يا نهر بدر شاكر السياب

يا نهر عادت إليك من أبد اللحود و من خواء الهالكين

راعيك في الزمن البعيد يسرح البصر الحزين

في ضفتيك و يسأل الأشجار عندك عن هواه

أوراقها سقطت و عادت ثم أذبلها الخريف

و تبدلت عشرين مره

هيهات يسمه إذ توسوس في الدجى أصداء آه

بالأمس أطلقها لديك ترن في جرس الحفيف

كم قبلة عادت دوائر في مياهك مستسرة

دنياه كانت أمس فيك فهل تعود إلى الحياه

ليود من شغف بمائك لو غدا

ظلا يداعب فيه جنيّاته

متعلقا بشراع كل سفينة

ليجاذب الملاح أغنيّاته

وتلوذ أنوار النجوم بصدره

و تراقص الأمواج من ضحكاته

ما أخيب الموتى إذا رجعوا إلى الدنيا القديمة

و تلصصوا يتطلعون كما تطلع من كوى دار شريد

و رأى ثمار الجمر سار عصيرها دفئا و جال عبيرها المهدود

ما أخيب الموتى تكاد موتهم الهزيمة

شيئا أمرّ من الحياة

ما أخيب الموتى تغير كل شيء كل باق

مما أطلّ على الحياة لانهم كانوا كواه

أم مات ما عرفوه إذ ماتوا فليس سوى رؤاه ؟

فتكبدوا ألم الفراق

ألم التغريب مرتين فيا ضفاف النهر يا أمواجه و محاره

ماذا تبقى فيك من أمس الهوى ؟

الدوح أسلم للبلى ورقاته

و هي التي سمعت لديك حواره

و هي التي أودعت فيها في الضحى

قبلاتنا وطويت فيها ناره

إتى ذويت مع الظلام كما ذوى

ياليت لي شفة قتلثم أو يدا فتمسّ ماءك

إني لأكثر من غريب غربة و أشد حيره

لم يبق فيك سوى الزمان و ليس ما فيك قطره

من ماء أمس كأن فجرك عاد قبل غد مساءك

و كأن ضفتك الحبيبة ضفّة الأبد البعيد

يا نهر أن وردتك " هالة " و الربيع الطلق في نسيانه

و لى صباها فهي ترجف الكهولة و هي تحلم بالورود

في حين أثقلها الجليد كأن نبعا في اللحود

تمتص منه عروقها دمها فقل لم ينس عهدك

و هو في أكفانه