الهمداني

الهَمْدانيّ (الحسن بن أحمد)
(280 ـ بعد 345هـ/893 ـ بعد 956م)


أبو محمّد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود بن سليمان الهَمْدانيّ، المعروف بلسان اليمن، وبالنَّسّابة، وبابن الحائك، وبابن الدُّمَينة، وبابن ذي الدّمْنة. شاعرٌ يماني، عبّاسيّ مُفْلِقٌ فَحْل، محسِنٌ في تصريف القوافي، قابضٌ بنَواصِيها، وأديبٌ فَطِنٌ بتوليد المعاني، مولعٌ بابتكارها، ولُغَوِيٌّ مُتَبَحِّرٌ في لسانه، ونَحْوِيٌّ حَذِقٌ بأَنْحاء العربيّة، ونَسّابةٌ لم يبلغْ شَأْوَه غيرُهُ، عليه كان المعوَّل في أنساب الحِمْيَرِيِّين والهَمْدانِيِّين، وفيلسوفٌ ممنوحٌ علمَ الفلسفة، مُهَيّأٌ طَبْعُهُ للعَناية به، وجُغرافيٌّ مُنَقِّبٌ بَحّاثة، وأَثَرِيٌّ فَكَّ طَلاسِم الخَطّ المُسْند، وأَنْطَق حروفه، وأحيا لسان حمير، ومُنَجِّم بارعٌ.

لُقِّب بابن الحائك لحَوْكِه الشِّعر، إِذْ كان سليلَ أسرة توارثتْ حَوْكَ القوافي وتَثْقِيْفَها، ولجدّه سليمان بن عمرو المعروف بذي الدِّمْنَة الشّاعر، أبياتٌ، تَغصُّ بالمعاني الشّريفة، منها:

إِذا المَرْءُ لم يَسْتُرْ عنِ الذَّمِّ عِرْضَهُ
بِبُلْغَةِ ضَيْفٍ أو بِحاجَةِ قاصِدِ
فَما المالُ إِلاّ مُظْهِرٌ لِعُيُوبِهِ
وداعٍ إِلِيْهِ مِنْ عَدُوٍّ وحاسِدِ

انتقلت أسرة الهَمْدانيّ من منازلها الأولى بـ(المراشي) بجوف هَمْدان، إلى الخارد، وهو وادٍ بالجوف أيضاً غير أنّهم خالطوا فيه بلحارث من مَذْحِج؛ ثمّ انتقلت الأسرة نقلةً أُخرى أولّ القرن الثّالث الهجريّ إلى صنعاء، واستقرّوا بها، فكانت مسقطَ رأس الهَمْدانيّ.

اشتُهر بكثرة تصانيفه ونَفاستها، ولاسيّما ما يخصّ أخبار صُقْعه، وأنساب قومه، منها:

ـ «الإكليل»؛ وهو أَنْبَهُ تآليفه وأظهرها، يقع في عشرة أجزاء، انتهى إلينا منها أربعة أجزاء: الأوّل: في المبتدأ وأصول أنساب العرب والعجم، ونسب ولد حِمْير؛ والثّاني في نسب ولد الهَمَيْسَع بن حِمْير؛ وقد نُشرا نشراتٍ عدّة، والثّامن: في مَحافِد اليمن ومَساندها ودَفائنها وقصورها، ومراثي حِمْير والقبوريّات، والعاشر، وهو في معارف هَمْدان وأنسابها وعيون أخبارها.

ـ «صفة جزيرة العرب»: يعدّ هذا الأَثر الجليل من أقدم آثار السَّلف في البلدان والمواضع الّتي انتهت إلينا وأَنْفَسِها، وعليه كان مُعَوّل البكريّ وياقوت في معجمَيهما «معجم ما اسْتَعْجَم» و«معجم البلدان»، كما يُعدّ مُصَنِّفه رائداً في البحث والتنقيب؛ إذ رَصَد ما رصد عن رؤية ومشاهدة وعظيم معرفة، ولاسيّما ما يخصّ جنوبي الجزيرة. نَشَره في جزأين المستشرق مولر سنة 1884م.

ـ «سرائر الحكمة»، انتهى إلينا منه المقالة العاشرة.

ـ «الجَوهرتان العَتِيقتان المائعتان البيضاء والصفراء»، يُعَدّ هذا العِلْق النادر من أوفى ما انتهى إلينا في علم التعدين، حقّقه علاّمة الجزيرة الشيخ حَمَد الجاسر.

ـ «شرح القصيدة الدّامغة»، تنازع هذا الشرحَ، الّذي يَعِجُّ بالأخبار الطريفة والأشعار العزيزة النادرة الّتي لا يُدرك كثيرٌ منها في غيره = الهَمْدانيُّ ومحمّدٌ ابنُه، فذهب محمّد بن نَشوان الحِمْيريّ والقِفْطيّ إلى مُناصَرة ابنه، في حين يصرخُ العلم المبثوث في تضاعيف هذا الشّرح بنسبته إلى أبيه، يُؤَيِّد ذلك القَرائن والأحداث الّتي عُلِمت نسبتها إلى الهَمْدانيّ الأَب من آثاره الأخرى.

وممّا لم ينتهِ إلينا من كُتُبه حتّى السّاعة «الإِبِل» و«أخبار الأوفياء» و«أسماء الشهور والأيّام» و«الإكليل 3، 4، 5، 6، 7، 9» و«الأنساب» و«الأيّام» و«الحرث والحيلة» و«ديوان شعره» و«الزّيج» و«سرائر الحكمة» ما عدا المقالة العاشرة، و«السّير والأخبار» و«الطّالع والمطارح» و«القُوى في الطّب»، و«المسالك والممالك» و«مفاخر اليمن» و«اليَعْسوب»، عَجَّل الله ظهورها.

كان الهَمْدانيّ إضافة إلى علمه واشتغاله بالتصنيف غزير الشِّعر، وقّاد القريحة، غير أنّ العوادي عَدَتْ على شعره، فلم يَنْجُ منه إلاّ نَزْرُه، جاءنا مُفرّقاً في ثنايا بُقْيا كُتبه، ما خلا قصيدتَه الدّامغة، التي انتهت إلينا في ستّمئة بيت وبيتين، يُرْكَن إلى تمامها.

وقد بلغت أشعار الرجل من الشهرة في عصره ما حمل ابنَ خالويه بعد وفاته على أن يرتحل في طلبها من العراق إلى اليمن، وفي ذلك يقول القِفْطِيّ: «ولمّا دخل الحسين بن خالويه الهمذاني النَّحْويّ إلى اليمن، وأقام بها بِذَمار جمع ديوان شعره وعرّبه وأعربه. وهذا الدّيوان بهذا الشّرح والإعراب موجود عند علماء اليمن، وهم به بُخلاء. وشعره يشتمل في الأكثر على المقاصد الحَسَنة، والمعاني الجَزْلَة الألفاظ، والتّشبيهات المصيبة الأَغراض، والنّعوت اللاصقة بالأعراض، والتحريض المحرِّك للهِمَم المِراض، والأمثال المضروبة، والإشارات المَحْجوبة والتصرّف في الفنون العجيبة».

وتعدُّ الدّامغة من أتمَّ المُطولات التي انتهت إلينا من تَرِكَة شعراء هذا اللسان العربيّ، وليس تمامها هو مبعث أهمّيتها فحسب، بل احتواؤها على إشاراتٍ عظيمةِ الخَطَر، وتخصُّرُها نُتَفاً من القصائد التي قِيلت قبلها، كقصيدة الكميت الأَسَدِي، ودِعبل الخُزاعيّ، والأعور الكلبيّ، هاتيك القصائد التي أمدّت الأدب برافدٍ غزير العيون، مستمرّ الجريان، ثمّ حُجِبت فيما حُجِب من ذخائرَ نفيسةٍ، وأعلاقٍ عزيزة، فلم ينته إلينا منها إلاّ النّزر اليسير، وقد نشرت مستقلة في مجلّة «التّراث العربيّ» بدمشق؛ ومنها قوله:

أَلا يَا دَارُ لَوْلاَ تَنْطِقِيْنَا
فَإِنَّا سَائِلُونَ ومُخْبِرُونَا
بِمَا قَدْ غَالَنَا مِنْ بَعْدِ هِنْدٍ
ومَاذَا مِنْ هَوَاهَا قَدْ لَقِيْنَا
فَضِفْنَاكِ الغَدَاةَ لتُنْبِئِيْنا
بِها أيْنَ انْتَوَتْ نَبَأً يَقِيْنا؟
وعَنْكِ، فَقَدْ نَراكِ بَلِيْتِ حَتَّى
لَكِدْتِ مِنَ التَّغَيُّرِ تُنْكَرِيْنا
أَمِنْ فَقْدِ القَطِيْنِ لَبِسْتِ هَذا ؟
فَلا فَقَدَتْ مَرابِعُكِ القَطِيْنا
وقال في آخرها:
فَكَمْ حِلْمٍ أَفادَ المَرْءَ عِزًّا
ومِنْ جَهْلٍ أَفادَ المَرْءَ هُوْنا
وحَسْبُكَ أَنَّ جَهْلَ المَرْءِ يُضْحِي
عَلَيْهِ لِلْعِداءِ لَهُ مُعِيْنا
مُقْبِل التّامّ عامر الأحمد.