الا لفت منا إلى الزمن الخالد
|
فتغبِط من أسلافنا كل مِفضال
|
تَلونا أناساً في الزمان تقدمُوا
|
وكم عِبرَة فيمن تقدم للتالي
|
ألا فاذكروا يا قوم أربع مجدكم
|
فقد درست إلا بقية أطلال
|
تطلبتمُ صفوَ الحياة وأنتمُ
|
بجهل، وهل تصفو الحياة ُ لُجهال؟
|
وما أنتم إلا كسكران طافح
|
تحسى من الصهباء عشرة أرطال
|
مشي بارتعاش في الطريق فتارة
|
يقوم وأخرى ينهوي فوق أو حال
|
يمد إلى الجدران كف استناده
|
فتقذفه الجدران قذيفة أذلال
|
ويفتح للطراق مقلة حانق
|
فيغمضها خزيان عن شتم عذال
|
رمى الدهر قومي بالخمول فلمتهم
|
وأوسعتهم عذلا فلم يُجد تعذالي
|
فهاج البكى يأسي فلما بكيتهم
|
بدمعي حتى بل دمعي سِربالي
|
نظرت إلى الماضي وفي العين حُمرة
|
كأن على اماقها نضح جريالي
|
سيروا البرق بينهن رسولا
|
فشمتُ بروق الأولين منيرة
|
على أفق من ذلك الزمن الخالي
|
"تنورتها من أذرعات وأهلها
|
بيثربَ أدنى دارها نظر عال»
|
وقلبت طرفي في سماء رجالها
|
وهم فوق عرش من جلال محلال
|
فآنست آتارا وهم سِلك درها
|
وأبصوت أعمالا وهم جيدها الحالي
|
ولما طويت الدهر بيني وبينهم
|
على بعد أزمان هناك وأجيال
|
قعدت بأوساط القرون فجاءني
|
"أبو بكر الرازي"فقمت لإجلال
|
فتى عاش أعمالاً جساما وإنما
|
تقدر أعمار الرجال بأعمال
|
حكم رياضي طبيب منجم
|
أديب وفي الكمياء حلال أشكال
|
أني فيلسوفا للنفوس مهذبا
|
بأفضل أفعال وأحسن أقوال
|
لقد طبب الأرواح من داءِ جهلها
|
كما طبب الأجسام من كل إغلال
|
تولد عامَ الأربعين الذي انقضى
|
لثالث قرن ذي مآثر أزوال
|
إلى زكريا ينتمي إنه له
|
أب تاجر في الري صاحب أموال
|
على حينَ كانت بلدة ُ الري عادة
|
إلى العلم تعطو جيدَها غيرَ مِعطال
|
مدارسُ بالشبان تزهو ودونها
|
كتاتيب للتعليم تزهو بأطفال
|
بها جل درس القوم طب وحكمة
|
وفلسفة فيها لهم أي إيغال
|
وكانت نفيسات الصنائع عندهم
|
يحاوالها ذو الفقر منهم وذو المال
|
فإن هدى الإسلام أنهى فتوحه
|
وآصلها للحد أحسن إيصال
|
وبدل أبطال الحروب من الورى
|
بأبطالِ علْم للجَهالة قُتال
|
فدارت رحى تلك العلوم وقطبها
|
ببغدادَ مركوزُ بربوة إجلال
|
وكانت يد المأمون في ذاك أخجلت
|
لسان العلي في شكره أي إخجال
|
تدرّج في تلك المدارس ناشئا
|
مترجمنا يسعى بجد وإقبال
|
تعلم فن الصوت باديء بدئه
|
ومارس تفصيلاً به بعد إجمال
|
فكانت بموسيقى اللحون دروسه
|
تغَنَّى بأهزاج وتشدو أرمال
|
وقد جاوز العشرين سنا ولم يكن
|
بشئ سوى فن الغناء بميال
|
فرام أبوه منه تحويل عزمه
|
بجذب إلى شغل التجار وإدخال
|
فقال له دعني مع العلم إنني
|
إذا ما أمَتُّ الجهلَ أحييتُ آمالي
|
وهل يستطيع المرءُ شغلا إذا غدا
|
له شاغل بالعلم عن كل أشغال
|
هنالك استقى الرازي من العلم شربه
|
فجاد بإعلال له بعد إنهال
|
سعى سعيه نحو التعلم بادئاً
|
بعلم لدى أهل التفلسف ذي بال
|
وقد كان مفتاح العلوم تفلسف
|
تُفكُّ به من جهلهم كلُّ أغلال
|
فزاول أنواع العلوم تنقُّلا
|
نضا همَّة ً في العلم مشحوذة الشَّبا
|
جلت ما لحرب الجهل من ليل قَسْطال
|
وقد أكمل الطب المفيدَ قراءة ً
|
على الطبريِّ الحبر أحسنَ إكمال
|
ومذ جاوز الرازي لثلاثين واغتدى
|
مُدلا على أقرانه أيّ إدلال
|
رأى من تمام العلم للمرء أنه
|
يَسيح بضرْب في البلاد وتجوال
|
وما العلم إلا بالسياحة إنها
|
لمن عملوا في علمهم درس أعمال
|
فقام وشدّ الرجل والغرزَ وامتطى
|
لقطع الفيافي متن هوجاء شملال
|
فجاء بلادَ الشام توّا وجازها
|
إلى مصر في وخد حثيث وإر قال
|
وخاض عُباب البحر للغرب قاصدا
|
مواطناً للإسلام لم يسلها السالي
|
ففيها احتلاه العز مذ لاح طالعاً
|
لها كهلالِ يُجتلى عند إهلال
|
وحل حلول البدر في السعد نائلاً
|
بقرطبه آماله ناعم البال
|
وهب هبوب الريح ثمة ذكره
|
يطير على صيت من العلم جوال
|
وودعها من بعد ذلك راجعاً
|
إلى مصرَ لا توديعَ مُستَكره قال
|
ومنها إلى بغداد سافر قاطعاً
|
إليها الفلا ما بين حَلْ وترحال
|
فأرقى عصر التسيار من عرصاتها
|
بمغرس عرفان ومَنبِتِ إفضال
|
وبغداد كانت وهي إذ ذاك جنه
|
بها العلم أجرى منه أنهار سلسال
|
كأن رجالَ العلم في غُرُفاتها
|
بلابل تشدو غدوة بين أدغال
|
فكم محفل للكتب فيه خزانة
|
وكم مَرصد دان وكم مَرقب عال
|
ولما غدا الرازي ببغداد باسطاً
|
أقيم لمارستانها عن كفاءة
|
رئيساً بتطبيب وتدبير أحوال
|
فرتب مرضاه وأصلح شأنه
|
بما كان لم يخطر لسابق أجيال
|
وضل به يسعى طبيباً ممرضاً
|
ويبذل جُهدا لم يكن فيه بالآلى
|
فقد كان يلقيها على القوم ناطقاً
|
بأوضح تبيان وأحسن إملال
|
لقد أشغل الرازي ببغدادَ شغلهُ
|
عدا الطب في الكِمْياء أعظم إشغال
|
فقضى بها أيامه في تجارب
|
وواصل أبكاراً لهن بآضال
|
فلقب فيها بالمجرِّب حرمة
|
تفردَ مخصوصاً بها بين أمثال
|
وأصبح مشهوراً بأسنى مآثر
|
من العلم لم يُسْبَق إليها وأعمال
|
فإن أبا بكر لأولُ مفصح
|
إلى الناس بالدرس السريري مقوال
|
وأولُ من أبدى لهم كيف يبتنى
|
ويُفرش مارستانهم قصد إبلال
|
وألف في المستشفيات مؤلفاً
|
تقصى به في وصفها دون إغلال
|
ولا تنس للرازي الكحول فإنه
|
يجدد طول الدهر ذكراه في البال
|
ومن عمل الرازي انعقاد لسكر
|
وما كان في محصوله غيرَ سيَّال
|
أرى العلم كالمرآة يصدأ وجهه
|
وليس سوى حُسن الخلائق من جال
|
أخو العلم لا يغلو على سوء خلقه
|
وذو الجهل إن أخلاقه حسنت غال
|
ولو وازنَ العلمُ الجبال ولم يكن
|
له حسنُ خُلق لم يَزن وزَن مثقال
|
وإن المساوي وهي في خلق عالم
|
لأقبح منها وهي في خُلق جُهال
|
«لعمري وما أدري وقد آذن البلى
|
بأحسن أخلاق وأشرف أفعال
|
خلائق غُرّ إن أردت بيانها
|
بدأتُ بحرف الحاء والميم والدال
|
وتيهم بالمال والعلم مسعداً
|
لتطبيب أوجاع وتأمين أوجال
|
وما كان يقنو المال إلا لبذله
|
لتعليم علم أو لإعطاء سُؤَّال
|
وكان حليف الجد لم يأل جهده
|
بدحض خصوم العلم من كهزال
|
فكم راح مخذولاً به متطبب
|
سعى كاذباً في طبه سعي إضلال
|
وكان سليما في العقيدة قلبه
|
وخلِّ تفاصيل الألى ينسبونه
|
لزيغ فقد أغناك عنهن إجمالي
|
ولما قضى الرازي ببغدادُ بُرهة
|
مضى قافلاً للري شوقاً إلى الآل
|
وألف للمنصور إذ ذاك بأسمه
|
كتاباً حوى من الطب أحسن أقوال
|
ولم تصف للرازي أواخر عمره
|
وعاد أخاهم شديد وبالبال
|
فقد عمِيت عيناه من بَعد واغتدى
|
يجول من الفقر الشديد بأسمال
|
وإن عدا الدهر شنشنة له
|
يصول بها قهراً على كل مفضال
|
ولما انتهى نحو الثمانين عمره
|
قضى نحبه من غير مال وأنسال
|
ولكنه في الناس خلف بعده
|
من العلم آثاراً قليلة أمثال
|
فكم كتب أبقى بها الذكر في الورى
|
وألفها نسجاً على خير منوال
|
وما ضر من أحيا له العلمُ بعده
|
على الدهر ذكراً أنه مَيت بال
|
وإني وإن طنبت في بحر علمه
|
لمقتصر منه على بعض أوشال
|
وها أنا أنهي القول لا لتمامه
|
ولكن لعجزي عن نهوض بأجبال
|
وأجعل هذا الشعر مسكاً ختامه
|
بما قال في بيتين معناهما حال
|
"بعمري وما أدري وقد أذن البلى
|
بعاجل ترحال إلى أين ترحالي»
|
«وأين محل الروح بعد خروجهم
|
من الهيكل المنحل والجسد البالي"
|