الشرفة فاطمة ناعوت

هذا مِقعدي
وأنتِ
تجيدينَ القفزَ على الخطوطِ الحمراءْ.

مقعدٌ
مِطفأةٌ من خزَف
وهاتفٌ مغلق،
وفي حقيبتِكِ
مطاراتٌ
وقطاراتٌ
وخيوطُ تريكو،
ليس الرجلُ كالمرأة!

مقعدٌ وحيدٌ في ركنِ شرفةٍ معتمة،
فنجانُ قهوةٍ وخمسُ سجائرَ
(كما حسمَ الطبيبْ)
والعديدُ من النوافذِ التي ترقبُني.

أجلسُ هنا
أُمرِّرُ كفي على جبهتي نزولاً إلى الصدرْ
لأفرِّغَ العينَ من الأحداثْ،
أستبقي نظارتَكِ،
طرحةَ أمي،
فستانَ الصغيرةِ التي أذابَها السرطان،
ومِسطرةَ أخي
الذي أنهكَه البحثُ عن مليمتراتٍ ضائعة
في الحديقةِ الخلفيةِ لبيتِ العائلة،
أستبقيها جميعَها
كي تكتملَ شجَّةُ الرأسْ.

أنتِ امرأةٌ ذاتُ تفاصيلَ كثيرةٍ
وأنا
فتىً صامتٌ
يرشقُ نبالَه في جَلَبةِ الكون
فتُفْرغُ حَملَها.

هذه مكتبتي
استهلكتْ غابةً من شجرِ الأرو
نفدَ الخشبُ
فصنعتُ مكتبتَكِ من عاجِ الفِيَلَةْ،
ثم أقْعَيتُ
لأرتِّبَ لكِ أكوامَ الورقِ
ورسائلَ العشّاق.

البحثُ عن كتابِ الموتى يحتاجُ شهرًا
خُذي النبيَّ
كي تقيسي كمَّ العتمةِ في كراساتِ التاريخ،
وخذي الأوديسةَ
كي تحسبي كمَّ التشققاتِ في قدميْ،
وخذي رأسَ المال
ثم احصي مِلحَ الأرض
وفي الأخير،
خذي الفارسَ النحاسيَّ
وامسحي بكفِّكِ البيضاءِ على جبهتي الملوّحة
واحجبي الشمسَ بالأخرى.


هذا مكتبي
عيوني الكثيرةُ تحت البلّورْ
لا تنظرُ إليكِ كما تفكرين
بل إلى عدسةِ المصوّرِ العجوز
الذي كان ينامُ في حدائقِ مرسيليا
وعند الفجرْ
ينظرُ إلى النجومِ
ثم يرسمُ بعصاه على الرملِ
جديلةَ حبيبتِه البعيدة،
والورقةُ
التي تطلُّ الآن بطرفِها من الدُرْج
لا تنوي الانتحارَ ولا حاجة
هي خرجتْ لتتنفسَ
كانت وثيقةً للتضامنِ ضدَّ شاعرٍ
أتقنَ حبَّ الوطن.

أباجورتي
لابد أن تُخبطَ كي تؤدي عملَها،
أنثى
تشبه الصفصافةَ النائمةَ على تُرعةِ بلدتي.

هنا قِلاداتي وأوسمتي،
أولَ أمس
وافقَ عيدَ جلوسي على العرش
منذ قرونٍ خمسة،
وزّعوا التذكاراتِ والورودَ
وأطلقوا بالوناتٍ ملوّنة،
لكنني لم أكن هناك.

وهذا عصفورْ
عصفورٌ فوق أرجوحة،
كان في قفصٍ مثل كلِّ خلْقِ الله
وأخرجناه حين كفَّ عن الصياح
فغدا
مجردَ عصفورٍ صامتٍ
فوق أرجوحة.

هنا الكنبةُ الأسيوطي القديمة
عالقٌ بنسيجِها خصلةٌ من شعرِك
مشى عليها المارينز حتى أغرقوا دجلةَ
من يومِها
لم يبرحْها الغبارُ
والوحشة.

وهذا سريري
واسعٌ
واااااسع!
مُلاءتُه بيضاءُ منذ عقدين.
طفلاتي في الغرفةِ المجاورة
غيرُ موجودات
نثرتُهنَّ في أرضِ الله،
وصغراهُن التي تشبهُك
لم أرَها
ذابتْ في كأسِ المصلِ
أثناءَ نومي
مثلما ذابَ نصفُكِ الحُرُّ.

ليس الرجلُ كالمرأة.
النساءُ يعرفن الزهرَ،
والرجالُ
لا يفطنون إليه إلا بعدما يذوبُ بين أصابعِهم مُخلِّفًا طيبَه
فيقولُ واحدُهم:
كانت هنا زهرةٌ!

هذي حبالُ الغسيل
مرخيةٌ
معاطفي وسُتراتي مُثقلةٌ بهموم نساءٍ
تدرّبنَ مثلكِ
على ابتلاعِ الزرنيخِ
ومصاحبة كافكا.

يا ربّةَ الأشياءِ الصغيرة
اخلعي ساعتَكِ
وارميها على الأرضِ جوارَ ساعتي،
كيف تُحسبُ علينا ساعاتٌ لم نعشْها!
يخصمون الوقتَ المُهدَرَ في الملاعب
فيقولُ المعلِّقُ:
الزمنُ بدلُ الضائع،
أما الفرنسيُّ
الذي غطى جدرانَ غرفتِه بشرائحِ الفلين هربًا من الحياة مثلَكِ
فيقول:
الزمنُ المفقود،
كلاهما كاذبٌ
فالعقاربُ – كما ترين –
تمشي.

هذه مرآةْ
لوحٌ من زجاج عاكس
داخلَ إطارٍ من خشبِ الجَوْز
لا شيءَ فيها يستحقُ الكلامْ
مجردُ رجلٍ وامرأة
على وشكِ المصافحةِْ
ثم الوداع،
غدا ينسى كلٌّ ملامحَ صاحبِه
وتبقى ذاكرةُ الزجاج،
وبعض تذكاراتٍ قديمة
تنتظرُ امرأةً جديدة
تكره الضجيجَ مثلكِ
وتجيدُ القفزَ على الخطوط الحمراء،
هل من علاقةٍ بين المرآةِ
والتآمر؟

اسمي محفورٌ على باب البيت!
ذاك لا يعني سوى أن اسمًا محفورٌ على باب،
فكلُّ بيتٍ يحتاجُ إلى اسم رجلٍ
حتى ولو كان شاعرًا
لا يشغلُ من البيتِ
سوى مقعدٍ واحدٍ
في ركنٍ معتم.

تعاليْ
واجلسي قُبالتي
غدًا أشتري كرسيًّا آخرَ
غير أنني
سأظلُّ وحيدًا.

القاهرة / 8 يوليو 2005