أظُنُّ الدَّهْرَ جاءَكَ مُستَثيراً |
فقد أحقدتَهُ كرماً وخِيرا |
تَبِيتُ على نوائبِهِ مُعيناً |
وتُضْحِي مِنْ حوادِثهِ مُجِيرا |
وتَصْرِفُ صرْفَهُ عنْ كُلِّ حُرٍّ |
وتمنَعُ خطبَهُ منْ أنْ يَجُورا |
فكمْ أنقذْتَ منْ تلفٍ أخيذاً |
وكمْ أطلقْتَ منْ عُدْمٍ أسيرا |
فلا عجبٌ وإنْ وافى بأوْفى الـ |
ـفوادِحِ أن يسُوءَ وأنْ يسُورا |
وهلْ قصدَ الزَّمانُ سِوى كَرِيمٍ |
حماهُ أنْ يضيمَ وأنْ يضِيرا |
وما زالتْ صُروفُ الدهْرِ تحدُو |
إلى الأخيارِ شرّاً مُسْتَطِيراً |
تُسيءُ إلى ذَوِي الحُسنى وتحْبُو |
مُقِيلَ عِثارِها الجَدَّ العَثُورا |
ولوْ دُفِعَ الحِمامُ بِعَزِّ قومٍ |
لكُنْتَ أعَزَّ ذِي عِزٍّ نَصيرا |
هُوَ القدَرُ الَّذِي لمْ تَلْقَ خَلْقاً |
على دَفْعٍ لَهُ أبَداً قَدِيرا |
سواءٌ منْ يقودُ إليهِ جيشاً |
وَمَنْ يَحْدُو مِنَ الأقوامِ عِيرا |
ومَا ينَفَكُّ هذا الدَّهْرُ حتّى |
يصيرَ إلى الفناءِ بِنا المصيرا |
فَيالِيَ مِنهُ صَوّالاً فتُوكا |
ويالِيَ مِنهُ خلاّباً سَحُورا |
كذلكَ شيمة ُ الأيامِ فينا |
تسُوءُ حقيقة ً وتسُرُّ زُورا |
وكَمْ سُكّانِ دُنْياً لَوْ أفاقُوا |
لما سكنتْ قلوبُهُم الصدورا |
أهبَّ عليهِمُ الحدثانُ ريحاً |
بكلِّ عجاجة ٍ تُغْري مُثِيرا |
تحدّاهُمْ كأنَّ عليهِ فيهِمْ |
يميناً أوْ قضى بهمُ النُّذورا |
فيا عَيْشا مُنْحْناهُ خِداعاً |
ويا دُنْيا صَحِبْناها غُرُورا |
ويا دَهْراً أهابَ بِنا رَداهُ |
ليتْبِعَ أولاً منّا أخِيرا |
أما تنصدُّ ويحَكَ عنْ فَعالٍ |
ذَمِيمٍ لا تَرى فِيهِ عَذِيرا |
سموتَ إلى سماءِ الفخْرِ حتّى |
تَناوَلْتَ الهِلالَ المُسْتَنِيرا |
وطُفْتَ بِدوْحَة ِ العَلْياءِ حَتّى |
خَلَسْتَ بِكَيْدِكَ الغُصْنَ النَّضِيرا |
كأنَّ أبا الغنائِمِ كانَ ممنْ |
تَعُدُّ وفاتَهُ غُنْماً كبيرا |
كأنَّكَ كُنْتَ تَطْلُبهُ بِثأرٍ |
غَشومٍ لا تَرى عَنهُ قُصُورا |
خَطَوْتَ العالَمِينَ إليهِ قَصْداً |
كأنَّكَ قدْ سألْتَ بهِ خبيرا |
إلى أنْ أغمدَتْ كفّاكَ منهُ |
حُساماً زانَ حامِلَهُ شَهِيرا |
مُصابٌ لَوْ تَحمَّلهُ ثَبِيرٌ |
دَعا وَيْلاً وأتْبَعَها ثُبُورا |
يُذَكِّرُنِي سَدِيدَ المُلْكِ وَجْداً |
وكُنْتِ لِمثِلهِ أبَداً ذَكُورا |
فَما أطفْأتَ مِنْ نارٍ لَهِيباً |
إلى أنْ عُدْتَ تُذْكِيها سعيرا |
وما طالَ المدى فيسُوغَ عُذْرٌ |
بأنْ يكْبُو الجوادُ وأنْ يَخُورا |
قَصَرْتَ مَداهُ حتّى كادَ يوْماً |
بهِ أنْ يَسبِقُ النّاعِي البَشِيرا |
ولمْ يكْسُ الفتى كمداً طويلاً |
كمفقُودٍ نضى عُمْراً قصِيرا |
ولمْ أجِدِ الكَبِيرَ الرُّزْءِ إلاّ |
سَلِيلَ عُلاً فُجِعْتَ بهِ صَغِيرا |
على أنَّ الكِرامَ تُعدُّ ليثاً |
هصُوراً منهُمُ الرشَأَ الغريرا |
ترى أيامهُمْ أعوامَ قومٍ |
وَساعاتِ الفَتى مِنهُمْ شُهُورا |
فَلا يَبْعُدْ حَبيبٌ بانَ عَنّا |
وإنْ كانَ البعادُ بهِ جَدِيرا |
وكيفَ دُنُوُّ منْ طوَتِ الليالِي |
كَما تَطْوِي عَلى الظَّنِّ الضَّمِيرا |
فيا رامِيهِ عنْ قوسِ المنايا |
أصَبْتَ بواحدٍ عدداً كَثِيرا |
ويا راجِيهِ يَجْعَلُهُ ظَهيراً |
نَبا بكَ حادِثٌ قطَعَ الظُّهُورا |
ويا حاثِيَ الترابِ عليهِ مهلاً |
كَسفْتَ بَهاءَهُ ذاكَ البَهيرا |
فلو أنِّي استطعتُ حملْتُ عنْهُ |
ثقيلَ الترْبِ والخطْبَ الكَبيرا |
أصُونُ جمالَهُ وأجِلُّ منْهُ |
جَبِينَ البَدْرِ أنْ يُمْسِي عَفِيرا |
بِنَفْسِي نازِحٌ بِالغَيْبِ دانٍ |
يُجاوِرُ مَعْشراً حُضُورا |
أقامَ بِحَيْثُ لا يهْوى مُقاماً |
ولاَ يَبْغِي إلى جِهة ٍ مَسِيرا |
ولا هَجْراً يَوَدُّ وَلا وِصالاً |
ولا بَرْداً يُحِسُّ ولا هَجِيرا |
أقُولُ سقى محلَّتَهُ غمامٌ |
يَمُرُّ بِها مِراراً لا مُرُورا |
وروَّضَ ساحتيهِ كأنَّ وشياً |
يَحُلُّ بِها وَدِيباجاً نَشِيرا |
إذا خطَرَ النسيمُ عليهِ أهْدى |
إلى زُوارِهِ أرَجاً عطِيرا |
وما أرَبِي لَهُ في ماءِ مُزْنٍ |
وقدْ ودَّعْتُ منْهُ حيّاً مطيرا |
ولَوْلا عادَة ُ السُّقْيا بِغَيْثٍ |
إذاً لسقيتُهُ الدرَّ النثِيرا |
وقلَّ لقدرِهِ منِّي وقلَّتْ |
لَهُ زُهْرُ الكواكِبِ أنْ تَغُورا |
أحِنُّ إلى الصَّعيدِ كأنَّ فيهِ |
شِفاي إذا مَرَرْتُ بهِ حَسِيرا |
وأستافُ الثَّرى مَذْ حَلَّ فِيهِ |
وأُلْصِقُهُ الترائبَ والنُّحُورا |
ولَوْلا قَبْرُهُ ما كُنْتُ يَوْماً |
لألْثِمَهُ وأعْتَنِقَ القُبُورا |
عليكَ بأدْمُعٍ آلينَ ألاّ |
يغِضْنَ ولوْ أفضْنَ دماً غزيرا |
يزُرنكَ مُسعِداتٍ مُنجداتٍ |
رواحاً بالتفجُّعِ أوْ بُكورا |
فأولى مَنْ يُقاسِمُكَ الأسى فِي |
خطوبِكَ منْ تُقاسِمُهُ السرورا |
ولا تعلقْ بصبرٍ بعدَ بدْرٍ |
ذَمَمْنا الصَّبْرَ عَنهُ والصَّبُورا |
وإنْ قالُوا استرَدَّ الدَّهْرُ مِنهُ |
مُعاراً كيْفَ تَمْنَعُهُ المُعِيرا |
فَلِمْ أعْطاكَهُ نَجْماً خَفِيّاً |
وعادَ لأخْذهِ قَمَراً مُنِيرا |
أبا الذوادِ ما كبدٌ أُذِيبَتْ |
بِشافِيَة ٍ وَلا قَلْبٌ أُطِيرا |
فهلْ لكَ أنْ تُراقِبَ فيهِ يوماً |
يُوَفّى الصّابِرُونَ بهِ الأُجورا |
ولوْلاَ أنْ أخافَ اللَّهَ مِنْ أنْ |
يرانِي بعدَ إيمانٍ كَفُورا |
لَما عَزَّيْتُ قَلْبَكَ عَنْ حَبِيبٍ |
وكُنْتُ بِأنْ أُحَرِّقَهُ بَصِيرا |
ولمْ نعهدكَ في سرّاءِ حالٍ |
ولا ضَرّائِها إلاّ شَكُورا |
فصَبْراً للمُلِمِّ وإنْ أصَبْنا |
جَناحَ الصَّبْرِ مُنهاضاً كَسِيرا |
ألمْ تعلمْ وكانَ أبُوكَ ممنْ |
إذا خطَبَ العُلى أغْلى المُهُورا |
بأنكُمُ أطَبُّ بكُلِّ أمْرٍ |
إذا ما ضيعَ الناسُ الأمُورا |
وأيُّ الخطْبِ ينقُصُ منْ عُلاكُمْ |
وأيُّ النزفِ ينتزِحُ البُحُورا |
وأيُّ عَواصِفِ الأرْواحِ يَوْماً |
تَهُبُّ فَتُفْلِقُ الطَّوْدَ الوَقُورا |
وإنكَ شائدٌ وأخُوكَ مجداً |
سيخلُدُ ذكرُهُ حسناً أثِيرا |
إذا وُقِّيتُما مِنْ كُلِّ خَطْبٍ |
فَما نَبْغِي عَلى زَمَنٍ ظَهِيرا |
وما القَمَرانِ إذْ سَعِدا وَتَمّا |
بأبْهَرَ منكُما في الفَضْلِ نُورا |
أرانِي لا أسُومُ الصَّبْرَ قَلْبِي |
فأُدْرِكَهُ يَسِيراً أوْ عَسِيرا |
كأنِّي مُبتَغِ لَكُما شَبيهاً |
بهِ أوْ مُدَّعٍ لَكُما نَظِيرا |
فلا أخلى الزمانُ لكُمْ محلاً |
وَلا عَدِمَتْ سَماؤُكُمُ البُدُورا |