تهاون بالظنون وما حدسنه أبو العلاء المعري

تَهاوَنْ بالظّنونِ وما حدَسْنَهْ،

ولا تخشَ الظّباءَ متى كنسنَهْ

وأوقاتُ الصِّبا، في كلّ عصْرٍ،

أراقمُ، والمَنيّةُ ما قلسنَه

يُجِدْنَ بهَيّنٍ ويَعِدْنَ فيهِ،

أليسَ، بعلم ربّكَ، قد ألَسْنَه؟

يَلُسنَ شخوصَ أهلِ الأرض، حتى

يُسِخنَ، وراء ذلك، ما يَلُسنه

وما أنا والظّعائنُ سائراتٍ،

أغُرْنَ، معَ الغوائرِ، أو جلَسنَه

ضَرَبتَ لجاهلٍ مَثَلَ الغَواني،

قَلَبنَ، وما رأبنَ، غداةَ رُسْنَه

هيَ النّيرانُ، تُحسِنُ من بَعيدٍ،

وتُحرِقْنَ الأكفَّ، إذا لمَسنَه

أخذنَ اللُّبَّ أجمعَ، ظاعناتٍ،

فعُدْنَ وما رَبَعْنَ وما خمَسنَه

إذا مَدّتْ روامِقَها إلَيها

قوابسَ، لم يَعُجْنَ بما قبَسنَه

ولولا أنّهنّ أذًى وكيدٌ،

لَمَا أصبَحنَ في كِلَلٍ حُبِسنَه

ثُغُورُ مُحارِبٍ مَنعَتْ هُجوعاً،

ثُغوراً، في مَضاحكِها، غُرِسنَه

تَشابَهَتِ الخَلائِقُ والبَرايا،

وإن مازَتهمُ صوَرٌ رُكِسنَه

وجُرمٌ، في الحقيقةِ، مثلُ جَمرٍ،

ولكنّ الحروفَ بهِ عُكِسنَه

غِنى زيدٍ يكونُ لفَقرِ عمرٍو،

وأحكامُ الحوادِثِ لا يُقَسْنَه

كأنّكَ، إنْ بَقيتَ على اللّيالي،

بأعلامِ الوُلاةِ، وقد نُكِسنَه

وخَيرُ الرّزقِ ما وافاكَ عَفواً،

فخلِّ فُضولَ أموالٍ مُكِسنَه

ولْيتَ نُفوسَنا، والحَقُّ آتٍ،

ذهبْنَ كما أتَينَ وما أحَسْنَه

قَدِمنا، والقَوابلُ ضاحِكاتٌ؛

وسِرْنا، والمَدامعُ يَنبَجِسنَه

عَناصِرُنا طَواهرُ غَيرَ شَكٍّ؛

فَيا أسَفا لأجسام نَجِسنَه!

ويَرجو أن يُزيلَ الغُلَّ صادٍ،

إذا سَمِعَ الرّواعِدَ يَرتَجِسْنَه

وقد زَعَمَ الزّواعمُ، وافتكَرْنا؛

فوَيْحٌ للخَواطِرِ ما هَجَسنَه

ومن يتأمّلِ الأيّامَ تَسهُلْ

عليهِ النّائباتُ، وإنْ بَخسنَه

ولو صُرِفَ الهُدَى بجَميلِ فعلٍ

إلى مُهَجٍ نَفِسنَ، لما نَفِسنَه

ومَن يَحْمَدْ، لعيشتِهِ، لِياناً،

يَذُمَّ الغِبَّ أخلاقاً شَرِسْنَه

وما الأحراسُ إلاّ أُمّهاتٌ،

أكَسنَ النّاجياتِ، وما أكَسنَه

تَحاسَدتِ العُيونُ على مَنامٍ،

عَرَفنَ كِذابَهُ، وأردنَ حُسنَه

فصَبراً، إنْ سَمعتَ لسانَ سُوءٍ

من ابن مَودّةٍ، وتَوَقّ لِسنَه

فإنّ الوِرْدَ من مِلْحٍ أُجاجٍ،

أجِئتَ لشُربهِ، وعَرفتَ أسنَه

ولولا ضعفُ أرواحٍ أُعِرنْا

سَفاهاً، ما ابتَهَجنَ ولا ابتأسنَه

وإنّ ملوكَ غَسّانٍ تَقَضَّوا،

ولم يُترَكْ لهمْ، في الملكِ، غُسنَه

وفارسُ عزَّ منها، كلَّ راعٍ،

أُسُودٌ للمَقادِرِ يَفترِسنَه

وهَدّ جِبالَها أقيالُ فِهرٍ،

فتلكَ رُبُوعُها آياً طُمِسنَه

يُذيبونَ النُّضارَ بكلّ مشتى،

إذا الأمواهُ من قَرٍّ جَمَسنَه

وقد حَرَسَ المَمالكَ حيُّ لخمٍ،

فغالَتهمْ نوائبُ يَحترِسْنَه

شكا الرّكبُ السُّهادَ، فلمْ يُعيجوا

بأشباحٍ، على قلَقٍ، ينُسنَه

وكم قطعتْ سواري الشُّهبِ، ليلاً،

سواهدَ ما هجَعنَ، ولا نَعَسنَه

هَواكَ مُشابهٌ فَرَساً جَموحاً،

وما ألجَمتَهُ، فعلَيكَ رَسْنَه

ولا يُعْجِبْكَ روضٌ، باكرَتْه

غَمائمُهُ، وأغصانٌ يَمِسنَه

ولا الأفواهُ تضحَكُ عن غريضٍ،

فَرائدُ في مُدامتِها غُمِسنَه

تنَعّمَتِ الخَوافضُ في مَقامٍ،

فكَيفَ النّاعماتُ، إذا رُمِسنَه؟

فأينَ القائلاتُ بلا اقتصادٍ،

أألغَينَ التكلّمَ أم خَرِسْنَه؟

ملأنَ مواضيَ الأزمانِ قولاً،

وأُلزِمنَ السّكوتَ، فَما نبَسنَه

ألمْ تَرَني حَمَيتُ بناتِ صَدري،

فَما زوّجتُهنّ، وقد عنَسنَه

ولا أبرزتُهنّ إلى أنيسٍ،

إذا نُورُ الوحوشِ به أنِسنَه

وقالَ الفارسونَ: حليفُ زُهدٍ،

وأخطأتِ الظّنونُ بما فرَسنَه

ورُضتُ صِعابَ آمالي، فكانتْ

خُيولاً، في مَراتِعِها، شَمَسنَه

ولم أُعْرِضْ عن اللّذّاتِ، إلاّ

لأنّ خِيارَها عَنّي خَنَسنَه

ولم أرَ، في جِلاسِ النّاسِ، خيراً،

فمَن ليَ بالنّوافرِ، إن كنَسنَه؟

وقد غابتْ نجومُ الهَدي عَنّا،

فَماجَ النّاسُ في ظُلَمٍ دَمَسنَه

وقد تَغشَى السّعادَةُ غَيرَ نَدْبٍ،

فيُشرِقُ بالسّعودِ، إذا ودَسنَه

وتُقسَمُ حُظوَةٌ، حتى صخورٌ

يُزَرنَ، فيُستَلمنَ ويُلتَمَسنَه

كذاتِ القُدسِ، أو رُكنَيْ قريشٍ،

وأسرَتُهنّ أحجارٌ لُطِسنَه

يحُجُّ مَقامَ إبراهيمَ وفدٌ،

وكم أمثالِ مَوقِفِهِ وطَسنَه

تَشاءَمَ بالعَواطسِ أهلُ جهلٍ،

وأهوِنْ إن خَفَتنَ، وإنْ عطَسنه

وأعمارُ الذينَ مضَوا صِغاراً،

كأثوابٍ بَلِينَ وما لُبِسنَه

وهانَ، على الفَراقدِ والثّرَيّا،

شخوصٌ، في مَضاجعِها، دُرِسنَه

وما حفَلَتْ حَضارِ ولا سُهَيلٌ

بأبشارٍ يَمانيَةٍ، يُدَسنَه