أحمد بن أبي الضياف

1802- 1874م

ولد أحمد بن أبي الضياف في
تونس العاصمة. ولما بلغ السن المناسب أرسل إلى كتّاب سيدي بن عروس. لكن الولد، بوصفه ابن رجل يعمل في خدمة الدولة ويتمتع بجاه وثروة لا بأس بهما، كان يُشرَف على تعليمه في البيت أيضا. ويبدو أن الطفل ظهرت عليه إمارات النجابة في طفولته. وثبت هذا الأمر خلال المدة التي قضاها في جامع الزيتونة. لذلك كان والده، وأصدقاء والده، يخططون له أن يسير في خطة التدريس بالزيتونة وبذلك تضيف الأسرة مجداً جديداً من أمجادها. لكن باي تونس، الذي كان يراقب الشاب ويطلع على أخباره وأخبار غيره من شباب الزيتونة، رسم له طريقاً آخر. فعُيّن، وهو في العشرين من سنه، في خطة شاهد عدل "على كره منه وعلى الرغم مما أبداه من معارضة تكاد تكون صريحة". وبعد سبع سنوات أولاه حسين باي خطة الكتابة وعهد إليه بأمانة سره. وهي وظيفة مهمة لشاب لم يبلغ الثلاثين من عمره.

يقول الصادق الزمرلي عن الدور الذي قام به أحمد بن أبي الضياف في خطة الكتابة، التي هي نوع من الإشراف على الرسائل الرسمية التي تصدر عن ديوان الأمير "وبفضل ما حظي به مترجمنا من عطف، فقد تفتحت مواهبه بدون أي قيد، وأضفى على مراسلات الباي أسلوباً طريفاً ورشيقاً، بالنظر إلى ما أدخل عليها من تعديلات جديدة، سواء من حيث الشكل أو من حيث اللغة. وبلغت به الجرأة إلى حد تعويض اللغة التركية التي كانت مستعملة إلى حد ذلك التاريخ في المراسلات الدبلوماسية باللغة العربية".

جاءت الترقية الكبيرة لابن أبي الضياف على يد المشير أحمد باي. وقد بلغ ابن أبي الضياف أرفع ما يمكن الوصول إليه في خطة كتابة الدولة سنة 1849، وهو بعد في السابعة والأربعين من عمره.

لما زار أحمد باي باريس سنة 1846 أخذ ابن أبي الضياف معه. وكانت هذه الزيارة شيئاً مهماً في حياة الكاتب. فهو من ناحية كان مستشار الباي وأمين سره. ومن هنا راقب كل شيء ودون كل شيء، وقد فعل ذلك بما عرف عنه من دقة التعبير والتفكير والتصوير. وأغرب ما في الأمر ان ينجح رجل لم يهيأ لمثل هذه الأمور في تقييد مشاهداته بهذا الإدراك والصدق.

في سنة 1857 أصدر الباي محمد "عهد الأمان"، وهو وثيقة مهمة وضع فيها الحدود الأساسية والقواعد الرئيسة لصاحب الأمر بالنسبة للمواطنين، وعلاقة الأجانب المقيمين في تونس بالدولة والفئات الأخرى. وقد كان عهد الأمان بحاجة إلى أمرين كي يصبح ذا أثر فعال: الأول أن يفسر ويوضح، والثاني أن توضع النصوص الدستورية لتطبيقه. وقد عهد محمد الصادق باي، الذي تولى الحكم سنة 1859، إلى ابن أبي الضياف بالقيام بالأمر الأول أي "شرح أحكام عهد الأمان وتوضيح معانيها وأبعادها". وقد ضمن هذا كله كتابه التاريخي المشهور "إتحاف أهل الزمان".

كان ابن أبي الضياف بحكم ثقافته ودراسته واهتماماته عالماً بشؤون الشريعة كما كان كاتباً قديراً. ومع ذلك فإنه لما عرضت عليه وظيفة "مفتي المالكية"، اعتذر عنها لأنه كان متعلقاً بعمله. وهذا العمل، الذي خدم فيه أربعة حكام لتونس، كان لكل منهم وجهة نظر، كان من نتيجته أن حالته الصحية اضطرته إلى ترك العمل الرسمي وانصرف إلى العمل الخاص، فوضع كتاب "أهل الزمان في أخبار ملوك تونس وعهد الأمان". هذا هو الذي خلد اسمه وأصبح مرجعاً أساسياً لمن يريد أن يدرس تلك الحقبة.

آراء ابن أبي الضياف في الدولة والحكم والدستور وما إلى ذلك منثورة خلال صفحات "اتحاف أهل الزمان"، والمقالات المنشورة. فهو وقف ضد الاستبداد والحكم الاستبدادي مهما كان نوعه، لأن الاستبداد ضد حكم الشرع، ومن ثم فهو باطل. وعندما يثقل الحكم الاستبدادي كاهل المواطنين بالضرائب الباهظة يكون وجوده خطأ تاماً. ومع أننا لا نجد أن ابن أبي الضياف يدعو صراحة للثورة على مثل هذا الحكم، ولا حتى احتمال دعوة الحاكم إلى التخلي عن عمله، فإننا نعرف أن الرجل في ثنايا ما كتب، أشار إلى أن الحكم في المغرب يقبل مثل هذا الأمر أي أن البيعة تبطل عند اجتراح الحاكم الظلم أو الاستبداد، لكنه لا يعطي أي مثل على حدوث ذلك.

ينعى ابن أبي الضياف على الفقهاء الذين يصرون على تجميد الأمور ويرى أن هؤلاء هم الذي يؤذون الجماعة ويضيقون على الحكام سبلهم. ويؤكد أن الإسلام الصحيح لا يقبل بهذا.

ويتساءل المؤلف أكثر من مرة عن هذا المجتمع الذي يسمى التونسي: ما هي هويته؟ وما هي المعاني التي تعين وجوده وحدوده؟ وتتلخص آراء ابن أبي الضياف حول هذه النقطة في الأمور التالية، أولاً التونسيون يكونون جماعة مسلمة، لكن هذه الجماعة المسلمة على ما لها من استقلال في إدارة شؤونها هي جزء من إطار أكبر هو الدولة العثمانية. هي، بعبارة أخرى، ولاية عثمانية لكنها تسير أمورها بنفسها. إنما المهم في نهاية المطاف أن الدولة العثمانية نفسها هي شريحة كبيرة من المسلمين، الذين تحكمهم أصلاً قواعد الإسلام. ومعنى هذا أن تونس لا يمكنها أن تتصرف خارج هذا النطاق: الإسلام ودستوره القرآن الكريم. لكنه كان يريد من العلماء المسلمين أن يدركوا شيئاً اسمه "حال الوقت"، أي التطور الذي لا بد أن يصيب الجماعة مهما صغر حجمها أو اتسع. والمهم أن يقوم أهل العلم وأهل الحكم بالتوصل إلى المعادلة التي توازن بين هذه الأمور جميعها، على أن تكون العدالة رائدها.