دعوت خيالي فاستجابت خواطري |
و حدّثني قلبي بأنّك زائري |
عشيّة أغرى بي الدّجى كلّ صائح |
و كلّ صدى في هدأة اللّيل عابر |
أقول من السّاري ؟ و أنت مقاربي |
و أهتف بالنّجوى و أنت مجاوري |
أحسّك ملء الكون روحا و خاطرا |
كأنّك مبعوث اللّيالي الغوابر |
و مثّل لي سمعي فخلتها |
صدى نبإ من عالم الغيب صادر |
سوى خطرات من بنان رفيقة |
طرقت بها بابي فهبّت سرائري |
عرفتك ، لم أسمع لصوتك نبأة |
و شمتك ، لم يلمح محيّاك ناظري |
أرى طيف معشوق ، و أرى روح عاشق |
ارى حلم أجيال ، أرى وجه شاعر |
*** |
|
إليك ضفاف النّيل يا روح حافظ |
فجدّد بها عهد الأنيس المسامر |
و ساقط جناها من قوافيك سلسلا |
رخيما كأرهام النّدى المتناثر |
سرت فيه أرواح الندامى ،و صفّقت |
كؤوس على ذكر الغريب المسافر |
نجيّ اللّيالي القاهريّات : طف بها |
خيالة ذكرى ، أو علالة ذاكر |
و جز عالم الأشباح ، فاللّيل شاخص |
إليك ، و أضواء النّجوم الزّواهر |
و طالع سماء في معارج أفقها |
مرحت بوجدان من الشّعر طاهر |
و سلسلت من أندائها و شعاعها |
جنى كرمة لم تحوها كفّ عاصر |
تدفق بالخمر الإلهيّ كأسها |
فغرّد بالإلهام كلّ معاقر |
على النّيل روحانية من صفائها |
ولألاء فجر عن سنا الخلد سافر |
فصافح بعينيك الدّيار فطالما |
مددت على آفاقها عين طائر |
و خذ في ضفاف النّهر مسراك ، و اتّبع |
خطى الوحي في تلك الحقول النّواضر |
حدائق فرعون بدفّاق نهرها |
و جنّته ذات الجنى و الأزهار |
و في شعب الوادي ، و فوق رماله |
عصيّ نبيّأو تهاويل ساحر |
صوامع رهبان ، محاريب سجّد |
هياكل أرباب ، عروش قياصر |
سرى الشّعر في باحاتها روح ناسك |
و ترديد أنفاس ، و نجوى ضمائر |
و همس شفاه تمثّل الرّوح عنده |
و تسبح في تيه من السّحر غامر |
هو الشّعر ، إيقاع الحياة و شدوها |
و حلم صباها في الرّبيع المباكر |
و صوت بأسرار الطّبيعة ناطق |
و لكنّه روح ، و إبداع خاطر |
و وثبة ذهن ، ينقص البرق طائرا |
و يغزو بروج النّجم غير محاذر |
فيا درّة لم يحوها تاج قيصر |
و لا انتظمت إلا مفارق شاعر |
تألّه فيه القلب و استكبر الحجى |
على دعة من تحتها روح ثائر |
إذا اعترض الجبّار ضوءك شامخا |
تلقّيته كبرا ببسمة ساخر |
لمست حديد القيد فانحلّ نظمه |
و أطلقت أسرى من براثن آسر |
و ما زدت في الأحداث إلاّ صلابة |
إذا النّار نالت من كرام الجواهر |
يزيّن بك الرّاعي سقيفة كوخه |
فتخشع حيرى نيّرات المقاصر |
أضاعوك في أرض الكنوز ، و ما دروا |
بأنّك كنز ضمّ أغلى الذّخائر |
و هنت على مهد الفنون ، و طالما |
سموت بسلطان من الفنّ قاهر |
إذا افتقد التّاريخ آثار أمّة |
أشرت بما خلّدته من مآثر |
سلاما ، سلاما ، شاعر النّيل : لم يزل |
خيالك يغشى كل ناد و سامر |
و شعرك في الأفواه إنشاد أمّة |
تغنّت بماض و استعزّت بحاضر |
هتفت بها حيّا ، فلا تأل خالدا |
هتافك ، و انقض عنك صمت المقابر |
صداك ، و إن لم ترسا الصّوت ، مالىء |
سماع البوادي و القرى و الحواضر |
و ذكراك نجوى البائسين ، إذ هتفت |
قلوب ، و حارت أدمع في المحاجر |
يدلّ عليك القلب أنّات بائس |
و نظرة محزون ، و إطراق سادر |
و ما أنت إلاّ رائد من جماعة |
توالوا تباعا بالنّفوس الحرائر |
صحت باديات الشّرق تحت غبارهم |
على شدو أقلام و لمع بواتر |
و في القمم الشّماء ، من صرخاتهم |
صدى الرّعد في عصر الرّياح الثّوائر |
يضيئون أفق الحياة كأنّهم |
على شطّها النائي منارة حائر |
فيا شاعرا غنّى فرقّ لشجوه |
جفاء اللّيالي ، و اعتساف المقادر |
لك الدّهر ، لا ، بل عالم الحسّ و النّهى |
خميلة شاد آخذ بالمشاعر |
فنم في ظلال الشّرق ، و اهنأ بمضجع |
نديّ بأنفاس النّبييّن عاطر |
و وسّد ثراه الطّهر جنبك و انتظم |
لداتك فيه ، فهو مهد العباقر |