جوهر الصقلي

توفي 381 هـ

القائد أبو الحسن جوهر بن عبد الله، المعروف بالكاتب، الرومي؛ كان من موالي المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي صاحب إفريقية، وجهزه إلى الديار المصرية ليأخذها بعد موت كافور الإخشيدي، وسير معه العساكر، وهو المقدم، وكان رحيله من إفريقية يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وتسلم مصر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان من السنة المذكورة، وصعد المنبر خطيبا بها يوم الجمعة لعشر بقين من شعبان ودعا لمولاه المعز، فأقيمت الدعوة للمعز في الجامع العتيق، وسار جوهر إلى جامع ابن طولون وأمر بأن يؤذن فيه بحي على خير العمل وهو أول ما أذن؛ ثم أذن بعده بالجامع العتيق وجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. ولما استقر جوهر بمصر شرع في بناء القاهرة وسير عسكراً إلى دمشق وغزاها فملكها. ووصلت البشارة إلى مولاه المعز بأخذ البلاد وهو بإفريقية في نصف شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة، ويدعوه إلى المسير ليه، ففرح فرحاً شديداً، ومدحه الشعراء فمن ذلك محمد بن هانىء الأندلسي من قصيدة:

يقول بنو العباس قد فتحت مصر            فقل لبني العباس قد قضي الأمر
وقد جاوز الإسكندرية جـوهـر                تطالعه البشرى ويقدمه النصـر

 

وأقام بها حتى وصل إليه مولاه المعز وهو نافذ الأمر، واستمر على علو منزلته وارتفاع درجته متولياً للأمور إلى يوم الجمعة سابع عشر المحرم سنة أربع وستين، فعزله المعز عن دواوين مصر وجباية أمولها والنظر في أحوالها، وكان محسناً إلى الناس، إلى أن توفي يوم الخميس لعشر بقين من ذي القعدة وكانت وفاته بمصر، ولم يبق بها شاعر إلا رثاه وذكر مآثره.

 

لما توفي كافوراً الإخشيدي الخادم استقر الرأي بين أهل الدولة أن تكون الولاية لأحمد بن علي بن الإخشيد، وكان صغير السن، على أن يخلفه ابن عم أبيه أبو محمد الحسين بن عبد الله بن طغج، وعلى أن تدبير الرجال والجيش إلى شمول الإخشيدي، وتدبير الأموال إلى أبي الفضل جعفر بن الفرات الوزير، وذلك يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة، ودعي لأحمد بن علي بن الإخشيد على المنابر بمصر وأعمالها والشامات والحرمين، وبعده للحسين بن عبد الله، ثم إن الجند اضطربوا لقلة الأموال وعدم الإتفاق فيهم فكتب جماعة من وجوههم إلى المعز بإفريقية يطلبون منه إنفاذ العساكر ليسلموا له مصر، فامر القائد جوهراً المذكور بالتجهز إلى الديار المصرية، واتفق أن جوهرا مرض مرضاً شديداً أيس منه فيه، وعاده مولاه المعز فقال: هذا لا يموت، وستفتح مصر على يديه، واتفق إبلاله من المرض، وقد جهز له كل ما يحتاج إليه من المال والسلاح والرجال، فبرز بالعساكر في موضع يقال له الرقادة ومعه أكثر من مائة ألف فارس، ومعه أكثر من ألف ومائتي صندوق من المال، وكان المعز يخرج إليه كل يوم ويخلو به ويوصيه، ثم تقدم إليه بالمسير وخرج لوداعه، فوقف جوهر بين يديه والمعز مككئاً على فرسه يحدثه سرا زمانا، ثم قال لأولاده: انزلوا لوداعه، فنزلوا عن خيولهم، ونزل أهل الدولة لنزولهم، ثم قبل جوهر يد المعز وحافر فرسه، فقال له: اركب، فركب وسار بالعساكر، ولما رجع المعز إلى قصره أنفذ لجوهر ملبوسه وكل ما كان عليه سوى خاتمه وسراويله، وكتب المعز إلى عبده أفلح صاحب برقة أن يترجل للقائد جوهر ويقبل يده عند لقائه، فبذل أفلح مائة ألف دينار على أن يعفى من ذلك، فلم يعف، وفعل ما أمر به عند لقائه لجوهر. ووصل الخبر إلى مصر بوصولهم، فاضطرب أهلها، واتفقوا مع الوزير جعفر بن الفرات على المراسلة في الصلح وطلب الأمان وتقرير أملاك أهل البلد عليهم، وسألوا أبا جعفر مسلم بن عبد الله الحسيني أن يكون سفيرهم فأجابهم، وشرط أن يكون معه جماعة من أهل البلد، وكتب الوزير معهم أيضا بما يريد، وتوجهوا نحو القائد جوهر يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وكان جوهر قد نزل في تروجة - وهي قرية قريبة من الاسكندرية - فوصل إليه الشريف بمن معه وأدى إليه الرسالة، فأجابه إلى ما التمسوه، وكتب له جوهر عهدا بما طلبوه، واضطرب البلد اضطراباً شديداً، وأخذت الإخشيدية والكافورية وجماعة من العسكر الأهبة للقتال، وستروا ما في دورهم وأخرجوا مضاربهم ورجعوا عن الصلح، وبلغ ذلك جوهرا فرحل إليهم، وكان الشريف قد وصل بالعهد والأمان في سابع شعبان، فركب إليه الوزير والناس واجتمع عند الجند فقرأ عليهم العهد، وأوصل إلى كل واحد جواب كتابه بما أراد من الإقطاع والمال والولاية، واوصل إلى الوزير جواب كتابه وقد خوطب فيه بالوزير، فجرى فصل طويل في المشاجرة والامتناع، وتفرقوا عن غير رضى، وقدموا عليهم نحريراً الشوبزاني، وسلموا عليه بالإمارة، وتهيأوا للقتال، وساروا العساكر نحو الجيزة ونزلوا بها وحفظوا الجسور.

 

ووصل القائد جوهر إلى الجيزة، وابتدئ بالقتال في الحادي عشر من شعبان، وأسرت رجال وأخذت خيل، ومضى جوهر إلى منية الصيادين، وأخذ المخاضة بمنية شلقان، واستأمن إلى جوهر جماعة من العسكر في المراكب وجعل أهل مصر على المخاضة من يحفظها، فلما رأى ذلك جوهر قال لجعفر بن فلاح: لهذا اليوم أرادك المعز، فعبر عريانا في سراويل وهو في مركب ومعه الرجال خوضا حتى خرجوا إليهم، ووقع القتال، فقتل خلق كثير من الإخشيدية وأتباعهم، وانهزمت الجماعة في الليل، ودخلوا مصر وأخذوا من دورهم ما قدروا عليه وانهزموا وخرج حرمهم مشاة ودخلن على الشريف أبي جعفر في مكاتبة القائد باعادة الأمان، فكتب إليه يهنئه بالفتح ويسأله إعادة الأمان، وجلس الناس عنده ينتظرون الجواب، فعاد إليه بأمانهم، وحضر رسوله ومعه بند أبيض وطاف على الناس يؤمنهم ويمنع من النهب، فهدأ البلد وفتحت الأسواق وسكن الناس كأن لم تكن فتنة.

 

فلما كان آخر النهار ورد رسوله إلى أبي جعفر بأن تعمل على لقائي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة تخلو من شعبان بجماعة الأشراف والعلماء ووجوه البلد، فانصرفوا متأهبين لذلك، ثم خرجوا ومعهم الوزير جعفر وجماعة الأعيان إلى الجيزة، والتقوا بالقائد، ونادى مناد: ينزل الناس كلهم إلا الشريف والوزير، فنزلوا وسلموا عليه واحداً واحداً، والوزير عن شماله والشريف عن يمينه، ولما فرغوا من السلام ابتدأوا في دخول البلد، فدخلوا من زوال الشمس وعليهم السلاح والعدد، ودخل جوهر بعد العصر وطبوله. وبنوده بين يديه، وعليه ثوب ديباج مثقل، وتحته فرس أصفر، وشق مصر، ونزل في مناخه موضع القاهرة اليوم، واختط موضع القاهرة.

 

ولما أصبح المصريون حضروا إلى القائد للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر في الليل، وكان فيه زورات جائت غير معتدلة فلم تعجبه، ثم قال: حفرت في ساعة سعيدة فلا أغيرها، وأقام عسكره يدخل إلى البلد سبعة أيام أولها الثلاثاء المذكور، وبادر جوهر بالكتاب إلى مولاه المعز يبشره بالفتح وأنفذ إليه رؤوس القتلى في الوقعة، وقطع خطبة بني العباس عن منابر الديار المصرية، وكذلك اسمهم من على السكة، وعرض عن ذلك باسم مولاه المعز، وأزال الشعار الأسود، وألبس الخطباء الثياب البيض، وجعل يجلس بنفسه في كل يوم سبت للمظالم بحضرة الوزير والقاضي وجماعة من أكابر الفقهاء.

 

وفي يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة أمر جوهر بالزيادة عقيب الخطبة اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسين سبطي الرسول، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللهم صل على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين. وفي يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر سنة تسع وخمسين صلى القائد في جامع ابن طولون بعسكر كثير، وخطب عبد السميع بن عمر العباسي الخطيب، وذكر أهل البيت وفضائلهم، رضي الله عنهم، ودعا للقائد، وجهر القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ سورة الجمعة والمنافقين في الصلاة، وأذن بحي على خير العمل وهو أول من أذن به بمصر، ثم أذن به في سائر المساجد.

 

وفي جمادى الأولى من السنة أذنوا في جامع مصر العتيق بحي على خير العمل وسر القائد جوهر بذلك، وكتب إلى المعز وبشره بذلك، ولما دعا الخطيب على المنبر للقائد جوهر أنكر عليه وقال: ليس هذا رسم موالينا.

 

وشرع في عمارة الجامع بالقاهرة، وفرغ من بنائه في السابع من شهررمضان سنة إحدى وستين، وجمع فيه الجمعة.

 

قلت: وأظن هذا الجامع هو المعروف بالأزهر بالقرب من باب البرقية، بينه وبين باب النصر.

 

وأقام جوهر مستقلاً بتدبير مملكة مصر قبل وصول مولاه المعز إليها أربع سنين وعشرين يوما، ولما وصل المعز إلى القاهرة خرج جوهر من القصر إلى لقائه، ولم يخرج معه شيئاً من آلته سوى ما كان عليه من الثياب، ثم لم يعد إليه، ونزل في داره بالقاهرة.

 

وكان ولده الحسين قائد القواد للحاكم صاحب مصر، وكان قد خاف على نفسه من الحاكم، فهرب هو وولده وصهره القاضي عبد العزيز بن النعمان، وكان زوج أخته، فأرسل الحاكم من ردهم وطيب قلوبهم وآنسهم مدة مديدة ثم حضروا إلى القصر بالقاهرة للخدمة، فتقدم الحاكم إلى راشد الحقيقي - وكان سيف النقمة - فاستصحب عشرة من الغلمان الأتراك، وقتلوا الحسين وولده وصهره القاضي، وأحضروا رأسيهما إلى بين يدي الحاكم، وكان قتلهم في سنة إحدى وأربعمائة.