الأعشى

الأعشى الأكبر
تو 729م – 7 هـ


هو ميمون بن قيس بن جندل من قبيلة بكر بن وائل. لقّب بالاعشى لضعف بصره الذي تحول الى ظلمة في عينيه في نهاية عمره . نشأ وترعرع في اليمامة . زار
اليمن ونجران وعدن وعرّج على الحجاز ثم انتقل الى المشرق والبحرين والعراق ووصل الى بلاد فارس ، كما زار بلاد الشام ورحل الى الحبشة . إتصل بعظماء العرب آنذاك فأكرموه خوفاً من لسانه . أعتبر من أوائل الشعراء الذين استخدموا الشعر سبيلاً لكسب المال لدى الملوك . كان من ألمع الوجوه كل عام في عكاظ . أكبره النقاد القدامى لكنهم أخذوا عليه فنه وسلوكه الاباحي . إشتهر بأنه صناجة العرب لكثرة مراودته لمجالس الشرب والطرب ولما في شعره من موسيقى الغزل والتغني بالمرأة والخمرة والمتعة .

جال الاعشى الاكبر بين أطراف الجزيرة العربية فتقرب من ملوك الغساسنة والمناذرة واليمن والحبش واختلط بالفرس والروم والاحباش ، وقال الشعر في قضايا عصره الجاهلي من حرب وصراع بين القبائل والمفاخرة والمصاولة في الميادين التقليدية . كانت شاعريته جامعة ، تحيط بأوصاف الجزالة ، تقدر على إعادة خلق المنظر والمعاناة الذاتية . حوّل الموضوعات المتوارثة الى لوحات فنية جديدة ، وحاول ان يقاوم طغيان تقاليد الشعر الجاهلي ، فابتكر لنفسه منجاة في شعر الخمر والغزل . وهنا انطلقت قريحته وتفتقت عن كثير من المبتكرات التي اعتبرت منطلقاً لفن الشعر الخمري عند العرب .

فجر الاعشى الاكبر شخصية الفنان الجاهلي ومنحه حرية المعاناة من دون رقابة من القيم العامة . كانت مطالع قصائده صريحة في غزلها. فهو لا يفتنه من المرأة إلا جسدها وأنوثتها. وقصصه مع النساء قصص إتصال وانفصال واقبال وتمتع . يعرض لحبه للمرأة وادمانه للخمرة وكأن ذلك سبباً للحياة ذاتها . فهو يُقبل على المتعة ببساطة تصل الى حد السطحية وبموقف الامبالاة .

واذا كان ثمة ما يميزه حقاً فهو ولعه بالخمرة وتلذذه بها ، وكذلك ولعه بالمرأة ومراودتها ومطاردتها ولذة الانتصار عليها . وكانت القصيدة الجاهلية هي المستفيد الاكبر في هذا الولع اذ أدخل عليها الاعشى حركة الحوار وتتابع الصور ومواقف الجذب والنبذ بين الحبيبين . وهكذا خطا الاعشى بالشعر الجاهلي خطوات كبيرة ، إن في الصياغة ام في فن البلاغة والتشبيه التصويري.

 جاء في كتاب الأغاني للأصفهاني: ((الأعشى هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. ويكنى أبا بصير.

لقب أبيه قتيل الجوع: وكان يقال لأبيه قيس بن جندل قتيل الجوع، وسمي بذلك لأنه دخل غارا يستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل فسدت فم الغار فمات فيه جوعاً. فقال فيه جهنام واسمه عمرو وهو من قومه من بني قيس بن ثعلبة يهجوه وكانا يتهاجيان:

أبوك قتيل الجوع قيس بن جندلٍ

 

وخالك عبدٌ من خماعة راضعٌ

شاعر جاهلي: وهوأحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم وتقدم على سائرهم، وليس ذلك بمجمع عليه لا فيه ولا في غيره.

أشعر الناس إذا طرب: أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال سألت يونس النحوي: من أشعر الناس؟ قال: لا اوميء إلى رجل بعينه ولكني أقول: امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب.

قبيلته أشعر القبائل عند حسان: أخبرني ابن عمار عن ابن مهرويه عن حذيفة بن محمد عن ابن سلام بمثله.

أخبرني عمي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه وأبي مسكين.

أن حسان سئل: من أشعر الناس؟ فقال: أشاعر بعينه أم قبيلة؟ قالوا: بل قبيلة. قال: الزرق من بني قيس بن ثعلبة، وهذا حديث يروى أيضاً عن غير حسان.

فاخر ابن شفيع بقبيلته بني ثعلبة عبد العزيز بن زرارة: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن ابن مهرويه قال حدثنا عبدة بن عصمة عن فراس بن خندف عن علي بن شفيع قال: إني لواقفٌ بسوق حجر إذ أنا برجل من هيئته وحاله عليه مقطعات خزٍ وهو على نجيب مهري عليه رحل لم أر قط أحسن منه وهو يقول: من يفاخرني من ينافرني ببني عامر بن صعصعة فرساناً وشعراء وعدداً وفعالاً ؟! قلت: أنا. قال: بمن؟ قلت: ببني ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. فقال: أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنافرة؟ ثم ولى هارباً. قلت: من هذا؟ قيل: عبد العزيز بن زرارة بن جزء بن سفيان الكلابي.

هو صناجة العرب: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال: قال أبو عبيدة: من قدم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره. ويقال: هو أول من سأل بشعره، وانتجع به أقاصي البلاد. وكان يغنى في شعره، فكانت العرب تسميه صناجة العرب.

أخبرني المهلبي والجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال: سمعت خلاداً الأرقط يقول سمعت خلفاً الأحمر يقول: لا يعرف من أشعر الناس كما لايعرف من أشجع الناس ولا من كذا ولا من كذا، لأشياء ذكرها خلفٌ ونسيتها أنا. أبو زيد عمر بن شبة يقول هذا.

كان أبو عمرو بن العلاء يقدمه: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف قال حدثني عمي إسماعيل بن أبي محمد قال أخبرني أبي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقدم الأعشى.

سئل مروان بن أبي حفصة عن أشعر الناس فقدمه بشعره: وقال هشام بن الكلبي أخبرني أبو قبيصة المجاشعي أن مروان ابن أبي حفصة سئل: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:

كلا أبويكم كان فرع دعـامةٍ

 

ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصاً

يعني الأعشى.

قدمه حماد على جميع الشعراء حين سأله المنصور عن ذلك: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي قال قال سلمة بن نجاح أخبرني يحيى بن سليم الكاتب قال: بعثني أبو جعفر أمير المؤمنين بالكوفة إلى حماد الراوية أسأله عن أشعر الشعراء. قال: فأتيت باب حماد فاستأذنت وقلت: يا غلام ! فأجابني إنسانٌ من أقصى بيتٍ في الدار: فقال: من أنت؟ فقلت: يحيى بن سليم رسول أمير المؤمنين. قال: ادخل رحمك الله ! فدخلت أتسمت الصوت حتى وقفت على باب البيت، فإذا حمادٌ عريانٌ على فرجه دستجة شاهسفرم. فقلت: إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس. فقال: نعم ! ذلك الأعشى صناجها.

أوصى أبو عمرو بن العلاء الناس بشعره: أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال سمعت أبا عبيدة يقول سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: عليكم بشعر الأعشى، فإني شبهته بالبازي يصيد ما بين العندليب إلى الكركي.

وضعه جني في المرتبة الثالة بعد امرئ القيس وطرفة: أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال سمعت أبا عبيدة يقول: بلغني أن رجلاً من أهل البصرة حج وروى هذا الحديث ابن الكلبي عن شعيب بن عبد الرحمن أبي معاوية النحوي عن رجلاٍ من أهل البصرة أنه حج قال فإني لأسير في ليلةٍ إضحيانةٍ إذ نظرت إلى رجلٍ شاب راكبٍ على ظليم قد زمه بخطامه وهو يذهب عليه ويجيء، وهو يرتجز ويقول:

هل يبلغنيهم إلى الصباح

 

هقلٌ كأن رأسه جماح

الجماح: أطراف النبت الذي يسمى الحلي وهو سنبلة، إلا أنه ليس بخشن يشبه أذناب الثعالب . قال: والجماح أيضاً سهيم يلعب به الصبيان يجعلون مكان زجه طيناً قال: فعلمت بأنه ليس بإنسي، فاستوحشت منه. فتردد علي ذاهباً وراجعاً حتى أنست به؛ فقلت: من أشعر الناس يا هذا؟ قال: الذي يقول:

وما ذرفت عيناك إلى لتضربي

 

بسهميك في أعشار قلب مقتل

قلت: ومن هو؟ قال: امرؤ القيس. قلت: فمن الثاني؟ قال: الذي يقول:

تطرد القر بحرً سـاخـنٍ

 

وعكيك القيظ إن جاء بقر

قلت: ومن يقوله؟ قال: طرفة. قلت: ومن الثالث؟ قال الذي يقول:

وتـبـرد بـرد رداء الـعـرو

 

س بالصيف رقرقت فيه العبيرا

قلت: ومن يقوله؟ قال: الأعشى، ثم ذهب به.

هو أستاذ الشعراء في الجاهلية وجرير أستاذهم في الإسلام: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أبو عدنان قال وقال لي يحيى بن الجون العبدي راوية بشار: نحن حاكة الشعر في الجاهلية والإسلام ونحن أعلم الناس به، أعشى بني قيس بن ثعلبة أستاذ الشعراء في الجاهلية. وجرير بن الخطفي أستاذهم في الإسلام.

حديث الشعبي عنه: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال: قال الشعبي: الأعشى أغزل الناس قي بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس قي بيت. فأما أغزل بيتٍ فقوله:

غراء فرعاء مصقولٌ عـوارضـهـا

 

تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل

وأما أخنث بيت فقوله:

قالت هريرة لما جئت زائرها

 

ويلي عليك وويلي منك يارجلٌ

وأما أشجع بيت فقوله:

قالوا الطراد فقلنا تلك عاداتنا

 

أو تنزلون فإنا معشرٌ نزل

حماد الراوية يسأل عن أشعر العرب فيجيب من شعره: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد قال ذكر الهيثم بن عدي أن حماد الراوية سئل عن أشعر العرب، قال الذي يقول:

نازعتهم قضب الريحان متئكاً

 

وقهوة مزةٌ راووقها خضل

كان قدرياً وكان لبيد مثبتاً: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا أبو علي العنزي قال حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال حدثني رجلٌ عن أبان بن تغلب عن سماك بن حرب قال قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى وكان نصرانياً عبادياً وكان معمراً قال: كان الأعشى قدرياً وكان لبيد مثبتاً. قال لبيد:

من هداه سبل الخير اهتدى

 

ناعم البا ومن شاء أضـل

وقال الأعشى.

إستأثر الله بالوفـاء وبـال

 

عدل وولى الملانة الرجلا

قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك.

هريرة عشيقته: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو شراعة في مجلس الرياشي قال حدثنا مشايخ بني قيس بن ثعلبة قالوا: كانت هريرة التي يشبب بها الأعشى أمةً سوداء لحسان بن عمرو بن مرثد.

وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن فراس بن الخندف قال: كانت هريرة وخليدة أختين قينتين كانتا لبشر بن عمرو بن مرثد، وكانتا تغنيانه النصب ، وقدم بهما اليمامة لما هرب من النعمان. قال ابن دريد فأخبرني عمي عن ابن الكلبي بمثل ذلك.

مدح المحلق الكلابي وذكر بناته فتزوجن: وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن الرياشي مما أجازه له عن العتبي عن رجل من قيس عيلان قال: كان الأعشى يوافي سوق عكاظ في كل سنة، وكان المحلق الكلابي مئناثاً مملقاً. فقالت له امرأته: يا أبا كلاب، ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر! فما رأيت أحداً اقتطعه إلى نفسه إلا وأكسبه خيراً. قال: ويحك! ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل !. قالت: الله يخلفها عليك. قال: فهل له بد من الشراب والمسوح ؟ قالت: إن عندي ذخيرةً لي ولعلي أن أجمعها. قال: فتلقاه قبل أن يسبق إليه أحدٌ وابنه يقوده فأخذ الخطام؛ فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ قال: المحلق. قال: شريفٌ كريم، ثم سلمه إليه فأناخه؛ فنحر له ناقته وكشط له عن سنامها وكبدها، ثم سقاه، وأحاطت بناته به يغمزنه ويمسحنه. فقال: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك وهن ثمانٍ شريدتهن قليلة. قال: وخرج من عنده ولم يقل فيه شيئاً. فلما وافى سوق عكاظ إذا هو بسرحةٍ قد اجتمع الناس عليها وإذا الأعشى ينشدهم.

لعمري لقد لاحت عيونٌ كثـيرةٌ

 

إلى ضوء نار باليفاع تحـرق

تشب لمقرورين يصطليانـهـا

 

وبات على النار الندى والمحلق

رضيعي لبان ثدي أمٍ تحالـفـا

 

بأسحم داجٍ عوض لا نتفـرق

فسلم عليه المحلق؛ فقال له: مرحباً يا سيدي بسيد قومه. ونادى: يا معاشر العرب، هل فيكم مذكارٌ يزوج ابنه إلى الشريف الكريم !. قال: فما قام من مقعده وفيهن مخطوبةٌ إلا وقد زوجها. وفي أول القصيدة عناء وهو: صوت

أرقت وما هذا السهاد الـمـؤرق

 

وما بي من سقمٍ وما بي معشـق

ولكن أرانـي لا أزال بـحـادثٍ

 

أغادى بما لم يمس عندي وأطرق

غناه ابن محرز خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لحنٌ ليونس من كتابه غير مجنس. وفيه لابن سريج ثقيلٌ بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو.

اسم المحلق الكلابي وسبب كنيته وسبب اتصاله بالأعشى: أخبرني أبو العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: اسم المحلق عبد العزى بن حنتم بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد وهو أبو بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وإنما سمي محلقاً لأن حصاناً له عضه في وجنته فحلق فيه حلقة.

قال: وأنشد الأعشى قصيدته هذه كسرى ففسرت له؛ فلما سمعها قال: إن كان هذا سهر لغير سقم ولا عشق فما هو إلا لص.

وذكر علي بن محمد النوفلي في خبر المحلق مع الأعشى غير هذه الحكايات، وزعم أن أباه حدثه عن بعض الكلابيين من أهل البادية قال: كان لأبي المحلق شرفٌ فمات وقد أتلف ماله، وبقي المحلق وثلاث أخواتٍ له ولم يترك لهم إلا ناقةً واحدة وحلتي برودٍ حبرة كان يشهد فيهما الحقوق . فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق، فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه. فأقبلت عمة المحلق فقالت: يابن أخي ! هذا الأعشى قد نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء، والعرب تزعم أنه لم يمدح قوماً إلا رفعهم، ولم يهج قوماً إلا وضعهم؛ فانظر ما أقول لك واحتل في زقٍ من خمر من عند بعض التجار فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردي أبيك؛ فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردين، ليقولن فيك شعراً يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة، وأنا أتوقع رسلها . فأقبل يدخل ويخرج ويهم ولا يفعل؛ فكلما دخل على عمته حضته؛ حتى دخل عليها فقال: قد ارتحل الرجل ومضى. قالت: الآن والله أحسن ما كان القرى ! تتبعه ذلك مع غلام أبيك مولىً له أسود شيخٍ فحيثما لحقه أخبره عنك أنك كنت غائباً عن الماء عند نزوله إياه، وأنك لما وردت الماء فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه؛ فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فلم تزل تحضه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمرٍ وأتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه؛ فوجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى أبيه فخرج يتبعه؛ فكلما مر بماء قيل: ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزل الأعشى بمنفوحة اليمامة فوجد عنده عدة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وصب لهم فضيخاً فهم يشربون منه، إذ قرع الباب فقال: انظروا من هذا؟ فخرجوا فإذا رسول المحلق يقول كذا وكذا. فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت. فقال: ويحكم ! أعرابيٌ والذي أرسل إلي لا قدر له ! والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعراً لم أقل قط مثله. فواثبه الفتيان وقالوا: غبت عنا فأطلت الغيبة ثم أتيناك فلم تطعمنا لحماً وسقيتنا الفضيخ واللحم والخمر ببابك، لا نرضى بدا منك. فقال: ائذنوا له؛ فدخل فأدى الرسالة وقد أناخ الجزور بالباب ووضع الزق والبردين بين يديه. قال: أقره السلام وقل له: وصلتك رحمٌ، سيأتيك ثناؤنا. وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها وجلدها عن سنامها ثم جاءوا بهما، فأقبلوا يشوون، وصبوا الخمر فشربوا، وأكل معهم وشرب ولبس البردين ونظر إلى عطفيه فيهما فأنشأ يقول:

أرقت وما هذا السهاد المؤرق

حتى انتهى إلى قوله:

أيا مسمعٍ سار الذي قد فعلـتـم

 

فأنجد أقوامٌ به ثـم أعـرقـوا

هب تعقد الأحمال في كل منزلٍ

 

وتعقد أطراف الحبال وتطلـق

قال: فسار الشعر وشاع في العرب. فما أتت على المحلق سنةٌ حتى زوج أخواته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرف.

وذكر الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن معقل عن أبي بكر الهلالي قال: خرج الأعشى إلى اليمن يريد قيس بن معد يكرب، فمر ببني كلاب، فأصابه مطرٌ في ليلة ظلماء، فأوى إلى فتىً من بني بكر بن كلاب، فبصر به المحلق وهو عبد العزى بن حنتم بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد بن كلاب وهو يومئذ غلامٌ له ذؤابة، فأتى أمه فقال: يا أمه رأيت رجلاً أخلق به أن يكسبنا مجداً. قالت: وما تريد يا بني؟ قال: نضيفه الليلة. فأعطته جلبابها فاشترى به عشيراً من جزور وخمراً؛ فأتى الأعشى، فأخذه إليه، فطعم وشرب واصطلى، ثم اصطبح فقال فيه:

أرقت وما هذا السهاد المؤرق

والرواية الأولى أصح.

سألته امرأة أن يشبب ببناتها فشبب بهن فزوجهن: أخبرني أحمد بن عمار قال حدثنا يعقوب بن نعيم قال حدثنا قعنب بن المحرز عن الأصمعي قال حدثني رجلٌ قال: جاءت امرأة إلى الأعشى فقالت: إن لي بناتٍ قد كسدن علي، فشبب بواحدة منهن لعلها أن تنفق. فشبب بواحدة منهن، فما شعر الأعشى إلا بجزور قد بعث به إليه. فقال: ما هذا؟ فقالوا: زوجت فلانة. فشبب بالأخرى فأتاه مثل ذلك، فسأل عنها فقيل: زوجت. فما زال يشبب بواحدة فواحدة منهن حتى زوجن جميعاً.

أسره رجل من كلب كان قد هجاه فاستوهبه منه شريح بن السموءل: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا يحيى بن أبي سعيد الأموي عن محمد بن السائب الكلبي قال: هجا الأعشى رجلاً من كلب فقال:

بنو الشهر الحرام فلست منهم

 

ولست من الكرام بني عبيد

ولا من رهط جبار بن قرطٍ

 

ولا من رهط حارثة بن زيد

- قال: وهؤلاء كلهم من كلب فقال الكلبي: لا أبا لك ! أنا أشرف من هؤلاء. قال: فسبه الناس بعد بهجاء الأعشى إياه، وكان متغيظاً عليه. فأغار على قوم قد بات فيهم الأعشى فأسر منهم نفراً وأسر الأعشى وهو لا يعرفه، ثم جاء حتى نزل بشريح بن السموءل بن عادياء الغساني صاحب تيماء بحصنه الذي يقال له الأبلق. فمر شريحٌ بالأعشى؛ فناداه الأعشى:

شريح لا تتركني بعد ما علـقـت

 

حبالك اليوم بعد القد أظـفـاري

قد جلت ما بين بانقيا إلـى عـدنٍ

 

وطال في العجم تردادي وتسياري

فكان أكرمهم عهداً وأوثـقـهـم

 

مجداً أبوك بعزفٍ غير إنـكـار

كالغيث ما استمطروه جاد وابلـه

 

وفي الشدائد كالمستأسد الضـاري

كن كالسموءل إذ طاف الهمام بـه

 

في جحفلٍ كهزيع اللـيل جـرار

إذ سامه خطتي خسفٍ فقـال لـه

 

قل ما تشاء فإني سـامـعٌ حـار

فقال غدرٌ وثكلٌ أنت بـينـهـمـا

 

فاختر وما فيهما حظٌ لمخـتـار

فشك غير طـويلٍ ثـم قـال لـه

 

اقتل أسيرك إني مانـعٌ جـاري

وسوف يعقبنيه إن ظـفـرت بـه

 

ربٌ كريمٌ وبيضٌ ذات أطـهـار

لا سرهن لـدينـا ذاهـبٌ هـدراً

 

وحافظات إذا استودعن أسراري

فاختار أدراعه كي لا يسب بـهـا

 

ولم يكن وعده فيهـا بـخـتـار

قال: وكان امرؤ القيس بن حجر أودع السموءل بن عادياء أدراعاً مائةً، فأتاه الحارث بن ظالم ويقال الحارث بن أبي شمر الغساني ليأخذها منه، فتحصن منه السموءل؛ فأخذ الحارث ابناً له غلاماً وكان في الصيد، فقال: إما أن سلمت الأدراع إلي وإما أن قتلت ابنك. فأبى السموءل أن يسلم إليه الأدراع؛ فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه قطعتين، فيقال: إن جريراً حين قال للفرزدق:

بسيف أبي رغوان سيف مجـاشـعٍ

 

ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم

إنما عني هذه الضربة. فقال السموءل في ذلك:

وفيت بذمة الكنـدي إنـي

 

إذا ما ذم أقـوامٌ وفـيت

وأوصى عاديا يوماً بأن لا

 

تهدم يا سموءل ما بنـيت

بنى لي عاديا حصناً حصيناً

 

وماءً كلما شئت استقـيت

قال: فجاء شريح إلى الكلبي فقال له: هب لي هذا الأسير المضرور. فقال: هو لك، فأطلقه. وقال: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك. فقال له الأعشى: إن من تمام صنيعتك أن تعطيني ناقةً نجيبة وتخليني الساعة. قال: فأعطاه ناقةً فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى. فأرسل إلى شريح: ابعث إلى الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه. فقال: قد مضى. فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه.

تزوج امرأة من عنزة ثم طلقها وقال فيها شعراً: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل وغيره من أصحابه: أن الأعشى تزوج امرأة من عنزة ثم من هزان قال: وعنزة هو ابن أسد بن ربيعة بن نزار فلم يرضها ولم يستحسن خلقها، فطلقها وقال فيها:

بيني حصان الفرج غير ذمـيمةٍ

 

وموموقةً فينا كذاك ووامـقـه

وذوقي فتى قـومٍ فـإنـي ذائقٌ

 

فتاة أناسٍ مثل ما أنـت ذائقـه

لقد كان في فتيان قومك منكـحٌ

 

وشبان هزان الطوال الغرانقه

فبيني فإن البين خيرٌ من العصا

 

وإلا تري لي فوق رأسك بارقه

وما ذاك عندي أن تكوني دنـيئةً

 

ولا أن تكوني جئت عندي ببائقه

ويا جارتا بيني فإنك طـالـقـه

 

كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه

المرجع: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

من قصائده:..