صلاح الدين الأيوبي

1138- 1193م
ولد صلاح الدين في تكريت بالعراق وتوفي في دمشق بسوريا. اسمه يوسف بن أيوب. كردي الأصل.

 

صلاح الدين الأيوبي مثل للرجل الشرقي الطموح الذي استطاع أن يحقق أهدافا عالية جعلت منه شخصية تصنع التاريخ. فهو لم يرث ملكا، وإنما تدرج من رئيس للشرطة بدمشق إلى قائد في حملة عمه شيركوه إلى وزير لخليفة مصر إلى نائب لسلطان الشام، ثم إلى سلطان يحكم إمبراطورية واسعة في الشام ومصر والجزيرة والحجاز واليمن وبرقة وطرابلس والنوبة، ويكوّن لنفسه فيها أسرة حاكمة عرفت باسمه أو لقبه أو اسم أبيه أو أصله: الصلاحية أو الناصرية أو الأيوبية أو الأكراد. قضى على الدولة الفاطمية وخطب للعباسيين واعترف بسلطة الخليفة ببغداد وانتصر على الزنكيين.

 

شعر صلاح الدين بالمذلة بسبب مجيء الأوروبيين، الفرنجة يستعمرون في الشرق باسم الدين، فوضع نصب عينيه أن يكون الشرق لأهله. لكن لما كانت دول الشرق متنازعة متنافرة، وجّه همه الأول إلى تكوين جبهة متحدة تجمعهم ليجابهوا عدوهم القوي الذي استفاد من تشتتهم، فكان يكتب إلى ملوك الإسلام وبخاصة إلى خليفة المسلمين في العراق. ولم يكن وراء دعوته تعصب ديني كما كان الحال بالنسبة إلى الفرنجة، وإنما كان قصده أن يتجمع سكان الشرق، وأغلبيتهم من المسلمين لطرد الغزاة الأجانب. وضرورة اتحاد بلاد الشرق بجميع عناصرها ضد الغزاة كانت مسألة مهمة منذ عهد الفراعنة، وفي عصر صلاح الدين وإلى وقتنا الحديث.

 

لما اطمأن صلاح الدين إلى تضامن الشرقيين، عمل على بث روح النضال بينهم، وقد هجر في سبيل الجهاد أهله وأولاده وراحته ليقنع بالعيش في ظل خيمة. وكان شجاعاً قوي النفس، عظيم الثبات، يطوف بين العسكر، ويدخل صفوف العدو. وفي فترة حكمه التي استمرت أربعاً وعشرين سنة أمضى منها ست عشرة سنة في الحملات. وبذلك أعاد للشرقيين ذكرى قادتهم العظام الذين يعيشون على رأس جنودهم في الميدان، يشاركونهم الأخطار.

 

كان صلاح الدين يتميز بالبساطة بين ملوك عصره، ولم يكن يحب سكن القصور، وملابسه كانت من الكتان والقطن والصوف. وكان يعتبر نفسه وأسرته خزنة المسلمين وحراساً لأموالهم. وعند وفاته لم يترك داراً ولا عقاراً ولا مزرعةً.. ولم يبق في خزانته إلا سبعة وأربعون درهماً... وأعادت سيرته للمسلمين ذكرى عمر ابن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وكلاهما أصبحت سيرته في عداد الأساطير.

 

كان الناصر متديناً، وكان يصلي غالبا في جماعة ويصوم كثيرا مع ضعف بنيته... ويسمى نفسه خادم الحرمين...

 

وبقيادة صلاح الدين تمكن أهل الشرق من تخليص الأراضي المقدسة من أيدي الجيوش الصليبية بما فيها الألمانية والإنكليزية والفرنسية. وقيل إن من خرج من الفرنجة في البحر كانوا ستمائة ألف رجل، لم يعد منهم إلى بلادهم إلا واحد من كل عشرة.

 

أشهر معارك صلاح الدين كانت معركة حطين التي هزم فيها جيوش الفرنجة وحرر إثرها القدس في 2 ديسمبر 1187م بعد أن بقيت في أيدي الفرنجة إحدى وتسعين سنة، وأسر ملك القدس غي دي لو زينيان وأعاد لمساجد القدس طابعها الإسلامي، وجددها بعد أن كان الفرنجة قد غيروا فيها وحولوها إلى كنائس، وأزال التماثيل والصور ووضع فيها القناديل وفرشها بالبسط، ولم يوافق على هدم كنيسة القيامة انتقاماً لما فعله الصليبيون في مسجدي الصخرة والأقصى.

 

قام صلاح الدين بسياسة إنشائية إصلاحية خاصة بالقاهرة ومصر، فأقام مستشفى "مارستان" بقصر من قصور القاهرة لعلاج المرضى من الرجال والنساء وزوده بخزائن الأدوية، واتخذ "محابس للمجانين" وعمّر المدارس والجوامع الكثيرة، وأولى الفقراء والأيتام عناية خاصة، كما هدم في مصر حبساً كان أشبه بجهنم الحمراء، وأنشأ مكانه مدرسة. وأسقط عن المصريين ضريبة المكوس البغيضة التي كانت قد فرضت على كل شيء إلا الهواء الذي بقي حراً.

 

لقيت شخصية صلاح الدين الإعجاب الشديد على مر الزمان، كما لقيت مآثره الاحترام لدى أعدائه، فوصفوه بأنه سلطان عظيم، وملك كريم وملك رحيم. وقد شاع عدله وذاع فضله وظهر إحسانه.

 

ورد في "وفيات الأعيان" لابن خلكان:

" أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي، الملقب الملك الناصر صلاح الدين صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية والفراتية واليمنية؛ وقد تقدم في هذا الكتاب ذكر أبيه أيوب وجماعة من أولاده وعمه أسد الدين شيركوه أخيه الملك العادل أبي بكر محمد، وجماعة من أولاده وغيرهم من أهل بيته؛ وصلاح الدين كان واسطة العقد، وشهرته أكبر من أن تحتاج إلى التنبيه عليه.

 

اتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من دوين، بضم الدال المهملة وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، وهي بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج، وأنهم أكراد روادية، بفتح الراء والواو وبعد الألف دال مهملة ثم ياء مثناة من تحتها مشددة وبعدها هاء والروادية: بطن من الهذبانية بفتح الهاء والذال المعجمة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مشددة مثناة من تحتها وبعدها هاء، وهي قبيلة كبيرة من الأكراد. وقال لي رجل فقيه عارف بما يقول، وهو من أهل دوين: إن على باب دوين قرية يقال لها أجدانقان، بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون مفتوحة وقاف مفتوحة وبعد الألف الثانية نون أخرى، وجميع أهلها أكراد روادية، ومولد أيوب والد صلاح الدين بها، وشاذي أخذ ولديه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد، ومن هناك نزلوا تكريت، ومات شاذي بها، وعلى قبره قبة داخل البلد.

 

ولقد تتبعت نسبتهم كثيراً فلم أجد أحداً ذكر بعد شاذي أبا آخر، حتى إني وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم أر فيها سوى شيركوه بن شاذي، وأيوب بن شاذي، لا غير؛ وقال لي بعض كبراء بيتهم: هو شاذي بن مروان، وقد ذكرت ذلك في ترجمة أيوب وشيركوه؛ ورأيت مدرجاً رتبه الحسن بن غريب بن عمران الحرشي يتضمن أن أيوب بن شاذي بن مروان بن أبي علي بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن بيهس بن الحارث صاحب الحمالة ابن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن الياس ابن مضر بن نزار معد بن عدنان. ثم رفع بعد هذا في النسب حتى انتهى إلى آدم عليه السلام. ثم ذكر بعد ذلك أن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز يقال إنه ممدوح المتنبي، ويعرف بالخراساني، وفيه يقول من جملة قصيدته:

شرق الجو بالغبار إذا سا

 

ر علي بن أحمد القمقام

 

وأما حارثة بن عوف بن أبي حارثة صاحب الحمالة، فهو الذي حمل الدماء بين عبس وذبيان، وشاركه في الحمالة خارجة بن سنان أخو هرم بن سنان، وفيهما قال زهير بن أبي سلمى المزني قصائد منها قوله:

 

على مكثريهم حق من يعتريهم

 

وعند المقلين السماحة والبذل

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه

 

وتغرس إلا في منابتها النخل

 

هذا آخر ما ذكره في المدرج، وكان قد قدمه إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق، وسمعه عليه هو وولده الملك الناصر صلاح الدين أبو المفاخر داود ابن الملك المعظم، وكتب لهما بسماعهما عليه في آخر رجب سنة تسع عشرة وستمائة، والله أعلم؛ انتهى ما نقلته من المدرج.


ورأيت في - تاريخ حلب - الذي جمعه القاضي كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد المعروف بابن العديم الحلبي بعد أن ذكر الاختلاف في نسبهم فقال: وقد كان المعز إسماعيل بن سيف الإسلام ابن أيوب ملك اليمن ادعى نسباً في بني أمية وادعى الخلافة. وسمعت شيخنا القاضي بهاء الدين عرف بابن شداد يحكي عن السلطان صلاح الدين أنه أنكر ذلك وقال: ليس لهذا أصل أصلاً.


قلت: ذكر شيخنا الحافظ عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري صاحب التاريخ الكبير في تاريخه الصغير الذي صنفه للدولة الأتابكية ملوك الموصل، في فصل يتعلق بأسد الدين شيركوه، ومسيره إلى الديار المصرية فقال: كان أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب، وهو الأكبر، ابنا شاذي من بلد دوين، وأصلهما من الأكراد الروادية قد قدما العراق، وخدما مجاهد الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنة بالعراق. قلت: وهذا مجاهد الدين كان خادماً رومياً أبيض اللون تولى شحنة بالعراق من جهة السلطان مسعود بن غياث الدين محمد بن ملكشاه السجلوقي المقدم ذكره وذكر والده وجماعة من أهل بيته وكان صاحب همة في عمل المصالح الجليلة وعمارة البلاد، واسع الصدر والصبر في البذول والإنفاقات والمطاولة والمراجعة إذا امتنع عليه الغرض، وكانت تكريت إقطاعاً له، وكان خادم السلطان محمد والد مسعود المذكور، وبنى في بغداد رباطاً وقف عليه وقفاً جيداً، ومات يوم الأربعاء الثالث والعشرين من رجب سنة أربعين وخمسمائة. وبهروز: بكسر الباء الموحدة وسكون الهاء وضم الراء وسكون الواو وبعدها زاي، وهو لفظ عجمي، معناه يوم جيد، على التقديم والتأخير على عادة كلام العجم.


قال شيخنا ابن الأثير: فرأى مجاهد الدين في نجم الدين أيوب عقلاً ورأياً حسناً وحسن سيرة، فجعله دزدار تكريت إذ هي له قلت دزدار، بضم الدال المهملة وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعد الألف راء، وهو لفظ عجمي معناه حافظ القلعة، وهو الوالي، ودزه بالعجمي القلعة، ودار: الحافظ فسار إليها ومعه أخوه أسد الدين شيركوه، فلما انهزم أتابك الشهيد عماد الدين زنكي بالعراق من قراجا قلت: وهي وقعة مشهورة خلاصتها أن مسعود بن محمد بن ملكشاه السجلوقي، المقدم ذكره، وعماد الدين زنكي صاحب الموصل قصدا حصار بغداد في أيام الإمام المسترشد، فأرسل إلى قراجا الساقي واسمه برس صاحب بلاد فارس وخوزستان، يستنجد به، فأتاه وكبس عسكرهما وانهزما بين يديه وانكسرا. وذكر في تاريخ الدولة السلجوقية أنها كانت في شهر ربيع الآخر يوم الخميس ثاني عشر الشهر المذكور من سنة ست وعشرين وخمسمائة على تكريت. وقال أسامة بن منقذ المقدم ذكره في كتابه الذي ذكر فيه البلاد وملوكها الذين كانوا في زمانه: إنه حضر هذه الوقعة مع زنكي في التاريخ المذكور، ذكر ذلك في موضعين أحدهما في ترجمة إربل، والثاني في ترجمة تكريت رجعنا إلى ما كنا فيه: فوصل زنكي إلى تكريت، فخدمه نجم الدين أيوب وأقام له السفن؛ فعبر دجلة هناك وتبعه أصحابه، فأحسن نجم الدين إليهم وسيرهم، وبلغ ذلك بهروز، فسير إليه وأنكر عليه وقال له: كيف ظفرت بعدونا فأحسنت إليه وأطلقته!! ثم إن أسد الدين قتل إنساناً بتكريت لكلام جرى بينهما، فأرسل مجاهد الدين إليهما فأخرجهما من تكريت، فقصدا عماد الدين زنكي قلت: وكان إذ ذاك صاحب الموصل قال: فأحسن عماد الدين إليهما وعرف لهما خدمتهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً وصارا من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين دزدارها، فلما قتل زنكي قلت: وقد سبق ذكر ذلك في ترجمته قال: فحصره عسكر دمشق قلت: وكان صاحب دمشق يومئذ مجير االدين أبق بن محمد بن بوري ابن الأتابك ظهير الدين طغتكين، وهو الذي حاصره نور الدين محمود بن زنكي في دمشق، وأخذها منه قال شيخنا ابن الأثير: فأرسل نجم الدين أيوب إلى سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل، وقد قام بالملك بعد والده ينهي إليه الحال، ويطلب منه عسكراً ليرحل صاحب دمشق عنه، وكان سيف الدين في ذلك الوقت في أول ملكه، وهو مشغول بإصلاح ملوك الأطراف المجاورين له، فلم يتفرغ له، وضاق الأمر على من في بعلبك من الحصار، فلما رأى نجم الدين أيوب الحال وخاف أن تؤخذ قهراً أرسل في تسليم القلعة، وطلب إقطاعاً ذكره، فأجيب إلى ذلك، وحلف له صاحب دمشق عليه وسلم القلعة، ووفى له صاحب دمشق بما حلف عليه من الإقطاع والتقدم وصار عنده من أكبر الأمراء، واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بالخدمة النورية بعد قتل أبيه زنكي.


قلت: هو نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب، وكان يخدمه في أيام والده، فقربه نور الدين وأقطعه، وكان يرى منه في الحروب آثاراً يعجز عنها غيره لشجاعته وجرأته، فصارت له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عسكره.


قلت: ثم خرج شيخنا ابن الأثير بعد هذا إلى حديث سفر أسد الدين إلى الديار المصرية، وما تجدد لهم هناك، وليس هذا موضع هذا الفصل، بل نتم حديث صلاح الدين هذه الترجمة من مبدأ أمره حتى نصير إلى آخره إن شاء الله تعالى، ويندرج فيه حديث المملكة وما صار حالهم إليه، وإن كان قد سبق في ترجمة أسد الدين شيركوه طرف من أخبارهم، لكن ما استوفيته هناك اعتماداً على استيفائه ها هنا إن شاء الله تعالى.


 قلت: اتفق أرباب التواريخ أن صلاح الدين مولده سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة بقلعة تكريت لما كان أبوه وعمه بها، والظاهر أنهم ما أقاموا بها بعد ولادة صلاح الدين إلا مدة يسيرة، لأنه قد سبق القول أن نجم الدين وأسد الدين لما خرجا من تكريت، كما شرحناه، وصلا إلى عماد الدين زنكي فأكرمهما وأقبل عليهما، ثم إن عماد الدين زنكي قصد حصار دمشق فلم تحصل له، فرجع إلى بعلبك فحصرها أشهراً، وملكها في رابع عشر صفر سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، كما ذكره أسامة بن منقذ المقدم ذكره في كتابه الذي ذكر فيه البلاد وملوكها. وذكر أبو يعلى حمزة بن أسد المعروف بابن القلانسي الدمشقي في تاريخه الذي جعله ذيلاً على تاريخ أبي الحسين هلال ابن الصابي: أن عماد الدين حاصر بعلبك يوم الخميس العشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ثم ذكر في مستهل سنة أربع وثلاثين أنه ورد الخبر بفراغ عماد الدين من ترتيب بعلبك وقلعتها وترميم ما تشعث منها، والله أعلم. وإذا كان كذلك فيكون قد خرجوا من تكريت في بقية سنة اثنتين وثلاثين التي ولد فيها صلاح الدين، أو في سنة ثلاث وثلاثين؛ لأنهما أقاما عند عماد الدين بالموصل، ثم لما حاصر دمشق وبعدها بعلبك وأخذها رتب فيها نجم الدين أيوب، وذلك في أوائل سنة أربع وثلاثين، كما شرحته فيتعين أن يكون خروجهم من تكريت في المدة المذكورة تقديراً، والله أعلم قلت: ثم أخبرني بعض أهل بيتهم، وقد سألته: هل تعرف متى خرجوا من تكريت؟ فقال: سمعت جماعة من أهلنا يقولون: إنهم أخرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين، فتشاءموا به وتطيروا منه، فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة وما تعلمون، فكان كما قال، والله أعلم.


ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع. ولما ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشق في التاريخ المذكور في ترجمته لازم نجم الدين أيوب خدمته، وكذلك ولده صلاح الدين، وكانت مخايل السعادة عليه لائحة، والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويؤثره، ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد، حتى تجهز للمسير مع عمه شيركوه إلى الديار المصرية، كما سنشرحه إن شاء الله تعالى.


وجدت في بعض تواريخ المصريين أن شاور المقدم ذكره هرب من الديار المصرية من الملك المنصور أبي الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري لما استولى على الدولة المصرية وقهره وأخذ مكانه في الوزارة كعادتهم في ذلك، وقتل ولده الأكبر طي بن شاور، فتوجه شاور إلى الشام مستغيثاً بالملك العادل نور الدين أبي القاسم محمود بن زنكي، وذلك في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، ودخل دمشق في الثالث والعشرين من ذي القعدة من السنة، فوجه نور الدين معه الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي في جماعة من عسكره كان صلاح الدين في جملتهم في خدمة عمه، وهو كاره للسفر معهم. وكان لنور الدين في إرسال هذا الجيش غرضان: أحدهما قضاء حق شاور لكونه قصده ودخل عليه مستصرخاً، والثاني أنه أراد استعلام أحوال مصر فإنه كان يبلغه أنها ضعيفة من جهة الجند وأحوالها في غاية الاختلال، فقصد الكشف عن حقيقة ذلك، وكان كثير الاعتماد على شيركوه لشجاعته ومعرفته وأمانته، فانتدبه لذلك، وجعل أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره، وشاور معهم، فخرجوا من دمشق في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين فدخلوا مصر واستولوا على الأمر في رجب من السنة.


 وقال شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف المعروف بابن شداد المقدم ذكره في كتابه الذي وسمه ب - سيرة صلاح الدين -: إنهم دخلوا مصر في ثاني جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، والقول الأول أصح؛ لأن الحافظ أبا طاهر السلفي ذكر في - معجم السفر - أن الضرغام بن سوار قتل في سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وزاد غيره فقال: يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة من السنة عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، فيما بين القاهرة ومصر، واحتز رأسه وطيف به على رمح، وبقيت جثته هناك ثلاثة أيام تأكل منها الكلاب، ثم دفن عند بركة الفيل، وعمرت عليه قبة قلت: والقبة إلى الآن باقية في موضعها تحت الكبش المستجد بناؤه، ورأيت فيها جماعة من الفقراء الجوالقية مقيمين. وقد قيل إن الضرغام إنما قتل في رجب من سنة تسع وخمسين، وقد اتفقوا على أن الضرغام إنما قتل عند قدوم أسد الدين شيركوه وشاور إلى مصر، فما يمكن أن يكون دخولهم مصر في سنة ثمان وخمسين. لأن الضرغام لاخلاف في قتله في سنة تسع وخمسين، وأنه كان في أول وصولهم، والحافظ السلفي أخبر بذلك لأنه كان مقيماً في البلاد أول وصولهم، وهو أضبط لهذه الأمور من غيره، لأن هذا فنه، وهو من أقعد الناس به.


ولما وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا الضرغام، وحصل لشاور مقصوده وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره، غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد بالفرنج عليه، وحصروه في بلبيس. وكان أسد الدين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها، وأنها مملكة بغير رجال، تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال، فطمع فيها، وعاد إلى الشام في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وخمسين، وقال شيخنا ابن شداد: في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين، بناء على ما قرره أولاً أن دخولهم البلاد كان في سنة ثمان وخمسين. وأقام أسد الدين بالشام مدة مفكراً في تدبير عوده إلى مصر، محدثاً نفسه بالملك لها، مقرراً قواعد ذلك مع نور الدين، إلى سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وبلغ شاور حديثه وطمعه في البلاد فخاف عليها، وعلم أن أسد الدين لابد له من قصدها، فكاتب الفرنج وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد ويمكنهم منها تمكيناً كلياً ليعينوه على استئصال أعدائه.


وبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة شاور للفرنج وما تقرر بينهم، فخافا على الديار المصرية أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد، فتجهز أسد الدين، وأنفذ معه نور الدين العساكر، وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين. وكان توجههم من الشام في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وكان وصول أسد الدين إلى البلاد مقارناً لوصول الفرنج إليها. واتفق شاور والمصريين بأسرهم والفرنج على أسد الدين، وجرت حروب كثيرة ووقعات شديدة، وانفصل الفرنج عن البلاد، وانفصل أسد الدين أيضاً راجعاً إلى الشام.


وكان سبب عود الفرنج أن نور الدين جرد العساكر إلى بلادهم، وأخذ المنيطرة منهم في رجب من هذه السنة، وعلم الفرنج ذلك فخافوا على بلادهم فعادوا إليها. وكان سبب عود أسد الدين إلى الشام ضعف عسكره بسبب مواقعة الفرنج والمصريين وما عانوه من الشدائد، وعاينوه من الأهوال، وما عاد حتى صالح الفرنج على أن ينصرفوا كلهم عن مصر. وعاد إلى الشام في بقية السنة، وقد انضاف إلى قوة الطمع في الديار المصرية شدة الخوف عليها من الفرنج لعلمه بأنهم قد كشفوها كما قد كشفها وعرفوها كما عرفها، فأقام بالشام على مضض وقلبه قلق، والقضاء يقوده إلى شيء قدر لغيره وهو لا يشعر بذلك، وكان عوده في ذي القعدة من هذه السنة إلى الشام، وقيل إنه عاد في ثامن عشر شوال من السنة، والله أعلم.


ورأيت في بعض المسودات التي بخطي، ولا أعلم من أين نقلته، أن أسد الدين لما طمع في الديار المصرية توجه إليها في سنة اثنتين وستين، وسلك طريق وادي الغزلان، وخرج عند إطفيح، فكانت فيها وقعه البابين عند الأشمونين، وتوجه صلاح الدين إلى الإسكندرية فاحتمى بها، وحاصره شاور في جمادى الآخرة من السنة، ثم عاد أسد الدين من جهة الصعيد إلى بلبيس، وتم الصلح بينه وبين المصريين، وسيروا له صلاح الدين، فساروا إلى الشام.


 ثم إن أسد الدين عاد إلى مصر مرة ثالثة، قال شيخنا ابن شداد: - وكان سبب ذلك أن الفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم، وخرجوا يريدون الديار المصرية ناكثين لجميع ما استقر مع المصريين وأسد الدين طمعاً في البلاد فلما بلغ ذلك أسد الدين ونور الدين لم يسعهما الصبر دون أن سارعا إلى قصد البلاد، أما نور الدين فبالمال والرجال، ولم يمكنه المسير بنفسه خوفاً على البلاد من الفرنج، ولأنه كان قد حدث له نظر إلى جانب الموصل بسبب وفاة علي بن بكتكين - قلت: هو زين الدين والد السلطان مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل وقد تقدم ذكره في ترجمة ولده كوكبوري قال: فإنه توفي في ذي الحجة سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وسلم ما كان في يده من الحصون لقطب الدين أتابك ما عدا إربل فإنها كانت له من أتابك زنكي؛ وأما أسد الدين فبنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله. ولقد قال لي السلطان صلاح الدين قدس الله روحه: كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة وما خرجت مع عمي باختياري، وهذا معنى قوله تعالى"وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" - البقرة: 216 - وكان شاور لما أحس بخروج الفرنج إلى مصر على تلك القاعدة سير إلى أسد الدين يستصرخه ويستنجده، فخرج مسرعاً، وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وخمسمائة. ولما علم الفرنج بوصول أسد الدين إلى مصر على اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين على أعقابهم ناكصين، وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان، وكان وعدهم بمال في مقابلة ما خسروه من النفقة، فلم يوصل إليهم شيئاً وعلقت مخاليب أسد الدين في البلاد، وعلم أنه متى وجد الفرنج رخصة أخذوا البلاد، وأن شاور يلعب به تارة وبالفرنج أخرى، وملاكها فقد كانوا على البدعة المشهورة، وتحقق أسد الدين أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور، فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه. وكان الأمراء الواصلون مع أسد الدين يترددون إلى خدمة شاور، وهو يخرج في الأحيان إلى أسد الدين يجتمع به، وكان يركب على عادة وزرائهم بالطبل والبوق والعلم، ولم يتجاسر على قبضه أحد من الجماعة إلا السلطان بنفسه، وذلك أنه لما سار إليهم تلقاه راكباً. وسار إلى جانبه وأخذ بتلابيبه. وأمر العسكر بأن قصدوا أصحابه، ففروا ونهبهم العسكر. وأنزل شاور إلى خيمة مفردة، وفي الحال ورد توقيع على يد خادم خاص من جهة المصريين يقول: لابد من رأسه، جرياً على عادتهم في وزرائهم. فحز رأسه وأرسل إليهم، وسيروا إلى أسد الدين خلع الوزارة فلبسها، وسار ودخل القصر وترتب وزيراً، وذلك في سابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين وخمسمائة، ودام آمراً وناهياً، والسلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى مباشر الأمور مقرر لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته، إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة. فمات أسد الدين - قلت: وقد تقدم حديث أسد الدين وصورة موته، فلا حاجة إلى شرحها ها هنا، وكذلك وفاة شاور، وهذا كله نقلته من كلام شيخنا ابن شداد في - سيرة صلاح الدين - ولكنني أتيت منه بالمقصود وحذفت الباقي.


 ورأيت بخطي في جملة مسوداتي أن أسد الدين دخل القاهرة يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الآخر من سنة أربع وستين وخمسمائة، وخرج إليه العاضد عبد الله العبيدي آخر ملوك مصر المقدم ذكره وتلقاه، وحضر يوم الجمعة التاسع من الشهر إلى الإيوان، وجلس إلى جانب العاضد وخلع عليه، وأظهر له شاور وداً كثيراً، فطلب منه أسد الدين مالاً ينفقه في عسكره، فدافعه، فأرسل إليه أن الجند تغيرت قلوبهم عليه بسبب عدم النفقة، فإذا خرجت فكن على حذر منهم، فلم يكترث شاور بكلامه، وعزم أن يعمل دعوة يستدعي إليها أسد الدين والعساكر الشامية ويقبض عليهم، فأحس أسد الدين بذلك، فاتفق صلاح الدين وعز الدين جورديك النوري وغيرهما على قتل شاور، وأعلموا أسد الدين فنهاهم عنه. وخرج شاور إلى أسد الدين، وكانت خيامهم على شاطئ النيل بالمقس، فلم يجده في جهته، وكان قد راح إلى زيارة تربة الإمام الشافعي رضي الله عنه بالقرافة، فقال شاور: نمضي إليه، فالتقوه فساروا جميعاً، فاكتنفه صلاح الدين وجورديك وأنزلاه عن فرسه وكتفوه، فهرب أصحابه، فأخذوه أسيراً، ولم يمكنهم قتله بغير إذن نور الدين، وجعلوه في خيمة ورسموا عليه جماعة، فأرسل العاضد يأمرهم بقتله فقتلوه، وسيروا رأسه على رمح إلى العاضد، وذلك يوم السبت لسبع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة. وقيل إن أسد الدين لم يحضر ذلك، بل لما قصد شاور جهة أسد الدين لقيه صلاح الدين وجورديك ومعهما بعض العسكر، فسلم بعضهم على بعض وساروا، ثم فعلا به هذه الفعلة، والله أعلم.


ثم إن العاضد استدعى أسد الدين عقيب قتل شاور، وكان في الخيم فدخل القاهرة، فرأى جمعاً كبيراً من العامة فخافهم فقال لهم: إن مولانا العاضد أمركم بنهب دار شاور، فتفرقوا ومضوا لنهبها، ودخل على العاضد فتلقاه وأفاض عليه خلع الوزارة، ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش. ثم إنه مات يوم الأحد لسبع بقين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة بعلة الخوانيق، وقيل إنه سم في حنك الوزارة لما خلع عليه. وكانت وفاته بالقاهرة ودفن بدار الوزارة، ثم نقل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فكانت مدة وزارته شهرين وخمسة أيام. وقيل إن أسد الدين دخل على العاضد يوم الاثنين التاسع عشر من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، والله أعلم.


قلت: وقد تقدم في ترجمة كل واحد من شاور وأسد الدين ذكر شيء من هذه الأمور التي ذكرتها ها هنا، وإنما أعدت الكلام فيها لأني استوفيتها ها هنا أكثر من هناك، وأيضاً فإن المقصود في هذا كله ذكر سيرة صلاح الدين وتنقلاته وما جرى له من أول أمره إلى آخره، فأحببت ذكر ذلك على سياقة واحدة كي لا ينقطع الكلام فيبقى أبتر، فأقول: ذكر المؤرخون أن أسد الدين لما مات استقرت الأمور بعده للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع، وبذل الأموال وملك قلوب الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله تعالى عليه، فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بقميص الجد والاجتهاد، ومازال على قدم الخير وفعل ما يقربه إلى الله تعالى، إلى أن مات.


قال شيخنا ابن شداد: - سمعته يقول رحمه الله تعالى: لما يسر لي الله الديار المصرية علمت أنه أراد فتح الساحل لأنه أوقع ذلك في نفسي. ومن حين استتب له الأمر ما زال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما وغشي الناس من سحائب الإفضال والإنعام ما لم يؤرخ من غير تلك الأيام، وهذا كله وهو وزير متابع القوم، لكنه يقول بمذهب أهل السنة، غارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين، والناس يهرعون إليه من كل صوب ويفدون عليه من كل جانب، وهو لا يخيب قاصداً ولا يعدم وافداً إلى سنة خمس وستين وخمسمائة -.


- ولما عرف نور الدين استقرار أمر السلطان بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين وذلك في رجب سنة أربع وستين -. ولما علم الفرنج ما جرى من المسلمين وعساكرهم وما تم للسلطان من استقامة الأمر بالديار المصرية، علموا أنه يملك ببلادهم ويخرب ديارهم ويقلع آثارهم، لما حدث له من القوة والملك؛ واجتمع الفرنج والروم جميعاً وقصدوا الديار المصرية، فقصدوا دمياط ومعهم آلات الحصار وما يحتاجون إليه من العدد. ولما سمع فرنج الشام ذلك اشتد أمرهم، فسرقوا حصن عكار من المسلمين وأسروا صاحبها وكان مملوكاً لنور الدين ويقال له خطلخ العلم دار، وذلك في شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين. ولما رأى نور الدين ظهور الفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم، فنزل على الكرك محاصراً لها في شعبان من السنة المذكورة، فقصده فرنج الساحل فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقفوا له، ثم بلغه وفاة مجد الدين ابن الداية، وكانت وفاته بحلب في شهر رمضان سنة خمس وستين، فاشتغل قلبه لأنه كان صاحب أمره، وعاد يطلب الشام، فبلغه أمر الزلازل بحلب التي أخربت كثيراً من البلاد، وكانت في ثاني عشر شوال منها، فسار يطلب حلب، فبلغه خبر موت أخيه قطب الدين بالموصل قلت: وقد ذكرت ذلك في ترجمته واسمه مودود قال: وبلغه الخبر وهو بتل باشر، فسار من ليلته طالباً بلاد الموصل-.


- ولما بلغ صلاح الدين قصد الفرنج دمياط واستعد لهم بتجهيز الرجال وجميع الآلات إليها، ووعدهم بالإمداد بالرجال إن نزلوا عليهم، وبالغ في العطايا والهبات، وكان وزيراً متحكماً لا يرد أمره في شيء. ثم نزل الفرنج عليها واشتد زحفهم وقتالهم عليها، وهو رحمه الله يشن عليهم الغارات من خارج، والعسكر يقاتلهم من داخل، ونصر الله تعالى المسلمين به وبحسن تدبيره، فرحلوا عنها خائبين، فأحرقت مناجيقهم ونهبت آلاتهم، وقتل من رجالهم خلق كثير، واستقرت قواعد صلاح الدين، وسير طلب والده نجم الدين أيوب ليتم له السرور وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف الصديق عليه السلام، فوصل والده إليه في جمادى الآخرة من سنة خمس وستين قلت: هكذا ذكر ابن شداد تاريخ وصوله إلى مصر، والصواب فيه هو الذي ذكرته في ترجمته وسلك معه من الأدب ما جرت به عادته، وألبسه الأمر كله، فأبى أن يلبسه وقال: يا ولدي ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفء له، ولا ينبغي أن يغير موضع السعادة، فحكّمه في الخزائن كلها، ولم يزل وزيراً حتى مات العاضد في التاريخ المقدم ذكره - قلت أكثر ما ذكرته في هذا الفصل منقول من كلام شيخنا ابن شداد في - سيرة صلاح الدين -، وفيه زوائد من غيرها.


والذي ذكره شيخنا الحافظ عز الدين ابن الأثير المذكور قبل هذا في تاريخه الأتابكي أن كيفية ولاية صلاح الدين - أن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر وولاية الوزارة، يعني بعد موت أسد الدين، منهم الأمير عين الدولة الياروقي، وقطب الدين خروا بن تليل وهو ابن أخي أبي الهيجاء الهذباني الذي كان صاحب إربل قلت: وهو صاحب المدرسة القطبية التي بالقاهرة ومنهم سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، وجده كان صاحب القلاع الهكارية قلت: وهو المعروف بالمشطوب والد عماد الدين أحمد بن المشطوب، وقد تقدم ذكره في ترجمة مستقلة قال: ومنهم شهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، وكل واحد من هؤلاء يخطبها لنفسه، وقد جمع ليغالب عليها، فأرسل العاضد صاحب مصر إلى صلاح الدين، وأمره بالحضور في قصره ليخلع عليه خلع الوزارة ويوليه الأمر بعد عمه، وكان الذي حمل العاضد على ذلك ضعف صلاح الدين، فإنه ظن أنه إذا ولي صلاح الدين وليس له عسكر ولا رجال كان في ولايته مستضعفاً يحكم عليه ولا يجسر على المخالفة، وأنه يضع على العسكر الشامي من يستميلهم إليه، فإذا صار معه البعض أخرج الباقين، وتعود البلاد إليه، وعنده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج ونور الدين، والقصة مشهورة، أردت عمراً وأراد الله خارجة - قلت: هذا المثل مشهور بين العلماء وسيأتي الكلام عليه بعد الفراغ من هذه الترجمة إن شاء الله تعالى.


عدنا إلى تمام الكلام الأول:  فامتنع صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا المقتم فألزمه وأخذ كارهاً، إن الله ليعجب من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل. فلما حضر في القصر خلع عليه خلع الوزارة: الجبة والعمامة وغيرهما، ولقب الملك الناصر وعاد إلى دار أسد الدين فأقام بها، ولم يلتفت إليه أحد من أؤلئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري معه - قلت: وقد سبق ذكره في ترجمة مفردة قال ابن الأثير: - فسعى مع سيف الدين علي بن أحمد حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وابن تليل، فمال إلى صلاح الدين. ثم قصد شهاب الدين الحارمي وقال له: إن هذا صلاح الدين هو ابن أختك وملكه لك، وقد استقام الأمر له، فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه، ولا يصل إليك، ولم يزل به حتى أحضره أيضاً عنده وحلفه له؛ ثم عدل إلى قطب الدين وقال له: إن صلاح الدين قد أطاعه الناس، ولم يبق غيرك وغير الياروقي، وعلى كل حال فيجمع بينك وبين صلاح الدين أن أصله من الأكراد فلا يخرج الأمر عنه إلى الأتراك، ووعده وزاد في إقطاعه فأطاع صلاح الدين أيضاً؛ وعدل إلى عين الدولة الياروقي، وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جمعاً، فلم تنفعه رقاه ولا نفذ فيه سحره، وقال: أنا لا أخدم يوسف أبداً، وعاد إلى نور الدين ومعه غيره، فأنكر عليهم فراقه، وقد فات الأمر ليقضي الله أمراً كان مفعولاً -.


- وثبت قدم صلاح الدين ورسخ ملكه، وهو نائب عن الملك العادل نور الدين، والخطبة لنور الدين في البلاد كلها، ولا يتصرفون إلا عن أمره، وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الاصفهسلار، ويكتب علامته في الكتب تعظماً أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده في كتاب، بل يكتب: الأمير الإصفهسلار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا. واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال مما كان أسد الدين قد جمعه، وطلب من العاضد شيئاً يخرجه فلم يمكنه منعه، فمال الناس إليه وأحبوه، وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثبات فيه، وضعف أمر العاضد، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه -.


- وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته فلم يجبه إلى ذلك، وقال: أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد -.


- ثم إن الفرنج اجتمعوا ليسيروا إلى مصر، فسير نور الدين العساكر وفيهم اخوة صلاح الدين، منهم شمس الدولة توران شاه بن أيوب - قلت: وقد تقدم ذكره في ترجمة مستقلة قال: - وهو أكبر من صلاح الدين، فلما أراد أن يسير قال له نور الدين: إن كنت تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد، فلا تسر فإنك تفسد البلاد، وأحضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه صاحب مصر وقائم مقامي وتخدمه بنفسك كما تخدمني، فسر إليه واشدد أزره وساعده على ما هو بصدده، فقال: أفعل معه من الخدمة والطاعة ما يتصل بك إن شاء الله تعالى، فكان معه كما قال -. ثم قال شيخنا ابن الأثير بعد هذا بأوراق في فصل يتعلق بانقراض الدولة المصرية وإقامة الدولة الدولة العباسية بها في المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة فقال: - قطعت خطبة العاضد صاحب مصر، وخطب فيها للإمام المستضيئ بأمر الله أمير المؤمنين، وكان السبب في ذلك أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبت قدمه في مصر وزال المخالفون له، وضعف أمر العاضد، ولم يبق من العساكر المصرية أحد، كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية، فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر، وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى دولة المصريين، فلم يصغ نور الدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة له فيه، واتفق أن العاضد مرض؛ وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة، فاستشار أمراءه كيف الابتداء بالخطبة العباسية، فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها، ومنهم من خاف ذلك، إلا أنه لا يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين. وكان قد دخل إلى مصر إنسان عجمي يعرف بالأمير العالم، وقد رأيناه بالموصل كثيراً، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام قال: أنا أبتدئ بها، فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب، ودعا للمستضيئ بأمر الله فلم ينكر أحد ذلك، فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيئ بأمر الله، ففعلوا ذلك، ولم يتنطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر ديار المصرية. وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أهله وأصحابه بذلك، وقالوا: إن سلم فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن ننعض عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم. ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصره وجميع ما فيه، وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش وهو خصي يحفظه - قلت: وقد تقدم ذكره في ترجمة أيضاً قال: - وجعله كأستاذ دار العاضد، فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين، ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد ووكل بحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في إيوان في القصر وجعل عندهم من يحفظهم، وأخرج من كان من العبيد والإماء، فأعتق البعض ووهب البعض وباع البعض، وأخلى القصر من أهله وسكانه، فسبحان من لا يزول ملكه، ولا يغيره ممر الأيام وتعاقب الدهور، ولما اشتد مرض العاضد أرسل يستدعي صلاح الدين، فظن أن ذلك خديعة فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، فندم على تخلفه عنه .


- وكان ابتداء الدولة العبيدية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين، وأول من ظهر منهم المهدي أبو محمد عبيد الله وبنى المهدية وملك إفريقية كلها - قلت: هكذا ذكر شيخنا ابن الأثير تاريخ استيلاء المهدي عبيد الله على إفريقية، والصواب فيه هو الذي ذكرته في ترجمته فيكشف منه ثم إنه قال: - ولما مات المهدي عبيد الله قام بالأمر بعده ولده القائم أبو القاسم محمد - ثم ذكرهم واحداً واحداً حتى انتهى إلى العاضد المذكور فقال: - وانقرضت دولتهم، فكانت مدة دولتهم مائتي سنة وستاً وستين سنة، وكان مقامهم بمصر مائتي سنة وثماني سنين، وملك منهم أربعة عشر وهم: المهدي والقائم والمنصور والمعز والعزيز والحاكم والظاهر والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد آخرهم - قلت: وقد ذكرت كل واحد من هؤلاء بترجمة مستقلة في هذا الكتاب فمن اختار الوقوف على أحوالهم فليطلبه في اسمه، ولا حاجة إلى ذكره ها هنا قال شيخنا ابن الأثير: - وقد أتينا على ذكر ما أجملناه مستقصى في التاريخ الكبير - يعني كتابه الذي سماه - الكامل - وهو مشهور، ومن أنفع الكتب في بابه.


قال: - ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد ووهب أهله وأمراءه، وباع منه كثيراً، وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفيسة ما لم يكن عند ملك من الملوك، قد جمع على طول السنين وممر الدهور، فمنه القضيب الزمرذ، طوله نحو قبضة ونصف، والجبل الياقوت وغيرهما، ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد.


 " ولما خطب للمستضيء بأمر الله بمصر أرسل نور الدين إليه يعرفه ذلك، فحل عنده أعظم محل، وسير إليه الخلع الكاملة مع عماد الدين صندل المقتفوي إكراماً له، لأن عماد الدين كان كبير المحل في الدولة العباسية، وكذلك أيضاً سير خلعاً لصلاح الدين، إلا أنها أقل من خلع نور الدين، وسيرت الأعلام السود لتنصب على المنابر، وكانت هذه أول أهبة عباسية دخلت مصر بعد استيلاء العبيديين عليها"؛ انتهى ما قاله شيخنا ابن الأثير.


قلت: ولما وصل الخبر إلى الإمام المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن الإمام المستنجد، وهو والد الإمام الناصر لدين الله، بما تجدد من أمر مصر وعود الخطبة والسكة بها باسمه، بعد انقطاعها بمصر هذه المدة الطويلة، نظم أبو الفتح محمد سبط ابن التعاويذي - المقدم ذكره - قصيدة طنانة مدح بها الإمام المستضيء، وذكر هذا الفتوح المتجدد له، وفتوح بلاد اليمن أيضاً، وهلاك الخارجي بها الذي سمى نفسه المهدي وذلك في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وكان صلاح الدين قد أرسل له من ذخائر مصر وأسلاب المصريين شيئاً كثيراً، وأولها:

 

قل للسحـاب إذا مـرت

 

ه يد الجنائب فارجحـن

عج باللوى فاسمح بـدم

 

عك للمعاهد والـدمـن

يا منزل الأنس الجمـي

 

ع وملعب الحي الأغن

سكنت بـك الآرام مـن

 

بعد الأحبة والسـكـن

أين استقلت بالـحـبـي

 

ب ركابه ومتى ظعـن

شوقي إلى زمن الحمى

 

سقي الغوادي من زمن

شوق المغرب شـردت

 

ه يد البعاد عن الوطـن

ولقد عهدتـك والـزمـا

 

ن بشملنا بك ما فطـن

وثراك ما اغبرت مسـا

 

رحه وماؤك ما أجـن

وظباؤك الأتـراب لـي

 

وطر، وتربك لي وطن

لام العـذول ومـا درى

 

وجدي وبلبالي بـمـن

وجدي بمن فضح القضي

 

ب وأخجل الرشأ الأغن

ما ضر من هو فتـنـي

 

لو كان يرحم من فتـن

دمعي طليق في محـب

 

ته وقلبي مـرتـهـن

يا محنتي أودى الصـدو

 

د بعاشق بك ممتـحـن

غادرته وقفاً عـلـى ال

 

عبرات بعدك والحـزن

كلف الفـؤاد مـعـذبـاً

 

بين الإقامة والظـعـن

عطفاً على قرح الجفـو

 

ن بعيد عهد بالـوسـن

لاتبخلي فالـبـخـل يذ

 

هب بهجة الوجه الحسن

ولرب لـيل بـت فـي

 

ه صريع بـاطـية ودن

أختال مـن مـرح وأس

 

حب فضل ذيلي والردن

مع مخطف لدن القـوا

 

م إذا انثنى رخص البدن

لكننـي كـفـرت لـيلة

 

زرته عـنـي وعـن

بمدائحي للمسـتـضـي

 

ء أبي محمد الحـسـن

المستقر مـن الـخـلا

 

فة في الشواهق والقنن

ومنها:

يا جارياً في العدل مـن

 

سنن النبي على سـنـن

يا جامعاً خلق الـنـبـو

 

ة والخلافة فـي قـرن

دانت لهيبتـك الـمـمـا

 

لك والمعاقل والـمـدن

بالمشرفـيات الـصـوا

 

رم والمثقـفة الـلـدن

وأتتك أسلاب الـمـلـو

 

ك من الصعيد إلى عدن

سلب الدعي بأرض مص

 

ر والمضلل في اليمـن

ممـا اقـتـنـاه ذو رع

 

ين في القـديم وذو يزن

وشفيت منهم بالـظـبـا

 

تلك الضغائن والاحـن

لم تغن عنهـم حـين رع

 

تهم الحصون ولا الجنن

أمست سبـاياهـم تـقـا

 

د أذلة قـود الـبــدن

غادرت عرض بلادهـم

 

غرض النوائب والمحن

في كل يوم مـن جـيو

 

شك غارة فيها تـشـن

وأعـدت سـر الأولـيا

 

ء المؤمنين بها عـلـن

ورحضت ما أبقـتـه آ

 

ثار الخوارج مـن درن

فكأن دعوتهـم عـلـى

 

تلك المنابر لـم تـكـن

 

 وهي طويلة فنقتصر منها على هذا القدر ففيه كفاية. ومدحه أيضاً بقصيدة أخرى أشار فيها إلى هذا المعنى، وليس على خاطري من هذه القصيدة سوى غزلها فأحببت ذكره لكونه في غاية الحسن واللطافة، وهو:

 

أهلا بطـلـعة زائر

 

فضح الدجى بضيائها

سمح الزمان بوصلهـا

 

فدنت على عدوائهـا

باتت تعاطيني الـمـدا

 

م وكنت من أكفائهـا

فسكرت من ألحاظهـا

 

وغنيت عن صهبائها

بيضاء قتلـي دأبـهـا

 

في نأيهـا وثـوائهـا

فإذا دنت بجفـونـهـا

 

وإذا نأت بجفـائهـا

لا تلتقـي أبـداً مـوا

 

عدها بيوم وفـائهـا

الشمس من ضراتهـا

 

والبدر من رقبـائهـا

والصبح فوق لثامهـا

 

والليل تحت ردائهـا

مضرية تنمـى إذا ان

 

تسبت إلى حمرائهـا

باتت وأطراف الرمـا

 

ح تجول حول خبائها

فالموت دون فراقهـا

 

والموت دون لقائهـا

ولقد مررت بربعهـا

 

بعد النوى وفنـائهـا

والعين في الأطلال سا

 

كنة على أطـلائهـا

فوقفت أنشد في مطـا

 

لعها بدور سمـائهـا

وبكيت حتى كـدت أع

 

طف بانتي جرعائهـا

يا موحش العين التـي

 

أنست بطول بكائهـا

غادرت بين جوانحـي

 

نفساً تموت بـدائهـا

تشتاق عيني أن تـرا

 

ك وأنت في سودائها

فإذا بخلت بـنـظـرة

 

سمحت بجمة مائهـا

فكأنها كف الخـلـي

 

فة أسبلت بعطـائهـا

 

وبعد هذا شرع في المديح وأبدع فيها جميعها. وسأذكر بعد هذا عند أواخر هذه الترجمة شيئاً من مدائحه في صلاح الدين إن شاء الله تعالى، فقد كان يسير قصائده إليه من بغداد فتصل أولاً إلى القاضي الفاضل، ومعها مديح للفاضل، وهو الذي يعرض قصائده على صلاح الدين، رحمه الله تعالى. ثم ذكر شيخنا ابن الأثير بعد هذا فصلاً يتضمن حصول الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين باطناً فقال: "وفي سنة سبع وستين أيضاً حدث ما أوجب نفرة نور الدين عن صلاح الدين، وكان الحادث أن نور الدين أرسل إلى صلاح الدين يأمره بجمع العساكر المصرية والمسير بها إلى بلد الفرنج والنزول على الكرك ومحاصرته ليجمع هو أيضاً عساكره ويسير إليه، ويجتمعا هناك على حرب الفرنج والاستيلاء على بلادهم؛ فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرم، وكتب إلى نور الدين يعرفه أن رحيله لا يتأخر. وكان نور الدين قد جمع عساكره وتجهز، وأقام ينتظر ورود الخبر من صلاح الدين برحيله ليرحل هو، فلما أتاه الخبر بذلك رحل من دمشق عازماً على قصد الكرك، فوصل إليه وأقام ينتظر وصول صلاح الدين إليه، فأرسل كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال البلاد المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها وأنه يخاف عليها مع البعد عنها فعاد إليها، فلم يقبل نور الدين عذره. وكان سبب تقاعده أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين. فحيث لم يمتثل فحيث لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها، فبلغ الخبر إلى صلاح الدين، فجمع أهله، وفيهم والده نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه عن عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه، واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء، فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين - قلت: وقد تقدم ذكره في ترجمة مستقلة - قال: وقال: إذا جاء قاتلناه وصددناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأي ومكر وعقل، وقال لتقي الدين: اقعد، وسبه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك، أتظن أن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا؟ فقال: لا، فقال: والله لو رأيت أنا وهذا خالك شهاب الدين نور الدين لم يمكنا إلا أن نترجل له ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا كيف يكون غيرنا؟ وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه، ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه. وهذه البلاد له وقد أقامك فيها، وإن أراد عزلك فأي حاجة له إلى المجيء؟ يأمرك بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد، وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا، ونحن مماليك نور الدين وعبيده يفعل بنا ما يريد، فتفرقوا على هذا. وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر.


ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد جعلك أهم الأمور إليه، وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم تر معك أحداً من هذا العسكر وكانوا أسلموك إليه، وأما الآن بعد هذا المجلس فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي، وتكتب أنت إليه وترسل في المعنى، وتقول: أي حاجة إلى قصدي؟ يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واستعمل ما هو أهم عنده، والأيام تندرج، والله في كل وقت في شان والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل ففعل صلاح الدين ما أشار به والده. فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب. وتوفي نور الدين ولم يقصده، وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها "؛ انتهى ما ذكره ابن الأثير. وقال شيخنا ابن شداد في السيرة: لم يزل صلاح الدين على قدم بسط العدل ونشر الإحسان، وإفاضة الإنعام على الناس إلى سنة ثمان وستين وخمسمائة، فعند ذلك خرج بالعسكر يريد بلاد الكرك والشوبك، وإنما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية، وكان لا يمكن أن تعبر قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها، فأراد توسيع الطريق وتسهيلها، فحاصرها في هذه السنة، وجرى بينه وبين الفرنج وقعات، وعاد ولم يظفر منها بشيء، ولما عاد بلغه خبر وفاة والده نجم الدين أيوب قبل وصوله إليه" - قلت: وقد ذكرت تاريخ وفاته في ترجمته - قال: ولما كانت سنة تسع وستين رأى قوة عسكره وكثرة عدده، وكان بلغه أن باليمن إنساناً استولى عليها وملك حصونها، يسمى عبد النبي بن مهدي، فسير أخاه توران شاه، فقتله وأخذ البلاد منه - وقد بسطت القول في ذلك في ترجمته - ثم توفي نور الدين في سنة تسع وستين حسبما شرحته في ترجمته فلا حاجة إلى الإعادة.


وبلغ صلاح الدين أن إنساناً يقال له "الكنز" جمع بأسوان خلقاً عظيماً من السودان، وزعم أنه يعيد الدولة المصرية، وكان أهل مصر يؤثرون عودهم، فانضافوا إلى الكنز المذكور، فجهز صلاح الدين إليه جيشاً كثيفاً وجعل مقدمه أخاه الملك العادل، وساروا فالتقوا وكسروهم، وذلك في السابع من صفر سنة سبعين وخمسمائة، واستقرت له قواعد الملك.


وكان نور الدين رحمه الله قد خلف والده الملك الصالح إسماعيل - المذكور في ترجمة أبيه - وكان بدمشق عند وفاة أبيه، وكان بقلعة حلب شمس الدين علي بن الداية وشاذبخت، وكان ابن الداية قد حدث نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب، فوصل إلى ظاهرها في المحرم من سنة سبعين، ومعه سابق الدين، فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين، ولما دخل الملك الصالح القلعة قبض على شمس الدين وأخيه حسن المذكور وأودع الثلاثة السجن، وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل بن الخشاب لفتنة جرت بحلب، وقيل بل قتل قبل قبض أولاد الداية بيوم، لأنهم تولوا تدبير ذلك.


ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن والده الملك الصالح صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك، واختلفت الأحوال بالشام، وكاتب شمس الدين بن المقدم صلاح الدين، فتجهز من مصر في جيش كثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة وتسلم قلعتها، وكان أول دخوله دار أبيه - قلت: وهي الدار المعروفة بالشريف العقيقي، وهي اليوم في قبالة المدرسة العادلية مشهورة هناك بالعقيقي - قال: واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق في ذلك اليوم مالاً جليلاً وأظهر السرور بالدمشقيين، وصعد القلعة، وسار إلى حلب فنازل حمص وأخذ مدينتها في جمادى الأولى من السنة ولم يشتغل بقلعتها، وتوجه إلى حلب ونازلها في يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى من السنة، وهي الوقعة الأولى.


 ثم إن سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي صاحب الموصل لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرت قدمه في الملك وتعدى الأمر إليه، فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود، وساروا يريدون لقاءه ليردوه عن البلاد، فلما بلغ صلاح الدين ذلك رحل عن حلب في مستهل رجب من السنة عائداً إلى حماة، ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها، ووصل عز الدين مسعود إلى حلب وأخذ عسكر معه ابن عمه الملك الصالح بن نور الدين صاحب حلب يومئذ، وخرجوا في جمع عظيم، فلما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة، وراسلهم وراسلوه واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أن ضرب المصاف معه ربما نالوا به غرضهم، والقضاء يجر إلى أمور وهم بها لا يشعرون، فتلاقوا فقضى الله تعالى أن انكسروا بين يديه، وأسر جماعة منهم فمن عليهم، وذلك في تاسع شهر رمضان من السنة عند قرون حماة. ثم سار عقيب كسرتهم ونزل على حلب، وهي الدفعة الثانية، فصالحوه على أخذ المعرة وكفر طاب وبارين، ولما جرت هذه الوقعة كان سيف الدين غازي يحاصر أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار، وعزم على أخذها منه، لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، وكان قد قارب أخذها، فلما بلغه الخبر وأن عسكره انكسر خاف أن يبلغ أخاه عماد الدين الخبر فيشتد أمره ويقوى جأشه، فراسله وصالحه. ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها،وسار إلى البيرة وعبر الفرات، وخيم على الجانب الشامي، وراسل ابن عمه الصالح بن نور الدين صاحب حلب حتى تستقر له قاعدة يصل عليها، ثم إنه وصل إلى حلب وخرج الملك الصالح إلى لقائه، وأقام على حلب مدة وصعد قلعتها جريدة، ثم نزل وسار إلى تل السلطان - قلت: وهي منزلة بين حماة وحلب - قال: ومعه جمع كبير، وأرسل صلاح الدين إلى مصر طلب عسكرها، فوصل إليه، وسار به حتى نزل على قرون حماة، ثم تصافوا بكرة نهار الخميس العاشر من شوال سنة إحدى وسبعين، وجرى قتال عظيم وانكسرت مسيرة صلاح الدين بمظفر الدين بن زين الدين - قلت: هو صاحب إربل المقدم ذكره - قال: فإنه كان على ميمنة سيف الدين، فحمل صلاح الدين بنفسه فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء فمن عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب فأخذ منها خزائنه وسار حتى عبر الفرات وعاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين من تتبع القوم، ونزل في بقية ذلك اليوم في خيامهم، فإنهم تركوا أثقالهم وانهزموا، ففرق صلاح الدين الاصطبلات ووهب الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين فرخشاه - قلت: هو ابن شاهان شاه بن أيوب، وهو أخو تقي الدين عمر صاحب حماة وفرخشاه صاحب بعلبك وهو والد الملك الأمجد بهرام شاه، صاحب بعلبك -.


قال: وسار إلى منبج فتسلمها، ثم سار إلى قلعة عزاز يحاصرها، وذلك في رابع ذي القعدة من سنة إحدى وسبعين، وعليها وثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله سبحانه منهم وظفره بهم، وأقام عليها حتى أخذها في رابع عشر ذي الحجة من السنة، ثم سار فنزل على حلب في سادس عشر الشهر المذكور، وأقام عليها مدة ثم رحل عنها، وكانوا قد اخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين سألته عزاز فوهبها لها، ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها، وكان مسيره إليها في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وسبعين، وكان أخوه شمس الدولة توران شاه قد وصل إليه من اليمن فاستخلفه بدمشق. ثم تأهب للغزاة وخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرملة، وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكانت الكسرة على المسلمين في ذلك اليوم - قلت: وذلك لأمر يطول شرحه - قال: فلما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق، وتبددوا وأسر منهم جماعة منهم الفقيه عيسى الهكاري وكان ذلك وهناً عظيماً جبره الله تعالى بوقعة حطين المشهورة.


 وأما الملك الصالح صاحب حلب فإنه تخبط أمره، وقبض على كمشتكين صاحب دولته، وطلب منه تسليم حارم إليه فلم يفعل، فقتله، فلما سمع الفرنج بقتله نزلوا على حارم طمعاً فيها، وذلك في جمادى الآخرة من السنة، فلما رأى أهل قلعتها الخطر من جهة الفرنج سلموها إلى الملك الصالح في العشر الأواخر من شهر رمضان من السنة، فرحل الفرنج عنها.


وأقام صلاح الدين بمصر حتى لم شعثه وشعث أصحابه من أثر كسرة الرملة، ثم بلغه تخبط الشام فعزم على العود إليه، واهتم بالغزاة فوصله رسول قليج أرسلان صاحب الروم يلتمس الصلح ويتضرر من الأرمن، فعزم على قصد بلاد ابن لاون - قلت: وهي بلاد سيس الفاضلة بين حلب والروم من جهة الساحل - قال: لينصر قليج أرسلان عليه، فتوجه إليه واستدعى عسكر حلب لأنه كان في الصلح أنه متى استدعاه حضر إليه، ودخل بلد ابن لاون، وأخذ في طريقه حصناً وأخربه، ورغبوا إليه في الصلح فصالحهم ورجع عنهم. ثم سأله قليج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم فأجاب إلى ذلك، وحلف صلاح الدين في عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمسمائة، ودخل في الصلح قليج أرسلان والمواصلة وعاد بعد تمام الصلح إلى دمشق ثم منها إلى مصر.


ثم توفي الملك الصالح بن نور الدين في التاريخ المذكور في ترجمة والده، وكان قد استحلف أمراء حلب وأجنادها لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل - قلت: وقد تقدم ذكره، وهو ابن قطب الدين مودود - فلما مات سيف الدين في التاريخ المذكور في ترجمته قام مقامه أخوه عز الدين مسعود المذكور - قال: فلما بلغ عز الدين خبر موت الملك الصالح وأنه أوصى له بحلب بادر إلى التوجه إليها خوفاً أن يسبقه صلاح الدين فيأخذها، فكان أول قادم إليها مظفر الدين بن زين الدين - قلت: هو صاحب إربل، وكان إذ ذاك صاحب حران، وهو مضاف إلى المواصلة لأن تلك البلاد كانت لهم - قال: فوصلها مظفر الدين في ثالث شعبان سنة سبع وسبعين، وفي العشرين منه وصلها عز الدين مسعود وصعد إلى القلعة فاستولى على ما فيها من الحواصل، وتزوج أم الملك الصالح في خامس شوال من السنة.


قلت: ثم إن شيخنا ابن شداد ذكر بعد هذا أموراً ذكرتها في ترجمة عز الدين مسعود بن مودود وترجمة أخيه عماد الدين زنكي وترجمة تاج الملوك بوري أخي صلاح الدين، فلا حاجة إلى إعادتها ها هنا، فمن أراد الوقوف عليها يكشفها في هذه التراجم.


قلت: وحاصل الأمر أن عز الدين مسعوداً قايض أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار عن حلب بسنجار، وخرج عز الدين عن حلب ودخلها عماد الدين زنكي فجاءه صلاح الدين وحاصره، فلم يقدر عماد الدين على حفظ حلب، وكان نزول صلاح الدين على حلب في السادس والعشرين من المحرم سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وقال ابن شداد: نزل عليها في سادس عشر المحرم، والله أعلم. فتحدث عماد الدين زنكي مع الأمير حسام الدين طمان بن غازي بن يلمي بن تنجول من جبل سلور بحلب في السر بما يفعله، فأشار عليه بأن يطلب منه بلاداً وينزل له عن حلب، بشرط أن يكون له جميع ما في القلعة من الأموال، فقال له عماد الدين: وهذا كان في نفسي. ثم اجتمع حسام الدين طمان بصلاح الدين في السر على تقرير القاعدة في ذلك، فأجابه صلاح الدين إلى ما طلب، ودفع له سنجار والخابور ونصيبين وسروج، ودفع لطمان الرقة لسفارته بينهما، وحلف صلاح الدين على ذلك في سابع عشر صفر من السنة. وكان صلاح الدين قد نزل على سنجار وأخذها في ثامن شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأعطاها لابن أخيه تقي الدين عمر، فلما جرى الصلح على هذه الصورة أعطاها عماد الدين، وتسلم صلاح الدين قلعة حلب وصعد إليها يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وأقام بها حتى رتب أمورها ثم رحل عنها في الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة، وجعل فيها ولده الملك الظاهر - المقدم ذكره في ترجمة مستقلة - وكان صبياً، وولى القلعة سيف الدين يازكوج الأسدي وجعله يرتب مصالح ولده. ثم سار صلاح الدين إلى دمشق في التاريخ المذكور؛ قال ابن شداد: وتوجه من دمشق لقصد محاصرة الكرك في الثالث من رجب من السنة، وسير إلى أخيه الملك العادل وهو بمصر يستدعيه ليجتمع به على الكرك، فسار إليه بجمع كثير وجيش عظيم، واجتمع به على الكرك في رابع شعبان من السنة، فلما بلغ الفرنج الخبر حشدوا خلقاً كثيراً، وجاءوا إلى الكرك ليكونوا في قبالة عسكر المسلمين، فخاف صلاح الدين على الديار المصرية، فسير إليها ابن أخيه تقي الدين عمر. ورحل عن الكرك في سادس عشر شعبان من السنة، واستصحب أخاه الملك العادل معه، ودخل دمشق في الرابع والعشرين من شعبان من السنة، وأعطاه حلب، ودخلها في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رمضان من السنة، وخرج الملك الظاهر ويازكوج ودخلا دمشق في يوم الإثنين الثامن والعشرين من شوال من السنة. وكان الملك الظاهر أحب أولاده إليه لما فيه من الخلال الحميدة، ولم يأخذ منه حلب إلا لمصلحة رآها في ذلك الوقت، وقيل إن العادل أعطاه على أخذ حلب ثلثمائة ألف دينار يستعين بها على الجهاد، والله أعلم.


ثم إن صلاح الدين رأى أن عود الملك العادل إلى مصر وعود الملك الظاهر إلى حلب أصلح؛ قيل كان سبب ذلك أن الأمير علم الدين سليمان بن جندر قال لصلاح الدين - وكان بينهما مؤانسة قبل أن يتملك البلاد، وقد سايره يوماً، وكان من أمراء حلب، والملك العادل لا ينصفه ويقدم عليه غيره، وكان صلاح الدين قد مرض على حصار الموصل وحمل إلى حران وأشفى على الهلاك، فلما عوفي رجع إلى الشام، واجتمعا على المسير، قال له وكان صلاح الدين، قد أوصى لكل واحد من أولاده بشيء من البلاد -: بأي رأي كنت تظن أن وصيتك تمضى، كأنك كنت خارجاً إلى الصيد وتعود فلا يخالفونك؟ أما تستحي أن يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة؟ قال: وكيف ذاك؟ وهو يضحك، قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشاً لفراخه قصد أعالي الشجر ليحمي فراخه، وأنت سلمت الحصون إلى أهلك، وجعلت أولادك على الأرض: هذه حلب، وهي أم البلاد، بيد أخيك، وحماة بيد ابن أخيك تقي الدين، وحمص بيد ابن أسد الدين، وابنك الأفضل مع تقي الدين بمصر يخرجه متى شاء، وابنك الآخر مع أخيك في خيمة يفعل به ما أراد، فقال له: صدقت، واكتم هذا الأمر، ثم أخذ حلب من أخيه وأعطاها ابنه الملك الظاهر، وأعطى الملك العادل بعد ذلك حران والرها وميافارقين ليخرجه من الشام ويتوفر الشام على أولاده، فكان ما كان. قلت: وقد تقدم في ترجمة عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود صاحب الموصل فصل يتعلق بنزول صلاح الدين على الموصل وحصارها ثلاث مرار، ولم يقدر عليها. قال شيخنا ابن الاثير في تاريخه: إنه نزل عليها في الدفعة الثالثة وكان زمن الشتاء، وعزم على المقام وإقطاع جميع بلاد الموصل، وكان نزوله في شعبان من سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، فأقام شعبان وشهر رمضان، وترددت الرسل بينه وبين صاحبها. فبينما هو كذلك مرض صلاح الدين فعاد إلى حران. ولحقته الرسل بالإجابة إلى ما طلب. وتم الصلح على أن يسلم إليه صاحب الموصل شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي وما وراء الزاب من الأعمال، وأن يخطب له على المنابر وينقش اسمه على السكة، فلما حلف أرسل صلاح الدين نوابه وتسلم البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمها. وطال المرض على صلاح الدين بحران. واشتد به. حتى أيسوا منه، فحلف الناس لأولاده، وكان عنده منهم الملك العزيز عماد الدين عثمان، وأخوه العادل جاءه من حلب وهو ملكها يومئذ. وجعل لكل واحد شيئاً من البلاد، وجعل الملك العادل وصياً على الجميع. ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم من سنة اثنتين وثمانين، ولما كان مريضاً بحران، كان عنده ناصر الدين محمد ابن عمه "شيركوه" وله من الإقطاع حمص والرحبة، فسار من عنده إلى حمص واجتاز بحلب. وأحضر جماعة من الأحداث ووعدهم وأعطاهم مالاً. ولما وصل إلى حمص راسل جماعة من أهل دمشق ووعدهم على تسليم دمشق إليه إذا مات صلاح الدين. فعوفي ولم يمض قليل حتى مات ناصر الدين ليلة عيد النحر من السنة، فإنه شرب الخمر فأكثر منه فأصبح ميتاً، وقيل إن صلاح الدين وضع عليه إنساناً فحضر عنده، ونادمه وسقاه سماً، فلما أصبحوا من الغد لم يروا ذلك الشخص، وكان يقال له الناصح بن العميد، فسألوا عنه، فقالوا إنه سار من ليلته، وكان هذا مما قوى الظن، والله أعلم. فلما توفي أعطى إقطاعه لولده شيركوه وعمره اثنتا عشرة سنة، وخلف من الأموال والدواب والأثاث شيئاً كثيراً، فحضر صلاح الدين إلى حمص واستعرض تركته وأخذ أكثرها، ولم يترك إلا ما لا خير فيه. ثم قال شيخنا بعد هذا كله: وبلغني أن شيركوه حضر عند صلاح الدين بعد موت أبيه بسنة فقال له: إلى أين بلغت في القرآن؟ فقال له: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً "النساء:10" فعجب الجماعة وصلاح الدين من ذكائه، والله اعلم بصحة ذلك.


قال ابن شداد: ولما وصل صلاح الدين إلى دمشق عقيب مرضه وإبلاله سير طلب أخاه الملك العادل، فخرج من حلب جريدة ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وثمانين، ومضى إلى دمشق فأقام في خدمة السلطان صلاح الدين، وجرت بينهما أحاديث ومراجعات وقواعد تتقرر إلى جمادى الآخرة من السنة، فاستقر الأمر على عود الملك العادل إلى مصر، وأخذت حلب منه وسار الملك الظاهر إليها فدخل قلعتها يوم السبت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة؛ وقد ذكرت في ترجمة الملك الظاهر أنه دخل حلب مالكاً لها في مثل يوم وفاته، وعينت هناك التاريخ واسم اليوم، وهكذا وجدته، وما أدري من أين نقلته.


وسلم السلطان ولده الملك العزيز إلى العادل وجعله أتابكه، وقال ابن شداد قال لي الملك العادل: لما استقرت هذه القاعدة اجتمعت بخدمة الملك العزيز والملك الظاهر وجلست بينهما، وقلت للملك العزيز: اعلم يا مولاي أن السلطان أمرني أن أسير في خدمتك إلى مصر، وأنا أعلم أن المقدمين كثير، وما يخلو أن يقال عني ما لا يجوز، ويخوفوك مني، فإن كان لك عزم أن تسمع منهم فقل لي حتى لا أجيء، فقال: كيف يتهيأ لي أن أسمع منهم أو أرجع إلى رأيهم؟ ثم التفت إلى الملك الظاهر وقلت له: أنا أعرف أن أخاك ربما سمع في أقوال المقدمين، وأنا فما لي إلا أنت، وقد قنعت منك بمنبج متى ضاق صدري من جانبه، فقال: مبارك، وذكر لي كل خير.


وزوج السلطان ولده الملك الظاهر غازية خاتون ابنة أخيه الملك العادل، ودخل بها يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة. ثم كانت وقعة حطين المباركة على المسلمين، قال: وكانت في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة في وسط نهار الجمعة، وكان كثيراً ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركاً بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر، فسار في ذلك الوقت بمن اجتمع له من العساكر الإسلامية، وكانت تجوز العد والحصر، على تعبية حسنة وهيئة جميلة، وكان قد بلغه عن العدو أنه اجتمع في عدة كثيرة بمرج صفورية بأرض عكا عندما بلغهم اجتماع العساكر الإسلامية، فسار ونزل على بحيرة طبرية ثم رحل ونزل على طبرية على سطح الجبل ينتظر قصد الفرنج له، إذا بلغهم نزوله بالموضع المذكور، فلم يتحركوا ولا خرجوا من منزلتهم، وكان نزولهم بالموضع المذكور يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر، فلما رآهم لا يتحركون نزل جريدة على طبرية، وترك الأطلاب على حالها قبالة العدو، ونازل طبرية وهجمها وأخذها في ساعة واحدة، وانتهب الناس ما بها وأخذوا في القتل والسبي والحريق، وبقيت القلعة محتمية بمن فيها.


ولما بلغ العدو ما جرى على طبرية قلقوا لذلك ورحلوا نحوها، فبلغ السلطان ذلك فترك على طبرية من يحاصر قلعتها ولحق بالعسكر، فالتقى بالعدو على سطح جبل طبرية الغربي منها، وذلك في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر، وحال الليل بين العسكرين قياماً على مصاف إلى بكرة يوم الجمعة الثالث والعشرين منه، فركب العسكران وتصادما، والتحم القتال واشتد الأمر، وذلك بأرض قرية تعرف بلوبيا، وضاق الخناق بالعدو وهم سائرون كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وقد أيقنوا بالويل والثبور، وأحسن نفوسهم أنهم في غد يومهم ذلك من زوار القبور، ولم تزل الحرب تضطرم، والفارس مع قرنه يصطدم، ولم يبق إلا الظفر، ووقع الوبال على من كفر، فحال بينهم الليل بظلامه، وبات كل واحد من الفريقين في سلاحه إلى صبيحة يوم السبت، فطلب كل من الفريقين مقامه، وتحقق المسلمون أن ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو، وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد، فحملت أطلاب المسلمين من جميع الجوانب، وحمل القلب، وصاحوا صيحة رجل واحد، فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين، وكان حقاً عليه نصر المؤمنين، ولما أحس القومص بالخذلان هرب منهم في أوائل الأمر وقصد جهة صور، وتبعه جماعة من المسلمين، فنجا منهم وكفى الله شره، وأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب، وأطلقوا عليهم السهام، وحكموا فيهم السيوف وسقوهم كأس الحمام، وانهزمت طائفة منهم فتبعها أبطال المسلمين فلم ينج منها أحد، واعتصمت طائفة منهم بتل يقال له تل حطين، وهي قرية عندها قبر النبي شعيب عليه السلام، فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران، واشتد بهم العطش وضاق بهم الأمر، حتى كانوا يستسلمون للأسر خوفاً من القتل، لما مر بهم، فأسر مقدموهم وقتل الباقون، وكان ممن سلم من مقدميهم الملك جفري، وأخوه، والبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك، وابن الهنفري وابن صاحبة طبرية، ومقدم الديوية، وصاحب جبيل، ومقدم الاسبتار، قال ابن شداد: ولقد حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصاً واحداً معه نيف وثلاثون أسيراً قد ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان.


ثم إن القومص الذي هرب في أول الأمر وصل إلى طرابلس، فأصابه ذات الجنب فهلك منها، وأما مقدما الاسبتار والديوية فإن السلطان قتلهما وقتل من بقي من صنفهما حياً، وأما البرنس أرناط فإن السلطان كان قد نذر أنه إن ظفر به قتله، وذلك لأنه كان قد به عبر عند الشوبك قوم من الديار المصرية في حال الصلح فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الصلح الذي بينه وبين المسلمين، فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ السلطان فحملته حميته ودينه على أن يهدر دمه. ولما فتح الله تعالى عليه بنصره جلس في دهليز الخيمة لأنها لم تكن نصبت بعد، وعرضت عليه الأسارى، وسار الناس يتقربون إليه بمن في أيديهم منهم، وهو فرح بما فتح الله تعالى على يده للمسلمين، ونصبت له الخيمة فجلس فيها شاكراً لله تعالى على ما أنعم به عليه. واستحضر الملك جفري وأخاه البرنس أرناط، وناول السلطان جفري شربة من جلاب وثلج فشرب منها، وكان على أشد حال من العطش، ثم ناولها البرنس؛ وقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته، وإلا أنا فما سقيته. وكان من جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن، فقصد السلطان بقوله ذلك، ثم أمر بمسيرهم إلى موضع عينه لهم، فمضوا بهم إليه فأكلوا شيئاً، ثم عادوا بهم، ولم يبق عنده سوى بعض الخدم فاستحضرهم، وأقعد الملك في دهليز الخيمة، واستحضر البرنس أرناط وأوقفه بين يديه وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد منك، ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل، فسل النيمجاه فضربه بها فحل كتفه وتمم قتله من حضر، وأخرجت جثته ورميت على باب الخيمة. فلما رآه الملك على تلك الحال لم يشك في أنه يلحقه به، فاستحضره وطيب قلبه وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء صلوات الله عليهم، وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور، ترتفع أصواتهم بحمد الله وشكره وتهليله وتكبيره، حتى طلع الفجر. ثم نزل السلطان على طبرية يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر، وتسلم قلعتها في ذلك النهار وأقام عليها إلى يوم الثلاثاء.


ثم رحل طالباً عكا فكان نزوله عليها يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر، وقاتلها بكرة يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين فأخذها، واستنقذ من كان بها من أسارى المسلمين وكانوا أكثر من أربعة آلاف نفس، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع لأنها كانت مظنة التجار، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة، وكان ذلك لخلوها من الرجال لأن القتل والأسر أفنى كثيراً منهم. ولما استقرت قواعد عكا وقسم أموالها وأساراها، سار يطلب تبنين، فنزل عليها يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، وهي قلعة منيعة، فنصب عليها المناجيق وضيق بالزحف خناق من فيها، وكان فيها أبطال معدودون وفي دينهم متشددون، فقاتلوا قتالاً شديداً، ونصره الله سبحانه عليهم، فتسلمها منهم يوم الأحد ثامن عشره عنوة، وأسر من بقي فيها بعد القتل. ثم رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها، وتسلمها في غد يوم نزوله عليها، وهو يوم الأربعاء العشرون من جمادى الأولى، وأقام عليها ريثما قرر قواعدها. وسار حتى أتى بيروت فنازلها ليلة الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى وركب عليها المجانيق، وداوم الزحف والقتال حتى أخذها في يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر المذكور وتسلم أصحابه جبيل، وهو على بيروت.


ولما فرغ باله من هذا الجانب رأى قصد عسقلان، ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها. ثم رأى ابن العسكر قد تفرق في الساحل وذهب كل واحد يحصل لنفسه، وكانوا قد ضرسوا من القتال وملازمة الحرب والنزال، وكان قد اجتمع في صور من بقي في الساحل من الفرنج، فرأى أن قصده عسقلان أولى لأنها أيسر من صور، فأتى عسقلان ونزل عليها يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة من السنة، وتسلم في طريقه إليها مواضع كثيرة كالرملة والداروم، وأقام في عسقلان المناجيق وقاتلها قتالاً شديداً، وتسلمها في يوم السبت سلخ جمادى الآخرة من السنة، وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبريل والنطرون بغير قتال، وكان بين فتح عسقلان وأخذ الفرنج لها من المسلمين خمس وثلاثون سنة، فإنهم كانوا أخذوها من المسلمين في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، هكذا ذكره شيخنا ابن شداد في "السيرة"، وذكر الشهاب ياقوت الحموي في كتابه الذي سماه "المشترك وضعا المختلف صقعا" أنهم أخذوها من المسلمين في رابع عشر جمادى الآخرة من السنة.


 قال ابن شداد: لما تسلم عسقلان والاماكن المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك. واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل، فسار نحوه معتمداً على الله تعالى مفوضاً أمره إليه، منتهزاً الفرصة في فتح باب الخير الذي حث على انتهازه بقوله صلى الله عليه وسلم " من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه"؛ وكان نزوله عليه في يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وكان نزوله بالجانب الغربي، وكان مشحوناً بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، وحزر أهل الخبرة ممن كان معه من كان فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفاً خارجاً عن النساء والصبيان، ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب المناجيق، وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم. ولما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم، وظهرت لهم أمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم، وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر وعلى حصونهم من التخريب والهدم، وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه، فاستكانوا واخلدوا إلى طلب الأمان، واستقرت القاعدة بالمراسلة من الطائفتين، وكان تسلمه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم، فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب. كيف يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى. وكان فتحه عظيماً شهده من أهل العلم خلق، ومن أرباب الخرق والزهد عالم، وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسره الله تعالى على يده من فتوح الساحل وقصده القدس، قصده العلماء من مصر والشام، بحيث لم يتخلف أحد منهم، وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه وخطب الخطيب - قلت: وقد تقدم في ترجمة القاضي محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن الزكي ذكر الخطبة التي خطب بها ذلك اليوم، فيكشف منه. ورأيت في رسالة القاضي الفاضل المعروفة بالقدسية أن الخطبة أقيمت يوم الجمعة رابع شعبان، والله أعلم.


وإذ قد ذكرنا فتوح القدس، وقد تقدم ذكر الخطبة التي خطب يوم الجمعة بها، يليق أن نذكر الرسالة التي كتبها القاضي الفاضل إلى الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد ابن الإمام المستضىء بأمر الله، تتضمن الفتوح فإنها بديعة بليغة في بابها، ولم اذكرها بكمالها بل اخترت منها أحسنها، وتركت الباقي لأنها طويلة، وهي: أدام الله تعالى أيام الديوان العزيز النبوي، ولا زال مظفر الجد بكل جاحد، غنياً بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والنصل في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي إلا بنبل غوي وريش راشد، لا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواء إلى المراتع وأنواراً إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلاً إلى المراقب وخيالاً إلى المراقد.


 كتب الخادم هذه الخدمة، تلو ما صدر عنه مما كان يجري التباشير لصبح هذه العزمة، والعنوان لكتاب وصف النعمة، فإنها بحر للأقلام فيه سبح طويل، ولطف لحمل الشكر فيه عبء ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله تعالى في إعادة شكره رضا، وللنعمة الراهنة به دوام لا يقال معه: هذا مضى. ولقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، وقد استتبت عقائد أهله على أبين بصائرها، وتقلص ظل رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه فلما وقع الشرط وقع المشروط، وكان الدين غريباً فهو الآن في وطنه، والفوز معروضاً فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمرٌ الحق وكان مستضعفاً، وأهل ربعه وكان قد عيف حين عفا، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشرك راغمة، وأدلجت السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوار أبانت أن الصباح عندها جنان الجنين، واسترد المسلمون تراثاً كان عنهم آبقاً، وظفروا يقظة بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفاً على النأي طارقاً، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشفى بالماء غللهم، ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود بيت عصمتها من الكافر بحربه.


وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النعمى، ولا يناجز من يستمطله في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من يتعادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسن ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيراً خاطر، ومن رام صفقة رابحة جاسر، ومن سما لأن يجلي غمرة غامر، وإلا فإن القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فيعضها، ويضعف في أيديها مهز القوائم فيفضها، هذا إلى كون القعود لا يقضى به فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حقه في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي يطوقه الخادم من أئمة قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وخلفاء كانوا في مثل هذا اليوم يسألون، لا جرم أنهم أورثوا سرهم وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطليعتهم المنيفة، وعنوان صحيفة فضلهم لا عدم سواد القلم وبياض الصحيفة. فما غابوا لما حضر، ولا غضوا لما نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولاً. وشاطروه العمل لما كان عنه منقولاً، ومنه مقبولاً، وخلص إليهم إلى المضاجع فاطمأنت به جنوبها، وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكر لا يزال الليل به سميراً، والنهار به بصيراً، والشرق يهتدي بأنواره، بل إن بدا نور من ذاته هتف به الغرب بأن واره، فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا توازيه أوراق الصحف.


وكتب الخادم هذا وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شققا، وطارت فرقه فرقاً، وفل سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عدداً وحصى، وكلت حملاته وكان قدراً يضرب فيه العنان بالعنان، وعقوبة من الله ليس لصاحب يديها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كثيفة، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأصبحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب الفرد الواحد وكان عندهم الثالث، وبيوت الكفر مهدومة، ونيوب الشرك مهتومة، وطوائفه المحامية، مجمعة على تسليم القلاع الحامية، وشجعانه المتوافية، مذعنة لبذل القطائع الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في نار الأنفة لهم نصرة، قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.


 وقد كان الخادم لقيهم اللقاة الأولى فأمده الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرة ما بعدها جبر، وصرعهم صرعة لا ينتعش بعدها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من قتلت به المناصل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسلاح والكفار، وعن أصناف يخيل بأنه قتلهم بالسيوف الأفلاق والرماح الأكسار، فنيلوا بثار من السلاح ونالوه أيضاً بثار، فكم أهلة سيوف تقارضن الضراب بها حتى عادت كالعراجين، وكم أنجم قنا تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين، وكم فارسية ركض عليها فارسها الشهم إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة وافترسه، فكان اليوم مشهوداً وكانت الملائكة شهوداً، وكان الضلال صارخاً وكان الإسلام مولوداً، وكانت ضلوع الكفار لنار جهنم وقوداً، وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدين وعلائقه، وهو صليب الصلبوت، وقائد أهل الجبروت، ما دهموا قط بأمر إلا وقام بين دهمائهم يبسط لهم باعه، وكان مد اليدين في هذه الدفعة وداعه، لا جرم أنهم يتهافت على ناره فراشهم، ويجتمع في ظل ضلاله خشاشهم، ويقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقاً يبنون عليه أشد عهد وأوثقه، ويعدونه سوراً تحفر حوافر الخيل خندقه، وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، ودهيت دهاتهم، ولم يفلت منهم معروف إلا القومص، وكان لعنه الله ملياً يوم الظفر بالقتال، وملياً يوم الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف، وطار خوفاً من أن يلحقه منسر الرمح أو جناح السيف، ثم أخذه الله تعالى بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدتهم فذلك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.


وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغاً، والبيضاء صنعاً، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي وعزائم أوليائها، المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها النشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر، فافتتح بلاد كذا وكذا، وهذه كلها أمصار ومدن، وقد تسمى البلاد بلاداً وهي مزارع وفدن، كل هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحار وجزائر، وجوامع ومنابر، وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها، ويحصد منها كفراً ويزرع إيماناً. ويحط من جوامعها صلباً ويرفع أذاناً، ويبدل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبوىء أهل القرآن بعد أهل الصلبان للقتال عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن يعلق النصر منه ومن عسكره بجار ومجرور، وأن يظفر بكل سور، ما كان يخاف زلزاله ولا زياله إلى يوم النفخ في الصور.


 ولما يبق إلا القدس وقد اجتمع إليه كل طريد منهم وشريد، واعتصم بمنعتها كل قريب منهم وبعيد، وظنوا أنها من الله مانعتهم، وان كنيستها إلى الله شافعتهم، فلما نزلها الخادم رأى بلداً كبلاد، وجمعاً كيوم التناد، وعزائم قد تألبت وتألفت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصته، فزاول البلد من كل جانب، فإذا أودية عميقة، ولجج وعر غريقة، وسور قد انعطف عطف السوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقر الدار، فعدل إلى جهة أخرى كان للطالع عليها معرج، وللخيل فيها متولج، فنزل عليها وأحاط بها وقرب منها، وضرب خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه، ويزاحمه السور بأكتافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها "وبرز إليها ثم بارزها"، وحاجزها ثم ناجزها، وضمها ضمة ارتقب بعدها الفتح، وصدع جمعها فإذا هم لا يصبرون على عبودية الحد عن عنق الصفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدة، وقصدوا نظرة من شدة وانتظاراً لنجدة، فعرفهم الخادم في لحن القول، وأجابهم بلسان الطول، وقدم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيها وحبالها، وأوتر لهم قسيها التي ترمي ولا تفارقها سهامها ولكن تفارق سهامها نصالها، فصافحت السور فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدم النصر نسراً من المنجنيق يخلد اخلاده إلى الأرض ويعلو علوه إلى السماك، فشج مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها صم اعلاجها، ورفع منار عجاجها، فأخلى السور من السيارة، والحرب من النظارة، وأمكن النقاب، أن يسفر للحرب النقاب، وان يعيد الحجر إلى سيرته الأولى من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحل عقده بضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة أنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقتله، وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقاً فلن تبرح الأرض، وفتح من السور باباً سد من نجاتهم أبواباً، وأخذ ينقب في حجره فقال عنده الكافر: يا ليتني كنت تراباً، فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرهم بالله الغرور، وفي الحال خرج طاغية كفرهم، وزمام أمرهم، ابن بارزان سائلاً أن يؤخذ البلد بالسلم لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسطوة، وألقى بيده إلى التهلكة، وعلاه ذل الهلكة بعد عز المملكة، وطرح جنبه على التراب وكان جنباً لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغاً من القطيعة لا يطمح إليها أمل طامح، وقال: ها هنا أسارى مسلمون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحملت الحرب على ظهورهم الأوزار، بدىء بهم فعجلوا، وثني بنساء الفرنج وأطفالهم فقتلوا، ثم استقتلوا بعد ذلك، فلا يقتل خصم إلا بعد أن ينتصف، ولا يفل سيف من يد إلا بعد أن تقطع أو ينقصف، فأشار الأمراء بأخذ الميسور، من البلد المأسور، فإنه لو أخذ حرباً فلا بد أن يتقحم الرجال الأنجاد، ويقال كفوا عنها في آخر أمر قد نيل من أوله المراد، وكانت الجراح في العساكر قد تقدم منها ما اعتقل الفتكات، وأثقل الحركات، فقبل منهم المبذول عن يد وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله تعالى أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم، فإنهم، خذلهم الله، حموها بالأسل والصفاح، وبنوها بالعمد والصفاح، وأودعوا الكنائس بها وبيوت الديوية والاستبارية فيها بكل غريبة من الرخام الذي يطرد ماؤه، ولا ينطرد لألاؤه، وقد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي في بأس شديد، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض لها من بياض الترخيم رقراق، وعمداً كالأشجار لها من التنبيت أوراق. وأوعز الخادم برد الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمة من يوفيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شعبان فكادت السموات يتفطرن للسجود لا للوجوم، والكواكب منها تنتثر للطرب لا للرجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طريقها مسدودة، وطهرت قبور الأنبياء وكانت النجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها، وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها، وجهر اسم أمير المؤمنين في وطنه الأشرف من المنبر، فرحب به ترحيب من بر بمن بر، وخفق علماه في حفافيه، فلو طار سروراً لطار بجناحيه.


وكتاب الخادم وهو مجد في استفتاح بقية الثغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصدور، فإن قوى العساكر قد استنفدت مواردها، وأيام الشقاء قد مردت مواردها، والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها، فهي بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجم ولا تستنفد، ينفق عليها ولا ينفق منها، وتجهز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط بساحلها، وبدأب في عمارة أسوارها ومرمات معاقلها، وكل مشقة بالإضافة إلى نعمة الفتح محتملة، وأطماع الفرنج بعد ذلك غير مرجئة ولا معتزلة، فإن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع، ولن يكفوا أيديهم من أطراف البلاد حتى تقطع، وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتخلص، فلذلك نفذ الخادم لساناً شارحاً، ومبشراً صادحاً، يطالع الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرة من طليعته إلى ساقته، وهو فلان، والله الموفق.


هذا آخر الرسالة الفاضلية، وكان في عزمي اختصارها والاقتصار على محاسنها فلما شرعت فيها قلت في نفسي: عسى أن يقف عليها من يؤثر الوقوف على جميعها فأكملتها ورجعت عن الرأي الأول، وهي قليلة الوجود في أيدي الناس، وكانت النسخة التي نقلتها منها سقيمة، ولقد اجتهدت في تحريرها حتى صحت عل هذه الصورة حسب الإمكان.


وقد عمل عماد الدين الأصبهاني الكاتب رسالة في فتح القدس أيضاً فلم أر التطويل بكتابتها فتركتها، وجمع كتاباً سماه "الفتح القسي في الفتح القدسي" وهو في مجلدين ذكر فيه جميع ما جرى في هذه الواقعة. ورأيت منذ زمان رسالة مليحة أنشأها ضياء الدين أبو الفتح نصر الله المعروف بابن الأثير الجزري رحمه الله تعالى - المقدم ذكره في حرف النون - تتضمن فتح القدس أيضاً، وكل واحد من أرباب صناعة الإنشاء كان يريد يمتحن خاطره بما يعمل في ذلك، والقاضي الفاضل رئيس هذا الفن، وإذا شرع في شيء من هذا الباب لا يستطيع أحد أن يجاريه ولا يباريه، فلهذا أثبت رسالته ورفضت غيرها خوف الإطالة.


وكان قد حضر الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النبلسي الشاعر المشهور، هذا الفتح، فأنشد السلطان صلاح الدين قصيدته التي أولها:

 

هذا الذي كانت الآمال تنتظر

 

فليوف لله أقوام بما نـذروا

 

وهي طويلة تزيد على مائة بيت، يمدحه ويهنيه بالفتح.


وإذ قد نجز المطلوب من هذا الامر فلنرجع إلى تتمة ما ذكره شيخنا بهاء الدين بن شداد في "السيرة الصلاحية" قال: ونكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة، وكان شكلاً عظيماً، ونصر الله الإسلام على يده نصراً عزيزاً.


قلت: وقد تقدم في ترجة أرتق طرف من أخبار القدس وأن الأفضل أمير الجيوش بمصر أخذه من ولديه سقمان وإيل غازي، ثم إن الفرنج استولوا عليه يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقيل في ثاني شعبان، وقيل يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة؛ ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين في التاريخ المذكور. نعود إلى كلام ابن شداد: وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على نفسهم عن كل رجل عشرين ديناراً، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، عن كل صغير ذكر أو انثى ديناراً واحداً، فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه، وإلا أخذ أسيراً، وأفرج عمن كان بالقدس من أسارى المسلمين، وكانوا خلقاً عظيماً، وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه، وتقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه، وهي مدينة صور، ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جبي له شيء، وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألفاً، وكان رحيله عنه يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان من السنة.


ولما فتح القدس حُسن عنده قصد صور، وعلم أنه إن أخر أمرها ربما عسر عليه، فسار نحوها حتى أتى عكا فنزل عليها ونظر في أمورها، ثم رحل عنها متوجهاً إلى صور في يوم الجمعة خامس شهر رمضان من السنة، فنزل قريباً منها، وسير لإحضار آلات القتال، ولما تكاملت عنده نزل عليها في ثاني عشر الشهر المذكور، وقاتلها وضايقها قتالاً عظيماً، واستدعى أصطول مصر، فكان يقاتلها في البر والبحر، ثم سير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال من السنة.


ثم خرج أصطول صور في الليل، فكبس أصطول المسلمين، وأخذوا المقدم والريس وخمس قطع للمسلمين، وقتلوا خلقاً كثيراً من رجال المسلمين، وذلك في السابع والعشرين من الشهر المذكور، وعظم ذلك على السلطان وضاق صدره، وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال لكثرة الأمطار، فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل لتستريح الرجال ويجتمعوا للقتال، فرحل عنها. وحملوا من آلات الحصار ما أمكن وأحرقوا الباقي الذي عجزوا عن حمله لكثرة الوحل والمطر، وكان رحيله يوم الأحد ثاني ذي القعدة من السنة، وتفرقت العساكر، أعطى كل طائفة منها دستوراً، وسار كل قوم إلى بلادهم وأقام هو مع جماعة من خواصه بمدينة عكا إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة.


ثم نزل على كوكب في أوائل المحرم من السنة، ولم يبق معه من العسكر إلا القليل، وكان حصناً حصيناً وفيه الرجال والأقوات، فعلم أنه لا يؤخذ إلا بقتال شديد، فرجع إلى دمشق ودخلها في سادس عشر شهر ربيع الأول من السنة. قال ابن شداد: ولما كان على كوكب وصلت إلى خدمته، ثم فارقته ومضيت لزيارة القدس والخليل عليه أفضل الصلاة والسلام، ودخلت دمشق يوم دخول السلطان إليها - قلت: وقد ذكرت هذا في ترجمته.


قال: وأقام بدمشق خمسة أيام، ثم بلغه أن الفرنج قصدوا جبيل واغتالوها، فخرج مسرعاً، وكان قد سير يستدعي العساكر من جميع المواضع وسار يطلب جبيل، فلما عرف الفرنج بخروجه كفوا عن ذلك.


وكان بلغه وصول عماد الدين صاحب سنجار ومظفر الدين بن زين الدين وعسكر الموصل إلى حلب قاصدين خدمته والغزاة معه، فسار نحو حصن الأكراد.


قال ابن شداد في السيرة: إنه اتصل بخدمة السلطان في مستهل جمادى الأولى من سنة أربع وثمانين، وجميع ما ذكرته فهو بروايتي عمن أثق به، ومن ها هنا ما أسطر إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق إليه خبراً يقارب العيان.


قال: لما كان يوم الجمعة رابع جمادى الأولى دخل السلطان بلاد العدو على تعبية حسنة ورتب الأطلاب، وسارت الميمنة أولاً ومقدمها عماد الدين زنكي والقلب في الوسط، والميسرة في الأخير ومقدمها مظفر الدين ابن زين الدين، فوصل إلى انطرسوس ضاحي نهار الأحد سادس جمادى الأولى، فوقف قبالتها ينظر إليها لأن قصده كان جبلة، فاستهان بأمرها وعزم على قتالها، فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول على جانب البحر، والميسرة على الجانب الآخر، ونزل هو موضعه، والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر، وهي مدينة راكبة على البحر ولها برجان كالقلعتين، فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا واشتد القتال وباغتوها، فما استتم نصب الخيام حتى صعد المسلمون سورها، وأخذوها بالسيف، وغنم المسلمون جميع من بها وما بها، وأحرق البلد، وأقام عليها إلى رابع عشر جمادى الأولى، وسلم أحد البرجين إلى مظفر الدين، فما زال يحاربه حتى أخربه، واجتمع به ولده الملك الظاهر لأنه كان قد طلبه، فجاءه في عسكر عظيم. ثم سار يريد جبلة، وكان وصوله إليها في ثاني عشر جمادى الأولى، وما استتم نزول العسكر عليها حتى أخذ البلد، وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم بينهم، وقوتلت القلعة قتالاً شديداً، ثم سلمت بالأمان في يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى من السنة، وأقام عليها إلى الثالث والعشرين منه.


ثم سار عنها إلى اللاذقية، وكان نزوله عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى، وهو بلد مليح خفيف على القلب، غير مسور، وله ميناء مشهور، وله قلعتان متصلتان على تل يشرف على البلد. واشتد القتال إلى آخر النهار، فأخذ البلد دون القلعتين، وغنم الناس منه غنيمة عظيمة لأنه كان بلد التجار، وجدوا في أمر القلعتين بالقتال والنقوب حتى بلغ طول النقب ستين ذراعاً وعرضه أربعة أذرع، فلما رأى أهل القلعتين الغلبة لاذوا بطلب الأمان، وذلك في عشية يوم الجمعة الخامس والعشرين من الشهر، والتمسوا الصلح على سلامة نفوسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم، ما خلا الغلال والذخائر والسلاح وآلات الحرب، فأجابهم إلى ذلك، ورفع العلم الإسلامي عليها يوم السبت، وأقام عليها إلى يوم الأحد السابع والعشربن من الشهر.


فرحل عنها إلى صهيون، فنزل عليها يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من الشهر واجتهد في القتال، فأخذ البلد يوم الجمعة ثاني جمادة الآخرة، ثم تقدموا إلى القلعة، وصدقوا القتال، فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان، فأجابهم إليه بحيث يؤخذ من الرجل عشرة دنانير ومن المرأة خمسة دنانير ومن كل صغير ديناران، الذكر والأنثى سواء. وأقام السلطان بهذه الجهة حتى أخذ عدة قلاع منها بلاطنس وغيرها من الحصون المنيعة المتعلقة بصهيون.


ثم رحل عنها وأتى بكاس وهي قلعة حصينة على العاصي ولها نهر يخرج من تحتها، وكان النزول عليها يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة، وقاتلوها قتالاً شديداً إلى يوم الجمعة تاسع الشهر، ثم يسر الله فتحها عنوة، فقتل أكثر من بها وأسر الباقون، وغنم المسلمون جميع ما كان فيها، ولها قليعة تسمى الشغر، وهي في غاية المنعة يعبر إليها منها بجسر وليس عليها طريق، فسلطت المجانيق عليها من جميع الجوانب، ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا الأمان، وذلك يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر، ثم سألوا المهلة ثلاثة أيام فأمهلوا، وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني على قلتها يوم الجمعة سادس عشر الشهر.


ثم سار إلى برزيه، وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الفرنج تحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوها خمسمائة ونيف وسبعون ذراعاً، وكان نزوله عليها يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر، ثم أخذها عنوة يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه.


ثم سار إلى دربساك فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب، وهي قلعة منيعة، وقاتلها قتالاً شديداً، ورقي العلم الإسلامي عليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب، وأعطاها الأمير علم الدين سليمان بن جندر، وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر.


ونزل على بغراس، وهي قلعة حصينة بالقرب من أنطاكية، وقاتلها مقاتلة شديدة، وصعد العلم الإسلامي عليها في ثاني شعبان. وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح، فصالحهم لشدة ضجر العسكر من البيكار، وكان الصلح معهم لا غير، على أن يطلقوا كل أسير عندهم، والصلح إلى سبعة أشهر، فإن جاءهم من ينصرهم، وإلا سلموا البلد.


ثم رحل السلطان، فسأله ولده الملك الظاهر صاحب حلب أن يجتاز به، فأجابه إلى ذلك، فوصل حلب في حادي عشر شعبان وأقام بالقلعة ثلاثة أيام، وولده يقوم بالضيافة حق القيام.


وسار من حلب، فاعترضه تقي الدين عمر ابن أخيه وأصعده إلى قلعة حماة وصنع له طعاماً، وأحضر له سماعاً من جنس ما تعمل الصوفية، وبات فيها ليلة واحدة، وأعطاه جبلة واللاذقية.


وسار على طريق بعلبك ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيام يسيرة.


ثم سار في أوائل شهر رمضان يريد صفد فنزل عليها، ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان في رابع عشر شوال.


وفي شهر رمضان المذكور سلمت الكرك، سلمها نواب صاحبها، وخلصوه بذلك، لأنه كان في الأسر من نوبة حطين.


قلت: هكذا ذكره، وهذا لا ينتظم مع ما قبله، فقد تقدم قبل هذا أن البرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك أسر في وقعة حطين، ثم قتله السلطان بيده، فيكشف عن ذلك في مكان آخر ليحقق. قال": ثم سار إلى كوكب وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة، والأمطار متواترة والوحول متضاعفة والرياح عاصفة، والعدو متسلط بعلو مكانه، فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان فأجابهم إليه، وتسلمها منهم في منتصف ذي القعدة من السنة.


ثم نزل إلى الغور، وأقام بالمخيم بقية الشهر وأعطى الجماعة دستوراً، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه لأنه كان متوجهاً إلى مصر، ودخل القدس في ثامن ذي الحجة وصلى بها العيد.


وتوجه في حادي عشر ذي الحجة إلى عسقلان لينظر في أمورها، وأخذها من أخيه العادل، وعوضه عنها الكرك.


ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم من سنة خمس وثمانين يصلح أمورها، ورتب بها الأمير بهاء الدين قراقوش والياً وأمره بعمارة سورها.


وسار إلى دمشق فدخلها في مستهل صفر من السنة، واقام بها إلى شهر ربيع الأول من السنة.


ثم خرج إلى شقيف أرنون، وهو موضع حصين فخيك في مرج عيون بالقرب من الشقيف، في سابع عشر شهر ربيع الأول، وأقام أياماً يباشر قتاله كل يوم، والعساكر تتواصل إليه، فلما تحقق صاحب الشقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يشعر به إلا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له في دخوله إليه وأكرمه واحترمه، وكان من أكبر الفرنج وعقلائهم، وكان يعرف بالعربية وعنده اطلاع على شيء من التواريخ والاحاديث، وكان حسن التأتي لما حضر بين يدي السلطان وأكل معه الطعام، ثم خلا به وذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق فإنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الفرنج، وإقطاعاً يقوم به وبأهله، وشروطاً غير ذلك، فأجابه إلى ذلك.


وفي أثناء شهر ربيع الاول وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان السلطان قد أقام عليه جمعاً يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفذ زاد من كان فيه، فسلموه بالأمان.


ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب الشقيف كان خديعة، فرسم عليه.


ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا، ونزلوا عليها يوم الإثنين ثالث عشر رجب سنة خمس وثمانين. وفي ذلك اليوم سير صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة.


وأتى عكا، ودخلها بغتة لتقوى قلوب من بها، وسير استدعى العساكر من كل ناحية فجاءته، وكان العدو بمقدار ألفي فارس وثلاثين ألف راجل، ثم تكاثر الفرنج واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا، ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، وذلك يوم الخميس سلخ رجب، فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهد في فتح الطريق إليها لتستمر السابلة بالميرة والنجدة، وشاور الامراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق، ففعلوا ذلك، وانفتح الطريق وسلكه المسلمون، ودخل السلطان عكا فأشرف على أمورها، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، وتأخر الناس إلى تل العياضية، وهو مشرف على عكا. وهي هذه المنزلة توفي الأمير حسام الدين طمان - المقدم ذكره في هذه الترجمة - وذلك في ليلة نصف شعبان من سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وكان من الشجعان.


ثم إن شيخنا ابن شداد ذكر بعد هذا وقعات ليس لنا غرض في ذكرها، وتطول هذه الترجمة باستيفاء الكلام فيها، إذ ليس الغرض سوى المقاصد لا غير، وإنما ذكرت فتوحات هذه الحصون لأن الحاجة قد تدعو إلى الوقوف على تواريخها، مع أني لم أذكر إلا ما يكثر التطلع إلى الوقوف عليه وأضربت إن الباقي.


قال ابن شداد: سمعت السلطان ينشد وقد قيل له: أن الوخم قد عظم بمرج عكا وإن الموت قد فشا في الطائفتين:

 

اقتلاني ومالـكـا

 

واقتلا مالكا معي

 

يريد بذلك أن قد رضي أن يتلف إذا أتلف اللّه أعداءه.


قلت: وهذا البيت له سبب يحتاج إلى شرح، وذلك أن مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي، كان من الشجعان والأبطال المشهورين، وهو من خواص أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تماسك في يوم وقعة الجمل المشهورة وهو وعبد الله بن الزبير بن العوام، وكان أيضاً من الأبطال، وابن الزبير يومئذ مع خالته عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين، وكانوا يحاربون علياً رضي الله عنه، فلما تماسكا صار كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته وركب صدره، وفعلا ذلك مراراً، وابن الزبير ينشد:

اقتلاني ومالـكـا

 

واقتلا مالكا معي

 

 يريد الأشتر النخعي، هذه خلاصة القول في ذلك وإن كانت القصة طويلة، وهي في التواريخ مبسوطة.


وقال عبد الله بن الزبير: لاقيت الأشتر النخعي يوم الجمل. فما ضربته ضربة حتى ضربني ستاً أو سبعاً، ثم أخذ برجلي فألقاني في الخندق وقال: والله لولا قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبداً.


وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أعطت عائشة رضي الله عنها الذي بشرها بسلامة ابن الزبير لما لاقى الأشتر عشرة آلاف درهم.


وقيل أيضاً إن الأشتر دخل على عائشة رضي اللّه عنها بعد وقعة الجمل، فقالت له: يا أشتر أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الوقعة، فأنشدها:

 

أعائش، لولا أنني كنت طاويا

 

ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا

غداة ينادي والرماح تنوشـه

 

بآخر صوتٍ اقتلوني ومالكا

فنجاه مني أكله وشـبـابـه

 

وخلوة جوف لم يكن متماسكا

 

وقال زجر بن قيس: دخلت مع عبد الله بن الزبير الحمام، فإذا في رأسه ضربة لو صب فيها قارورة دهن لاستقر، فقال لي: أتدري من ضربني هذه الضربة؟ قلت: لا، قال: ابن عمك الأشتر النخعي.


رجعنا إلى ما كنا عليه: قال ابن شداد: ثم إن الفرنج جاءهم الأمداد من داخل البحر واستظهروا على الحماعة الإسلامية بعكا، وكان فيهم الأمير سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب الهكاري، والأمير بهاء الدين قراقوش الخادم الصلاحي، وضايقوهم أشد مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد. فلما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من سنة سبع وثمانين وخمسمائة خرج من عكا رجل عوام، ومعه كتب من المسلمين يذكرون حالهم وما هم فيه، وأنهم قد تيقنوا الهلاك، ومتى أخذوا البلد عنوةً ضربت رقابهم، وأنهم صالحوا على أن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدة والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار، وخمسمائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جهتهم وصليب الصلبوت، على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونسائهم، وضمنوا للمركيس - لأنه كان الواسطة في هذا الأمر - أربعة آلاف دينار، ولما وقف السلطان على الكتب المشار إليها انكر ذلك إنكاراً عظيماً وعظم عليه الأمر، وجمع أهل الرأي من أكابر دولته وشاورهم فيما يصنع، واضطربت آراؤه وتقسم فكره وتشوش حاله، وعزم على أن يكتب في تلك الليلة مع العوام وينكر عليهم المصالحة على هذا الوجه، وهو يتردد في هذا، فلم يشعر إلا وقد ارتفعت اعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد، وذلك في ظهيرة يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من السنة، وصاح الفرنج صيحة عظيمة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حزنهم، ووقع فيهم الصياح والعويل والبكاء والنحيب. ثم ذكر ابن شداد بعد هذا أن الفرنج خرجوا من عكا قاصدين عسقلان ليأخذوها، وساروا على الساحل، والسلطان وعساكره في قبالتهم، إلى أن وصلوا إلى أرسوف، فكان بينهما قتال عظيم، ونال المسلمين منه وهن شديد، ثم ساروا على تلك الهيئة تتمة عشر منازل من مسيرهم من عكا، فأتى السلطان الرملة، وأتاه من اخبره بأن القوم على عزم عمارة يافا وتقويتها بالرجال والعدد والآلات، فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وهل الصواب خرابها ام بقاؤها؟ فاتفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل في قبالة العدو، ويتوجه هو بنفسه ويخربها خوفاً من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة، ويأخذ بها القدس وتنقطع بها طريق مصر. وامتنع العسكر من الدخول وخافوا مما جرى على المسلمين بعكا، ورأوا أن حفظ القدس أولى، فتعين خرابها من عدة جهات، وكان هذا الاجتماع يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فسار إليها سحرة الأربعاء ثامن عشر الشهر. قال ابن شداد: وتحدث معي في معنى خرابها بعد أن تحدث مع ولده الملك الأفضل في أمرها أيضاً ثم قال: لأن أفقد ولدي جميعهم أحب إلي من أن أهدم منها حجراً، ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك وكان فيه مصلحة للمسلمين فما الحيلة في ذلك؟ قال: ولما اتفق الرأي على إخرابها أوقع الله تعالى في نفسه ذلك، وان المصلحة فيه، لعجز المسلمين عن حفظها. وشرع في إخرابها سحرة يوم الخميس التاسع عشر من شعبان من السنة، وقسم السور على الناس، وجعل لكل أمير وطائفة من العسكر بدنةً معلومة وبرجاً معيناً يخربونه، ودخل الناس البلد ووقع فيهم الضجيج والبكاء، وكان بلداً خفيفاً على القلب محكم الأسوار عظيم البناء، مرغوباً في سكنه، فلحق الناس على خرابه حزن عظيم، وعظم عويل أهل البلد عليه لفراق أوطانهم، وشرعوا في بيع ما لا يقدرون على حمله، فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد وباعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واحد، واختبط البلد، وخرج الناس بأهلهم وأولادهم إلى المخيم وتشتتوا، فذهب قوم منهم إلى مصر وقوم إلى الشام، وجرت عليهم أمور عظيمة، واجتهد السلطان وأولاده في خراب البلد كي لا يسمع العدو فيسرع إليه ولا يمكن من إخرابه، وبات الناس على أصعب حال وأشد تعب مما قاسوه في خرابها. وفي تلك الليلة وصل من جانب الملك العادل من أخبر أن الفرنج تحدثوا معه في الصلح وطلبوا جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم من نفس الناس من الضجر من القتال وكثرة ما عليهم من الديون، وكتب إليه يأذن له في ذلك، وفوض الأمر إلى رأيه، وأصبح يوم الجمعة العشرين من شعبان وهو مصرٌّ على الخراب، واستعمل الناس عليه وحثهم على العجلة فيه، وأباحهم ما في الهري الذي كان مدخراً للميرة خوفاً من هجوم الفرنج والعجز عن نقله. وأمر بإحراق البلد فأضرمت النيران في بيوته. وكان سورها عظيماً، ولم يزل الخراب يعمل في البلد إلى سلخ شعبان من السنة، وأصبح يوم الإثنين مستهل شهر رمضان أمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه، ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه لأجل الإحراق.


وفي يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان أتى الرملة ثم خرج إلى لد، وأشرف عليها وأمر بإخرابها وإخراب قلعة الرملة، ففعل ذلك، وفي يوم السبت ثالث عشر شهر رمضان تأخر السلطان بالعسكر إلى جهة الجبل ليتمكن الناس من تسيير دوابهم لإحضار ما يحتاجون إليه، ودار السلطان حول النطرون، وهي قلعة منيعة، فأمر بإخرابها، وشرع الناس في ذلك. ثم ذكر ابن شداد بعد هذا أن الانكتار، وهو من أكابر ملوك الفرنج، سير رسوله إلى الملك العادل يطلب الاجتماع به، فأجابه إلى ذلك واجتمعا يوم الجمعة ثامن عشر شوال من السنة وتحادثا معظم ذلك النهار، وانفصلا عن مودة اكيدة، والتمس الانكتار من العادل أن يسأل السلطان أن يجتمع به، فذكر العادل ذلك للسلطان، فاستشار أكابر دولته في ذلك، ووقع الاتفاق على انه جرى الصلح بيننا يكون الاجتماع بعد ذلك، ثم وصل رسول الانكتار، وقال: إن الملك يقول: إني أحب صداقتك ومودتك، وأنت تذكر أنك أعطيت هذه البلاد الساحلية لأخيك، فأريد أن تكون حكماً بيني وبينه وتقسم البلاد بيني وبينه ولا بد أن يكون لنا علقة بالقدس، وأطال الحديث في ذلك، فأجابه السلطان بوعد جميل، وأذن له في العود في الحال وتأثر لذلك تأثراً عظيماً.


قال ابن شداد: وبعد انفصال الرسول قال لي السلطان: متى صالحناهم لم تؤمن غائلتهم، ولو حدث بي حادث الموت ما كانت تجتمع هذه العساكر، وتقوى الفرنج، والمصلحة أن لا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت، هذا كان رأيه وإنما غلب على الصلح.


قال ابن شداد: ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح، وأطال القول في ذلك فتركته إذ لا حاجة إليه، وجرت بعد ذلك وقعات أضربت عن ذكرها لطول الكلام فيها، وحاصل الأمر أنه تم الصلح بينهم، وكانت الأيمان يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ونادى المنادي بانتظام الصلح، وان البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة في الأمن والمسالمة، فمن شاء من كل طائفة يتردد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور، وكان يوماً مشهوداً نال الطائفتين فيه من المسرة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وقد علم الله تعالى أن الصلح لم يكن عن مرضاته وإيثاره، ولكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر ومظاهرتهم بالمخالفة، وكان مصلحةً في علم الله تعالى، فإنه اتفقت وفاته بعد الصلح، فلو اتفق ذلك في أثناء وقعاته كان الإسلام على خطر.


ثم أعطى للعساكر الواردة عليه من البلاد البعيدة برسم النجدة دستوراً فساروا عليه، وعزم على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة. وتردد المسلمون إلى بلادهم، وجاءوا هم إلى بلاد المسلمين، وحملت البضائع والمتاجر إلى البلاد، وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس.


وتوجه السلطان إلى القدس ليتفقد احوالها، واخوه الملك العادل إلى الكرك، وابنه الملك الظاهر إلى حلب، وابنه الأفضل إلى دمشق. وأقام السلطان بالقدس يقطع الناس ويعطيهم دستوراً، ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية، وانقطع شوقه عن الحج، ولم يزل كذلك إلى أن صح عنده مسير مركب الانكتار متوجها إلى بلاده في مستهل شوال، فعند ذلك قوي عزمه أن يدخل الساحل جريدة يتفقد القلاع البحرية إلى بانياس، ويدخل دمشق ويقيم بها أياماً قلائل، ويعود إلى القدس ومنه إلى الديار المصرية.


قال شيخنا ابن شداد: وأمرني بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه به، وتكميل المدرسة التي أنشأها فيه. وسار منه ضاحي نهار الخميس السادس من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. ولما فرغ من افتقاد أحوال القلاع وإزاحة خللها دخل دمشق بكرة الأربعاء سادس عشر شوال، وفيها أولاده: الملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك الظافر مظفر الدين الخضر المعروف بالمشمر، وأولاده الصغار. وكان يحب البلد ويؤثر الإقامة فيه على سائر البلاد. وجلس للناس في بكرة يوم الخميس السابع والعشرين منه، وحضروا عندهم وبلوا شوقهم منه، وأنشده الشعراء، ولم يتخلف أحد عنه من الخاص والعام، وأقام ينشر جناح عدله ويهطل سحاب إنعامه وفضله، ويكشف مظالم الرعايا. فلما كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة عمل الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر، لانه لما وصل إلى دمشق وبلغه حركة السلطان أقام بها ليتملى بالنظر إليه ثانياً، وكأن نفسه كانت قد أحست بدنو أجله، فودعه في تلك الدفعة مراراً متعددة. ولما عمل الملك الأفضل الدعوة أظهر فيها من الهمم العالية ما يليق بهمته، وكأنه أراد بذلك مجازاته عما خدمه به حين وصل إلى بلده، وحضر الدعوة المذكورة أرباب الدنيا والآخرة،وسأل السلطان الحضور فحضر جبراً لقلبه، وكان يوماً مشهوداً على ما بلغني. ولما تصفح الملك العادل أحوال الكرك وأصلح ما قصد إصلاحه فيه، سار قاصداً إلى البلاد الفراتية، فوصل إلى دمشق في يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة وخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيد حوالي غباغب إلى الكسوة حتى لقيه،وسارا جميعاً يتصيدان. وكان دخولهما إلى دمشق آخر نهار يوم الأحد حادي عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين، وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه وأولاده، ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا، وكأنه وجد راحة مما كان به من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل، وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه، ونسي عزمه إلى مصر، وعرضت له أمور أخرى وعزمات غير ما تقدم.


قال ابن شداد: ووصلني كتابه إلى القدس يستدعيني لخدمته، وكان شتاء شديداً ووحلاً عظيماً، فخرجت من القدس في يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة تسع وثمانين، وكان الوصول إلى دمشق في يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر من السنة. وركب السلطان لملتقى الحاج يوم الجمعة خامس عشر صفر، وكان ذلك آخر ركوبه.


ولما كان ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، وما تنصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية، وكانت في باطنه أكثر منها في ظاهره، وأصبح يوم السبت متكسلاً عليه أثر الحمى، ولم يظهر ذلك للناس، لكن حضرت عنده أنا والقاضي الفاضل، ودخل ولده الملك الأقضل وطال جلوسنا عنده، وأخذ يشكو قلقه في الليل، وطاب له الحديث إلى قريب الظهر، ثم انصرفنا وقلوبنا عنده، فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة ولده الملك الأفضل ولم تكن للقاضي الفاضل في ذلك عادة فانصرف، ودخلت إلى الإيوان القبلي وقد مد السماط، وابنه الملك الأفضل قد جلس في موضعه، فانصرفت. وما كانت لي قوة في الجلوس استيحاشاً له، وبكى في ذلك اليوم جماعة تفاؤلاً لجلوس ولده في موضعه. ثم أخذ المرض يتزيد من حينئذ ونحن نلازم التردد طرفي النهار، وندخل إليه أنا والقاضي الفاضل في النهار مراراً، وكان مرضه في رأسه، وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد عرف مزاجه سفراً وحضرا، ورأى الأطباء فصده ففصدوه في الرابع فاشتد مرضه وقلت رطوبات بدنه، وكان يغلب عليه اليبس، ولم يزل المرض يتزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف. واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن، ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه. ولما كان التاسع حدثت له غشية وامتنع من تناول المشروب واشتد الخوف في البلد، وخاف الناس ونقلوا أقمشتهم من الأسواق، وعلا الناس من الكآبة والحزن ما لا تمكن حكايته. ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين، وحصل من الحقن بعض الراحة وفرح الناس بذلك، ثم اشتد مرضه وأيس منه الأطباء،ثم شرع الملك الأفضل في تحليف الناس.


ثم إنه توفي بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من الناس أنهم يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم، وكنت أتوهم أن هذا الحديث على ضرب من التجوز والترخص، إلى ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالأنفس.


ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء، وغسله الدولعي.


قلت: الدولعي المذكور، هو ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين بن زيد بن قائد بن جميل التغلبي الأرقمي الدولعي الشافعي، خطيب جامع دمشق. توفي في ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وسئل عن مولده فقال: في سنة سبع وخمسمائة، ثم ذكر غير هذا، والله أعلم؛ ودفن بمقابر الشهداء بباب الصغير.


قال: وأخرج بعد صلاة الظهر، رحمه الله، في تابوت مسجى بثوب فوط، فارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل، وصلوا عليه أرسالاً، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، وهي التي كان متمرضاً بها، ودفن في الضفة الغربيةمنها، وكان نزوله في حفرته قريباً من صلاة العصر.


ثم أطال ابن شداد القول في ذلك فحذفته خوفاً من الملالة، وأنشد في آخر "السيرة" بيت أبي تمام الطائي، وهو:

 

ثم انقضت تلك السنون وأهلها

 

فكأنها وكـأنـهـم أحـلام

رحمه الله تعالى وقدس روحه، فلقد كان من محاسن الدنيا وغرائبها. وذكر سبط ابن الجوزي في تاريخه في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ما مثاله: وفي خامس المحرم خرج صلاح الدين من مصر، فنزل البركة قاصداً الشام، وخرج أعيان الدولة لوداعه، وانشده الشعراء أبياتاً في الوداع، فسمع قائلاً يقول في ظاهر الخيمة:

 

تمتع من شميم عرار نجد

 

فما بعد العشية من عرار

 

فطلب القائل فلم يوجد، فوجم السلطان وتطير الحاضرون، فكان كما قال، فإنه اشتغل ببلاد الشرق والفرنج، ولم يعد بعدها إلى مصر.


قلت: وهذا البيت من جملة أبيات في "الحماسة" في باب النسيب.


وذكر شيخنا عز الدين ابن الأثير في تاريخه الكبير هذه القضية على صورة أخرى، فقال: ومن عجيب ما يحكى من التطير أنه لما برز عن القاهرة أقام بخيمته حتى تجتمع العساكر، وعنده أعيان دولته والعلماء وأرباب الآداب، فمن بين مودع له وسائر معه، وكل واحد منهم يقول شيئاً في الوداع والفراق، وفي الحاضرين معلم لبعض أولاده، فأخرج رأسه من بين الحاضرين، وأنشد هذا البيت، فانقبض صلاح الدين وتطير بعد انبساطه وتنكد المجلس على الحاضرين، فلم يعد إليها إلى أن مات مع طول المدة.


وذكر ابن شداد أيضاً في أوائل "السيرة" أنه مات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية، وجرماً واحداً ذهباً صورياً، ولم يخلف ملكا: لا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولامزرعة.


وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" -الأحزاب 21 - "إن زلزلة الساعة شيء عظيم" -الحج: 1 - كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة، وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً، وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده، وقد قبلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة، راضياً عن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المعدة ما لم يدفع البلاء، ولا ملك يرد القضاء، وتدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف. وأما الوصايا فما تحتاج إليها، والآراء فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم، والسلام ".


قلت: لله دره، فلقد أبدع في هذه الرسالة الوجيزة، مع ما تضمنته من المقاصد السديدة، في مثل تلك الحالة التي يذهل فيها الإنسان عن نفسه.


قلت: وقد ذكرت كل واحد من أولاده المذكورين، وهم الأفضل والظاهر والعزيز في ترجمة مستقلة، وعينت تاريخ مولده وموته، سوى الملك الظافر المشهور بالمشمر، فإني لم أذكر له ترجمة مستقلة، وقد ذكرته ها هنا فيحتاج إلى ذكر شيء من أحواله، فأقول: لقبه مظفر الدين وكنيته أبو الدوام، وأبو العباس الخضر، وإنما قيل له المشمر لأن أباه، رحمه الله تعالى، لما قسم البلاد بين أولاده الكبار قال: وأنا مشمر، فغلب عليه هذا اللقب. وكان مولده بالقاهرة في سنة ثمان وستين وخمسمائة، في خامس شعبان، وهو شقيق الملك الأفضل، وتوفي في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وستمائة بحران، عند ابن عمه الملك الأشرف ابن الملك العادل، ولم يكن الأشرف يومئذ ملكاً وإنما كان مجتازاً بها عند دخوله بلاد الروم لأجل الخوارزمية. قال غير ابن شداد: ثم إن السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة في شمالي الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، ولها بابان أحدهما إلى الكلاسة والآخر في زقاق غير نافذ، وهو مجاور المدرسة العزيزية - قلت: ولقد دخلت إلى هذه القبة من الباب الذي في الكلاسة، وقرأت عنده وترحمت عليه، وأحضر لي القيم ومتولي القبة بقجة فيها ملبوس بدنه وكان في جملته قباء أصفر قصير ورأس كميه بأسود فتبركت به - قال: ثم نقل من مدفنه بالقلعة إلى هذه القبة في يوم عاشوراء، وكان الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان. ثم إن ولده الملك العزيز عماد الدين عثمان - المقدم ذكره - لما أخذ دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب هذه القبة المدرسة العزيزية، ووقف عليها وقفاً جيداً. وللقبة المذكورة شباك إلى هذه المدرسة، وهي من أعيان مدارس دمشق.


وزرت قبره في أول جمعة من شهر رمضان سنة ثمانين وستمائة فقرأت على صندوق قبره بعد تاريخ وفاته ما مثاله: اللهم فارض عن تلك الروح، وافتح له أبوب الجنة فهي آخر ما كان يرجوه من الفتوح، وذكر قيم المكان أن هذا من كلام القاضي الفاضل.
قلت: ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة المصرية كان مذهبها مذهب الإمامية، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمر في القرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه - وقد تقدم ذكرها في ترجمة نجم الدين الخبوشاني - وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وجعل عليها وقفاً كبيراً، وجعل دار سعيد السعداء خادم المصريين خانقاه، ووقف عليها وقفاً طائلاً، وجعل دار عباس المذكور في ترجمة الظافر العبيدي والعادل ابن السلار مدرسة للحنفية، وعليها وقف جيد أيضاً، والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار وقفاً على الشافعية ووقفها جيد أيضاً، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستانا، وله وقف جيد، وله بالقدس مدرسة أيضاً، وقفها كثير، وخانقاه بها أيضاً، وله بمصر مدرسة للمالكية.


ولقد فكرت في نفسي في أمور هذا الرجل وقلت: إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكبيرة وغيرها، ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر، فإن المدرسة التي في القرافة ما يسميها الناس إلا بالشافعي، والمجاورة للمشهد لا يقولون إلا المشهد، والخانقاه لا يقولون إلا خانقاه سعيد السعداء، والمدرسة الحنفية لا يقولون أيضاً إلا مدرسة السيوفية، والتي بمصر لا يقولون إلا مدرسة زين التجار، والتي بمصر مدرسة المالكية، وهذه صدقة السر على الحقيقة. والعجب أن له بدمشق في جوار البيمارستان النوري مدرسة يقال لها الصلاحية فهي منسوبة إليه وليس لها وقف، وله بها مدرسة للمالكية أيضاً ولا تعرف به، وهذه النعم من ألطاف الله تعالى به.


وكان، مع هذه المملكة المتسعة والسلطنة العظيمة، كثير التواضع واللطف قريباً من الناس رحيم القلب كثير الاحتمال والمداراة، وكان يحب العلماء وأهل الخير ويقربهم ويحسن إليهم، وكان يميل إلى الفضائل، ويستحسن الأشعار الجيدة، ويرددها في مجالسه، حتى قيل إنه كان كثيراً ما ينشد قول أبي منصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن إسحاق الحميري، وقيل إنها لأبي محمد أحمد بن علي بن خيران العامري، وكان أميراً بالمرية من بلاد الأندلس، وكان جده خيران من سبي المنصور بن أبي عامر فنسب إليه، والله أعلم، وهي هذه:

 

وزارني طيف من أهوى على حذر

 

من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا

فكدت أوقظ من حولي به فـرحـاً

 

وكاد يهتك ستر الحب بي شغـفـا

ثم انتبهت وآمالـي تـخـيل لـي

 

نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفـا

 

وقيل إنه كان أيضاً يعجبه قول نشؤ الملك أبي الحسن علي بن مفرج المعروف بابن المنجم المعري الأصل المصري الدار والوفاة، وهو في خضاب الشيب، ولقد أحسن فيه:

 

وما خضب الناس البياض لقبحـه

 

وأقبح منه حين يظهر ناصـلـه

ولكنه مات الشـبـاب فـسـودت

 

على الرسم من حزن عليه منازله

 

قالوا: فكان إذا قال ولكنه مات الشباب يمسك كريمته وينظر إليها ويقول: أي والله مات الشباب.


وذكر العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب "الخريدة" أن السلطان صلاح الدين في أول ملكه كتب إلى بعض أصحابه بدمشق هذين البيتين:

أيها الغائبون عنا وإن كـن

 

تم لقلبي بذكركم جيرانـا

إنني مذ فقدتكـم لأراكـم

 

بعيون الضمير عندي عيانا

 

وأما القصيدتان اللتان ذكرت أن سبط ابن التعاويذي أنفذهما إليه من بغداد، فإن إحداهما وازن بها قصيدة صردر - المقدم ذكره - وقد ذكرت منا أبياتاً في ترجمة الوزير الكندري، وأولها:

أكذا يجازى ود كل قرين

 

وقصيدة سبط ابن التعاويذي أولها:

إن كان دينك في الصبـابة دينـي

 

فقف المطي برملـتـي يبـرين

والثم ثرى لو شارفت بي هضبـه

 

أيدي المطي لثمته بجـفـونـي

وانشد فؤادي في الظباء معرضـاً

 

فبغير غزلان الصريم جنـونـي

ونشيدتي بين الـخـيام، وإنـمـا

 

غالطت عنها بالظبـاء الـعـين

لولا العدا لم أكن عن ألحاظـهـا

 

وقدودها بجوازىءٍ وغـصـون

لله ما اشتملت عليه قـبـابـهـم

 

يوم النوى من لؤلؤ مـكـنـون

من كل تائهة علـى أتـرابـهـا

 

في الحسن غانية عن التحسـين

خود ترى قمر السمـاء إذا بـدت

 

ما بين سالـفة لـهـا وجـبـين

غادين ما لمعت بروق ثغورهـم

 

إلا استهلت بالدمـوع شـؤونـي

إن تنكروا نفس الصبا فـلأنـهـا

 

مرت بزفرة قلبي المـحـزون

وإذا الركائب في الحبال تلفـتـت

 

فحنينها لتلفـتـي وحـنـينـي

يا سلم إن ضاعت عهودي عندكم

 

فأنا الذي استودعت غـير أمـين

أو عدت مغبوناً فما أنا في الهوى

 

لكم بأول عـاشـق مـغـبـون

رفقاً فقد عسف الفراق بمطلق ال

 

عبرات في أسر الغرام رهـين

ما لي ووصل الغانـيات أرومـه

 

ولقد بخلن علي بـالـمـاعـون

وعلام أشكو والدمـاء مـطـاحة

 

بلحاظـهـن إذا لـوين ديونـي

هيهات ما للبيض في ود امرىء

 

أرب وقد أربى على الخمسـين

ومن البلية أن تكون مطـالـبـي

 

جدوى بخـيل أو وفـاء خـؤون

ليت الضنين على المحب بوصله

 

لقن السماحة من صلاح الـدين

 

وأما القصيدة الثانية فهي:

 

حتام أرضى في هواك وتغضـب

 

وإلى متى تجني علي وتعـتـب

ما كان لـي لـولا مـلالـك زلة

 

لما مللت زعمت أنـي مـذنـب

خذ في أفانين الصدود فـإن لـي

 

قلباً على العـلات لا يتـقـلـب

أتظنني أضمرت بعـدك سـلـوة

 

هيهات عطفك من سلوي أقـرب

لي فيك نار جوانح ما تنـطـفـي

 

حرقاً وماء مدامع ما تـنـضـب

أنـسـيت أيامـاً لـنـا ولـيالـياً

 

للهو فيها والبطـالة مـلـعـب

أيام لا الـواشـي يعـد ضـلالة

 

ولهي عليك ولا العـذول يؤنـب

قد كنت تنصفني المـودة راكـبـاً

 

في الحب من اخطاره ما أركـب

واليوم أقنع أن يمر بمضجـعـي

 

في النوم طيف خيالك المـتـأوب

ما خلت أن جـديد أيام الـصـبـا

 

يبلى ولا ثوب الشبـيبة يسـلـب

حتى انجلى ليل الغواية واهـتـدى

 

ساري الدجى وانجاب ذاك الغيهب

وتنافر البيض الحسان فأعرضـت

 

عني سعاد وأنكرتـنـي زينـب

قالت وريعت من بياض مفارقـي

 

ونحول جسمي: بان منك الأطيب

إن تنقمي سقمي فخصرك ناحـل

 

أو تنكري شيبي فثغرك أشـنـب

 

قلت: لله دره، فلقد أجاد في هذا المعنى كل الإجادة، غير أنه قد ظن أن الشنب بياض الثغر، وعليه بنى هذا المعنى حتى تم له مقصوده، فإنها لما عيرته بالسقم قابلها بنحول الخصر، فقال لها: إن كنت نحيلاً فخصرك أيضاً نحيل، فلما أنكرت شيبه قابلها بأن ثغرها أشنب، فكأنه قال لها: بياض شيبي في مقابلة ثغرك الأشنب، وليس الأمر كما ظن، فإن الشنب في اللغة ليس البياض، وإنما هو حدة الأسنان، ويقال: بردها وعذوبتها، والصحيح أنه حدتها، وهو دليل على الحداثة، لأن الأسنان في أول طلوعها تكون حادة، فإذا مرت عليها السنون احتكت وذهبت حدتها. وهذا المعنى ينظر إلى قول النابغة الذبياني في جملة قصيدته المشهورة وهو:

 

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

 

بهن فلول من قراع الكتائب

 

وقد تقدم ذكر هذا البيت في ترجمة عروة بن الزبير فيكشف هناك. ومثله أيضاً ما أنشدني بهاء الدين زهير بن محمد الكاتب - المقدم ذكره - لنفسه من جملة أبيات، وهو قوله:

 

ما فيه من عيب سوى

 

فتور عينيه فـقـط

رجع:

يا طالباً بعد المشـيب غـضـارة

 

من عيشه ذهب الزمان المذهـب

أتروم بعد الأربـعـين تـعـدهـا

 

وصل الدمى؟ هيهات عز المطلب

ومن السفاه وقد شـآك طـلابـه

 

يفعاً تطـلـبـه وفـودك أشـيب

لولا الهوى العذري يا دار الهـوى

 

ما هاج لي طرياً وميض خلـب

كلا ولا استجديت أخلاف الـحـيا

 

وندى صلاح الدين هـام صـيب

 

وقد مدحه جميع شعراء عصره وانتجعوه من البلاد؛ فمنهم العلم الشاتاني، واسمه الحسن - وقد تقدم ذكره - مدحه بقصيدته الرائية التي أولها:

أرى النصر مقروناً برايتك الصفرا

 

فسر واملك الدنيا فأنت بها أحرى

 

ومدحه المهذب أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي نصر المعروف بابن الشحنة الموصلي الشاعر المشهور بقصيدته التي أولها:

 

سلام مشوق قد براه التشـوق

 

على جيرة الحي الذين تفرقوا

 

وعدة أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتاً، وفيها البيتان السائران، أحدهما:

 

وإني امرؤ أحببتكم لـمـكـارم

 

سمعت بها، والأذن كالعين تعشق

 

وقد أخذه من قول بشار بن برد - المقدم ذكره - وهو:

 

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

 

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

 

والبيت الثاني من قصيدة ابن الشحنة قوله:

 

وقالت لي الآمال إن كنت لاحقاً

 

بأبناء أيوب فأنت الـمـوفـق

 

"ومما قيل فيه لبعض أهل المشرق:

 

الله اكبر، جاء الـقـوس بـاريهـا

 

ورام أسهـم دين الـلـه رامـيهـا

فكم لمصر على الأمصار من شرف

 

باليوسفين فهـل أرض تـدانـيهـا

فبإبن يعقوب هزت جيدها طـربـا

 

وبابن أيوب هزت عطفهـا تـيهـا

قل للملوك تخلى عن ممالـكـهـا

 

فقد أتي آخذ الدنيا ومـعـطـيهـا

 

فلما أنشدها إياه أعطاه ألف دينار".


ومدحه ابن قلاقس وابن الذروي وابن المنجم وابن سناء الملك وابن الساعاتي والبحراني الإربلي، وابن دهن الحصى الموصلي، ومحمد بن إسماعيل بن حمدان الحيزاني وغير هؤلاء، وقد ذكرت أكثر هذه الجماعة في هذا التاريخ. وعذري في تطويل هذه الترجمة قول المتنبي:

 

وقد أطال ثنائي طول لابسه

 

إن الثناء على التنبال تنبال

 

التنبال: الرجل القصير، وهو بكسر التاء المثناة من فوقها وبعدها نون ساكنة وباء موحدة وبعد الألف لام.


قلت: قد تقدم في هذه الترجمة عند ذكر إرسال العاضد إلى صلاح الدين وطلبه إياه ليخلع عليه ويوليه الوزارة ذكر المثل المشهور، وهو "أردت عمراً وأراد الله خارجة" وقد يقف عليه من لا يعرف سبب هذا المثل، ولا المراد منه، فأحببت أن أشرحه كيلا يحتاج من يقف عليه إلى كشفه من مكان آخر، فأقول:  عمرو المذكور هو عمرو بن العاصي بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي، كنيته أبو عبد الله، وقيل أبو محمد، أحد الصحابة رضي الله عنهم، أسلم سنة ثمان من الهجرة قبل فتح مكة، ومكة فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان من هذه السنة، وقيل بل أسلم بين الحديبية وخيبر، والأول أصح، وقدم هو وخالد بن الوليد المخزومي وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة القرشي العبدري على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مسلمين، فلما دخلوا عليه ونظر إليهم قال لهم: قد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها. وقال الواقدي: قدم عمرو بن العاصي مسلماً على رسول الله صلى اله عليه وسلم، قد أسلم عند النجاشي ملك الحبشة، وقدم معه عثمان بن طلحة وخالد بن الوليد، فقدموا المدينة في صفر سنة ثمان من الهجرة، وقيل إنه لم يأت من أرض الحبشة إلا معتقداً الإسلام، وذلك أن النجاشي قال له: يا عمرو، كيف يعزب عنك أمر ابن عمك؟ فوالله إنه لرسول الله حقاً، قال: أتحقق ذلك؟ قال: أي والله، فأطعني، فخرج من عنده مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.


وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية إلى الشام يدعو أخوال أبيه إلى الإسلام، فبلغ السلاسل من بلاد قضاعة، وهو ماء بأرض جذام، وبذلك سميت تلك الغزوة "ذات السلاسل" وكان معه ثلثمائة رجل، فخاف عمرو، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فأمده بجيش مائتي فارس من المهاجرين والأنصار أهل الشرف، فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فلما قدموا على عمرو بن العاصي قال: أنا أميركم وإنما أنتم مددي، فقال أبو عبيدة: بل أنت أمير من معك وأنا أمير من معي، فأبى عمرو، فقال أبو عبيدة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي إذا قدمت على عمرو فتطاوعا ولا تختلفا، فإن خالفتني أطعتك، قال عمرو: فإني أخالفك، فسلم إليه أبو عبيدة، وصلى خلفه في الجيش كله، وكانوا خمسمائة. وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاصي على عمان، فلم يزل عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.


وفي سنة اثنتي عشرة بعث أبو بكر رضي الله عنه عمرو بن العاصي ويزيد بن أبي سفيان الأموي، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، إلى الشام، وسار إليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه من العراق، وأول شيء فتحوا من الشام بصرى صلحاً. وتوفي أبو بكر رضي الله عنه، واستخلف عمر رضي الله عنه فولى أبو عبيدة على الجيش، وفتح الله تعالى عليه الشام، فولى يزيد بن أبي سفيان على فلسطين، وهي كورة قصبتها الرملة. ولما مات أبو عبيدة استخلف معاذ بن جبل، ومات معاذ فاستخلف يزيد بن أبي سفيان، ومات يزيد فاستخلف أخاه معاوية بن أبي سفيان، وكتب إليه عمر رضي الله عنه بعهده على ما كان عليه أخوه يزيد، وكان موت هؤلاء كلهم في طاعون عمواس، في سنة ثماني عشرة للهجرة.


وعمواس: بفتح العين المهملة والميم وفي آخرها سين مهملة، وهي قرية بالشام بين نابلس والرملة، وكان الطاعون بها في العام المذكور. وقيل بل مات يزيد بن أبي سفيان في ذي الحجة من سنة تسع عشرة بدمشق، والله أعلم، وذلك بعد فتح قيسارية.


وكان عمر رضي الله عنه قد ولى عمرو بن العاصي بعد موت يزيد بن أبي سفيان فلسطين والأردن، وولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى سعيد بن عامر بن حذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية، وكتب إلى عمرو فسار إلى مصر فافتتحها في سنة عشرين للهجرة، فلم يزل عليها والياً حتى مات عمر رضي الله عنه، فأقره عثمان رضي الله عنه عليها أربع سنين أو نحوها، ثم عزله وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وكان أخا عثمان رضي الله عنه من الرضاعة، فاعتزل عمرو بن العاصي في ناحية فلسطين وكان يأتي المدينة أحياناً.


فلما قتل عثمان رضي الله عنه سار إلى معاوية باستجلاب معاوية إياه، وشهد صفين مع معاوية وكان منه في صفين وقضية التحكيم ما هو مشهور عند أهل العلم بهذا الفن، وكان قد طلب من معاوية أنه إذا تم له الأمر يوليه مصر، وكتب إليه في بعض أيام طلبه:

معاوي لا أعطيك ديني ولم أنـل

 

به منك دنيا فانظرن كيف تصنع

فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة

 

أخذت بها شيخاً يضر وينـفـع

 

ثم ولاه معاوية مصر، فلم يزل بها أميراً إلى أن مات يوم عيد الفطر من سنة ثلاث وأربعين للهجرة، وقيل سنة اثنتين وأربعين، وقيل سنة ثمان وأربعين، وقيل سنة إحدى وخمسين، والأول أصح، وعمره تسعون سنة، ودفن بسفح المقطم، وصلى عليه ابنه عبد الله. ولما رجع صلى بالناس العيد، ثم عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاصي، وولى أخاه عتبة بن أبي سفيان، فمات عتبة بعد سنة أو نحوها فولى معاوية مسلمة بن مخلد.


وكان عمرو بن العاصي من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية، وكان من الدهاة في أمور الدنيا المقدمين في الرأي، وكان عمر رضي الله عنه إذا استضعف رجلاً في رأيه قال: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد، يريد خالق الأضداد.


وذكر أبو العباس المبرد في كتاب - الكامل - أن عمرو بن العاصي لما حضرته الوفاة دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له: يا أبا عبد الله، كنت أسمعك كثيراً ما تقول: وددت لو رأيت رجلاً عاقلاً حضرته الوفاة حتى أسأله عما يجد، فكيف تجد؟ فقال: أجد كأن السماء مطبقة على الأرض وكأني بينهما، وكأنما أتنفس من خرت إبرة، ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى. فدخل عليه ولده عبد الله فقال له: يا ولدي، خذ ذلك الصندوق قال: لا حاجة لي به، فقال: إنه مملوء مالاً، فقال: لا حاجة لي به، فقال: ليته مملوء بعراً، ثم رفع يديه وقال: اللهم إنك أمرت فعصينا، ونهيت فارتكبنا، فلا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكن لا إله إلا أنت، ثم فاظ.


قلت: يقال فاظ وفاض، بالظاء والضاد، أي مات، قال الشاعر:

 

لا يدفنون منهم من فاظا

 

وأما خارجة المذكور في هذا المثل فإنه خارجة بن حذافة بن غانم بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب القرشي العدوي، شهد فتح مصر واختط بمصر، وكان أمير ربع المدد الذين أمد بهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاصي في فتح مصر، وكان على شرط مصر في إمرة عمرو بن العاصي لمعاوية بن أبي سفيان الأموي. قتله خارجي بمصر سنة أربعين للهجرة، وهو يحسب انه عمرو بن العاصي، هكذا قاله ابن يونس في " تاريخ مصر ".


وذكره في كتاب "الاستيعاب" لابن عبد البر، وساق نسبه على هذه الصورة. ثم قال: يقال إنه كان يعد بألف فارس؛ ذكر بعض أهل النسب والأخبار أن عمرو بن العاصي كتب إلى عمر رضي الله عنه يستمده بثلاثة آلاف فارس، فأمده بخارجة بن حذافة والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود الكندي، وشهد خارجة فتح مصر، وقيل إنه كان قاضياً لعمرو بن العاصي بها، وقيل إنه كان على شرطة عمرو، ولم يزل بها إلى أن قتل، قتله أحد الخوارج الثلاثة الذين كانوا انتدبوا لقتل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاصي، فأراد الخارجي قتل عمرو فقتل خارجة هذا وهو يظنه عمراً، وذلك أنه كان استخلفه عمرو بن العاصي على صلاة الصبح ذلك اليوم، فلما قتله أخذ وأدخل على عمرو، فقال: من هذا الذي أدخلتموني عليه، فقالوا عمرو بن العاص، فقال: ومن قتلت؟ فقالوا: خارجة، فقال: أردت عمراً وأراد الله خارجة. وقد قيل إن الخارجي الذي قتله لما أدخل على عمرو، قال له عمرو: أردت عمراً وأراد الله خارجة، والله أعلم من قال ذلك منهما. والذي قتل خارجة هذا رجل من بني العنبر بن عمرو بن تميم، يقال له داذويه. وقيل إنه مولى لبني العنبر. وقد قيل إن خارجة الذي قتله الخارجي بمصر، على أنه عمرو بن العاصي، رجل يسمى خارجة من بني سهم رهط عمرو بن العاصي، وليس بشيء؛ انتهى ما قاله صاحب "الاستيعاب".


وقال غيره: إن عمرو بن العاصي أصابه شيء في بطنه فتخلف في منزله تلك الليلة. وكان خارجة يعشي الناس، فضربه الخارجي، وكان عمرو يقول: ما نفعني بطني قط إلا تلك الليلة.


قلت: فهذا أصل المثل في قولهم "أردت عمراً وأراد الله خارجة". وإلى هذا أشار أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الأندلسي في قصيدته التي رثى بها بني الأفطس ملوك بطليوس وأولها:

 

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

 

بقوله:

 

وليتها إذا فدت عمراً بخـارجة

 

فدت علياً بمن شاءت من البشر

وهي من غرر القصائد جمعت تاريخاً كثيراً، وشرحها الأديب أبو مروان عبد الملك بن عبد الله بن بدرون الحضرمي الشلبي، شرحاً مستوفى.

 وهذا البيت يحتاج إلى شرح أيضاً وهو من تتمة الكلام على المثل المذكور لكني أذكره مختصراً فإنه طويل: ذكر أهل علم التاريخ أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بويع بالخلافة في اليوم الذي قتل فيه عثمان بن عفان رضي الله عنه خرج عليه من قاتله في وقعة الجمل - وقد ذكرت طرفاً من هذه الوقعة في ترجمة يموت بن المزرع، ساقها الكلام هناك فذكرت المقصود منه - ثم كانت وقعة صفين عند خروج معاوية بن أبي سفيان الأموي، وعمرو بن العاصي، على علي بن أبي طالب، رضي الله عنه فتوجه إليهم من العراق، وجاءوه من الشام، والتقوا على صفين، وهو موضع على شاطىء الفرات بالقرب من الرحبة، وهي واقعة مشهورة، وكانت في سنة سبع وثلاثين من الهجرة. ولما غلب أهل الشام طلبوا من علي بن أبي طالب رضي الله عنه التحكيم، فأجابهم إليه بعد معاودات كثيرة، فخرج على علي جماعة من أصحابه، وقالوا حكمت في دين الله، ولا حكم إلا لله، ورحلوا إلى النهروان، فمضى إليهم وقاتلهم واستأصلهم إلا اليسير منهم، وهي أيضاً واقعة مشهورة بقتال الخوارج. ولما طال الأمر في ذلك اجتمعوا وقالوا: إن علياً ومعاوية وعمرو بن العاصي قد أفسدوا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهم لعاد الأمر إلى حقه، فقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي: أنا أقتل علياً قالوا فكيف لك بذلك؟ قال: أغتاله، وقال الحجاج بن عبد الله الصريمي: أنا أقتل معاوية ويعرف هذا الصريمي بالبرك، وقال داذويه، وقيل زاذويه - وقد تقدم الكلام عليه في الكلام على خارجة بن حذافة -: أنا أقتل عمراً، وأجمعوا آرائهم على أن يكون ذلك في ليلة واحدة، فدخل ابن ملجم الكوفة، وعلي رضي الله عنه بها، فاشترى سيفاً بألف درهم وسقاه السم حتى لفظه. فلما خرج علي لصلاة الصبح كان ابن ملجم قد كمن له فضربه على رأسه وقال: الحكم لله يا علي، لا لك، وقيل إنه ضربه وهو في صلاة الصبح، وذلك في صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة، وقيل غير هذا التاريخ. وقدم البرك الصريمي على معاوية بدمشق فضربه فجرح أليته، وهو في الصلاة، ويقال إنه قطع عرق النسل، فما أحبل بعدها وأما عمرو فقد سبق الكلام عليه عند قتل خارجة وهذا تفسير المثل والبيت الشعر على سبيل الاختصار، والله أعلم.