قيس بن ذريح

قـيس بـن ذريـح
تو. 688 م

هو قيس بن ذريح بن سنة بن حذافة الكناني.

كان أخ
الإمام الحسين في الرضاعة، أذ إن أم قيس أرضعت الإمام الحسين.

اشتهر بقيس لبنى لأنه أحب لبنى بنت الحباب الكعبية التي أحبته بدورها، فدافع أبوه عن ذلك إلى أن توسط الامام الحسين، وهكذا تزوج قيس من لبنى ولكن لم يرزقا أولاداً، فأكره ذريح ابنه قيساً على طلاق لبنى فأثر ذلك في عقله وجعل يهيم على وجهه. وتطاول شقاء العاشقين فماتت لبنى ثم مات قيس وشيكاً بعدها ودفن إلى جانبها.

قيس بن ذريح من عشاق العرب المشهورين. معظم شعره في لبنى، شعر جميل المعاني سهل التراكيب، متين السبك، وأكثره مقطعات وقد تطول قصائده.

قال أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني": ((هو، فيما ذكر الكلبي والقحذمي وغيرهما، قيس بن ذريح بن سنة بن حذافة بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة وهو علي بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. وذكر أبو شراعة القيسي أنه قيس بن ذريح بن الحباب بن سنة؛ وسائر النسب متفق. واحتج بقول قيس:

فإن يك تهيامي بلبنى غـوايةً

 

فقد يا ذريح بن الحباب غويت

وذكر القحذمي أن أمه بنت سنة بن الذاهل بن عامر الخزاعي، وهذا هو الصحيح؛ وأنه كان له خال يقال له عمرو بن سنة شاعر، وهو الذي يقول:

ضربوا الفيل بالمغمس حتى

 

ظل يحبو كأنه محـمـوم

وفيه يقول قيس:

أنبئت أن لخالي هجمةً حبـسـاً

 

كأنهن بجنب المشعر النـصـل

قد كنت فيما مضى قدماً تجاورنا

 

لا ناقةٌ لك ترعاها ولا جـمـل

ما ضر خالي عمراً لو تقسمهـا

 

بعض الحياض وجم البئر محتفل

هو رضيع الحسين بن علي: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال حدثني أحمد بن القاسم بن يوسف قال حدثني جزء بن قطن قال حدثنا جساس بن محمد بن عمرو أحد بني الحارث بن كعب عن محمد بن أبي السري عن هشام بن الكلبي قال حدثني عدد من الكنانيين: أن قيس بن ذريح كان رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، أرضعته أم قيس.

أخبرنا بخبر قيس ولبنى امرأته جماعةٌ من مشايخنا في قصص متصلة ومنقطة وأخبار منثورة ومنظومةٍ، فألفت ذلك أجمع ليتسق حديثه إلا ما جاء مفرداً وعسر إخراجه عن جملة النظم فذكرته على حدة. فممن أخبرنا بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة ولم يتجاوزه إلى غيره، وإبراهيم بن محمد بن أيوب عن ابن قتيبة، والحسن بن علي عن محمد بن موسى بن حماد البربري عن أحمد بن القاسم بن يوسف عن جزء بن قطن عن جساس بن محمد عن محمد بن أبي السري عن هشام بن الكلبي وعلى روايته أكثر المعول. ونسخت أيضاً من أخباره أيضاً المنظومة أشياء ذكرها القحذمي عن رجاله، وخالد بن كلثوم عن نفسه ومن روى عنه، وخالد بن جمل ونتفاً حكاها اليوسفي صاحب الرسائل عن أبيه عن أحمد بن حماد عن جميل عن ابن أبي جناح الكعبي. وحكيت كل متفقٍ فيه متصلاً، وكل مختلف في معانيه منسوباً إلى راويه. قالوا جميعاً: كان منزل قومه في ظاهر المدينة، وكان هو وأبوه من حاضرة المدينة. وذكر خالد بن كلثوم أن منزله كان بسرف واحتج بقوله:

الحمد لله قد أمست مـجـاورةً

 

أهل العقيق وأمسينا على سرف

قالوا: فمر قيس لبعض حاجته بخيام بني كعب بن خزاعة، فوقف على خيمة منها والحي خلوف والخيمة خيمة لبنى بنت الحباب الكعبية، فاستسقى ماءً، فسقته وخرجت إليه به، وكانت امرأةً مديدة القامة شهلاء حلوة المنظر والكلام. فلما رآها وقعت في نفسه، وشرب الماء. فقالت له: أتنزل فتتبرد عندنا؟ قال: نعم. فنزل بهم. وجاء أبوها فنحر له وأكرمه. فانصرف قيس وفي قلبه من لبنى حرٌ لا يطفأ، فجعل ينطق بالشعر فيها حتى شاع وروي. ثم أتاها يوماً آخر وقد اشتد وجده بها، فسلم فظهرت له وردت سلامه وتحفت به؛ فشكا إليها ما يجد بها وما يلقى من حبها، وشكت إليه مثل ذلك فأطالت؛ وعرف كل واحد منهما ما له عند صاحبه. فانصرف إلى أبيه وأعلمه حاله وسأله أن يزوجه إياها. فأبى عليه وقال: يا بني، عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك. وكان ذريح كثير المال موسراً، فأحب ألا يخرج ابنه إلى غريبة. فانصرف قيس وقد ساءه ما خاطبه أبوه به. فأتى أمه فشكا ذلك إليها واستعان بها على أبيه، فلم يجد عندها ما يحب. فأتى الحسين بن علي بن أبي طالب وابن أبي عتيق فشكا إليهما ما به وما رد عليه أبوه. فقال له الحسين: أنا أكفيك. فمشى معه إلى أبي لبنى. فلما بصر به أعظمه ووثب إليه، وقال له: يابن رسول الله، ما جاء بك؟ ألا بعثت إلي فأتيتك ! قال: إن الذي جئت فيه يوجب قصدك وقد جئتك خاطباً ابنتك لبنى لقيس بن ذريح. فقال: يا بن رسول الله، ما كنا لنعصي لك أمراً وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمر إلينا أن يخطبها ذريح أبوه علينا وأن يكون ذلك عن أمره، فإنا نخاف إن لم يسع أبوه في هذا أن يكون عاراً وسبةً علينا. فأتى الحسين رضي الله عنه ذريحاً وقومه وهم مجتمعون، فقاموا إليه إعظاماً له وقالوا له مثل قول الخزاعيين. فقال لذريح: أقسمت عليك إلا خطبت لبنى لابنك قيس. قال: السمع والطاعة لأمرك. فخرج معه في وجوه من قومه حتى أتوا لبنى فخطبها ذريحٌ على ابنه إلى أبيها فزوجه إياها، وزفت إليه بعد ذلك.

فأقامت معه مدة لا ينكر أحدٌ من صاحبه شيئاً. وكان أبر الناس بأمه، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت امه في نفسها وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري؛ ولم تر للكلام في ذلك موضع حتى مرض مرضاً شديداً. فلما برأ من علته قالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيسٌ وما يترك خلفاً وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة ، فزوجه بغيرها لعل الله يرزقه ولداً، وألحت عليه في ذلك. فأمهل قيساً حتى إذا اجتمع قومه دعاه فقال: يا قيس، إنك اعتللت هذه العلة فخفت عليك ولا ولد لك ولا لي سواك. وهذه المرأة ليست بولود؛ فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله أن يهب لك ولداً تقر به عينك وأعيننا. فقال قيس: لست متزوجاً غيرها أبداً. فقال له أبوه: فإن في مالي سعةً فتسر بالإماء. قال: ولا أسوءها بشيء أبداً والله. قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلقتها. فأبى وقال: الموت والله علي أسهل من ذلك، ولكني أخيرك خصلةً من ثلاث خصال. قال: وما هي؟ قال: تتزوج أنت فلعل الله أن يرزقك ولداً غيري. قال: فما في فضلة لذلك. قال: فدعني أرتحل عنك بأهلي واصنع ما كنت صانعاً لو مت في علتي هذه. قال: ولا هذه. قال ك فأدع لبنى عندك وأرتحل عنك فلعلي أسلوها فإني ما أحب بعد أن تكون نفسي طيبة أنها في خيالي. قال: لا أرضى أو تطلقها، وحلف لا يكنه سقف بيت أبداً حتى يطلق لبنى ،فكان يخرج فيقف في حر الشمس، ويجيء قيسٌ فيقف إلى جانبه فيظله بردائه ويصلى هو بحر الشمس حتى يفيء الفيء فينصرف عنه، ويدخل إلى لبنى فيعانقها وتعانقه ويبكي وتبكي معه وتقول له: يا قيس، لا تطع أباك فتهلك وتهلكني. فيقول: ما كنت لأطيع أحداً فيك أبداً. فيقال: إنه مكث كذلك سنةً وقال. خالد بن كلثوم: ذكر ابن عائشة أنه أقام على ذلك أربعين يوماً ثم طلقها. وهذا ليس بصحيح.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني يحيى بن معين قال حدثنا عبد الرزاق قال اخبرنا ابن جريج قال أخبرني عمر بن أبي سفيان عن ليث بن عمرو: أنه سمع قيس بن ذريج يقول لزيد بن سليمان: هجرني أبواي في لبنى عشر سنين أستأذن عليهما فيرداني حتى طلقتها. قال ابن جريح: وأخبرت أن عبد الله بن صفوان الطويل لقي ذريحاً أبا قيس فقال له: ما حملك على أن فرقت بينهما؟ أما علمت أن عمر بن الخطاب قال: ما أبالي أفرقت بينهما أو مشيت إليهما بالسيف. وروى هذا الحديث إبراهيم بن يسار الزمادي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال قال الحسين بن علي رضي الله عنهما لذريح بن سنة أبي قيس: أحل لك أن فرقت بين قيس ولبنى؟ ! أما إني سمعت عمر بن الخطاب يقول: ما أبالي أفرقت بين الرجل وامرأته أو مشيت إليهما بالسيف. قالوا: فلما بانت لبنى بطلاقه إياها وفرغ من الكلام، لم يلبث حتى استطير عقله وذهب به ولحقه مثل الجنون. وتذكر لبنى وحالها معه فأسف وجعل يبكي وينشج أحر نشيج. وبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحتملها، وقيل: بل أقامت حتى انقضت عدتها وقيسٌ يدخل عليها. فأقبل أبوها بهودج على ناقة وبإبل تحمل أثاثها. فلما رأى ذلك قيس أقبل على جاريتها فقال: ويحك ! ما دهاني فيكم؟ فقالت: لا تسألني وسل لبنى. فذهب ليلم بخبائها فيسألها، فمنعه قومها. فأقبلت عليه امرأة من قومه فقالت له: ما لك ويحك تسأل كأنك جاهلٌ أو تتجاهل! هذه لبنى ترتحل الليلة أو غداً. فسقط مغشياً عليه لا يعقل ثم أفاق وهو يقول:

وإني لمفنٍ دمع عيني بالبـكـا

 

حذار الذي قد كان أو هو كائن

وقالوا غداً أو بعد ذاك بـلـيلةٍ

 

فراق حبيبٍ لم يبن وهو بـائن

وما كنت أخشى أن تكون منيتي

 

بكفيك إلا أن ما حـان حـائن

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال زبير بن بكار حدثني عبد الجبار بن سعيد المساحقي عن محمد بن معن الغفاري عن أبيه عن عجوز لهم يقال حمادة بنت أبي مسافر قالت: جاورت آل ذريح بقطيع لي فيه الرائمة وذات البو والحائل والمتبع. قال: فكان قيس بن ذريح إلى شرفٍ في ذلك القطيع ينظر إلى ما يلقين فيتعجب. فقلما لبث حتى عزم عليه أبوه بطلاق لبنى فكاد يموت، ثم آلى أبوه لئن أقامت لا يساكن قيساً. فظعنت فقال:

أيا كبداً طارت صدوعاً نوافـذاً

 

ويا حسرتا ماذا تغلغل في القلب

فأقسم ما عمش العيون شوارفٌ

 

روائم بوٍ حائمات على سقـب

تشممنه لو يستطعنس ارتشفنـه

 

إذا سفنه يزددن نكباً على نكب

رئمن فما تنحاش مـنـهـن شـارفٌ

 

وحالفن حبساً في المحول وفي الجدب

بأوجد مني يوم ولـت حـمـولـهـا

 

وقد طلعت أولى الركاب من النقـب

وكل ملمات الـزمـان وجـدتـهـا

 

سوى فرقة الأحباب هينة الخـطـب

         

أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال سمعت ابن عائشة يقول: قال إسحاق بن الفضل الهاشمي: لم يقل الناس في هذا المعنى مثل قول قيس بن ذريح:

وكل مصيبات الزمان وجدتـهـا

 

سوى فرقة الأحباب هينة الخطب

قال وقال ابن النطاح قال أبو دعامة: خرج في فتية إلى بلادها حتى رآها، وشعره في ذلك: خرج قيس في قتية من قومه واعتل على أبيه بالصيد، فأتى بلاد لبنى، فجعل يتوقع أن يراها أو يرى من يرسل إليها. فاشتغل الفتيان بالصيد؛ فلما قضوا وطرهم منه رجعوا إليه وهو واقف، فقالوا له: لقد عرفنا ما أردت بإخراجنا معك وأنت لم ترد الصيد وأنما أردت لقاء لبنى، وقد تعذر عليك فانصرف الآن. فقال:

وما حائماتٌ حمن يومـاً ولـيلةً

 

على الماء يغشين العصي حوان

عوافي لا يصدرن عنه لوجـهةٍ

 

ولا هن من برد الحـياض دوان

يرين حبات الماء والموت دونـه

 

فهن لأصوات الـسـقـاة روان

بأجهد مني حر شـوقٍ ولـوعةٍ

 

عليك ولكن الـعـدو عـدانـي

خليلي إنـي مـيتٌ أو مـكـلـمٌ

 

لبينى بسري فامضـيا وذرانـي

أنل حاجتي لوحدي ويا رب حاجةٍ

 

قضيت على هولٍ وخوف جنان

فإن أحق النـاس ألا تـجـاوزا

 

وتطرحا من لو يشاء شفـانـي

ومن قادني للموت حتى إذا صفت

 

مشاربه السم الذعاف سقـانـي

قال: فأقاموا معه حتى لقيها، فقالت له: يا هذا، إنك متعرضٌ لنفسك وفاضحي. فقال لها:

صدعت القلب ثم زرت فيه

 

هواك فليم فالتأم الفطـور

تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ

 

ولا حزن ولم يبلغ سرور

أبو السائب المخزومي وشعر قيس: وقال القحذمي حدثني أبو الوردان قال حدثني أبي قال: أنشدت أبا السائب المخزومي قول قيس:

صدعت القلب ثم زرت فيه

 

هواك فليم فالتأم الفطـور

فصاح بجارية له سندية تسمى زبدة، فقال: أي زبدة عجلي. فقالت: أنا أعجن. فقال: ويحك! تعالي ودعي العجين. فجاءت فقال لي: أنشد بيتي قيس فأعدتهما. فقال لها: يا زبدة، أحسن قيس وإلا فأنت حرة ! إرجعي الآن إلى عجينك أدركيه لا يبرد.

قالوا: وجعل قيس يعاتب نفسه في طاعته أباه في طلاقه لبنى ويقول: فألا رحلت بها عن بلده فلم أر ما يفعل ولم يرني! فكان إذا فقدني أقلع عما يفعله وإذا فقدته لم أتحرج من فعله! وما كان علي لو اعتزلته وأقمت في حيها أو في بعض بوادي العرب، أو عصيته فلم أطعه ! هذه جنايتي على نفسي فلا لوم على أحد ! وهأنذا ميتٌ مما فعلته، فمن يرد روحي إلي! وهل لي سبيل إلى لبنى بعد الطلاق وكلما قرع نفسه وأنبها بلونٍ من التقريع والتأنيب بكى أحر بكاء وألصق خده بالأرض ووضعه على آثارها ثم قال: صوت

ويلي وعولي ومالي حين تفلتـنـي

 

من بعد ما أحرزت كفي بها الظفرا

قد قال قلبي لطرفي وهو يعـذلـه

 

هذا جزاؤك مني فاكدم الحـجـرا

قد كنت أنهاك عنها لو تطاوعـنـي

 

فاصبر فما لك فيها أجر من صبرا

غناه الغريض خفيف ثقيلٍ أول بالوسطى عن عمرو. وفيه لإبراهيم ثقيلٌ أول بالوسطى عن حبش. وفي الثالث والأول خفيف رملٍ يقال إنه لابن الهربذ.


قالوا وقال أيضاً:

بانت لبينى فأنت اليوم متـبـول

 

والرأي عندك بعد الحزم مخبول

أستودع الله لبنى إذ تفـارقـنـي

 

بالرغم مني وقول الشيخ مفعول

وقد أراني بلبنى حق مقـتـنـعٍ

 

والشمل مجتمعٌ والحبل موصول

قال خالد بن كلثوم وقال:

ألا ليت لبنى في خلاءٍ تزورني

 

فأشكو إليها لوعتي ثم ترجـع

صحا كل ذي لبٍ وكل مـتـيم

 

وقلبي بلبنى ما حييت مـروع

فيامن لقلبٍ ما يفيق من الهوى

 

ويامن لعينٍ بالصبابة تـدمـع

قالوا وقال في ليلته تلك:  

قد قلت للقلب لا لبناك فاعـتـرف

 

واقض اللبانة ما قضيت وانصرف

قد كنت أحلف جهداً لا أفارقـهـا

 

أفٍ لكثرة ذاك القيل والحـلـف

حتى تكنفني الواشون فافتـلـتـت

 

لا تأمنن أبداً من غش مكتـنـف

هيهات هيهات قد أمست مجـاورةً

 

أهل العقيق وأمسينا على سـرف

قال: وسرف على ستة أميال من مكة. والعقيق: واد باليمامة-

حي يمانون والبطحاء منزلنـا

 

هذا لعمرك شملٌ غير مؤتلف

من شعره في لبنى وقد سنحت له ظبية: قالوا: فلما أصبح خرج متوجهاً نحو الطريق الذي سلكته يتنسم روائحها، فسنحت له ظبيةٌ فقصدها فهربت منه فقال:

ألا يا شبه لبنى لا تراعي

 

ولا تتيممي قلل القلاع

وهي قصيدة طويلة يقول فيها:

فوا كبدي وعاودني رداعي

 

وكان فراق لبنى كالخداع

تكنفني الوشاة فأزعجونـي

 

فيا لله للواشي المـطـاع

فأصبحت الغداة ألوم نفسي

 

على شيءٍ وليس بمستطاع

كمغبونٍ يعض علـى يديه

 

تبين غبنه بعـد الـبـياع

بدار مضيعةٍ تركتك لبنـى

 

كذاك الحين يهدى للمضاع

وقد عشنا نلذ العيش حينـاً

 

لو أن الدهر للإنسان داع

ولكن الجميع إلى افتـراق

 

وأسباب الحتوف لها دواع

غناه الغريض من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لمعبد خفيف ثقيلٍ أول بالوسطى عن عمرو والهشامي. ولشارية في البيتين الأولين ثقيلٌ أول آخر بالوسطى. ولابن سريج رملٌ بالوسطى عن الهشامي في:

بدار مضيعةٍ تركتك لبنى

وقبله:

فوا كبدي وعاودني رداعي

ولسياطٍ في البيتين الأولين خفيف رملٍ بالبنصر عن حبش.

أغرت أمه فتيات الحي بأن يعبن عنده لبنى ليسلوها فلم يسل، وشعره في ذلك: حدثني عمي عن الكراني عن العتبي عن أبيه قال: بعثت أم قيس بن ذريح بفتيات من قومه إليه يعبن إليه لبنى ويعبنه بجزعه وبكائه ويتعرضن لوصاله، فأتينه فاجتمعن حواليه وجعلن يمازحنه ويعبن لبنى عنده ويعيرنه ما يفعله. فلما أطلن أقبل عليهن وقال: صوت

يقر بعيني قـربـهـا ويزيدنـي

 

بها كلفاً من كان عندي يعيبهـا

وكم قائلٍ قد قال تب فعصـيتـه

 

وتلك لعمري توبةٌ لا أتوبـهـا

فيا نفس صبراً لست والله فاعلمي

 

بأول نفسٍ غاب عنها حبيبـهـا

- غناه دحمان ثقيلاً أول بالوسطى. وفيه هزجٌ بالبنصر لسليم، وذكر حبش أنه لإسحاق - قال: فانصرفن عنه إلى أمه فأيأسنها من سلوته. وقال سائر الرواة الذين ذكرتهم: اجتمع إليه النسوة فأطلن الجلوس عنده ومحادثته وهو ساهٍ عنهن، ثم نادى: يا لبنى ! فقلن له: ما لك ويحك ! فقال: خدرت رجلي، ويقال: إن دعاء الإنسان باسم أحب الناس إليه يذهب عنه خدر الرجل فناديتها لذلك. فقمن عنه، وقال:

إذا خدرت رجلي تذكرت من لها

 

فناديت لبنى باسمهـا ودعـوت

دعوت التي لو أن نفسي تطيعني

 

لفارقتها من حبهـا وقـضـيت

برت نبلها للصيد لبنى وريشـت

 

وريشت أخرى مثلهـا وبـريت

فلما رمتني أقصدتني بسهمـهـا

 

وأخطأتها بالسهم حـين رمـيت

وفارقت لبنى ضلةً فكـأنـنـي

 

قرنت إلى العيوق ثـم هـويت

فيا ليت أني مت قبل فراقـهـا

 

وهل ترجعن فوت القضية ليت

فصرت وشيخي كالذي عثرت به

 

غداة الوغى بين العداة كمـيت

فقامت ولم تضرر هناك سـويةً

 

وفارسها تحت السنابـك مـيت

فإن يك تهيامي بلبـنـى غـوايةً

 

فقد يا ذريح بن الحباب غـويت

فلا أنت ما أملـت فـيّ رأيتـه

 

ولا أنا لبنى والـحـياة حـويت

فوطّن لهلكي منك نفساً فإنـنـي

 

كأنك بي قد يا ذريح قـضـيت

حديثه في مرضه مع عواده ومع طبيبه عن لبنى، وشعره في ذلك: وقال خالد بن كلثوم: مرض قيس، فسأل أبوه فتيات الحي أن يعدنه ويحدثنه لعله أن يتسلى أو يعلق بعضهن، ففعلن ذلك. ودخل إليه طبيب ليداويه والفتيات معه، فلما اجتمعن عنده جعلن يحادثنه وأطلن السؤال عن سبب علته، فقال: صوت  

عيد قيسٌ من حب لبنى ولبنى

 

داء قيسٍ والحب داءٌ شـديد

وإذا عادني الـعـوائد يومـاً

 

قالت العين لا أرى من أريد

ليت لبنى تعودني ثم أقضـي

 

إنها لا تعود فيمـن يعـود

ويح قيسٍ لقد تضمن منـهـا

 

داء خبلٍ فالقلب منه عمـيد

- غناه ابن سريج خفيف رملٍ عن الهشامي. وفيه للحجبي ثقيلٌ أول بالوسطى. وفيه ليحيى المكي رملٌ - قالوا: فقال له الطبيب: منذ كم هذه العلة؟ ومنذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت؟ فقال: صوت

تعلق روحي روحها قبل خلقنـا

 

ومن بعد ما كنا نطافاً وفي المهد

فزاد كما زدنا فأصبـح نـامـياً

 

وليس إذا متنا بمنصرم العـهـد

ولكنه باقٍ علـى كـل حـادثٍ

 

وزائرنا في ظلمة القبر واللحـد

- غناه الغريض ثقيلاً أول بالوسطى من رواية حبش - قالوا: فقال له الطبيب: إن مما يسليك عنها أن تتذكر ما فيها من المساوئ والمعايب وما تعافه النفس من أقذار بني آدم؛ فإن النفس تنبو حينئذٍ وتسلو ويخف ما بها. فقال:

إذا عبتها شبهتها البدر طـالـعـاً

 

وحسبك من عيبٍ لها شبه البـدر

لقد فضلت لبنى على الناس مثل ما

 

على ألف شهر فضلت ليلة القدر

صوت

إذا ما مشت شبراً من الأرض أرجفت

 

من البهر حتى ما تزيد على شـبـر

لها كفلٌ يرتج مـنـهـا إذا مـشـت

 

ومتنٌ كغصن اللبان مضطمر الخصر

- غنى في هذين البيتين ابن المكي خفيف رملٍ بالوسطى. وفيهما رمل ينسب إلى ابن سريج وإلى ابن طنبورة عن الهشامي - قالوا: ودخل أبوه وهو يخاطب الطبيب بهذه المخاطبة، فأنبه ولامه وقال له: يا بني ! الله الله في نفسك ! فإنك ميت إن دمت على هذا ! فقال:

وفي عروة العذري إن مت أسـوةٌ

 

وعمرو بن عجلان الذي قتلت هند

وبي مثل ما ماتا به غـير أنـنـي

 

إلى أجلٍ لم يأتني وقـتـه بـعـد

صوت

هل الحب إلا عبرةٌ بعد زفـرةٍ

 

وحرٌ على الأحشاء ليس له برد

وفيض دموع تستهـل إذا بـدا

 

لنا علمٌ من أرضكم لم يكن يبدو

غنى في هذين البيتين زيد بن الخطاب مولى سليمان بن أبي جعفر، وقيل: إنه مولى سليمان بن علي، ثقيلاً أول بالوسطى عن الهشامي.

إعجاب أبي السائب المخزومي بشعر له: وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير، وأخبرنا اليزيدي عن ثعلب عن الزبير قال حدثني إسماعيل بن أبي أويس قال: جلست أنا وأبو السائب في النبالين، فأنشدني قول قيس بن ذريح:

عيد قيسٌ من حب لبنى ولبنى

 

داء قيسٍ والحب داءٌ شـديد

ليت لبنى تعودني ثم أقضـي

 

إنها لاتعود فـيمـن يعـود

قال: فأنشدته أنا لقيس:

تعلق روحي روحها قبل خلقنـا

 

ومن بعد ما كنا نطافاً وفي المهد

فزاد كما زدنا وأصبـح نـامـياً

 

وليس إذا متنا بمنتقض العـهـد

ولكنه باقٍ علـى كـل حـادثٍ

 

وزائرنا في ظلمة القبر واللحـد

فحلف لا يزال يقوم ويقعد حتى يرويها. فدخل زقاق النبالين وجعلت أرددها عليه ويقوم ويقعد حتى رواها.

رجع الخبر إلى سياقته.

زوجه أبوه غيرها ليسلوها فتزوجت لبنى، وما قال في ذلك من الشعر: وقال خالد بن جمل: فلما طال على قيس ما به أشار قومه على أبيه بأن يزوجه امرأةً جميلة فلعله أن يسلو بها عن لبنى. فدعاه إلى ذلك فأباه وقال:

لقد خفت ألا تقنع النفس بعدهـا

 

بشيءٍ من الدنيا وإن كان مقنعا

وأزجر عنها النفس إذ حيل دونها

 

وتأبى إليها النفس إلا تطلـعـا

فأعلمهم أبوه بما رد عليه. قالوا: فمره بالمسير في أحياء العرب والنزول عليهم فلعل عينه أن تقع على امرأةٍ تعجبه. فأقسم عليه أبوه أن يفعل. فسار حتى نزل في حيٍ من فزارة، فرأى جاريةً حسناء قد حسرت برقع خزٍ عن وجهها وهي كالبدر ليلة تمه، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: لبنى. فسقط على وجهه مغشياً عليه، فنضحت على وجهه ماء وارتاعت لما عراه، ثم قالت: إن لم يكن هذا قيس بن ذريح إنه لمجنون !فأفاق فنسبته فانتسب. فقالت: قد علمت أنك قيس، ولكن نشدتك بالله وبحق لبنى إلا أصبت من طعامنا. وقدمت إليه طعاماً، فأصاب منه بإصبعه. وركب فأتى على أثره أخٌ لها كان غائباً، فرأى مناخ ناقته، فسألهم عنه فأخبروه، فركب حتى رده إلى منزله، وحلف عليه ليقيمن عنده شهراً. فقال له: لقد شققت علي، ولكني سأتبع هواك، والفزاري يزداد إعجاباً بحديثه وعقله وروايته، فعرض عليه الصهر. فقال له: يا هذا إن فيك لرغبةً، ولكني في شغل لا ينتفع بي معه. فلم يزل يعاوده والحي يلومونه ويقولون له: قد خشينا أن يصير علينا فعلك سبة. فقال: دعوني، ففي مثل هذا الفتى يرغب الكرام. فلم يزل به حتى أجابه وعقد الصهر بينه وبينه على أخته المسماة لبنى، وقال له: أنا أسوق عنك صداقها. فقال: أنا والله يا أخي أكثر قومي مالاً، فما حاجتك إلى تكلف هذا؟ أنا سائر إلى قومي وسائق إليها المهر. ففعل وأعلم أباه الذي كان منه، فسره وساق المهر عنه. ورجع إلى الفزاريين حتى أدخلت عليه زوجته، فلم يروه هش إليها ولا دنا منها ولا خاطبها بحرفٍ ولا نظر إليها. وأقام على ذلك أياماً كثيرة. ثم أعلمهم أنه يريد الخروج إلى قومه أياماً فأذنوا له في ذلك، فمضى لوجهه إلى المدينة. وكان له صديق من الأنصار بها؛ فأتاه فأعلمه الأنصاري أن خبر تزويجه بلغ لبنى فغمها وقالت: إنه لغدار ! ولقد كنت أمتنع من إجابة قومي إلى التزويج فأنا الآن أجيبهم، وقد كان أبوها شكى قيساً إلى معاوية وأعلمه تعرضه لها بعض الطلاق. فكتب إلى مروان بن الحكم يهدر دمه إن تعرض لها، وأمر أباها أن يزوجها رجلاً يعرف بخالد بن حلزة من بني عبد الله بن غطفان - ويقال: بل أمره بتزويجها رجلاً من آل كثير بن الصلت الكندي حليف قريش فزوجها أبوها منه قال: فجعل نساء الحي يقلن ليلة زفافها:

لبينى زوجها أصب

 

ح لا حر بـواديه

له فضلٌ على الناس

 

بما باتت تنـاجـيه

وقيسٌ مـيتٌ حـيٌ

 

صريعٌ في بواكيه

فلا يبعـده الـلـه

 

وبعداً لـنـواعـيه

قال: فجزع قيس جزعاً شديداً وجعل ينشج أحر نشيج ويبكي أحر بكاء. ثم ركب من فوره حتى أتى محلة قومها، فناداه النساء: ما تصنع الآن ها هنا ! قد نقلت لبنى إلى زوجها !. وجعل الفتيان يعارضونه بهذه المقالة وما أشبهها وهو لا يجيبهم حتى أتى موضع خبائها فنزل عن راحلته وجعل يتمعك في موضعها ويمرغ خده على ترابها ويبكي أحر بكاء. ثم قال: صوت

إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكـا

 

إلى الله فقـد الـوالـدين يتـيم

يتيمٌ جفاه الأقربون فـجـسـمـه

 

نحيلٌ وعهـد الـوالـدين قـديم

بكت دارهم من نأيهم فتهلـلـت

 

دموعي فاي الجـازعـين ألـوم

أمستعبراً يبكي من الشوق والهوى

 

أم آخر يبكـي شـجـوه ويهـيم

لابن جامع في البيتين الأولين ثقيلٌ أول بالوسطى عن الهشامي. ولعريب فيهما ثاني ثقيلٍ. وفي الثالث والرابع لمياسة خفيف رملٍ بالبنصر عن عمرو وحبش والهشامي وتمام هذه الأبيات، وليست فيها صنعة، قوله:

تهيضني من حب لبنى عـلائقٌ

 

وأصناف حبٍ هولهن عـظـيم

ومن يتعلق حب لبـنـى فـؤاده

 

يمت أو يعش ما عاش وهو كليم

فإني وإن أجمعت عنك تجـلـداً

 

على العهد فيما بيننا لـمـقـيم

وإن زماناً شتت الشمل بـينـنـا

 

وبينكم فيه الـعـدا لـمـشـوم

أفي الحق هذا أن قلبـك فـارغٌ

 

صحيح وقلبي في هواك سقـيم

وقد قيل: إن هذه الأبيات ليست لقيس وإنما خلطت بشعره. ولكنها في هذه الرواية منسوبة إليه.

شكاه أبوها إلى معاوية فأهدر دمه.

وقال ابن قتيبة في خبره عن الهيثم بن عدي، ورواه عمر بن شبة أيضاً: أن أبا لبنى شخص إلى معاوية فشكا إليه قيساً وتعرضه لابنته بعد طلاقه إياها. فكتب معاوية إلى مروان أبو سعيد بن العاص يهدر دمه إن ألم بها وأن يشتد في ذلك. فكتب مروان أو سعيد في ذلك إلى صاحب الماء الذي ينزله أبو لبنى كتاباً وكيداً، ووجهت لبنى رسولاً قاصداً إلى قيس تعلمه ما جرى وتحذره. وبلغ أباه الخبر فعاتبه وتجهمه وقال له: انتهى بك الأمر إلى أن يهدر السلطان دمك ! فقال:

صوت

فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها

 

مقـالة واشٍ أو وعـيد أمــير

فلن يمنعوا عيني من دائم البـكـا

 

ولن يذهبوا ما قد أجن ضمـيري

إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى

 

ومن حرقٍ تعتـادنـي و زفـير

ومن حرقٍ للحب في باطن الحشى

 

وليلٍ طويل الحزن غير قصـير

سأبكي على نفسي بعـينٍ غـزيرةٍ

 

بكاء حزينٍ في الـوثـاق أسـير

وكنا جميعاً قبل أن يظهر الهـوى

 

بأنعم حالـي غـبـطةٍ وسـرور

فما برح الواشون حتى بدت لهـم

 

بطون الهوى مقلوبةً لـظـهـور

لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا

 

ولكنما الـدنـيا مـتـاع غـرور

-هكذا في هذا الخبر أن الشعر لقيس بن ذريح. وذكر الزبير بن بكار أنه لجده عبد الله بن مصعب - غنى يزيد حوراء في الأول و الثاني والسادس والثالث من هذه الأبيات خفيف رملٍ بالوسطى. وغنى إبراهيم في الأول والثاني لحناً من كتابه غير مجنس. وذكر حبش أن فيهما لإسحاق خفيف ثقيلٍ بالوسطى. وفي الخامس وما بعده لعريب ثقيلٌ أول ابتداؤه نشيد. وقال ابن الكلبي في خبره: قال قيس في اهدار معاوية دمه إن زارها:

إن تك لبنى قد أتى دون قربهـا

 

حجابٌ منيعٌ ما إلـيه سـبـيل

فإن نسيم الجو يجمـع بـينـنـا

 

ونبصر قرن الشمس حين تزول

وأرواحنا باليل في الحي تلتقـي

 

ونعلم أنا بـالـنـهـار نـقـيل

وتجمعنا الأرض القرار وفوقنـا

 

سماء نرى فيها النجوم تـجـول

إلى أن يعود الدهر سلماً وتنقضي

 

تراثٌ بغاها عنـدنـا وذحـول

وروى القحذمي ها هنا:

فما غشيت عينيك من ذاك عبرة

 

وعيني على ما بي بذكراك تدمع

إذا أنت لم تبكي علـي جـنـازةً

 

لديك فلا تبكي غداً حين أرفـع

قال: فبلغتها الأبيات، فجزعت جزعاً شديداً وبكت بكاء كثيراً. ثم خرجت إليه ليلاً على موعد فاعتذرت وقالت: إنما أبقي عليك وأخشى أن تقتل، فأنا أتحاماك لذلك، ولو هذا لما افترقنا. وودعته وانصرفت.

قصته مع لبنى وزوجها وقد باعه ناقة وهو لا يعرفه: قال: ثم أتى قومه فاقتطع قطعةً من إبله وأعلم أباه أنه يريد المدينة ليبيعها ويمتار لأهله بثمنها. فعرف أبوه أنه إنما يريد لبنى، فعاتبه وجزره عن ذلك؛ فلم يقبل منه وأخذ إبله وقدم بها المدينة. فبينا هو يعرضها إذ ساومه زوج لبنى بناقة منها وهما لا يتعارفان، فباعه إياها. فقال له: إذا كان غدٌ فأتني في كثير بن الصلت فاقبض الثمن؛ قال: نعم. ومضى زوج لبنى إليها فقال لها: إني ابتعت ناقة من رجل من أهل البادية وهو يأتينا غداً ليقبض ثمنها، فأعدي له طعاماً، ففعلت. فلما كان من الغد جاء قيس فصوت بالخادم: قولي لسيدك: صاحب الناقة بالباب. فعرفت لبنى نغمته فلم تقل شيئاً. فقال زوجها للخادم: قولي له: ادخل، فدخل فجلس. فقالت لبنى للخادم: قولي له: يا فتى، مالي أراك أشعث أغبر؟ فقالت له ذلك. فتنفس ثم قال لها: هكذا تكون حال من فارق الأحبة واختار الموت على الحياة، وبكى. فقالت لها لبنى: قولي له: حدثنا حديثك. فلما ابتدأ يحدث به كشفت الحجاب وقالت: حسبك ! قد عرفنا حديثك! وأسبلت الحجاب. فبهت ساعة لايتكلم ثم انفجر باكياً ونهض فخرج. فناداه زوجها: ويحك ! ما قصتك؟ ارجع اقبض ثمن ناقتك، وإن شئت زدناك. فلم يكلمه وخرج فاغترز في رحله ومضى. وقالت لبنى لزوجها: ويحك ! هذا قيس بن ذريح. فما حملك على ما فعلت به؟ قال: ما عرفته. وجعل قيسٌ يبكي في طريقه ويندب نفسه ويوبخها على فعله.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز قال: تزوج رجل من أهل المدينة يقال له أبو درة امرأة كانت قبله عند رجل آخر من أهل المدينة يقال له أبو بطينة؛ فلقيه زوجها الأول فضربه ضربة شلت يده منها. فلقيه أبو السائب المخزومي فقال له: يا أبا درة! أضربك أبو بطينة في زوجته؟ قال: نعم. أما إني أشهد أنها ليست كما قال قيس بن ذريح في زوجته لبنى:

لقد كان فيها للأمانة موضـعٌ

 

وللكف مرتادٌ وللعين منظـر

وللحائم العطشان ري بريقهـا

 

وللمرح المختال خمر ومسكر

قال: وكانت زوجة أبي درة هذه سوداء كأنها خنفساء.

مرضه بعد هذه الحادثة: قال: وعاد إلى قومه بعد رؤيته إياها وقد أنكر نفسه وأسف ولحقه أمر عظيم؛ فأنكروه وسألوه عن حاله فلم يخبرهم، ومرض مرضاً شديداً أشرف منه على الموت. فدخل إليه أبوه ورجال قومه فكلموه وعاتبوه وناشدوه الله. فقال: ويحكم ! أتروني أمرضت نفسي أو وجدت لها سلوةً بعد اليأس فاخترت الهم والبلاء، أو لي في ذلك صنع ! هذا ما اختاره لي أبواي وقتلاني به. فجعل أبوه يبكي ويدعو به بالفرج والسلوة. فقال قيس:

لقد عذبتني يا حب لبنـى

 

فقع إما بموتٍ أو حـياة

فإن الموت أروح من حياةٍ

 

تدوم على التباعد والشتات

وقال الأقربون تعز عنهـا

 

فقلت لهم إذاً حانت وفاتي

دست إليه رسولاً يسأله لم تزوج حتى تزوجت هي:  قال: ودست إليه لبنى بعد خروجه رسولاً وقالت له: استنشده، فإن سألك عن سبتك فانتسب له خزاعياً، فإذا أنشدك فقل له: لم تزوجت بعدها حتى أجابت إلى أن تتزوج بعدك؟ واحفظ ما يقول لك حتى ترده علي. فأتاه الرسول فسلم وانتسب خزاعياً، وذكر أنه من أهل الشام واستنشده؛ فأنشده قوله:

فأقسم ما عمش العيون شوارفٌ

 

روائم بوٍ حانياتٌ على سقـب

وقد مضت هذه الأبيات فقال له رجل: فلم تزوجت بعدها؟ فأخبره الخبر، وحلف له أن عينه ما اكتحلت بالمرأة التي تزوجها، وأنه لو رأها في نسوةً ما عرفها، وأنه ما مد يده إليها ولا كلمها ولا كشف لها عن ثوب. فقال له الرجل: فأنني جارٌ لها وإنها من الوجد بك على حال قد تمنى زوجها معها أن تكون بقربها لتصلح حالها بك؛ فحملني إليها ما شئت أؤده إليها. قال: تعود إلي إذا أردت الرحيل، فعاد إليه لما أراد الرحيل. فقال تقول لها:

ألا حي لبنى اليوم إن كنت غـاديا

 

وألمم بها من قبل أن لا تـلاقـيا

وأهدِ لها منك النصـيحة إنـهـا

 

قليلٌ ولا تخشى الوشـاة الأدانـيا

وقل إنني والراقصات إلى منـى

 

بأجبل جمعٍ يتظرون الـمـنـاديا

أصونك عن بعض الأمور مضنةً

 

وأخشى عليك الكاشحين الأعـاديا

تساقط نفسي حين ألقاك أنفـسـاً

 

يردن فما يصـدرن إلا صـواديا

فإن أحيا أو أهلك فلسـت بـزائل

 

لكم حافظاً ما بل ريق لـسـانـيا

أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت

 

بها زفرةٌ تعتادني هي مـا هـيا

وبين الحشى والنحر مني حـرارةٌ

 

ولوعة وجدٍ تترك القلب ساهـيا

ألا ليت لبنى لم تكـن لـي خـلةً

 

ولم ترني لبنى ولم أدر مـا هـيا

سلي الناس هل خبرت سرك منهم

 

أخا ثقةٍ أو ظاهر الغـش بـاديا

يقول لي الواشون لما تظـاهـروا

 

عليك وأضحى الحبل للبين واهيا

لعمري لقبل اليوم حملت ما تـرى

 

وأنذرت من لبنى الذي كنت لاقيا

خليلي مالي قد بـلـيت ولا أرى

 

لبينى على الهجران إلا كما هـيا

ألا يا غراب البين مالك كـلـمـا

 

ذكرت لبينى طرت لي عن شماليا

أعندك علم الغيب أم لست مخبري

 

عن الحي إلا بالذي قد بـدا لـيا

جزعت عليها لو أرى لي مجزعاً

 

وأفنيت دمع العين لو كان فانـيا

حياتك لا تغلب علـيهـا فـإنـه

 

كفى بالذي تلقى لنفسك نـاهـيا

تمر الليالي والشـهـور ولا أرى

 

ولوعي بهـا يزداد إلا تـمـاديا

فما عن نوالٍ من لبينـى زيارتـي

 

ولا قلة الإلمام أن كنـت قـالـيا

ولكنها صدت وحملت من هـوىً

 

لها ما يؤود الشامخات الرواسـيا

وهذه القصيدة تخلط بقصيدة المجنون التي في وزنها وعلى قافيتها لتشابههما، فقلما يتميزان.

غنى الحسين بن محرز في البيت الأول والبيت الخامس من هذه القصيدة ثقيلاً أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى من روايتي بذل والهشامي.

أنب لبنى زوجها لافتضاح أمره بشعر قيس فغضبت: حدثني المدائني عن عوانة عن يحيى بن علي الكناني قال: شهر أمر قيس بالمدينة وغنى في شعره الغريض ومعبد ومالك وذووهم، فلم يبق شريف ولا وضيع إلا سمع بذلك فأطربه وحزن لقيس مما به. وجاءها زوجها فأنبها على ذلك وعاتبها وقال: قد فضحتني بذكرك. فغضبت وقالت: يا هذا، إني والله ما تزوجتك رغبة فيك ولا فيما عندك ولا دلس أمري عليك، ولقد علمت أني كنت زوجته قبلك وأنه أكره على طلاقي. ووالله ما قبلت التزويج حتى أهدر دمه إن ألم بحينا، فخشيت أن يحمله ما يجد على المخاطرة فيقتل، فتزوجتك. وأمرك الأن إليك، ففارقني فلا حاجة بي إليك. فأمسك عن جوابها وجعل يأتيها بجواري المدينة يغنينها بشعر قيس كيما يستصلحها بذلك؛ فلا تزداد إلا تمادياً وبعداً، ولا تزال تبكي كلما سمعت شيئاً من ذلك أحر بكاء وأشجاه.

وسط بريكة في لقائها، وشعره في ذلك: رجع الحديث إلى سياقته. وقال الحرمازي وخالد بن جمل: كانت امرأة من موالي بني زهرة يقال لها بريكة من أظرف النساء وأكرمهن، وكان لها زوج من قريش له دار ضيافة. فلما طالت علة قيس قال له أبوه: إني لأعلم أن شفاءك في القرب من لبنى فارحل إلى المدينة. فرحل إليها حتى أتى دار الضيافة التي لزوج بريكة. فوثب غلمانه إلى رحل قيس ليحطوه. فقال: لا تفعلوا فلست نازلاً أو ألقى بريكة فإني قصدتها في حاجة؛ فإن وجدت لها عندها موضعاً نزلت بكم وإلا رحلت. فأتوها فأخبروها. فخرجت إليه فسلمت عليه ورحبت به وقالت: حاجتك مقضيةٌ كائنةً ما كانت، فانزل. فنزل ودنا منها فقال: أذكر حاجتي؟ قالت: إن شئت. قال: أنا قيس بن ذريح. قالت: حياك الله وقربك ! إن ذكرك لجديدٌ عندنا في كل وقت. قال: وحاجتي أن أرى لبنى نظرةً واحدةً كيف شئت. قالت: ذلك لك علي. فنزل بهم وأقام عندها وأخفت أمره، ثم أهدى لها هدايا كثيرةً وقال: لاطفيها وزوجها بهذا حتى يأنس بك. ففعلت وزارتها مراراً، ثم قالت لزوجها: أخبرني عنك: أنت خيرٌ من زوجي؟ قال: لا. قالت: فلبنى خيرٌ مني؟ قال: لا. قالت: فما بالي أزورها ولا تزورني؟ قال: ذلك إليها. فأتتها وسألتها الزيارة وأعلمتها أن قيساً عندها. فتسارعت إلى ذلك وأتتها. فلما رأها ورأته بكيا حتى كادا يتلفان. ثم جعلت تسأله عن خبره وعلته فيخبرها، ويسألها فتخبره. ثم قالت: أنشدني ما قلت في علتك؛ فأنشدها قوله:

أعالج من نفسي بقايا حشـاشةٍ

 

على رمقٍ والعائدات تـعـود

فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها

 

كما هش للثدي الدرور ولـيد

أجيب بلبنى من دعاني تجـلـداً

 

وبي زفراتٌ تتجلى وتـعـود

تعيد إلى روحي الحياة وإننـي

 

بنفسي لوعاينـتـنـي لأجـود

قال: وفي هذه القصيدة يقول: صوت

ألا ليت أياماً مـضـين تـعـود

 

فإن عدن يوماً إنني لـسـعـيد

سقى دار لبنى حيث خلت وخيمت

 

من الأرض منهل الغمام رعود

شكا إلى يزيد ما به وامتدحه فحقن دمه:  -غنت في هذين البيتين ضنين جارية خاقان بن حامد خفيف رملٍ قالوا: ثم ارتحل إلى معاوية، فدخل إلى يزيد فشكا ما به إليه وامتدحه؛ فرق له وقال: سل ما شئت، إن شئت أن أكتب إلى زوجها فأحتم عليه أن يطلقها فعلت. قال: لا أريد ذلك، ولكن أحب أن أقيم بحيث تقيم من البلاد، أتعرف أخبارها وأقنع بذلك من غير أن يهدر دمي. قال: لو سألت هذا من غير أن ترحل إلينا فيه لما وجب أن تمنعه، فأقم حيث شئت؛ وأخذ كتاب أبيه له بأن يقيم حيث شاء وأحب ولا يعترض عليه أحد، وأزال ما كان كتب له في إهدار دمه؛ فقدم إلى بلده؛ وبلغ الفزاريين خبره وإلمامه بلبنى، فكاتبوه في ذلك وعاتبوه. فقال للرسول: قل للفتى يعني أخا الجارية التي تزوجها: يا أخي ما غررتك من نفسي ،ولقد أعلمتك أني مشغول عن كل أحد، وقد جعلت أمر أختك إليك فأمض فيه من حكمك ما رأيت. فتكرم الفتى على أن يفرق بينهما، فمكثت في حباله مدة ثم ماتت.

لقيه عياش السعدي ذاهلاً شارد اللب وأنشده من شعره فيها: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي عن أبيه قال: أقبلت ذات يوم من الغابة ؛ فلما كنت بالمذاد ، إذا ربعٌ حديث العهد بالساكن، وإذا رجل مجتمعٌ في جانب ذلك الربع يبكي ويحدث نفسه. فسلمت فلم يرد علي سلاماً. فقلت في نفسي: رجل ملتبسٌ به فوليت عنه. فصاح بي بعد ساعة: وعليك السلام، هلم هلم إلي يا صاحب السلام ! فأتيته فقال: أما والله لقد فهمت سلامك ولكني رجل مشترك اللب يضل عني أحياناً ثم يعود إلي. فقلت ومن أنت؟ قال: قيس بن ذريح الليثي. قلت صاحب لبنى؟ قال: صاحب لبنى لعمري وقتيلها! ثم أرسل عينيه كأنهما مزادتان؛ فما أنسى حسن قوله:

أبائنة لبنى ولم تقطـع الـمـدى

 

بوصلٍ ولا صرمٍ فييأس طامـع

نهاري نهار الوالهـين صـبـابةً

 

وليلي تنبو فيه عني المضـاجـع

وقد كنت قبل اليوم خلواً وإنـمـا

 

تقسم بين الهالكين الـمـصـارع

فلولا رجاء القلب أن تسعف النوى

 

لما حبسته بينـهـن الأضـالـع

له وجباتٌ إثر لبـنـى كـأنـهـا

 

شقائق برقٍ في السماء لـوامـع

أبى الله أن يلقى الرشـاد مـتـيمٌ

 

ألا كل أمـر حـم لابـد واقـع

هما برحابي معولين كـلاهـمـا

 

فؤادٌ وعينٌ جفنها الدهـر دامـع

عبد الله بن مسلم بن جندب ينشد من شعره: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا الزبير قال، وأخبرنا به وكيع عن أبي أيوب المديني، قال الزبير قال حدثتني ظبية قالت: سمعت عبد الله بن مسلم بن جندب ينشد زوجي قول قيس بن ذريح:

إذا ذكرت لبنى تأوه واشتـكـى

 

تأوه محموم عليه الـبـلابـل

يبيت ويضحي تحت ظل منـيةٍ

 

به رمقٌ تبكي عليه القـبـائل

قتيل للبنى صدع الحب قلـبـه

 

وفي الحب شغلٌ للمحبين شاغل

فصاح زوجي:أوه ! واحرباه واسلباه !. ثم أقبل على ابن جندب فقال: ويلك ! أتنشد هذا كذا ! قال: فكيف أنشده؟ قال: لم لا تتأوه كما يتأوه وتشتكي كما يشتكي!.

استنشده ابن أبي عتيق أحر ما قال في لبنى: وقال القحذمي: قال ابن أبي عتيق لقيس يوماً: أنشدني أحر ما قلت في لبنى. فأنشده قوله:

وإني لأهوى النوم في غير حينه

 

لعل لقاءً في المـنـام يكـون

تحدثني الأحـلام أنـي أراكـم

 

فيا ليت أحلام المـنـام يقـين

شهدت بأني لم أحل عن مـودةٍ

 

وأني بكم لو تعلمين ضـنـين

وأن فؤادي لا يلين إلى هـوى

 

سواك وإن قالوا بلى سـيلـين

فقال له بن أبي عتيق: لقل ما رضيت به منها يا قيس. قال: ذلك جهد المقل.

غنى في البتين الأولين قفا النجار ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش.

أنشد ثعلب من شعره وكان يستحسنه: أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب لقيس بن ذريح وكان يستحسن هذه الأبيات من شعره:  

سقى طلل الداري التي أنتم بهـا

 

حياً ثـم وبـلٌ صـيفٌ وربـيع

مضى زمنٌ والناس يستشفعون بي

 

فهل لي إلى لبنى الغداة شفـيع

سأصرم لبنى حبلك اليوم مجمـلاً

 

وإن كان صرم الحبل منك يروع

وسوف أسلي النفس عنك كما سلا

 

عن البلد النأي البـعـيد نـزيع

وإن مسني للضر مـنـك كـآبةٌ

 

وإن نال جسمي للفراق خشـوع

يقولون صب بالنسـاء مـوكـلٌ

 

وما ذاك من فعل الرجال بـديع

ندمت على ما كان منـي نـدامةً

 

كما ندم المغبـون حـين يبـيع

فقدتك من نفسٍ شعاعٍ ألـم أكـن

 

نهيتك عن هذا وأنـت جـمـيع

فقربت لي غير القريب وأشرفت

 

هناك ثنايا ما لـهـن طـلـوع

إلى الله أشكو نيةً شقت العـصـا

 

هي اليوم شتى وهي أمس جميع

فيا حجرات الدار حيث تحمـلـوا

 

بذي سلـمٍ لا جـادكـن ربـيع

 المرجع: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

من قصائده:..