أبو القاسم الزياني

1734-1833م

ولد أبو القاسم الزياني في
فاس بالمغرب. كان جده يؤم الصلاة في عهد المولى إسماعيل سلطان المغرب (1672-1727م). ولأن المغرب مر، بعد وفاة إسماعيل، بفترة اضطراب سياسي كبير، اعتزم عمر، والد أبي القاسم، الرحيل عن المغرب والمجاورة في المدينة المنورة. فحزم أمره وخرج سنة 1755، بعد أن باع دارين كان يملكهما بفاس، وكتباً كان والده قد خلفهما، وجمع من ذلك ما يبلغه مراده.

كان أبو القاسم يومها في الثالثة والعشرين من عمره لما رحل مع والديه عن
المغرب. وكان قد تلقى العلم عن أبيه وأصدقاء أبيه، وهم في الطبقة الأولى من أهل المعرفة بفاس. فنال حظه من الفقه والحديث والتفسير والنحو والمنطق. وكان ثمة كُناش لجده، فضلاً عن كنّاشات أخرى للعائلة، هو الذي نبهه للعناية بالتاريخ والأنساب. ويرى المؤرخ المغربي عبد الله كنون أن هذا الكناش كان يحوي بعض أسرار الحرف والجدول.

بلغت الأسرة
مصر، وأشار بعضهم على والده أبي القاسم بركوب البحر الأحمر إلى الحجاز، واشترى له سلعة بقصد التجارة. فلما كانوا في مرسى ينبع تكسر المركب وضاعت السلعة وتلفت الأسباب. عندها أخرجت الوالدة من حزامها 300 دينار، اكترت الأسرة منها ركباً لجدة ومكة المكرمة وحصّلت الحج، وعادت بعد ذلك إلى مصر، تمهيداً للعودة إلى المغرب. فالمجاورة لم تعد ممكنة.

قبل وصول الأسرة إلى فاس بعام واحد كان محمد بن عبد الله قد تولى سلطاناً للمغرب. يقول أبو القاسم: "ولما استرحنا من السفر بعد العودة إلى فاس، عدت للقراءة كما كنت، ولما سألنا عمن كنا نألفه من الطلبة في القراءة والأنس، وجدنا أكثرهم تعلق بخدمة السلطان سيدي محمد لما بويع.. فلما بلغني خبر رفيقي سعيد الجزولي وغيره شرهت نفسي للحاق بهم، وتعلقت همتي بخدمة السلطان". وقد عارض والده في ذلك لأنه كان يخشى أن يصيب ابنه ما يصيب الناس في بلاط الملوك إذ يرتفعون ويهبطون ويسرون ويأملون ويفرحون ويترحون ويسجنون وتصادر أملاكهم. لكن أبا القاسم لم يقبل نصيحة والده، وأصبح كاتباً في بلاط محمد بن عبد الله.

أصب الفتى ما خشي منه والده. فبعد عشر سنوات طرد من الخدمة، وظل مهدداً بالقتل. لكن السلطان عرضت له مشكلة فيما بعد، فلم يجد من يحلها له سوى الزياني، فأعاده إلى ما كان عليه، وزاد في إكرامه. ثم كلفه القيام بمهمات كثيرة، أداها جميعها بنجاح كبير.

في سنة 1786م وجهه سلطان المغرب سفيراً عنه إلى الخليفة العثماني، عبد الحميد الأول. فكان خير سفير. ولم يدون أبو القاسم في رحلته المسماة الترجمانة الكبرى أخبار رحلته الأولى، فقد كانت هذه رحلة أبيه. أما هذه فهي رحلته لذلك فإنه يفصل أخبارها.

ولم يكن أبو القاسم الزياني في البلاط المغربي بعد عودته من استانبول، حتى توفي السلطان محمد بن عبد الله، وتولى الحكم ابنه يزيد الذي كان يمقت الزياني. فزجه في السجن وصادر أملاكه. ومع أنه رضي عنه، فإنه أعاده إلى السجن وعذبه. فلما توفي اليزيد أخرجه أهل الرباط من سجنه.

تولى الأمر سليمان الذي كان يعرف للزياني مكانته ومقامه وخبرته وتجارته ومقدرته. فأرغمه على أن يتولى عملاً في أوجدة، في الشرق من المغرب. وخرج الزياني، عل ما يقول، إلى مقر عمله مرغماً، ومعه ركب التجار الذي كان محصوراً بفاس. فخرج عليهم العرب فقتلوا من قتلوا منهم. فانسل أبو القاسم: "فاراً بجلده سائماً من الخدمة السلطانية". وتوجه إلى تلمسان فأقام في العباد سنة ونصف السنة مشتغلاً بالمطالعة والتقييد والتأليف. واطلع هناك على غرائب كتب التاريخ التي تعد اليوم في حكم المفقودة.

في سنة 1794 زار الآستانة والمشرق وأدى فريضة الحج، وعاد إلى فاس، فاستقبله السلطان سليمان وولاه تفتيش مراسي المغرب ومراقبة عمالها، ثم اتخذه كاتباً ووزيراً وحاجباً. وبعد سنوات نكبه السلطان نفسه، وأنزله عن ولايته. وانصرف أبو القاسم بعد ذلك إلى الكتابة والتأليف حتى وفاته.

خلّف أبو القاسم كتباً متنوعة، لكن أطرفها كتاب الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور براً وبحراً. وهو كتاب طريف أن لم نقل أنه فريد من نوعه. وقد قال عنه مؤلفه في خاتمته: "هذه الرحلة المسماة الترجمانة الكبرى التي جمعت مدن المعمور كله براً وبحراً".

زار أبو القاسم الزياني مصر وبلاد الشام وبلاد الأتراك. والأصل في الترجمانة أنها تدور حول صاحبها. فهي أساساً سيرة ذاتية، ولو أنها ليست تامة، وتسجيل دقيق لما دار من الحديث مع أولئك الذين اجتمع بهم في الديار المقدسة ومصر واستانبول.

تروي الترجمانة أخبار ثلاث رحلات قام بها أبو القاسم: الاولى إلى الحجاز ومصر، 1755-1758، والثانية كانت إلى الآستانة سفراً لملك المغرب سنة 1786 والثالثة للمشرق سنة 1792.