لم يكن كذلك على الإطلاق ، فاستمر التصعيد والتدهوُر .

 

مشروع مجلس للانماء والاعمار

كلّفني الرئيس سركيس وضع تصوّر عام لبرنامج الإنماء والإعمار الذي يمكن للعهد الجديد أن يقدم عليه انطلاقا من أجواء الارتياح التي كانت سائدة . فعقدت سلسلة اجتماعات مع المدراء العامين في بيروت الشرقية وفي بيروت الغربية ، وجمعت المعطيات المتوافرة ، وأعددت تصوّراً عاماً للإنماء والإعمار أودعته الرئيس سركيس . وضمن البرنامج إنشاء مجلس الإنماء والإعمار .

 

مشروع وزير دولة للانماء والاعمار
كان الرئيس سركيس يعمل على تأليف حكومة فعاليات ، أي من القوى المتقاتلة . والتفت إليّ يوماً يســــألني : " أرغب إليك أن تتولّى حقيبة في الحكومة المنتظرة ، فأي الحقائب الوزاريةة تُريد ؟ " فأجبته بأنّني لا أرغب في تولّي حقيبة ، وأؤثر أن أكون وزيراً لشؤون الإنماء والإعمار . فقال لي : فليكُن ما تشاء . وكان من المُفترض أن يتولّى رئاسة الحكومة الرئيس تقي الدين الصلح . 


ثم رئيسا للحكومة للمرة الاولى

ولكن ما لبث الرئيس سركيس أن اكتشف تعذّر قِيام مثل تلك الحكومة التي تضمّ تناقُضات تلك المرحلة . فالتفت إليّ وقال : أريد أن أُكلّفك تشكيل حكومة تكنوقراط . هكذا وُلدت حكومة التكنوقراط الثمانية في التاسع من كانون الأول (ديســمبر) 1976 . وقد حظيت هذه الحكومة من مجلس النواب بسلطات تشريعية استثنائية . فكان أول مرسوم إشتراعي يُقرّره مجلس الوزراء مرسوم باستحداث نظام للرقابة على الصحف .

 

عندما دفع الرئيس سركيس المشروع إليّ اعترضت قائلاً : "علامَ العجلة ؟ دعنا نُناقِش الفكرة أولاً". فأجابني همساً ":لن تكون قوّة ردع عربية ولن تكون لجنة عربية رباعية ولن تكون مساعدات عربية للإنماء والإعمار ما لم نبدأ بهذا الإجراء". كان ذلك من أجواء كواليس القمة العربية في القاهرة التي لم أطلع عليها حتى تلك اللحظة . كانت الحرية الصحافية في لبنان همّ العرب . وكانت النزاعات العربية المتفجّرة على الساحة اللبنانية تنعكس في حملات الصحف.

 

وكان من أوائل القرارات المُتّخذة إنشاء مجلس الإنماء والإعمار ، وسَمّينا لرئاسته الاقتصادي المعروف الدكتور محمد عطا اللَّه .

 

كانت حقبة تلك الحكومة حقبة تصعيد وتدهور مُستشريين . واستقلت في العام 1978 لأفسح في المجال أمام الرئيس سركيس لتحقيق حلمه بالإتيان بحكومة فعاليات . وبعد مشاورات أجراها مع النواب عاد الرئيس سركيس فســـــمّاني لتأليف تلك الحكومة . أجريت لهذه الغاية أوسع المشاورات مع النواب والقوى المتصارعة لأصطدم سريعاً باستحالة قيام مثل هذه الحكومة . فاضطررت ، في خطوةٍ غير مـسبوقة ، إلى العودة عن استقالة الحكومة . هكذا عادت الحكومة الأولى في عهد الرئيس سركيس فاستأنفت نشاطها وكأنّ شيئاً لم يكُن . وفي العام 1978 نفّذت إسرائيل اجتياحها الجنوب في ما سمّته عملية الليطاني بهدف إقامة حزام أمني شــــــمالي حدودها . وصـدر على الأثر القرار 425 عن مجلــس الأمن الدولي الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب الفوري من لبنان ، فكان أن استمر الاحتلال حتى العام 2000

 

رئيسا للحكومة للمرة الثانية

بقي الحال على هذا المِنوال حتى العام 1979 حينما تفاهمت مع الرئيس سركيس على الاستقالة تمهيداً لقيام حكومة سياسيين تحلّ محلّ حكومة التكنوقراط . بعد مشاورات أجراها مجلس النواب عاد الرئيس سركيس فكلّفني تأليف الحكومة ، فكانت حكومة ضمّت بعض نجوم السياسة في لبنان .

 

خلال عهد هذه الحكومة الثانية اقترحت على الرئيس سركيس إعلان برنامج إصلاحي يتمّ الوفاق عليه فتنتهي الأزمة الدامية . وكنت أعددت مشروع نصّ لمثل هذا البرنامج ، فعرضته عليه في حضور وزير الخارجية الأستاذ فؤاد بطرس الذي كان الرئيس سركيس يَثِقّ كثيراً بحكمته ورأيه . بعد مناقشة المشروع وإدخال بعض التعديلات عليه ، وافق الرئيس ســـركيس على إعلانه بكلمة يوجّهها إلى اللبنانيين عبر وسائل الإعلام .

 

ولكن هذا البرنامج ، الذي عُرف بالمبادئ الأربعة عشر ، لم يفلح في اختراق أجواء التأزّم التي كانت غالبة في تلك المرحلة. فاتّجه تفكير الرئيس سركيس إلى احتمال انتخاب الشيخ بشير الجميّل ، قائد ميليشــيا القــوات اللبنانية المنبــثقة من حزب الكتائب . وبدأت أجهــزة المخابرات العــمل على هذا الخطّ على الرغــم من اعتراضي على ذلك . وبِناءً على إصرار الرئيس سركيس دعونا جميع القوى إلى لقائنا ، الرئيس وأنا ، في جلساتٍ ثنائيّة عرضنا فيها المبادئ الأربعة عشر وحصلنا على تواقيعهم عليها إيذاناً بالموافقة عليها . ولكن التجربة كانت عقيمة فلم يكُن منها أيّ جدوى .

 

شعرت بعقم استمراري في موقع المسؤولية فاستقلت في العام 1980 . وقد دوّنت تفاصيل تجربتي في الحكم إلى جانب الرئيس سركيس في كتاب بعنوان : زمن الأمل والخيبة .

 

استمرت الأزمة الدامية ، واجتاحت إســــــرائيل العمق اللبناني في العام 1982 وصولاً إلى العاصمة بيروت ، التي أظهرت مقاومة أسطورية للحصار الإسرائيلي المُدمّر والخانق طوال أكثر من ثمانين يوماً.

 

من الدوحة الى بيروت

لدى اقتحام القوات الإسرائيلية منطقة الدوحة في طريقها إلى بيروت وجّهت نيران رشاشاتها الثقيلة إلى منزلي ، وكنت وعائلتي داخله . وعندما توجّه الجيش العدو لحصار بيروت بعثت برسالة إلى مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد أطلب إليه الاتصال بالسفارة الأميركية لتأمين إنزالي من الدوحة إلى بيروت ، إسوةً بما كان للسيد وليد جنبلاط . فجاءتني سيارة من السفارة الأميركية وفيها أحد المسؤولين في السفارة فانتقلنا في سيارة السفارة جميعاً إلى بيروت عابرين الخطوط العسكرية الإسرائيلية التي ملأت الطريق . وأقمت في بيروت المحاصرة طيلة فترة الحصار أُكابِد مع أهل بيروت الصامدين ، وقد أويت إلى منازل بعض الأصدقاء الغائبين عن المدينة أتنقّل من منزلٍ إلى آخر حسب مقتضيات الظروف .

 

عند انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيساً هاجم فريق من المسلحين منزل الأستاذ عثمان الدنا (زوج ابنة خالتي) وكنت داخله مع زوجتي وابنتي . فوقعت إحدى القذائف على مقربة منّي ، وأُصيب صهري سامي الحص برصاصة فنقلته إلى مستشفى الجامعة الأميركية .

 

انتخب الشيخ أمين الجميل رئيســاً إثر اغتيال شقيقه بشير . فكلّف الرئيس شفيق الوزان ، الذي كان رئيساً للحكومة آنذاك ، بتأليف حكومة جديدة .

 

وزيراُ للتربية وللعمل

تواصل التعقيد والتدهوُر . فعقد أطراف الصراع اللبنانيون مؤتمراً في جنيف ثم عقد مؤتمر آخر في لوزان في سويسرا . اتفق على أثره على إلغاء اتفاق 17 أيار الذي كان وُقِّع مع إسرائيل خلال فترة احتلالها بيروت . كما اتفق على قيام حكومة اتحاد وطني . فكلف الرئيس رشيد كرامي بتأليفها ، فكنت أحد وزرائها إلى جانب الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل ونبيه بري ووليد جنبلاط .فتولّيت حقائب التربية والعمل .

 

محاولة إغتيالي

في اليوم الأول من عيد الأضحى في العام 1984 ، كنت في طريقي إلى منزل المفتي سماحة الشيخ حسن خالد في منطقة الروشة لاصطحابه ، بالنيابة عن رئيس الوزراء رشيد كرامي ، إلى صلاة العيد . وقبل وصولي إلى منزل سماحة المفتي بنحو مائتي متر ، انفجرت سيارة في وجهي ، فقتل العسكري أحمد الحاج شحادة الذي كان يقود سيارتي وأصبت بحالة اختناق شديد جراء الصدمة والدخان الكثيف الذي لفّني ، فحملني إلى مستشفى الجامعة شاب كان في الجوار . أحيلت قضية محاولة اغتيالي إلى المجلس العدلي ، ولكن أي تحقيق جدّي في الحادث لم يحصل نظراً لضلوع بعض الأشخاص المرموقين في التخطيط للمحاولة ، على ما تناهى إليّ لاحقاً .

 

رئيسا للحكومة "بالوكالة" للمرة الثالثة

في مطلع حزيران (يونيو) 1987 استشهد الرئيس رشيد كرامي في عمليّة اغتيال تعرّض لها في طريقه إلى طرابلس مُستقلاً طوافة عسكرية . فتنادت على الأثر القيادات الإسلامية وعقدت لقاء في دار الفتوى . فكان الرأي مُجمِعاً في هذا اللقاء على أن أتولّى رئاسة الحكومة فوراً كي لا تترك الساحة خالية للخصوم ، وكان الرئيس الشيخ أمين الجميل يُعتَبَرّ طرفاً في النزاع ، ممّا أدّى إلى قطيعة بينه وبين الرئيس كرامي طوال الأشهر الأخيرة ، وانقطع مجلس الوزراء عن عقد اجتماعات ، فابتدع ما سُمّي المرسوم الجوّال ، الذي كانت القرارات بموجبه توقّـع من المسؤولين ولكن من دون اجتماع مجلس الوزراء . وفي ذلك بالطبع بِدعة دستوريّة .

 

قلت في ذلك اللقاء أنّني على استعداد لتحمّل المسؤولية ، ولكن دماء الرجل لم تجفّ بعد ، فليس من اللائق أن أحلّ محلّه بتلك السرعة . أمام إصرار المجتمعين أنّ الأمر لا يمكن أن يُترَكّ للرئيس الجميل من دون مشاركة رئيس الوزراء في القرار ، خصوصاً أنّ الرئيس الجميل كان يتصرّف كطرف في النزاع ، اقترحت أن تكون تسميتي لرئاسة الوزراء بالوكالة تأكيداً على صِفتها المؤقّــتة . قيل إنّ الوكالة لا تستقيم ، فلا وكالة عــن ميت . أصررت على موقفي فتطوّع الرئيس حسين الحسـيني إلى مكالمة الرئيس الجميل في الأمر . فصدر عن رئاسة الجمهورية مرسوم بتسميتي رئيساً للحكومة بالوكالة ، على أن تبقى الحكومة دون تعديل .

 

استمر واقع القطيعــة الــذي ورثتــه عن الرئيس رشـيد كرامي ، فلم أكُنّ ألتقي رئيس الجمهورية ولم يعقد مجلس الوزراء أي اجتماع حتى نهاية عهد الرئيس أمين الجميل .

 

مرحلة الحكومتين

بنهاية عهد الرئيس الجميل لم يســــتطع مجلس النواب الاجتماع لانتخاب خلف له . فأصدر الرئيس الجميل مرسوماً بتشكيل حكومة من العسكريين برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون . فرفضت هذه الخطوة لجملة أسباب : منها أنّ الدستور لا ينصّ على تأليف حكومة عند شُـــغور سدّة رئاسة الجمهورية وإنما ينصّ على قيام الحكومة القائمة بمهام رئاسة الجمهورية ، ومنها أنّ القرار ينطوي على تجاوز العرف الذي كان يقضــي بأن يترأّس الحكومة مسلم في ظل النظام الطائفي السائد .

 

بقي من حكومتي خمسة هُم الرئيس عادل عسيران والدكتور عبد اللَّه الراسي والأستاذ نبيه بري والأستاذ وليد جنبلاط . كانت فترة عصيبة ، لعلها الأخطر في تاريخ لبنان لأنّ وحدة الدولة كانت على المحكّ . لذلك جعلت الأولوية في اهتماماتنا المحافظة على سلامة المؤسسات ووحدتــها ، فأصــررت على حماية مصرف لبنان وعدم تعريض احتياطاته للاستنزاف ، ووقفت بصلابة في وجه مطالبة البعض بالتطويع في الجيش بهدف استيعاب مقاتلي الميليشيات فيه . كان مجلس الوزراء يعقد جلساته في القصر الحكومي في منطقة الصنائع . وقد شهدت بعض تلك الجلسات تجاذبات حادّة .

 

التحضيرات لإتفاق الطائف

في مطلع العام 1989 جرى اتصال بين الرئيس حسين الحسيني وبيني واتفقنا على وضع تصوّر مُشترك لحلّ الأزمة اللبنانية سياسياً . فعقدنا اجتماعات متتالية حضرها إلى جانب الرئيس الحسيني شقيقه طلال وإلى جانبي القاضي الدكتور خالد قباني . فوضعنا تصوّراً تضمّن الكثير مما جاء لاحقاً في اتفاق الطائف ، بما في ذلك إناطة السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء بعد أن كانت هذه السلطة منوطة برئيس الجمهورية .

 

وكذلك في العام 1989 عقد مؤتمر قمّة عربي في الدار البيضاء في المغرب وشكّل المؤتمر لجنة عربية ثلاثيّة عُليا لإيجاد الحلول للأزمة اللبنانية . وقد دعت اللجنة العربية العليا النواب اللبنانيين إلى عقد لقاء في الطائف في المملكة العربية السعودية للتداول في الموضوع ، وانتهى اللقاء إلى إعلان اتفاق على صيغة حَلّ سياسي سمّي اتفاق الطائف أو وثيقة الوفاق الوطني .

 

التكليف الرابع لتأليف الحكومة

لدى عودة النواب إلى بيروت عقد مجلس النواب جلسة انتخب فيها الأستاذ رينيه معوّض رئيساً للجمهورية . أجرى الرئيس معوّض مشاورات مع النواب وكلّفني على الأثر تأليف الحكومة الأولى في عهده . في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 أقام الرئيس معوّض حفل استقبال في القصر الحكومي في مناسبة عيد الاستقلال . وذلك بحضور الرئيس حسين الحسيني وحضوري . وبنهاية الحفل دعانا الرئيس معوّض لتناول الغداء في منزله ، فاعتذرنا . فتوجّه إلى سيارته ، وبعد لحظات دوّى انفجار كبير أهتزّ له القصر الحكومي . تبيّن للتوّ أنّ الانفجار استهدف الرئيس معوّض فأرداه. سارع رئيس مجلس النواب السيد حسين الحسيني إلى الدعوة إلى جلسة نيابية عاجلة فانتخب الأستاذ إلياس الهراوي رئيساً . اعتمد الرئيس الهراوي نتائج المشاورات النيابية التي كان أجراها الرئيس معوّض ، فكلّفني تأليف الحكومة الأولى في عهده دون إجراء مشاورات .

 

التكليف الخامس لرئاسة الحكومة الرابعة

كان للحكــومة الأولى في عهد الرئيس الــهــراوي إنجازات كثيرة أهمّها اثنان : أولاً إعادة توحيــد البلاد بــوضع حدّ لحــالــة التمــرّد التــي كان يقودها الــعمـــاد ميشال عــون ، وترجمة اتفاق الطائف نصوصاً دستورية . وقد وضع مشروع التعديلات الدستورية بناء على طلبي القاضي الدكتور خالد قباني ، ولقد وقع الاجتياح العراقي للكويت خلال تلك الفترة ، وكنت أوّل مسؤول عربي يستنكر العدوان . خرجت من الحكم في العام 1991

 

وفاة زوجتي

وقد توفّيت زوجتي ليلى في 12/5/1990 إذ كنت رئيساً للوزراء ، فأقيم لها مأتم مُهيب سِرت فيه في الشارع مع ابنتي وداد وكانت منطقتنا من بيروت تتعرّض للقصف على يد قوات العماد ميشال عون . ولكن طيلة مرور الجنازة في الشوارع لم تتعرّض هذه الشوارع لأيِّ قصفٍ ووُريت جدث الرحمة في جبّانة الأوزاعي حيث ضريح الرئيس رياض الصلح . وكانت ليلى أعلنت إسلامها وهي على فراش الموت ، فسألتها إذا كانت مُقتنِعة بذلك ، فأجابت في صوتٍ خفيض : " أُريد أن أُدفَنّ معك في جدثً واحد " . وكانت قد شاركتنا بهجة الاحتفال بالعيد الأول لحفيدنا سليم قبل 12 يوماً .

 

سطّرت تجاربي في هذه المرحلة والمرحلة السابقة في كتابين : الأول بعنوان "ذكريات وعبر" والثاني بعنوان "عهد القرار والهوى" .

 

نائبا ورئيسا لكتلة الانقاذ والتغيير

في العام 1992 رشّحت نفسي للانتخابات النيابية عن بيروت على رأس لائحة الإنقاذ والتغيير . وقد فزت في الانتخابات ولائحتي . فحوّلت اللائحة إلى كتلة نيابية تمارس المعارضة البنّاءة خدمةً للديمقراطية . وانضمّ إلى الكتلة الدكتور رياض الصراف من الشمال والأستاذ عبد الرحيم مراد من البقاع ، وفي مرحلة لاحِقة الأستاذ بشارة مرهج

 

نائبا للمرة الثانية

في العام 1996 رشّحت نفسي مجدّداً على رأس لائحة ، وقد فزت والأستاذ محمد يوسف بيضون في هذه الانتخابات

 

رئيسا للحكومة للمرة الخامسة

في العام 1998 ، لدى انتخاب العماد إميل لحود رئيساً ، أجرى مشاورات كلّف إثرها الرئيس رفيق الحريري تأليف الحكومة . حصل إشكال بينه وبين الرئيس لحود لأمرٍ يتعلّق بإحصاء أصوات النواب . فاعتذر الرئيس الحريري وقبل الرئيس لحود اعتذاره وأجرى مشاورات كلّفني بعدها تأليف الحكومة .

 

إسقاطي في الانتخابات

الحكومة الأولى في عهد الرئيس لحود كانت لها إنجازات كثيرة ، أهمّها وضع أول برنامج عمل للتصحيح المالي في العام 1999 وانبلاج فجر التحرير من الاحتلال الإسرائيلي للجنوب في العام 2000 . وفي صيف العام 2000 أجرت حكومتي انتخابات نيابية لم أفُزّ فيها بمقعد نيابي . فأعلنت خروجي من حيّز العمل السياسي إلى حيّز العمل الوطني .

 

ســــطّرت تجاربي في الحكم خلال هذه المرحلة تفصيلاً في كتاب بعنوان " للحقيقة والتاريخ".

 

وللرئيس الدكتور سليم الحص العديد من الندوات والمحاضرات والمؤتمرات بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من المؤلفات والمقالات السياسية والاقتصادية منها أثنين باللغة الانجليزية:

1. تطور السوق المالي في لبنان

2. نافذة على المستقبل

اما الكتب العربية فهي كثيرة ومن أهمها:

1. لبنان المعاناه والسلام

2. لبنان على المفترق

3. نقاط على الحروف

4. ذكريات وعبر

5. حرب الضحايا على الضحايا

6. على طريق الجمهورية الجديدة

7. القرار والهويه

8. تجارب الحكم في حقبة الانقسام

9. زمن العمل والجدية .

 



بيروت