نائلة بنت الفرافصة

الصامدة

عندما اشتدت المحنة على عثمان بن عفان -رضى اللَّه عنه- وأُحْكِمَ عليه الحصار، صمدت معه، وتلقت عنه ضربات السيوف قبل أن تصل إليه، وما إن ألقى الرجال بحبالهم على أسوار منزله، ودخلوا عليه حتى أسرعت تنشر شَعْرَها، فقال عثمان: خذي خمارك فإن حُرْمة شَعْركِ، أعظم عندي من دخولهم علي.

وحين هجم عليه أحدهم وهوى عليه بسيفه تلقت السيف بيدها فقطعت أناملها، فصرخت على رباح غلام عثمان، فأسرع نحو الرجل فقتله، وبينما كانت تهرع لإمساك سيف رجل ثانٍ لكن الرجل تمكن من أن يقطع أصابع يدها الأخرى وهو يدخل السيف فى بطن عثمان ليقتله، وحين هموا بقطع رأسه ألقت عليه بنفسها إلا أنهم لم يرحموا ضعفها، ولم يعرفوا لعثمان قدره، فحزوا رأسه، ومثَّلوا به، فصاحت والدم يسيل من أطرافها: إن أمير المؤمنين قد قُتل. إن أمير المؤمنين قد قُتِل. ثم دخل رجل عقب مقتل عثمان، فإذا رأسه فى حجرها.

فقال لها: اكشفى عن وجهه. قالت: ولِمَ؟ قال الرجل: ألِطم حُرَّ وجهه فقد أقسمت بذلك. فقالت: أما ترضى ما قـال فيـه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال فيه كذا وكذا. فقال: اكشفي عن وجهه. ثم هجم عليها فلطم وجه عثمان، فدعت عليه قائلة: يبَّس اللَّه يدك، وأعمى بصرك. فلم يخرج الرجل من الباب إلا وقد يبست يداه، وعمى بصره.

وتُركت جثة عثمان فى مكانها دون أن يجرؤ أحد على تجهيزه ودفنه، فأرسلت إلى حويطب بن عبد العزى وجبير بن مطعم، وأبي جهم بن حذيفة، وحكيم بن حزام، ليُجَهِّزُوا عثمان، فقالوا: لا نقدر أن نخرج به نهارًا.

وحين حلّ الظلام خرجوا به بين المغرب والعشاء نحو البقيع، وهي تتقدمهم بسراج ينير لهم وحشة الظلام حتى تم دفنه بعد أن صلى عليه جبير بن مطعم وجماعة من المسلمين.

ثم قالت ترثيه:

ومالى لا أَبْكى وأُبكـى قرابتى وقد ذهبتْ عنا فضول أبى عَمْرِو

وبعد أن دُفن عثمان بن عفان -رضى الله عنه- خطبت نائلة -رضى الله عنها- في المسلمين، فقالت: معاشر المؤمنين وأهل اللَّه لا تستكثروا مقامي، ولا تستكثروا كلامي، فإني حزينة أُصِبْتُ بعظيم وتذوقت ثكلا من عثمان بن عفان ثالث الأركان من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقد تراجع الناس فى الشورى حين تقدم، فلم يتقدمه متقدم ولم يشك فى فضله متأثم. ولم تكتف نائلة بذلك بل أرسلت إلى معاوية بكتاب مرفق معه قميص عثمان ممزقًا مليئًا بالدماء، وعقدت فى زر القميص خصلة من شعر لحيته، قطعها أحد قاتليه من ذقنه، وخمسة أصابع من أصابعها المقطوعة.

وأوصت إليه أن يعلق كل أولئك فى المسجد الجامع فى دمشق، وأن يقرأ على المجتمعين ذلك الكتاب، وكان بعض ما جاء فيه:

إلى معاوية بن أبى سفيان، أما بعد: فإنى أدعوكم إلى اللَّه الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وأنشدكم اللَّه وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم اللَّه عليكم، فإنه قال:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات: 9].

وقد اجتمع لسماعه خمسون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وأصابعها.

وعاشت نائلة حافظة لذكرى عثمان بن عفان -رضى الله عنه- وظلتْ وفية له، فلم تتزوج وكانت من أجمل النساء.

وكلما جاءها خاطب رَدَّتْه، ولما تقدم معاوية -رضى الله عنه- لخطبتها أَبَتْ، وسألت النساء عما يعجب الخطاب فيها، فقلن: ثناياك (وكانت مليحة وأملح ما فيها ثغرها) فخلعت ثناياها، وأرسلت بهن إلى معاوية، وحين سُئلت عما صنعتْ، قالت: حتى لا يطمع فى الرجال بعد عثمان-رضى الله عنه-.

تلك هي "نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص"رمز الشجاعة والصبر والصمود، ذات الأدب والبلاغة والفصاحة، تزوجها عثمان بن عفان-رضى اللَّه عنه- فكانت له زوجة مخلصة وفية ومطيعة، وكان عثمان يستشيرها دائمًا لسداد رأيها، وقد حظيت فى بيته بمكانة كبيرة.

وقد زوجّها له أخوها ضب، وحملها إلى عثمان فى المدينة، وكان مسلمًا وكان أبوها نصرانيَّا، وقد تزوجها عثمان وهي نصرانية، وقبيلتها - قبيلة كلب - كلها يومئذ نصارى.

وقد أسلمت نائلة على يديه، وأنجبت له من الولد ثلاثًا: أم خالد، وأروى، وأم أبان الصغرى.

وقد روت السيدة نائلة عن عائشة -رضى اللَّه عنها- بعضًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توفيت بعد جهاد عظيم لخدمة الإسلام.

ورد في "كتاب الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني:

" هي نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو، وقيل: ابن عفر بن ثعلبة، وقيل: عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب الكلبية، زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه، تقوله لأخيها لما نقلها إلى عثمان.

أخبرني بخبره وخبرها أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثتا عبد الله بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد، عن أبيه قال: تزوج سعيد بن العاص وهو على الكوفة هند بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، فبلغ ذلك عثمان، فكتب إليه.

بسم الله الرحمن الرحيم.

أما بعد، فإنه قد بلغني أنك تزوجت امرأة من كلب، فاكتب إلي بنسبها وجمالها.

فكتب إليه: أما بعد، فإن نسبها أنها بنت الفرافصة بن الأحرص. وجمالها أنها بيضاء مديدة القامة. فكتب إليه: إن كانت لها أخت فزوجنيها.

فبعث سعيد إلى الفرافصة، يخطب إحدى بناته على عثمان. فأمر الفرافصة ابنه ضبا، فزوجها إياه. وكان ضب مسلماً، وكان الفرافصة نصرانياً، فلما أرادوا حملها إليه، قال لها أبوها: يا بنية، إنك تقدمين على نساء من نساء قريش، هن أقدر على الطيب منك، فاحفظي عني خصلتين، تكحلي، وتطيبي بالماء، حتى يكون ريحك ريح شن أصابه مطر.

فلما حملت كرهت الغربة، وحزنت لفراق أهلها، فأنشأت تقول:

 

ألست ترى يا ضب باللـه أنـنـي

 

مصاحبة نحو الـمـدينة أركـبـا

إذا قطعوا حزنا تخب ركـابـهـم

 

كما زعزعت ريح يراعاً مثقـبـا

لقد كان في أبناء حصن بن ضمضم

 

لك الويل ما يغني الخباء المطنبـا

فلما قدمت على عثمان رضي الله عنه، قعد على سريره، ووضع لها سريراً حياله، فجلست عليه، فوضع عثمان قلنسيته، فبدا الصلع، فقال: يا بنة الفرافصة، لا يهولنك ما ترين من صلعي، فإن وراءه ما تحبين. فسكتت. فقال: إما أن تقومي إلي، وإما أن أقوم إليك. فقالت: أما ما ذكرت من الصلع، فإني من نساء أحب بعولتهن إليهن السادة الصلع. وأما قولك: إما أن تقومي إلي، وإما أن أقوم إليك، فوالله ما تجشمت من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك، بل أقوم إليك. فقامت، فجلست إلى جنبه، فمسح رأسها، ودعا لها بالبركة، ثم قال لها: اطرحي عنك رداءك، فطرحته، ثم قال لها: اطرحي خمارك، فطرحته، ثم قال لها: انزعي درعك، فنزعته، ثم قال: حلي إزارك. فقالت: ذاك إليك. فحل إزارها، فكانت من أحظى نسائه عنده.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا علي بن محمد بن عيسى بن يزيد، عن عبد الواحد بن عمير، عن أبي الجراح مولى أم حبيبة، قال: كنت مع عثمان رضي الله عنه في الدار، فما شعرت وقد خرج محمد بن أبي بكر، ونحن نقول: هم في الصلح، إذ أنا بالناس قد دخلوا من الخوخة، ونزلوا بأمراس الحبال من سور الدار، معهم السيوف، فرميت بسيفي، وجلست عليه، وسمعت صياحهم، فكأني أنظر إلى مصحف في يد عثمان، وإلى حمرة أديمه، فنشرت نائلة بنت الفرافصة شعرها، فقال لها عثمان: خذي خمارك، فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شعرك.

وأهوى رجل إليه رضي الله عنه بالسيف، فاتقته نائلة بيدها، فقطع إصبعين من أصابعها، ثم قتلوه، وخرجوا يكبرون، ومر بي محمد بن أبي بكر، فقال: مالك يا عبد أم حبيبة؟ ومضى فخرجت.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شمة قال: حدثنا عبد الله بن حكيم الطائي، عن خالد بن سعيد، عن أبيه قال: لما قتل عثمان رحمة الله عليه، قالت نائلة بنت الفرافصة:

 

ألا إن خير الناس بـعـد ثـلاثة

 

قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

ومالي لا أبكي وتبكي قرابـتـي

 

وقد غيبت عنا فضول أبي عمرو

هكذا في هذه الرواية. وقد قيل إن هذين البيتين للوليد بن عقبة.

أخبرني أحمد قال: حدثني عمر قال: حدثنا علي بن محمد، عن أبي مخنف، عن نمير بن وعلة، عن الشعبي مسلمة بن محارب، عن حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية: أن نائلة بنت الفرافصة كتبت إلى معاية بن أبي سفيان، وبعثت بقميص عثمان مع النعمان بن بشير، أو عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة: من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد، فإني أذكركم بالله الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، ونصركم على العدو، وأسبغ النعمة، وأنشدكم بالله، وأذكركم حقه وحق خليفته الذي لم تنصروه، وبعزمة الله عليكم، فإنه عز وجل يقول: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله". وإن أمير المؤمنين بغي عليه، ولو لم يكن له عليكم حق ألا حق الولاية، ثم أتي إليه بما أتي، لحق على كل مسلم يرجو أيام الله أن ينصره، لقدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب داعي الله، وصدق كتابه، والله أعلم به إذ انتجبه، فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة.

وإني أقص عليكم خبره، لأني كنت مشاهدة أمره كله، حتى أفضي إليه: وإن أهل المدينة حصروه في داره، يحرسنه ليلهم ونهارهم. قيام على أبوابه بسلاحهم، يمنعونه كل شيء قدروا عليه، حتى منعوه الماء، يحضرونه الأذى، ويقولون له الإفك. فمكث هو ومن معه خمسين ليلة، وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر، وكان علي مع المحرضين من أهل المدينة، ولم يقاتل مع أمير المؤمنين، ولم ينصره، ولم يأمر بالعدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به. فظلت تقاتل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل، وطوائف من مزينة وجهينة، وأنباط يثرب، ولا أرى سائرهم، ولكني سميت لكم الذين كانوا أشد الناس عليه في أول أمره وآخره. ثم إنه رمي بالنبل والحجارة، فقتل ممن كان في الدار ثلاثة نفر، فأتوه يصرخون إليه، ليأذن لهم في القتال، فنهاهم عنه، وأمرهم أن يردوا عليهم نبلهم، فردوها إليهم، فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جراءة، وفي الأمر إلا إغراء. ثم أحرقوا باب الدار، فجاءه ثلاثة نفر من أصحابه، فقالوا: إن في المسجد ناساً يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل، فاخرج إلى المسجد حتى يأتوك، فانطلق فجلس فيه ساعة، وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية، وما أرى أحداً يعدل، فدخل الدار، وقد كان نفر من قريش على عامتهم السلاح، فلبس درعه، وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست درعاً، فوثب عليه القوم، فكلمهم ابن الزبير، وأخذ عليهم ميثاقاً في صحيفة، بعث بها إلى عثمان: إن عليكم عهد الله وميثاقه ألا تعروه بشيء، فكلموه وتحرجوا، فوضع السلاح، فلم يكن إلا وضعه، حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبي بكر، حتى أخذوا بلحيته، ودعوه باللقب. فقال: أنا عبد الله وخليفته، فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون قطع رأسه، ليذهبوا به، فأتتني بنت شيبة بن ربيعة، فألقت نفسها معي عليه، فوطئنا وطئاً شديداً، وعرينا من ثيابنا، وحرمة أمير المؤمنين أعظم. فقتلوه رحمة الله عليه في بيته، وعلى فراشه. وقد أرسلت إليكم بثوبه، وعليه دمه، وإنه والله لئن كان أثم من قتله، لما يسلم من خذله. فانظروا أين أنتم من الله جل وعز، فإنا نشكي ما مسنا إليه، ونستنصر وليه وصالح عباده. ورحمة الله على عثمان، ولعن الله من قتله، وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة، وشفى منهم الصدور.

فحلف رجال من أهل الشام ألا يطأوا النساء حتى يقتلوا قتلته، أو تذهب أرواحهم.

فيا راكباً إما عرضت فبلـغـن

 

نداماي من نجران أن لا تلاقيا

أبا كرب والأيهمين كلـيهـمـا

 

وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا

وتضحك مني شيخة عبشـمـية

 

كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانـيا

أقول وقد شدوا لساني بنـسـعة

 

أمعشر تيم أطلقوا عن لسانـيا

الشعر لعبد يغوث بن صلاءة الحارثي. والغناء لإسحاق، ثقيل أول".