أحس في نفسي دبيب الفناء *** ولم أصب في العيش إلا الشقاء
يا حسرتا إن حان حيني ولم *** يتح لفكري حل لغز القضاء
أفق وهات الكأس أنعم بها *** واكشف خفايا النفس من حجبها
وروّ أوصالي بها قبلما *** يصاغ دنّ الخمر من تربها
تروح أيامي ولا تغتدي *** كما تهب الريح في الفدفد
وما طويت النفس هما على *** يومين أمس المنقضي والغد
غد بظهر الغيب واليوم لي *** وكم يخيب الظن في المقبل
ولست بالغافل حتى أرى *** جمال دنياي ولا أجتلي
سمعت في حلمي صوتا أهاب *** ما فتق النوم كمام الشباب
أفق فإن النوم صنو الردى *** واشرب فمثواك فراش التراب
قد مزق البدر سنار الظلام *** فاغنم صفا الوقت وهات المدام
واطرب فإن البدر من بعدنا *** يسري علينا في طباق الرغام
سأنتحي الموت حثيث الورود *** وينمحي اسمي من سجل الوجود
هات اسقنيها يا منى خاطري *** فغاية الأيام طول الهجود
هات اسقنيها أيهذا النديم *** أخضب من الوجه اصفرار الهموم
و إن مت فاجعل غسولي الطلى *** وقد نعشي من فروع الكروم
إن تقتلع من أصلها سرحتي *** وتصبح الأغصان قد جفت
فصغ وعاء الخمر من طينتي *** واملأه تسر الروح في جثتي
لبست ثوب العيش لم أستشر *** وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم *** أدرك لماذا جئت أين المقر
نمضي وتبقى العيشة الراضية *** وتنمحي أثارنا الماضية
فقبل أن نحيى ومن بعدنا *** وهذه الدنيا على ما هيه
طوت يد الأقدار سفر الشباب *** وصوحت تلك الغصون الرطاب
وقد شدا طير الصبى واختفى *** متى أتى يا لهفا أين غاب
الدهر لا يعطي الذي نأمل *** و في سبيل اليأس ما نعمل
و نحن في الدنيا على همها *** يسوقنا حادي الردى المعجل
أفق خفيف الظل هذا السحر *** وهاتها صرفا وناغ الوتر
فما أطال النوم عمرا ولا *** قصر في الأعمار طول السهر
اشرب فمثواك التراب المهيل *** بلا حبيب مؤنس أو خليل
و انشق عبير العيش في فجره *** فليس يزهو الورد بعد الذبول
كم آلم الدهر فؤادا طعين *** و أسلم الروح ظعين حزين
وليس ممن فاتنا عائد *** أسأله عن حالة الراحلين
يا دهر أكثرت البلى والخراب *** و سمت كل الناس سوء العذاب
ويا ثرى كم فيك من جوهر *** يبين لو ينبش هذا التراب
وكم توالى الليل بعد النهار *** وطال بالأنجم هذا المدار
فامش الهوينا إن هذا الثرى *** من أعين ساحرة الإحورار
أين النديم السمح أين الصبوح *** فقد أمض الهم قلبي الجريح
ثلاثة هن أحب المنى *** كأس و أنغام ووجه صبيح
نفوسنا ترضى احتكام الشراب *** أرواحنا تفدى الثنايا العذاب
و روح هذا الذي نستله *** ونستقيه سائغا مستطاب
يا نفس ما هذا الأسى والكدر *** قد وقع الإثم وضاع الحذر
هل ذاق حلو العفو إلا الذي *** أذنب والله عفا واغتفر
نلبس بين الناس ثوب الرياء *** و نحن في قبضة كف القضاء
وكم سعينا نرتجي مهربا *** فكان مسعانا جميعا هباء
لم تفتح الأنفس باب الغيوب *** حتى ترى كيف تسام القلوب
ما أتعس القلب الذي لم يكد *** يلتام حتى أنكأته الخطوب
عامل كأهليك الغريب الوفي *** واقطع من الأهل الذي لا يفي
و عف زلالا ليس فيه الشفا *** واشرب زعاف السم لو تشتفي
أحسن الى الأعداء و الأصدقاء *** فإنما إنس القلوب الصفاء
و اغفر لأصحابك زلاتهم *** وسامح الأعداء تمح العداء
عاشر من الناس كبار العقول *** وجانب الجهال أهل الفضول
واشرب نقيع السم من عاقل *** واسكب على الأرض دواء الجهول
يا تارك الخمر لماذا تلوم *** دعني الى ربي الغفور الرحيم
ولا تفاخرني بهجر الطلى *** فأنت جان في سواها أثيم
أطفيء لظى القلب ببرد الشراب *** فإنما الأيام مثل السحاب
وعيشنا طيف خيال فنل *** حظك منه قبل فوت الشباب
بستان أيامك نامي الشجر *** فكيف لا تقطف غض الثمر
اشرب فهذا اليوم إن أدبرت *** به الليالي لم يعده القدر
جادت بساط الروض كف السحاب *** فنزه الطرف وهات الشراب
فهذه الخضرة من بعدنا *** تنمو على أجسادنا في التراب
و إن تواف العشب عند الغدير *** وقد كسا الأرض بساط نضير
فامش الهوينا فوقه إنه *** غذته أوصال حبيب طرير
يا نفس قد آدك حمل الحزن *** يا روح مقدور فراق البدن
اقطف أزاهير المنى قبل أن *** يجف من عيشك غض الفنن
يحلو ارتشاف الخمر عند الربيع *** ونشر أزهار الروابي يضوع
وتعذب الشكوى الى فاتن *** على شفا الوادي الخصيب الينيع
فلا تتب عن حسو هذا الشراب *** فإنما تندم بعد المتاب
وكيف تصحو وطيور الربى *** صداحة و الروض غض الجناب
زخارف الدنيا أساس الألم *** وطالب الدنيا نديم الندم
فكن خلي البال من أمرها *** فكل ما فيها شقاء وهم
و أسعد الخلق قليل الفضول *** من يهجر الناس ويرضى القليل
كأنه عنقاء عند السهى *** لا بومة تنعب بين الطلول
من يحسب المال أحب المنى *** و يزرع الأرض يريد الغنى
يفارق الدنيا ولم يختبر *** في كده أحوال هذي الدنى
سرى بجسمي الغض ماء الفناء *** وسار في روحي لهيب الشقاء
وهمت مثل الريح حتى ذرت *** تراب جسمي عاصفات القضاء
يا من يحار الفهم في قدرتك *** وتطلب النفس حمى طاعتك
أسكرني الإثم و لكنني *** صحوت بالآمال في رحمتك
لم أشرب الخمر ابتغاء الطرب *** ولا دعتني قلة في الأدب
لكن إحساسي نزاعا إلى *** إطلاق نفسي كان كل السبب
أفنيت عمري في اكتناه القضاء *** وكشف ما يحجبه في الخفاء
فلم أجد أسراره وانقضى *** عمري وأحسست دبيب الفناء
أطال أهل الأنفس الباصرة *** تفكيرهم في ذاتك القادرة
ولم تزل يا رب أفهامهم *** حيرى كهذي الأنجم الحائرة
لم يجن شيئا من حياتي الوجود *** ولن يضير الكون أني أبيد
واحيرتي ما قال لي قائل *** ماذا اشتعال الروح كيف الخمود
إذا انطوى عيشي وحان الأجل *** وسد في وجهي باب الأمل
قرّ حباب العمر في كأسه *** فصبها للموت ساقي الأزل
إن لم أكن أخلصت في طاعتك *** فإنني أطمع في رحمتك
و إنما يشفع لي أنني *** قد عشت لا أشرك في وحدتك
يا رب هيئ سبب الرزق لي *** ولا تذقني منة المفضل
وأبقني نشوان كيما أرى *** روحي نجت من دائها المعضل
أفنيت عمري في ارتقاب المنى *** ولم أذق في العيش طعم الهنا
وإنني أشفق أن ينقضي *** عمري وما فارقت هذا العنا
لم يبرح الداء فؤادي العليل *** ولم أنل قصدي وحان الرحيل
وفات عمري وأنا جاهل *** كتاب هذا الدهر جم الفصول
صفا لك اليوم ورقّ النسيم *** وجال في الأزهار دمع الغيوم
ورجّع البلبل ألحانه *** يقول هيا اطرب وخل الهموم
الدرع لا تمنع سهم الأجل *** والمال لا يدفعه إن نزل
وكل ما في عيشنا زائل *** لا شيء يبقى غير طيب العمل
الله يدري كل ما تضمر *** يعلم ما تخفي وما تظهر
وإن خدعت الناس لم تستطع *** خداع من يطوي ومن ينشر
وإنما بالموت كل رهين *** فاطرب فما أنت من الخالدين
واشرب ولا تحمل أسى فادحا *** وخلّ حمل الهم للاحقين
رأيت خزافا رحاه تدور *** يجدّ في صوغ دنان الخمور
كأنه يخلط في طينها *** جمجمة الشاه بساق الفقير
تمتلك الناس الهوى والغرور *** وفتنة الغيد وسكنى القصور
ولو تزال الحجب بانت لهم *** زخارف الدنيا وعقبى الأمور
إن الذي تأنس فيه الوفاء *** لا يحفظ الود وعهد الإخاء
فعاشر الناس على ريبة *** منهم ولا تكثر من الأصدقاء
زاد الندى في الزهر حتى غدا *** منحنيا من حمل قطر الندى
والكُم قد جمع أوراقه *** فظلّ في زهر الرّبى سيدا
وأسعد الخلق الذي يرزق *** وبابه دون الورى مغلق
لا سيدٌ فيهم ولا خادم *** لهم ولكن وادع مطلق
قلبي في صدري أسير سجين *** تخجله عشرة ماء وطين
وكم جرى عزمي بتحطيمه *** فكان ينهاني نداء اليقين
مصباح قلبي يستمدّ الضياء *** من طلعة الغيد ذوات البهاء
لكنني مثل الفراش الذي *** يسعى الى النور وفيه الفناء
طبعي ائتناسي بالوجوه الحسان *** وديدني شرب عتاق الدنان
فاجمع شتات الحظ وانعم بها *** من قبل أن تطويك كف الزمان
عاقب الأيام يدني الأجل *** ومرها يطويك طيّ السجل
وسوف تفنى وهي في كرِّها *** فقضِّ ما تغنمه في جذل
لا تشغل البال بماضي الزمان *** ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذّاته *** فليس في طبع الليالي الأمان
قيل لدى الحشر يكون الحساب *** فيغضب الله الشديد العقاب
وما انطوى الرحمن إلا على *** إنالة الخير ومنح الثواب
كان الذي صورني يعلم *** في الغيب ما أجني وما آثم
فكيف يجزيني على أنني *** أجرمت والجرم قضا مبرم
هات اسقني كأس الطلى السلسل *** وغنني لحنا مع البلبل
فإنما الإبريق في صبه *** يحكي خرير الماء في الجدول
الخمر في الكأس خيال ظريف *** وهي بجوف الدنّ روح لطيف
أبعد ثقيل الظّل عن مجلسي *** فإنما للخمر ظل خفيف
باب نديمي ذو الثنايا الوضاح *** وبيننا زهر أنيق وراح
وافتض من لؤلؤ أصدافها *** فافترّ في الآفاق ثغر الصباح
نار الهوى تمنع طيب المنام *** وراحة النفس ولذّ الطعام
وفاتر الحب ضعيف اللظى *** منطفئ الشعلة خابي الضرام
القلب قد أضناه عشق الجمال *** والصدر قد ضاق بما لا يقال
يا ربّ هل يرضيك هذا الضما *** والماء ينساب أمامي زلال
خلقتني يا ربّ ماء وطين *** وصغتني ما شئت عزّا وهون
فما احتيالي والذي قد جرى *** كتبته يا ربّ فوق الجبين
ويا فؤادي تلك دنيا الخيال *** فلا تنؤ تحت الهموم الثقال
وسلم الأمر فمحو الذي *** خطت يد المقدار أمر محال
وإنما نحن رخاخ القضاء *** ينقلنا في اللوح أنى يشاء
وكل من يفرغ من دوره *** يلقى به في مستقر الفناء
رأيت صفا من دنان سرى *** ما بينها همس حديث جرى
كأنها تسأل : أين الذي *** قد صاغنا أو باعنا أو شرى
سطا البلى فاغتال أهل القبور *** حتى غدوا فيها رفاتا نثير
أين الطلى تتركني غائبا *** أجهل أمر العيش حتى النشور
إذا سقاني الموت كأس الحمام *** وضمكم بعدي مجال المدام
فأفردوا لي موضعي واشربوا *** في ذكر من أضحى رهين الرجام
عن وجنة الأزهار شف النقاب *** وفي فؤادي راحة للشراب
فلا تنم فالشمس لمّا يزل *** ضياؤها فوق الرّبى والهضاب
فكم على ظهر الثرى من نيام *** وكم من الثاوين تحت الرغام
وأينما أرمي بعيني أرى *** مشيعا أو نهزة للحمام
يا ربّ في فهمك حار البشر *** وقصر العاجز والمقتدر
تبعث نجواك وتبدو لهم *** وهم بلا سمع يعي أو بصر
بيني وبين النفس حرب سجال *** وأنت يا ربّي شديد المحال
أنتظر العفو ولكنني *** خجلان من علمك سوء الفعال
شقت يد الفجر ستار الظلام *** فانهض وناولني صبوح المدام
فكم تحيينا له طلعة *** ونحن لا نملك ردّ السلام
معاقرو الكأس وهم سادرون *** وقائمو الليل وهم ساجدون
غرقى حيارى في بحار النهى *** والله صاح والورى غافلون
كنّا فصرنا قطرة في عباب *** عشنا وعدنا ذرة في التراب
جئنا إلى الأرض ورحنا كما *** دب عليها النمل حينا وغاب
كنّا فصرنا قطرة في عباب *** عشنا وعدنا ذرة في التراب
جئنا إلى الأرض ورحنا كما *** دب عليها النمل حينا وغاب
لا أفضح السر لعال ودون *** ولا أطيل القول حتى يبين
حالي لا أقوى على شرحها *** وفي حنايا الصدر سري دفين
أولى بهذي الأعين الهاجدة *** أن تغتدي في أنسها ساهدة
تنفس الصبح فقم قبل أن *** تحرمه أنفاسنا الهامدة
هل في مجال السكون شيء بديع *** أحلى من الكأس وزهر الربيع
عجبت للخمّار هل يشتري *** بماله أحسن مما يبيع
هوى فؤادي في الطلى والحباب *** وشجو أذني في سماع الرباب
إن يصغ الخزاف من طينتي *** كوبا فأترعها ببرد الشراب
يا مدعي الزهد أنا أكرم *** منك وعقلي ثملا أحكم
تستنزف الخلق وما أستقي *** إلا دم الكرم فمن آثم؟
الخمر كالورد وكأس الشراب *** شفت فكانت مثل ورد مذاب
كأنما البدر نثا ضوءه *** فكان حول الشمس منه نقاب
لا تحسبوا أني أخاف الزمان *** أو أرهب الموت إذا الموت حان
الموت حق لست أخشى الردى *** وإنما أخشى فوات الأوان
لا طيب في الدنيا بغير الشراب *** ولا شجى فيها بغير الرباب
فكرت في أحوالها لم أجد *** أمتع فيها من لقاء الصحاب
عش راضيا واهجر دواعي الألم *** واعدل مع الظالم مهما ظلم
نهاية الدنيا فناء فعش *** فيها طليقا واعتبرها عدم
لا تأمل الخل المقيم الوفاء *** فإنما أنت بدنيا الرياء
تحمل الداء ولا تلتمس *** له دواء وانفرد بالشقاء
اليوم قد طاب زمان الشباب *** وطابت النفس ولذ الشراب
فلا تقل كأس الطلى مرة *** فإنما فيها من العيش صاب
وليس هذا العيش خلدا مقيم *** فما اهتمامي محدث أم قديم
سنترك الدنيا فما بالنا *** نضيع منها لحظات النعيم
حتام يغري النفس برق الرجاء *** ويفزع الخاطر طيف الشقاء
هات اسقنيها لست أدري إذا *** صعدت أنفاسي ردت الهواء
دنياك ساعات سراع الزوال *** وإنما العقبى خلود المآل
فهل تبيع الخلد يا غافلا *** وتشتري دنيا المنى والضلال
يا من نسيت النار يوم الحساب *** وعفت أن تشرب ماء المتاب
أخاف إن هبت رياح الردى *** عليك أن يأنف منك التراب
يا قلب كم تشقى بهذا الوجود *** وكل يوم لك همّ جديد
وأنت يا روحي ماذا جنت *** نفسي وأخراك رحيل بعيد
تناثرت أيام هذا العمر *** تناثر الأوراق حول الشجر
فانعم من الدنيا بلذاتها *** من قبل أن تسقيك كف القدر
لا توحش النفس بخوف الظنون *** وأغنم من الحاضر أمن اليقين
فقد تساوى في الثرى راحل *** غدا وماض من ألوف السنين
مررت بالخزاف في صحوة *** يصوغ كوب الخمر من طينة
أوسعها دعّا فقالت له : *** هل أقفرت نفسك من رحمة
لو أنني خيرت أو كان لي *** مفتاح باب القدر المقفل
لاخترت عن دنيا الأسى أنني *** لم أهبط الدنيا ولم أرحل
هبطت هذا العيش في الآخرين *** وعشت فيه عيشة الخاملين
ولا يوافيني بما أبتغي *** فأين مني عاصفات المنون
حكمك يا أقدار عين الضلال *** فأطلقيني آد نفسي العقال
إن تقصري النعمى على جاهل *** فلست من أهل الحجا والكمال
إذا سقاك الدهر كأس العذاب *** فلا تبن للناس وقع المصاب
واشرب على الأوتار رنانة *** من قبل أن تحطم كأس الشراب
لا بد للعاشق من نشوة *** أو خفة في الطبع أو جنة
والصحو باب الحزن فاشرب تكن *** عن حالة الأيام في غفلة
أنا الذي عشت صريع العقار *** في مجلس تحييه كأس تدار
فعدِّ عن نصحي لقد أصبحت *** هذي الطلى كل المنى والاختيار
أعلم من أمري الذي قد ظهر *** وأستشف الباطن المستتر
عدمت فهي أن تكن نشوتي *** وراءها منزلة تنتظر
طارت بي الخمر إلى منزل *** فوق السماك الشاهق الأعزل
فأصبحت روحي في نجوة *** من طين هذا الجسد الأرذل
سئمت يا ربي حياة الألم *** وزاد همي الفقر لما ألمّ
ربي انتشلني من وجودي فقد *** جعلت في الدنيا وجودي عدم
لم يخل قلبي من دواعي الهموم *** أو ترض نفسي عن وجودي الأليم
وكم تأدبت بأحداثه *** ولم أزل في ليل جهل بهيم
الله قد قدر رزق العباد *** فلا تؤمل نيل كل المراد
ولا تذق نفسك مرّ الأسى *** فإنما أعمارنا للنفاد
إن الذي يعرف سر القضاء *** يرى سواء سعده والشقاء
العيش فان فلندع أمره *** أكان داء مسنا أم دواء
يا طالب الدنيا وقيت العثار *** دع أمل الربح وخوف الخسار
واشرب عتيق الخمر فهي التي *** تفك عن نفسك قيد الإسار
الكأس جسم روحه الساريه *** هذي السلاف المزة الصافية
زجاجها قد شف حتى غدا *** ماء حوى نيرانها الجارية
قد ردد الروض غناء الهزار *** وارتاحت النفس لكأس العقار
تبسم النور فقم هاتها *** نثأر من الأيام قبل الدمار
بي من جفاء الدهر همّ طويل *** ومن شقاء العيش حزن دخيل
قلبي كدنّ الخمر يجري دما *** ومقلتي بالدمع كأس تسيل
وكلما راقبت حال الزمن *** رأيته يحرم أهل الفطن
سبحان ربي كلما لاح لي *** نجم طوته ظلمات المحن
ماذا جنينا من متاع البقاء *** ماذا لقينا في سبيل الفناء
هل تبصر العين دخان الألى *** صاروا رمادا في أتون القضاء
تلك القصور الشاهقات البناء *** منازل العز ومجلى السناء
قد نعب البوم على رسمها *** يصيح أين المجد ، أين الثراء
هون على النفس احتمال الهموم *** واغنم صفا العيش الذي لا يدوم
لو كانت الدنيا وفت للألى *** راحوا لما جاءك دور النعيم
وإنما الدهر مذيق الكروب *** نعيمه رهن بكف الخطوب
ولو درى الهم الذي لم يجيء *** دنيا الأسى لاختار دار الغيوب
صبت علينا وابلات البلاء *** كأننا أعداء هذا القضاء
بينا ترى الإبريق والكأس قد *** تبادلا التقبيل حول الدماء
تفتح النوار صب المدام *** واخلع ثياب الزهد بين الأنام
وهاتها من قبل سطو الردى *** في مجلس ضم الطلى والغرام
حار الورى ما بين كفر ودين *** وأمعنوا في الشك أو في اليقين
وسوف يدعوهم منادي الردى *** يقول ليس الحق ما تسلكون
نصبت في الدنيا شراك الهوى *** وقلت أجزي كل قلب غوى
أتنصب الفخ لصيدي وإن *** وقعت فيه قلت عاص هوى
أنا الذي أبدعت من قدرتك *** فعشت أرعى في حمى نعمتك
دعني الى الآثام حتى أرى *** كيف يذوب الإثم في رحمتك
إن تفصل القطرة في بحرها *** ففي مداه منتهى أمرها
تقاربت يا ربّ ما بيننا *** مسافة البعد على قدرها
وإنما الدنيا خيال يزول *** وأمرنا فيها حديث يطول
مشرقها بحر بعيد المدى *** وفي مداه سيكون الأفول
جهلت يا نفسي سر الوجود *** وغبت في غور القضاء البعيد
فصوري من نشوتي جنة *** فربما أحرم دار الخلود
يا ورد أشبهت خدود الحسان *** ويا طلي حاكيت ذوب الجمان
وأنت يا حظي تنكرت لي *** وكنت من قبل الأخ المستعان
أولى بك العشق وحسو الشراب *** وحنة الناي ونوح الرباب
فأطلق النفس ولا تتصل *** بزخرف الدنيا الوشيك الذهاب
لا تشغل البال بأمر القدر *** واسمع حديثي يا قصير النظر
تنح واجلس وادعا قانعا *** وانظر الى لعب القضا بالبشر
يا قلب إن ألقيت ثوب العناء *** غدوت روحا طاهرا في السماء
مقامك العرش ترى حطّة ً *** أنك في الأرض أطلت البقاء
إن الذي يذبل زهر الربيع *** ينثر أوراق وجود الجميع
والهم مثل السّم ترياقه *** في الخمر فاشرب قدر ما تستطيع
زجاجة الخمر ونصف الرغيف *** وما حوى ديوان شعر طريف
أحب لي إن كنت لي مؤنسا *** في بلقع من كل ملك منيف
أتسمع الديك أطال الصياح *** وقد بدى في الأفق نور الصباح
ما صاح إلا نادبا ليلة *** ولّت من العمر السريع الرواح
علام تشقى في سبيل الألم *** ما دمت تدري أنك ابن العدم
الدهر لا تجري مقاديره *** بأمرنا فارض بما قد حكم
تحمل الداء كبير الرجاء *** أنك يوما تنال الشفاء
واشكر على الفقر الذي إن يُرَدّ *** أصبحت موفور الغنى والثراء
ليتك يا ربي تبيد الوجود *** وتخلق الأكوان خلقا جديد
فتغفل اسمي أو تزيد الذي *** قدرت لي في الرزق بين العبيد
وصلتني بالنفس منذ القدم *** فكيف تفري شملنا الملتئم
وكنت ترعاني فماذا دعا *** إلى اطراحي للأسى والألم
هات الطلى فالنفس عما قليل *** توشك من فرط الأسى أن تسيل
عساي أنسى الهم في نشوتي *** من بعد رشفي كأسها السلسبيل
يا ساقي الخمر أفق هاتها *** ثم اسقني سائل ياقوتها
فإنها تبعث من روحها *** نفسي وتحيي ميت لذاتها
صب من الإبريق صافي الدماء *** واشرب وهات الكأس ذات النقاء
فليس بين الناس من ينطوي *** على الذي في صدرها من صفاء
أين طهور النفس عفّ اليمين *** وكيف كانت عيشة الصالحين
إن كنت لا تغفر ذنبي فما *** فضلك يا ربِّ على العالمين
أبدعت فينا بينات العِبر *** وصُغتنا يا ربي شتى الصور
فهل أطيق اليوم محو الذي *** تركته في خلقتي من أثر
طبائع الأنفس ركّبتها *** فكيف تجزي أنفسا صغتها
وكيف تفنى كاملا أو ترى *** نقصا بنفس أنت صورتها
تخفي عن الناس سنا طلعتك *** وكل ما في الكون من صنعتك
فأنت مُجلاه وأنت الذي *** ترى بديع الصنع في آيتك
يا رب مهّد لي سبيل الرّشاد *** واكتب لي الراحة بعد الجهاد
وأحي في نفسي المنى مثلما *** يحيي موات الأرض صوب العهاد
لن يرجع المقدار فيما حكم *** وحملك الهم يزيد الألم
ولو حزنت العمر لن ينمحي *** ما خطه في اللوح مر القلم
ولّى الدجى قم هات كأس الشراب *** كأنما الياقوت فيها مذاب
واحرق من العود بخورا وخذ *** من غصنه المعطار واصنع رباب
الخمر توليك نعيم الخلود *** ولذّة الدنيا وأنس الوجود
تحرق مثل النار لكنها *** تجعل نار الحزن ماء برود
عيشي من أجل الطلى مستحيل *** فإنها تشفي فؤادي العليل
ما أعذب الساقي إذا قال لي *** تناول الكأس ورأسي يميل
أولى بهذا القلب أن يخفقا *** وفي ضرام الحب أن يحرقا
ما أضيع اليوم الذي مرّ بي *** من غير أن أهوى و أن أعشقا
سارع الى اللذات قبل المنون *** فالعمر يطويه مرور السنين
ولست كالأشجار إن قلمت *** فروعها عادت رطاب الغصون
إن الألى ذاقوا حياة الرّغد *** وأنجز الدهر لهم ما وعد
قد عصف الموت بهم فانطووا *** واحتضنوا تحت تراب الأبد
نفسي خلت من أنس تلك الصحاب *** لما غدوا ثاوين تحت التراب
في مجلس العمر شربنا الطلى *** فلم يفق منا صريع الشراب
ولست مهما عشت أخشى العدم *** وإنما أخشى حياة الألم
أعارني الله حياتي وعن *** حقوقه استرداد هذا النسم
قالوا امتنع عن شرب بنت الكروم *** فإنها تورث نار الجحيم
ولذّتي في شربها ساعة *** تعدل في عيني جنان النعيم
إن دارت الكأس ولذّ الشراب *** فكن رضيّ النفس بين الصحاب
واشرب فما يجديك هجر الطلى *** إن كان مقدورا عليك العذاب
شيئان في الدّنيا هما أفضل *** في كل ما تنوي وما تعمل
لا تتخذ كل الورى صاحبا *** ولا تنل من كل ما يؤكل
لو كان لي قدرة رب مجيد *** خلقت هذا الكون خلقا جديد
يكون فيه غير دنيا الأسى *** دنيا يعيش الحر فيها سعيد
إذا بلغت المجد قالوا زنيم *** وإن لزمت الدار قالوا لئيم
فجانب الناس ولا تلتمس *** معرفة تورث حمل الهموم
خير لي العشق وكأس المدام *** من ادعاء الزهد والإحتشام
لو كانت النار لمثلي خلت *** جنات عدن من جميع الأنام
عبدك عاص أين منك الرضاء *** وقلبه داج فأين الضياء
إن كانت الجنّة مقصورة *** على المطيعين فأين العطاء
أهل الحجا والفضل هذي العقول *** قد حاولوا فهم القضاء الجليل
فحدثونا بعض أوهامهم *** ثم احتواهم ليل نوم طويل
يا عالم الأسرار علم اليقين *** يا كاشف الضر عن البائسين
يا قابل الأعذار فثنا الى *** ظلك فاقبل توبة التائبين