رحل النهار بدر شاكر السياب

رحلَ النَّهارْ
ها إنَّهُ انْطَفَاَتْ ذُبالَتُهُ على أُفْقٍ تَوَهَّجَ دونَ نارْ
وجلسْتِ تنْتَظرينَ عوْدةَ سندبادَ منَ السِّفارْ
والبحْرُ يصْرُخُ من ورائكِ بالعواصِفِ والرعودْ
هُو لن يعودْ
أَوَ ما علِمْتِ بأنَّهُ
أَسَرَتْهٌ آلِهَةُ البِحارْ
في قَلْعَةٍ سوداءَ في جُزُرٍ من الدَّمِ والمَحارْ
هوَ لنْ يعودْ،
رحلَ النهارْ
فلترْحلي، هوَ لنْ يعودْ.

الأفْقُ غاباتٌ من السُّحُبِ الثقيلةِ والرُّعُودْ
الموْتُ منْ أثمارهنَّ وبعْضُ أَرْمدةِ النَّهارْ
الموْتُ منْ أمطارِهنَّ وبعْضُ أَرْمدةِ النَّهارْ
الخوْفُ منْ ألوانهنَّ وبعْضُ أَرْمدةِ النَّهارْ
رحلَ النهارْ
رحلَ النهارْ

وكأنَّ معصمكِ اليسارْ
وكأنَّ ساعدك اليسارُ، وراء ساعتهِ فنارْ
في شاطئٍ للموْتِ يحْلمُ بالسَّفينِ على انْتِظارْ
رحلَ النهارْ
هيهات أن يقِفَ الزمانُ، تمرُّ حتى باللحودِ
خطى الزمانِ وبالحِجارْ
رحلَ النهارُ ولنْ يعودْ

الأفْقُ غاباتٌ من السُّحُبِ الثقيلةِ والرُّعُودْ
الموْتُ منْ أثمارهنَّ وبعْضُ أَرْمدةِ النَّهارْ
الموْتُ منْ أمطارِهنَّ وبعْضُ أَرْمدةِ النَّهارْ
الخوْفُ منْ ألوانهنَّ وبعْضُ أَرْمدةِ النَّهارْ
رحلَ النهارْ
رحلَ النهارْ
خصلاتُ شعْرِكِ لمْ يصُنْها سندبادُ من الدَّمارْ
شربَتْ أُجاجَ الماءِ حتى غابَ أَشْقرُها وغارْ
ورسائلُ الحبِّ الكِثارْ
مُبتَلَّةٌ بالماءِ، مُنْطَمِسٌ بها ألَقُ الوعودْ
وجلسْتِ تنتظرينَ هائمةَ الخواطِر في دَوارْ
سيعود. لا. غرق السفينُ من المحيطِ إلى القرارْ
سيعود. لا. حجَزَتْهُ صارخةُ العواصِفِ في إسارْ
يا سنْدبادُ، أما تعودْ؟
كادَ الشبابُ يزولُ، تنْطفئُ الزنابقُ في الخدودْ
فمتى تعودْ؟
أوّاهُ مُذَّ يديْكَ بين القلب عالمه الجديدْ
بهما ويحْطِمُ عالمَ الدمِ والأظافرِ والسُّعارْ
يبْني ولوْ لهُنَيْهةٍ دُنياهُ
آهِ .. متى تعودْ
أتُرى ستعْرفُ ما سيعْرفُ، كلَّما انْطفأ النَّهارْ،
صمْتُ الأصابعِ منْ بروقِ الغيْبِ في ظُلْمِ الوجودْ
دعْني لآخذَ قبْضَتيْكَ، كماءِ ثَلْجٍ في انْهِمارْ
من حيْثما وجَّهْتُ طرْفي ماءُ ثَلْجٍ في انْهِمارْ
في راحتيَّ يسيلُ، في قلبي يصُبُّ لإلى القرارْ
يا طالما بهما حلمْتُ كزهْرتيْنِ على غديرْ
تتَفَتَّحانِ على متاهةِ عزْلتي."
رحَلَ النهارْ
والبحْرُ متَّسِعٌ وخاوٍ, لا غناءَ سوى الهَديرْ
وما يبينُ سوى شِراعٍ رنَّحتْهُ العاصِفاتُ، وما يطيرْ
إلا فؤادكِ فوقَ سطْحِ الماءِ يخفقُ في انْتِظارْ
رحلَ النهارْ فلترْحلي، رحلَ النَّهار

سفر أيوب

لكَ الحمْدُ مهْما استطالَ البلاءْ
ومهما استبدَّ الألمْ،
لكَ الحمدُ، إنَّ الرزايا عطاءْ
وإنَّ المصيباتِ بعضُ الكَرمْ.
ألَمْ تُعْطِني أنْتَ هذا الظَّلامْ
وأعطيْتني أنتَ هذا السَّحَرْ ؟
فهلْ تشكُرُ الأرضُ قطْرَ المطَرْ
وتغضبُ إنْ لمْ يجُدْها الغَمامْ ؟
شهورٌ طِوالٌ وهذي الجِراحْ
تُمزِّقُ جنبيَّ مثلَ المُدى
ولا يهْدأُ الدَّاءُ عندَ الصباحْ
ولا يمسحُ الليْلُ أوْجاعَهُ بالرّدى
ولكنَّ أيوبَ إنْ صاحَ صاحْ:
"لكَ الحمْدُ، إنَّ الرزايا ندى،
وإنَّ الجراحَ هدايا الحبيبْ
أضمُّ إلى الصَّدْرِ باقاتِها،
هداياكَ في خافقي لا تغيبْ،
هداياكَ مقبولةٌ . هاتِها!"
أشُدُّ جراحي وأهتفُ بالعائدينْ:
"ألا فانظروا واحسدوني ، فهذي هدايا حبيبي"
وإنْ مسَّتِ النارُ حُرَّ الجبينْ
توهَّمتُها قُبلةً منكَ مجبولةً من لهيبِ
جميلٌ هو السُّهْدُ أرعى سماكَ
بعيْنيَّ حتَّى تغيبَ النجومْ
ويلمسَ شباكَ داري سناكْ.
جميلٌ هو الليلُ: أصْداءُ بومْ
وأبواقُ سيّارةٍ منْ بعيدْ
وآهاتُ مرْضى، وأُمٌّ تُعيدْ
أساطيرَ آبائها للوليدْ
وغاباتُ ليْلِ السُّهادِ، الغيومْ
تُحجِّبُ وجهَ السماءْ
وتجلوهُ تحتَ القمرْ.
وإنْ صاح أيوبُ كان النداءْ:
"لكَ الحمدُ يا رامياً بالقدرْ
ويا كاتباً ـ بعدَ ذاكَ ـ الشفاء!".