أبو عثمان المازني النحوي

توفي 249 هـ

بكر محمد بن عثمان النحوي، إمام عصره في النحو والأدب.

وله من التصانيف كتاب ما تلحن في العامة وكتاب التصريف وكتاب العروض وكتاب القوافي.

ورد في كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير:

" واسمه: بكر بن محمد بن عثمان البصري، شيخ النحاة في زمانه.

أخذه عن: أبي عبيدة والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، وغيرهم.

وأخذ عنه: أبو العباس المبرد وأكثر عنه.

وللمازني مصنفات كثيرة في هذا الشأن، وكان شبيها بالفقهاء ورعا زاهدا ثقةً مأمونا.

روى عنه المبرد: أن رجلا من أهل الذمة طلب منه أن يقرأ عليه كتاب سيبويه ويعطيه مائة دينار، فامتنع من ذلك.

فلامه بعض الناس في ذلك فقال: إنما تركت أخذ الأجرة عليه لما فيه من آيات الله تعالى.

فاتفق بعد هذا أن جارية غنت بحضرة الواثق:

أظلوم إن مصابكم رجلا * رد السلام تحية ظلم

فاختلف من بحضرة الواثق في إعراب هذا البيت، وهل يكون رجلا مرفوعا أو منصوبا، وبم نصب؟ أهو اسم أو ماذا؟

وأصرت الجارية على أن المازني حفظها هذا هكذا.

قال: فأرسل الخليفة إليه، فلما مثل بين يديه قال له: أنت المازني؟

قال: نعم !

قال: من مازن تميم، أم من مازن ربيعة، أم مازن قيس؟

فقلت: من مازن ربيعة.

فأخذ يكلمني بلغتي، فقال: باسمك؟

وهم يقلبون الباء ميما والميم باء، فكرهت أن أقول مكر فقلت: بكر.

فأعجبه إعراضي عن المكر إلى البكر، وعرف ما أردت.

فقال: على م انتصب رجلا؟

فقلت: لأنه معمول المصدر بمصابكم.

فأخذ اليزيدي يعارضه فعلاه المازني بالحجة، فأطلق له الخليفة ألف دينار، ورده إلى أهله مكرما.

فعوضه الله عن المائة الدينار - لما تركها لله سبحانه ولم يمكن الذمي من قراءة الكتاب لأجل ما فيه من القرآن - ألف دينار عشرة أمثالها.

روى المبرد عنه، قال: أقرأت رجلا كتاب سيبويه إلى آخره، فلما انتهى إلى آخره، قال لي: أما أنت أيها الشيخ فجزاك الله خيرا، وأما أنا فوالله ما فهمت منه حرفا.

توفي المازني في هذه السنة، وقيل: في سنة ثمان وأربعين".

وجاء في "وفيات الأعيان" لابن خلكان:

" أبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان - وقيل: بقية، وقيل: عدي - بن حبيب المازني البصري النحوي؛ كان إمام عصره في النحو والأدب، وأخذ الأدب عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي الأنصاري وغيرهم، وأخذ عنه أبو العباس المبرد وبه انتفع وله عنه روايات كثيرة، وله من التصانيف كتاب ما تلحن في العامة وكتاب التصريف وكتاب العروض وكتاب القوافي وكتاب الديباج عللاً خلاف كتاب أبي عبيدة.

قال أبو جعفر الطحاوي الحنفي المصري: سمعت القاضي بكار بن قتيبة، قاضي مصر، يقول: ما رأيت نحوياً قط يشبه الفقهاء إلا حيان بن هرمة والمازني، يعني أبا عثمان المذكور، وكان في غاية الورع.

ومما رواه المبرد أن بعض أهل الذمة قصده ليقرأ عليه كتاب سيبويه وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من ذلك، قال: فقلت له: جعلت فداك، أترد هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟ فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذمياً غيرة على كتاب الله وحمية له؛ قال: فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي:

أظلوم إن مصابكم رجلاً

 

أهدى السلام تحية ظلم

 

فاختلف من كان بالحضرة في إعراب رجلاً، فمنهم من نصبه وجعله اسم إن، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرة على أن شيخها أباعثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه.

 

قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن، قال: أي الموازن؟ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ قلت: من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي، وقال: باسمك؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميماً، قال: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي كيلا أواجهه بالمكر، فقلت: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وأعجب به، قم قال: ماتقول في قول الشاعر:

 

أظلوم إن مصابك رجلاً

 

أترفع رجلاً أم تنصبه؟ فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال: ولم ذلك؟ فقلت: إن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم، فأخذ اليزيدي في معارضتي، فقلت: هو بمنزلة قولك إن ضربك زيداً ظلم فالرجل مفعول مصابكم وهو منصوب به والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول ظلم فيتم، فاستحسنه الواثق وقال: هل لك من ولد؟ قلت: نعم بنية ياأمير المؤمنين، قال: ما قالت لك عند مسيرك؟ فقلت: طافت حولي وأنشدت وهي تبكي قول الأعشى:

 

أيا أبتا لاتـرم عـنـدنـا

 

فإنا بخـير إذا لـم تـرم

أرانا إذا أضمرتك البـلا

 

د تجفى وتقطع منا الرحم

قال: فما قلت لها؟ قال: قلت لها ما قال جرير لابنته:

ثقي بالله ليس له شـريك

 

ومن عند الخليفة بالنجاح

قال: على النجاح، إن شاء الله تعالى، ثم أمر لي بألف دينار، وردني مكرماً، قال المبرد: فلما عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس؟ رددنا لله مائة فعوضنا ألفا.

وكان أبو عثمان مع علمه بالنحو متسعاً في الرواية؛ قال أبو القاسم الكوكني: حدثني العنزي قال: أنشد رجل أبا عثمان المازني شعراً له وقال: كيف تراه؟ قال: أراك قد عملت عملاً بإخراج هذا من صدرك لأنك لو تركته لأورثك السل.

وروى المبرد عنه أيضاً قال: قرأ علي رجل كتاب سيبويه في مدة طويلة، فلما بلغ آخره قال لي: أما أنت فجزاك الله خيرا، وأما أنا فما فهمت منه حرفاً.

وتوفي أبوعثمان المازني المذكور في سنة تسع وأربعين ومائتين، وقيل: ثمان وأربعين، وقيل: ست وثلاثين ومائتين بالبصرة، رحمه الله تعالى".

وفي "معجم الأدباء" لياقوت الحموي جاء:

" أبو عثمان النحوي، وقيل: هو بكر بن محمد، بن عدي، بن حبيب، أحد بني مازن بن شيبان، بن ذهل، ابن ثعلبة، بن عكاية، بن صعب، بن علي، بن بكر، ابن وائل. قال الزبيدي: قال الخشني: المازي مولى بني سدوس، نزل في بني مازن ب شيبان، فنسب إليهم، وهو من أهل البصرة، وهو أستاذ المبرد. روى عن أبي عبيدة والأصمعي، وأبي زيد الأصاري. وروى عنه الفضل ب محمد اليزيدي، والمبرد، وعبد الله بن سعد الوراق، وكان إمامياً يرى رأي ابن ميثم، ويقول بالإرجاء، وكان لا يناظره أحد إلا قطعه، لقدرته على الكلام، وكان المبرد يقول: لم يكن بعد سيبويه أعلم من أبي عثمان بالنحو، وقد ناظر الأخفش في أشياء كثيرة فقطعه، وهو أخذ عن الأخفش.

وقال حمزة: لم يقرأ على الأخفش، إنما قرأ على الجرمي، ثم اختلف إلى الأخفش وقد برع، وكان يناظره ويقدم الأخفش وهو حي، وكان أبو عبيدة يسميه بالمتدرج، والنقار. مات أبو عثمان فيما ذكره الخطيب، في سنة تسع وأربعين ومائتي، أو ثمان وأربعين ومائتين، وذكر ابن واضح: أنه مات سنة ثلاثين ومائتين.

حدث المبرد عن المازني قال: كنت عند أبي عبيدة، فسأله رجل فقال له: كيف تقول عنيت بالأمر؟ قال: كما قلت عنيت بالأمر، قال: فكيف آمر منه؟ قال فغلط، وقال: اعنُ بالأمر، فأومأت إلى الرجل، ليس كما قال: فرآني أبو عبيدة، فأمهلني قليلاً، فقال: ما تصنع عندي؟ قلت: ما يصنع غيري، قال: لست كغيرك، لا تجلس إلي، قلت ولم؟ قال: لأني رأيتك مع إنسان خوزي سرق مني قطيفة، قال: فانصرفت وتحملت عليه بإخواه، فلما جئته قال لي: أدب نفسك أولاً، ثم تعلم الأدب. قال المبرد: الأمر من هذا باللام، لا يجوز غيره، لأك تأمر غير من بحضرتك، كأنه ليفعل هذا. وقال حماد يهجو المازني:

كادني المازني عند أبي العب

 

باس والفضل ما علمت كريم

يا شبيه النساء في كـل فـن

 

إن كيد النساء كيد عـظـيم

جمع المازني خمس خصـال

 

ليس يقوى بحملهن حـلـيم

هو بالشعر والعروض وبالنح

 

و وغمز الأيور طب علـيم

ليس ذنبي إليك يا بـكـر إلا

 

أن أيرى عليك لـيس يقـوم

وكفاني ما قال يوسف في ذا

 

إن ربي بكـيدكـن عـلـيم

وحدث المبرد قال: عزى المازني بعض الهاشميين، ونحن معه فقال:

إني أعزيك لا أني علـى ثـقة

 

من الحياة ولكن سـنة الـدين

ليس المعزى بباق بعد مـيتـه

 

ولا المعزى وإن عاشا إلى حين

وقد روي عن المبرد: أن يهودياً بذل للمازي مائة دينار، ليقرئه كتاب سيبويه، فامتنع من ذلك، فقيل له: لم امتنعت مع حاجتك وعيلتك؟ فقال: إن في كتاب سيبويه كذا كذا آية من كتاب الله، فكرهت أن أقرئ كتاب الله للذمة، فلم يمض على ذلك مديدة، حتى أرسل الواثق في طلبه، وأخلف الله عليه أضعاف ما تركه لله. كما حدث أبو الفرج، علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني، بإسناد رفعه إلى أبي عثمان المازني قال: كان سبب طلب الواثق لي، أن مخارقاً غناه في شعر الحارث بن خالد المخزومي:

أظليم إن مصابكم رجلاً

 

أهدى السلام تحية ظلم

 فلحنه قوم، وصوبه آخرون فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين، فذكرت له، فأمر بحملي وإزاحة عللي. فلما وصلت إليه، قال لي: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن. قال: من مازن تميم؟ أم مازن قيس؟ أم مازن ربيعة؟ أم مازن اليمن. قلت: من مازن ربيعة، قال لي با اسمك؟ يريد ما اسمك، وهي لغة كثيرة في قومنا، فقلت على القياس: اسمي مكر، وفي رواية فقلت: اسمي بكر. فضحك وأعجبه ذلك، وفطن لما قصدت، فإنني لم أجرؤ أن أواجهه بالمكر، فضحك وقال: اجلس فاطبئن، أي فاطمئ، فجلست فسألني عن البيت، فقلت: صوابه إن مصابكم رجلاً، قال: فأين خبر إن؟ قلت: ظلم، وهو الحرف في آخر البيت، والبيت كله متعلق به، لا معنى له حتى يتم بقوله: ظلم، ألا ترى أنه لو قال: أظليم إن مصابكم رجلاً، أهدى السلام تحية، فكأنه لم يفد شيئاً، حتى يقول ظلم، ولو قال أظليم إن مصابكم رجل، أهدى السلام تحية، لما احتاج إلى ظلم ولا كان له معني إلا أن تجعل التحية بالسلام ظلماً، وذلك محال. ويجب حينئذ: أظليم إن مصابكم رجل، أهدى السلام تحية ظلماً، ولا معنى لذلك، ولا هو لو كان له وجه مراد الشاعر. فقال: صدقت، ألك ولد؟ قلت: بنية لا غير قال: فما قالت لك حين ودعتها. قلت: أنشدتني قول الأعشى:

تقول ابنتي حي جد الرحيل

 

أرانا سواء ومن قد يتـم

أبانا فلا رمت من عندنـا

 

فإنا بخـير إذا لـم تـرم

أرانا إذا أضمرتك البـلاد

 

نجفى ويقطع منا الرحـم

فقال الواثق: كأني بك، وقد قلت لها قول الأعشى أيضاً:

تقول بنتي وقد قربت مـرتـحـلاً

 

يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاعتصمـي

 

يوماً فإن لجنب المرء مضطجعـا

فقلت: صدق أمير المؤمنين. قلت لها ذلك، وزدتها قول جرير:

ثقي بالله ليس له شـريك

 

ومن عند الخليفة بالنجاح

فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى، إن ههنا قوماً يختلفون إلى أولادنا فامتحهم، فمن كان عالماً ينتفع به، ألزمناهم إياه، ومن كان بغير هذه الصفة، قطعناهم عنه قال: فامتحنتهم، فما وجدت فيهم طائلاً، وحذروا ناحيتي. فقلت: لابأس على أحد منكم، فلما رجعت إليه قال: كيف رأيتهم؟ فقلت يفضل بعضهم بعضاً في علوم، ويفضل الباقو في غيرها. وكل يحتاج إليه. فقال الواثق: إني خاطبت منهم رجلاً، فكان في نهاية الجهل في خطابه وظره. فقلت: يا أمير المؤمنين، أكثر من تقدم فهم بهذه الصفة، وقد أنشدت فيهم:

إن المعلم لايزال مضعـفـاً

 

ولو ابتنى فوق السماء سماء

من علم الصبيان أضنوا عقله

 

مما يلاقي بكرة وعـشـاء

قال: فقال لي: لله درك، كيف لي بك؟ فقلت يا أمير المؤمنين: إن الغنم لفي قربك، والنظر إليك، والأمن والفوز لديك، ولكي ألفت الوحدة، وأنست بالافراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضر بهم ذلك، ومطالبة العادة أشد من مطالبة الطباع. فقال لي: فلا تقطعنا وإن لم نطلبك. فقلت: السمع والطاعة، وأمر لي بألف دينار، وفي رواية بخمسمائة دينار وأجرى علي في كل شهر مائة دينار. وزاد الزبيدي قال وكنت بحضرته يوماً، فقلت لابن قادم، أو ابن سعدان، وقد كابرني، كيف تقول نفقتك ديناراً أصلح من درهم؟ فقال: دينار بالرفع. قلت: فكيف تقول: ضربك زيداً يخر لك، فتنصب زيداً، فطالبته بالفرق بينهما فانقطع. وكان ابن السكيت حاضراً فقال الواثق: سله عن مسألة. فقلت له: ما وز نكتل من الفعل فقال: نفعل. فقال الواثق: غلطت. ثم قال لي: فسره، فقلت: ونكتل تقديره نفتعل، وأصله نكتيل، فانقلبت الياء ألفاً لفتحة ما قبلها، فصار لفظها نكتال، فأسكنت اللام للجزم، لأنه جواب الأمر، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. فقال الواثق: هذا الجواب، لا جوابك يا يعقوب. فلما خرجنا قال لي يعقوب: ما حملك على هذا وبيي وبينك المودة الخاصلة؟ فقلت: والله ما قصدت تخطئتك، ولم أظن أنه يعزب عنك ذلك. ولهذا البيت قصة أخرى في أخبار ابن السكيت.

قال المبرد: سألت المازني عن قول الأعشى:

هذا النهار بدا لها من همها

 

ما بالها بالليل زال زوالها

فقال: نصب النهار على تقدير، هذا الصدود بدا لها النهار، واليوم والليلة. والعرب تقول: زال وأزال: بمعنى، فتقول: زال زوالها. وحدث الزبيدي قال: قال المازني: وحضرت يوماً عند الواثق وعنده نحاة الكوفة، فقال لي الواثق: يا مازني: هات مسألة، فقلت: ما تقولون في قوله تعالى: (وما كانت أمك بغياً). لم لم يقل بغية، وهي صفة لمؤنث فأجابوا بجوابات غير مرضية. فقال الواثق: هات ما عندك. فقلت: لو كان بغي على تقدير فعيل بمعنى فاعلة، لحقتها الهاء، مثل كريمة وظريفة، وإنما تحذف الهاء إذا كانت في معنى مفعولة، نحو: المرأة قتيل وكف خضيب، وبغي ههنا ليس بفعيل، إنما هو فعول، وفعول لا تلحقه الهاء في وصف التأنيث، نحو: امرأة شكور، وبئر شظون، إذا كانت بعيدة الرشاء، وتقدير بغي بغوي، قلبت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء، فصارت ياء ثقيلة: نحو سيد وميت. فاستحسن الجواب.

قال المازني: ثم انصرفت إلى البصرة، فكان الوالي يجري علي المائة دينار في كل شهر، حتى مات الواثق، فقطعت عني. ثم ذكرت للمتوكل فأشخصني، فلما دخلت إليه، رأيت من العدد والسلاح، والأتراك ما راعني، والفتح بن خاقان بين يديه، وخشيت إن سئلت عن مسألة ألا أجيب فيها. فلما مثلت بين يديه وسلمت، قلت: يا أمير المؤمنين، أقول كما قال الأعرابي؟:

لا تقلواها وادلواها دلوا

 

إن مع اليوم أخاه غدوا

قال أبو عثمان: فلم يفهم عني ما أردت، واستبردت فأخرجت. والقلو: رفع السير، والدلو: إدناؤه.

ثم دعاني بعد ذلك فقال: أنشدني أحسن مرثية قالت العرب. فأنشدته قول أبي ذؤيب:

أمن المنون وريبها تتوجع؟

وقصيدة متمم بن نويرة:

لعمري وما دهري بتأبين هالك

وقول كعب الغنوي:

تقول سليمى ما لجسمك شاحباً

وقصيدة محمد بن مناذر:

كل حي لاقى الحمام فمودي

فكان كلما أنشدته قصيدة يقول: ليست بشيء. ثم قال: من شاعركم اليوم بالبصرة؟ قلت: عبد الصمد ابن المعذل، قال: فأنشدني له، فأنشدته أبياتاً قالها في قاضينا ابن رباح:

أيا قـاضـية الـبــص

 

رة قومي فارقصي قطره

ومـري بـروشـنــك

 

فماذا البرد والـفـتـره

أراك قـد تــثـــيرين

 

عجاج القصف يا حـره

بتـجـذيفـك خـــديك

 

وتجـعـيدك لـلـطـره

قال: فاستحسنها واستطار لها، وأمر لي بجائزة. قال: فجعلت أتعمل له أن أحفظ أمثالها، فأنشده إذا وصلت إليه، فيصلني.

وكان المازني يفضل الواثق. وللمازني شعر قليل، ذكر منه المرزباني:

شيئان يعجز ذو الرياضة عنهما

 

رأي النساء وإمرة الصبـيان

أما النساء فإنهـن عـواهـر

 

وأخو الصبا يجري بكل عنان

ولما مات المازني، اجتازت جنازته على أبي الفضل الرياشي فقال متمثلاً:

لا يبعد الله أقواماً رزئتهم

 

أفناهم حدثان الدهر والأبد

نمدهم كل يوم من بقيتنـا

 

ولا يئوب إلينا منهم أحـد

قال محمد بن إسحاق: وللمازني من الكتب: كتاب في القرآن كبير، كتاب علل النحو صغير، كتاب تفاسير كتاب سيبويه، كتاب ما يلحن فيه العامة، كتاب الألف واللام، كتاب التصريف، كتاب العروض، كتاب القوافي، كتاب الديباج في جوامع كتاب سيبويه، قرأت بخط الأزهري منصور، في كتاب نظم الجمان، تصنيف الميداني قال: سئل المازني عن أهل العلم، فقال: أصحاب القرآن فيهم تخليط وضعف، وأهل الحديث فيهم حشو ورقاعة، والشعراء فيهم هوج، وأصحاب النحو فيهم ثقل، وفي رواية الأخبار الظرف كله، والعلم هو الفقه. وتصانيف المازني كلها لطاف، فإنه كان يقول: من أراد أن يصنف كتاباً كبيراً في النحو، بعد كتاب سيبويه فليستح، ويحوي كتاب سيبويه في كنهه عدة كتب. حدث محمد بن رستم الطبري قال: أنبأنا أبو عثمان المازني قال: كنت عند سعيد بن مسعدة الأخفش، أنا وأبو الفضل الرياشي، فقال الأخفش: إن منذ إذا رفع بها، فهي اسم مبتدأ وما بعدها خبرها، كقولك: ما رأيته منذ يومان، فإذا خفض بها، كقولك: ما رأيته منذ اليوم فحرف معنى ليس باسم. فقال له الرياشي: فلم لا يكون في الموضعي اسماً؟ فقد نرى الأسماء تخفض وتنصب، كقولك هذا ضارب زيداً غداً، وضارب زيد أمس، فلم لا تكون بهذه المنزلة؟ فلم يأت الأخفش بمقنع. قال أبو عثمان: فقلت له: لا يشبه منذ ما ذكرت، لأنا لم نر الأسماء هكذا تلزم موضعاً، إلا إذا ضارعت حروف المعاني، نحو أين، وكيف، فكذلك منذ هي مضارعة لحروف المعاني، فلزمت موضعاً. واحداً.

قال الطبري: فقال ابن أبي زرعة للمازي: أفرأيت حروف المعاني، تعمل عملين مختلفين متضادين؟ قال نعم، كقولك قام القوم حاشا زيد وحاشا زيداً، وعلى زيد ثوب، وعلا زيد الفرس، فتكون مرة حرفاً، ومرة فعلاً بلفظ واحد.

وحدث المبرد قال: سمعت المازني يقول: معنى قولهم: إذا لم تستح فاصنع ما شئت. أي إذا صنعت ما لا يستحى من مثله، فاصنع منه ما شئت، وليس على ما يذهب العوام إليه. قلت: وهذا تأويل حسن جداً.

قال أبو القاسم الزجاجي: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري قال: حضرت مجلس أبي عثمان المازني وقد قيل له: لم قلت روايتك عن الأصمعي؟ قال: رميت عنده بالقدر، والميل إلى مذاهب أهل الاعتزال، فجئته يوماً وهو في مجلسه، فقال لي: ما تقول في قول الله عز وجل: (إنا كل شيء خلقناه بقدر). قلت: سيبويه يذهب إلى أن الرفع فيه أقوى من النصب في العربية، لاستعمال الفعل المضمر، وأنه ليس ههنا شيء هو بالفعل أولى، ولكن أبت عامة القراء إلا النصب، ونحن نقرؤها كذلك اتباعاً، لأن القراءة سنة. فقال لي: فما الفرق بين الفع والنصب في المعنى؟ فعلمت مراده، فخشيت أن تغرى بي العامة فقلت: الرفع بالابتداء، والنصب بإضمار فعل، وتعاميت عليه.

فقال: حدثني جماعة من أصحابنا أن الفرزدق قال يوماً لأصحابه: قوموا بنا إلى مجلس الحسن لابصري، فإني أريد أن أطلق النوار، وأشهده على نفسي. فقالوا له: لا تفعل، فلعل نفسك تتبعها وتندم. فقال: لابد من ذلك، فمضوا معه، فلما وقف على الحس قال له: يا أبا سعيد، تعلمنم أن النوار طالث ثلاثاً، قال: قد سمعت، فتتبعتها نفسه بعد ذلك، وندم وأنشأ يقول:

ندمت ندامة الكسعي لمـا

 

غدت مني مطلقة نـوار

وكانت جنتي فخرجت منها

 

كآدم حين أخرجه الضرار

ولو أني ملكت يدي ونفسي

 

لكان علي للقدر الخـيار

ثم قال: والعرب تقول: لو خيرت لاخترت، تحيل على القدر، وينشدون:

هي المقادير فلمنـي أو فـذر

 

إن كنت أخطأت فلم يخط القدر

ثم أطبق نعليه وقال: نعم القناع للقدري، فأقللت غشيانه بعد ذلك.

قال المبرد: حدثني المازني قال: مررت ببي عقيل، فإذا رجل أسود قصير، أعور أبرص أكشف، قائم على تل سماد وهو يملأ جواليق معه من ذلك المساد، وهو يغني بأعلى صوته:

فإن تصرمي حبلي وتستكرهي وصلي

 

فمثلك موجود ولن تجدي مـثـلـي

فقلت: صدقت والله، ومتى تجد ويحك مثلك؟ فقال: - بارك الله عليك - واسمع خيراً، ثم اندفع لينشد:

يا ربة المطرف والخلخـال

 

ما أنت من همي ولا أشغالي

مثلك موجود ومثلي غالـي