محمود بن سبكتكين

971 – 1030 م

من الملوك الغزنويين وقد ارتفعت الدولة الغزنوية إلى الأوج في قليل من الزمن بفضل همة محمود وحسن قيادته. عرف محمود بالعديد من الألقاب من بينها بطل الإسلام وفاتح الهند ومحطم الأصنام ويمين أمير المؤمنين ويمين الدولة.

 

استطاع محمود بن سبكتكين أن يغلب السامانيين على أمرهم وأن يغزو الهند ويهزم الهنود في اثنتي عشرة معركة في أربع وعشرين سنة وأن يزيد حدود مملكته التي ورثها حتى امتدت من بخارى وسمرقند إلى كوجرات وقنوج وشملت أفغانستان وما وراء النهر وسجستان وخراسان وطبرستان وكشمير وجزءاً كبيراً من الولايات الواقعة في الشمال الغربي من الهند. حتى إذا كانت سنة 1030 م (421 هـ) أدركته الوفاة وبعد ذلك بسبع سنين انتقل ملكه العريض فعلياً إلى أيدي السلاجقة. إلا أن دولته التي أسسها لم يقض عليها القضاء النهائي إلا في سنة 582 هـ عندما استولى الغوريون على آخر ممتلكاتها في الهند وأوقعوا بها الواقعة القاصمة.

 

كان بن سبكتكين نصيراً كبيراً للأدب والفنون. كان يعيش في عهده كثير من العلماء والشعراء، منهم: ابن سينا وأبو الريحان البيروني وأبو الفتح البستي والعسجدي والفردوسي والبيهقي والفرخي والمنوجهري والعنصري والكسائي والدقيقي والغضائري.

 

ورد في "وفيات الأعيان" لابن خلكان:

" أبو القاسم محمود بن ناصر الدولة أبي منصور سبكتكين، الملقب أولاً سيف الدولة، ثم لقبه الإمام القادر بالله لما سلطنه بعد موت أبيه "يمين الدولة وأمين الملة" واشتهر به.

 

وكان والده سبكتكين قد ورد مدينة بخارى في أيام نوح بن منصور أحد ملوك السامانية المذكورين في ترجمة أبي بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب، وكان وروده في صحبة أبي إسحاق ابن البتكين، وهو حاجبه وعليه مدار أموره، فعرفه أركان تلك الدولة بالشهامة والصرامة، وتوسموا فيه الإرتفاع إلى اليفاع. ولما خرج أبو إسحاق المذكور إلى غزنة والياً عليها وساداً مسداً أبيه انصرف الأمير سبكتكين بانصارفه على جملته في زعامة رجاله ومراعاة ما وراء بابه، فلم يلبث أبو إسحاق بعد موافاتها أن قضى نحبه، ولم يبق من ذوي قرابته من يصلح لمكانته واحتاج الناس إلى من يتولى أمورهم، فاختلفوا فيمن يصلح لذلك، ثم وقع اتفاقهم واجتمعت كلمتهم على تأمير الأمير سبكتكين، فبايعوه على ذلك، وانقادوا لحكمه.

 

فلما تمكن واستحكم شرع في الغزاة والإغارة على أطراف الهند، فافتتح قلاعاً كثيرة منها، وجرت بينه وبين الهنود وعظم جريدته، وعمرت أرض خزائنه، وأشفقت النفوس من هيبته. وكان من جملة فتوحاته ناحية بست، وكان من جملة ما استفاده من صفاياها أبو الفتح بن محمد البستي الشاعر المقدم ذكره، فإنه كان كاتباً لملك الناحية المذكورة، واسمه بابي نور، فلما تعلق بخدمته اعتمد عليه في أموره، وأسر إليه بأحواله، وشرح ذلك يطول.

 

وآخر الأمر أن الأمير سبكتكين كان قد وصل إلى مدينة بلخ من طوس فمرض بها، واشتاق إلى غزنة فخرج إليها في تلك الحال، فمات في الطريق قبل وصوله، وذلك في شعبان سنة سبع وثمانين وثلثمائة، ونقل تابوته إلى غزنة، ورثاه جماعة من شعراء عصره منهم كاتبه أبو الفتح الببستي المذكور بقوله:

قلت إذ مات ناصر الدين                     والدو لة حياه ربـه بـالـكـرامة

وتداعيت جموعه بافـتـراق:                 هكذا هكذا تكون الـقـيامة!

 

واجتاز بعض الأفاضل بداره بعد موته وقد تشعثت، فأنشد:

عليك سلام الله من مـنـزل قـفـر               فقد هجت لي شوقاً قديماً وما تـدري

عهدتك مذ شهـر جـديداً ولـم أخـل            صروف الردى تبلي مغاتيك في شهر

 

وكان الأمير المذكور قد جعل ولي عهده من بعده ولده إسماعيل، واستخلفه على الأعمال وأوصى إليه بأمر أولاده وعياله، وجمع وجوه حجابه وقواده على طاعته ومتابعته، وجلس على سرير السلطنة، وتحكم واعتبر بيوت الأموال، وكان أخوه السلطان محمود بخراسان مقيماً بمدينة بلخ وإسماعيل بغزنة، فلما بلغه نعي أبيه كتب إلى أخيه إسماعيل ولاطفه في القول وقال له: إن أبي لم يستخلفك دوني إلا لكونك كنت عنده وأنا كنت بعيداً عنه، ولو أوقف المر على حضوري لفاتت مقاصده، ومن المصلحة أن نتقاسم الأموال بالميراث وتكون أنت مكانك بغزنة وأنا بخراسان، وندبر الأمور زنتفق على المصالح كيلا يطمع فينا عدو، ومتى ظهر للناس اخلافنا قلت حرمتنا، فأبى إسماعيل من موافقته على ذلك وكان فيه لين ورخاوة، فطمع فيه الجند وتشغبوا عليه وطالبوه بالأموال فاستنفد في مرضاتهم الخزائن.

 

ثم خرج محمود إلى هراة وجدد مكاتبة أخيه، وهو لا يزداد إلا اعتياصاً، فدعا محمود عمه بغراجق إلى موافقته فأجابه؛ وكان أخوه أبو المظفر نصر بن سبكتكين أميراً بناحية بست، فنهض إليه وعرض عليه الإنقاياد لمتابعته فلم يتوقف عليه، فلما قوي جأشه بعمه وأخيه قصد أخاه إسماعيل بغزنة وهما معه، فنازلهما في جيش عظيم وجم غفير وحاصرها، واشتد القتال عليها ففتحها، وانحاز إسماعيل إلى قلعتها متحصناً بها، ثم تلطف في طلب الأمان من أخيه محمود فأجابه إلى سؤاله، ونزل في حكم أمانة وتسلم منه مفاتيح الخزائن، ورتب في غزنة النواب والأكفاء وانحدر إلى بلخ.

 

وكان السلطان محمود قد اجتمع بأخيه إسماعيل في مجلس الأنس بعد ظفره به، فسأله عما كان في نفسه أنه يعتمد في حقه لو ظفر به، فحملته سلامة صدره ونشوة السكر على أن قال: كان في عزمي إن أسيرك إلى بعض القلاع موسعاً عليك فيما تقترحه من دار وغلمان وجوار ورزق على قدر الكفاية، فعامله بجنس ما كان قد نواه له، وسيره إلى بعض الحصون وأوصى عليه الوالي أن يمكنه من جميع ما يشتهي.

 

ولما انتظم الأمر للسسلطان محمود، كان في بعض بلاد خراسان نواب لصاحب ما وراء النهر من ملوك بني سامان، فجرى بين السلطان محمود وبينهم حروب انتصر فيها عليهم، وملك بلاد خراسان وانقطعت الدولة السامانية منها، وذلك في سنة تسع وثمانين وثلثمائة، واستتب له الملك، وسير له الإمام القادر بالله خلعة السلطنة، ولقبه بالألقاب المذكورة في أول ترجمته، وتبوأ سرير المملكة، وقام بين يديه أمراء خراسان سماطين مقيمين برسم الخدمة، وملتزمين حكم الهيبة، وأجلهم بعد الإذن العام على مجلس الأندلس، وأمر لكل واحد منهم ولسائر غلمانه ووجوه أوليائه وحاشيته من الخلع والصلات ونفائس الأمتعة ما لم يسمع بمثله. واتسعت الأمور عن آخرها في كنف إيالته، واستوسقت الأعمال في ضمن كفالته، وفرض على نفسه في كل عام غزو الهند. ثم إنه ملك سجستان في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، بدخول قوادها وولاة أمرها في طاعته من غير قتال.

 

ولم يزل يفتح في بلاد الهند حتى انتهى إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية، ولم تتل به قط سورة ولا آية، فرحض عنها أدناس الشرك وبنى بها مساجد وجوامع، وتفصيل حاله يطول شرحه. ولما فتح بلاد الهند كتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتاباً يذكر فيه ما فتحه الله تعالى على يديه من بلاد الهند، وأنه كسر الصنم المعروف بسومنات. وذكر في كتبه أن هذا الصنم عند الهنود يحي ويميت ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنه إذا شاء أبرأ من جميع العلل، وربما كان يتفق لشقوتهم إبلال عليل يقصده فيوافقه طيب الهواء وكثرة الحركة فيزيدون به افتناناً ويقصدونه من أقاصي البلاد رجالاً وركباناً، ومن لم يصادف منهم انتعاشاً احتج بالذنب وقال: إنه لم يخلص له الطاعة، ولم يستحق منه الإجابة، ويزعمون أن الأرواح إذا فارقت الأجسام اجتمعت لديه على مذهب أهل التناسخ، فينشئها فيمن يشاء، وأن مد البحر وجزره عبادة له على قدر طاقته، وكانوا بحكم هذا الاعتقاد يحجونه من كل صقيع بعيد، ويأتونه من كل فج عميق، ويتحفونه بكل مال نفيس. ولم يبق في بلاد السند والهند على تباعد أقطارها وتفاوت أديانها ملك ولا سوقة إلا تقرب إلى هذا الصنم بما عز عليه من أمواله وذخائره حتى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية مشهورة في تلك البقاع، وامتلأت خزائنه من أصناف الأموال، وفي خدمته من البراهمة ألف رجل يخدمونه، وثلثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه ولحاهم عند الورود عليه، وثلثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنون ويرقصون عند بابه، ويجري من مال الأوقاف المرصدة له لكل طائفة من هؤلاء رزق معلوم.

 

وكان بين المسلمين وبين القلعة التي فيها الصنم مسيرة شهر في مفازة موصوفة بقلة المياه وصعوبة المسالك واستيلاء الرمل على طرقها، فسار إليها السلطان محمود في ثلاثين ألف فارس جريدة مختارة من بين عدد كثير، وأنفق عليهم من الأموال ما لا يحصى؛ فلما وصلوا إلى القلعة وجدوها حصناً منيعاً وفتحوها في ثلاثة أيام، ودخلوا بيت الصنم وحوله من الأصنام الذهب المرصع بأصناف الجوهر عدة كثيرة محيطة بعرشه، يزعمون أنها الملائكة، وأحرق المسلمون الصنم المذكور فوجدوا في أذنه نيفاً وثلثين حلقة، فسألهم محمود عن معنى ذلك فقالوا: كل حلقة عبادة ألف سنة، وكانوا يقولون بقدم العالم ويزعمون أن هذا الصنم يعبد منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، وكلما عبدوه ألف سنة علقوا في أذنه حلقة، وبالجملة فإن شرح ذلك يطول.

 

وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أن بعض الملوك بقلاع الهند أهدى له هدايا كثيرة من جملتها طائر على هيئة القمري، من خاصيته أنه إذا حضر الطعام وفيه سم دمعت عينا هذا الطائر وجرى منها ماء وتحجر؛ فإذا حك ووضع على الجراحات الواسعة لحمها، ذكر ذلك في سنة أربع عشرة وأربعمائة.

 

وقد جمع سيرته أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي الفاضل المعروف في كتاب سماه "اليميني" وهو مشهور، وذكر في أوله أن السلطان المذكور ملك الشرق بجنبيه، والصدر من العالم ويديه، لانتظام الإقليم الرابع بما يليه من الثالث والخامس في حوزة ملكه وحصول ممالكها الفسيحة وولايتها العريضة في قبضة ملكه، ومصير أمرائها وذوي الأ لقاب الملوكية من عظمائها تحت حمايته وجبايته، واسدرائهم من آفات الزمان بظل ولايته ورعايته، وإذعان ملوك الأرض لعزته، وارتياعهم بفائض هيبته، واحتراسهم - على تقاذف الديار وتحاجز الأنجاد والأغوار - من فاجئ ركضته، واستخفاء الهند تحت جيوبها عند ذكره، واقشعرارهم لمهب الرياح من أرضه، وقد كان مذ لفظه المهد وجفاه الرضاع، وانحلت عن لسانه عقدة الكلام، واستغنى عن الإشارة بالإفهام مشغول اللسان بالذكر والقرآن، مشغوف النفس بالسيف والسنان، ممدود الهمة إلى معالي الأمور، معقود الأمنية بسياسة الجمهور، لعبه مع الأتراب جد، وجده مستكد، يألم لما لا يعلم حتى يقتله خبراً، ويحزن لما يحزن حتى يدمثه قسراً وقهراً.

 

وذكر إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني - المقدم ذكره - في كتابه الذي سماه "مغيث الخلق في اختيار الأحق" أن السلطان محموداً المذكور كان على مذهب أبي حنيفة، رضي الله عنه، وكان مولعاً بعلم الحديث، وكانوا يسمعون الحيث من الشيوخ بين يديه، وهو يسمع، وكان يستفسر الحاديث، فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي رضي الله عنه، فوقع في خلده حكة، فجمع الفقهاء من الفريقين في مرو، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتفاق على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وعلى مذهب أبي حنيفة، رضي الله عنه، لينظر فيه السلطان، ويتفكر ويختار ما هو أحسنهما، فصلى القفال المروزي - وقد تقدم ذكره - بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والسترة واستقبال القبلة، وأتى بالأركان والهيئات والسنن والآداب والفرائض على وجه الكمال والتمام، وقال: هذه صلاة لا يجوز الإمام الشافعي دونها رضي الله عنه، ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه، فلبس جلد كلب مدبوغاً ولطخ ربعه بالنجاسة، وتوضأ بنبيذ التمر، وكان في صميم الصيف في المفازة، واجتمع عليه الذباب والبعوض، وكان وضوءه منكساً منعكساً، ثم استقبل القبلة، وأحرم بالصلاة من غير نية في الوضوء، وكبر بالفارسية دو بركك سبز، ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع، وتشهد، وضرط في آخره، من غير نية السلام، وقال: أيها السلطان، هذه صلاة أبي حنيفة، فقال السلطان، لو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلة أبي حنيفة، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة، وأمر السلطان نصرانياً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله عنه؛ انتهى كلام إمام الحرمين.

 

وكانت مناقب السلطان محمود كثيرة، وسيرته من أحسن السير، ومولده ليلة عاشوراء سنة إحدى وستين وثلثمائة. وتوفي في شهر ربيع الآخر، وقيل حادي عشر صفر، سنة إحدى، وقيل اثنتين وعشرين وأربعمائة بغزنة، رحمه الله تعالى.

 

وقام بالأمر من بعده ولده محمد بوصية من أبيه، اجتمعت عليه الكلمة، وغمرهم بإنفاق الأموال فيهم، وكان أخوه أبو سعيد مسعود غائباً، فقدم نيسابور وقد استتب أمر أخيه محمد، فراسله، ومال الناس إليه لقوة نفسه وتمام هيبته، وزعم أن الإمام القادر بالله قلده خراسان، ولقبه الناصر لدين الله وخلع عليه وطوقه سواراً، فقوي أمره لذلك. وكان محمد هذه سيء التدبير منهمكاً في ملاذه، فأجمع الجند على عزل محمد وتولية الملك المسعود، ففعلوا ذلك، وقبضوا على محمد وحملوه إلى قلعة ووكلوا به.

 

واستقر الملك للأمير مسعود، وجرى له مع بني سلجوق خطوب يطول شرحها. وله في ترجمة المعتمد بن عباد حكاية في المنام، فلتننظر هناك. وقتل سنة ثلاثين وأربعمائة، واستولى على المملكة بنو سلجوق، وقد تقدم في ترجمة السلطان طغرلبك السلجوقي طرف من الخبر، وكيفية ما اعتمده السلطان محمود في حقهم، وكيف تغلبوا على الأمر.

 

وسبكتكين: بضم السين المهملة والباء الموحدة وسكون الكاف وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف الثانية وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون".