قيس بن الملوح

توفي 687م

هو قيس بن معاذ ويقال له قيس بن الملوح أحد بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، لقب بالمجنون لذهاب عقله بشدة عشقه. وكان هو وصاحبته ليلى يرعيان البهم وهما صبيان فعلقهما علاقة الصبا وفي ذلك يقول :

تعلقت ليلى وهي غِرٌ صغيرةٌ                 ولم يبدُ للأترابِ من ثديها حجمُ
صبيان نرعى البُهمَ يا ليت أننا               إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهمُ

وقد حجبها أبوها فهام على وجهه ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش فيُرى حيناً في الشام وحيناً في الحجاز أو نجد إلى أن وجد مياً في الصحراء فحمل إلى أهله.

وفي الأغاني أن المجنون اسم مستعار لا حقيقة له في بني عامر أصل ولا نسب. وذكر ابن الأعرابي أن جماعة من بني عامر سئلوا عن المجنون فلم يعرفوه وذكروا أن ما ينسب إليه من شعر هو مؤلف عليه.

وحديث عن عوانة أنه قال: ثلاثة لم يكونوا قط ولا عرفوا: ابن أبي العقم صاحب قصيدة الملاحم، وابن القريّة ومجنون بني عامر.

قيل أنه أنشد هذين البيتين على أنهما للمجنون.

وخبرتماني أن تيماء منزل                 ليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور والصيف قد انقضت         فما للنوى ترمي بليلى المراميا

أما الأصمعي فكان يقول: رجلان ما عرفا في الدنيا قط إلا بالاسم: مجنون بني عامر وابن القرية وإنما وضعها الرواء. وقد أخذ الدكتور طه حسين بهذه النظرية وغيره كثيرون.

ويبقى أن قيس بن الملوح في نظر متذوقي الشعر شاعر عذري حمل لواء الغزل فأغناه، وتغنى به وبشعره المغنون ووضع الرواء والقصاص حوله الروايات والأقاصيص الغريبة.

وقال الأصفهاني في "الأغاني": ((هو - على ما يقوله من صحح نسبه وحديثه - قيسٌ، وقيل: مهدي، والصحيح أنه قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ومن الدليل على أن اسمه قيسٌ قول ليلى صاحبته فيه:

ألا ليت شعري والخطوب كثيرةٌ

 

متى رحل قيس مستقلٌ فراجع

وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال: سمعت من لا أحصي يقول: اسم المجنون قيس بن الملوح.

قيل كانت به لوثة ولم يكن مجنوناً، وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي، وأخبرني الجوهري عن عمر بن شبة أنهما سمعا الأصمعي يقول - وقد سئل عنه -: لم يكن مجنوناً ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري.

 بدء تعشقه ليلى: أخبرني بخبره في شغفه بليلى جماعةٌ من الرواة، ونسخت ما لم أسمع من الروايات وجمعت ذلك في سياقه خبره ما اتسق ولم يختلف، فإذا اختلف نسبت كل رواية إلى راويها.

فممن أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي، قالا: حدثنا عمر بن شبة عن رجاله وإبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، ونسخت أخباره من رواية خالد بن كلثوم وأبي عمرو الشيباني وابن دأبٍ وهشام بن محمد الكلبي وإسحاق بن الجصاص وغيرهم من الرواة.

قال أبو عمرو الشيباني وأبو عبيدة: كان المجنون يهوى ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة ابن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وتكنى أم مالكٍ، وهما حينئذ صبيان، فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت عنه، قال: ويدل على ذلك قوله:

صوت

تعلقت ليلـى وهـي ذات ذؤابةٍ

 

ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

 

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

في هذين البيتين للأخضر الجدي لحنٌ من الثقيل الثاني بالوسطى، ذكره هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات والهشامي.

أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية ونسخت هذا الخبر بعينه من خط هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثني أبو عتاب البصري عن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: بينا ابن مليكة يؤذن إذ سمع الأخضر الجدي يغني من دار العاص بن وائل:

وعلقتـهـا غـراء ذات ذوائبٍ

 

ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

 

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

قال فأراد أن يقول: حي على الصلاة فقال: حي على البهم، حتى سمعه أهل مكة فغدا يعتذر إليهم.

وقال ابن الكلبي: حدثني معروف المكي والمعلى بن هلال وإسحاق بن الجصاص قالوا: كان سبب عشق المجنون ليلى، أنه أقبل ذات يوم على ناقة له كريمةٍ وعليه حلتان من حلل الملوك، فمر بامرأة من قومه يقال لها: كريمة، وعندها جماعة نسوةٍ يتحدثن فيهن ليلى، فأعجبهن جماله وكماله، فدعونه إلى النزول والحديث، فنزل وجعل يحدثهن وأمر عبداً له كان معه فعقر لهن ناقته، وظل يحدثهن بقية يومه، فبينا هو كذلك، إذ طلع عليهم فتىً عليه بردةٌ من برد الأعراب يقال له: منازل يوسق معزى له، فلما رأينه أقبلن عليه وتركن المجنون، فغضب وخرج من عندهن وأنشأ يقول:

أأعقر من جـرا كـريمة نـاقـتـي

 

ووصلي مفروشٌ لوصل مـنـازل

إذا جاء قعقعن الحـلـي ولـم أكـن

 

إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل

متى ما انتضلنا بالسهام نـضـلـتـه

 

وإن نرم رشقاً عندها فهو ناضـلـي

قال: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقة له أخرى ومضى متعرضاً لهن، فألفى ليلى قاعدةً بفناء بيتها وقد علق حبه بقلبها وهويته، وعندها جويرياتٌ يتحدثن معها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازلٌ ولا غيره؟ فقال: إي لعمري، فنزل وفعل مثل ما فعله بالأمس، فأرادت أن تعلم، هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعةً بعد ساعةٍ وتحدث غيره، وقد كان علق بقلبه مثل حبها إياه وشغفته واستملحها، فبينا هي تحدثه، إذ أقبل فتىً من الحي فدعته وسارته سراراً طويلاً، ثم قالت له: انصرف، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وانتقع لونه وشق عليه فعلها، فأنشأت تقول:

كلانا مظهرٌ للناس بغضاً

 

وكل عند صاحبه مكـين

تبلغنا العيون بمـا أردنـا

 

وفي القلبين ثم هوىً دفين

فلما سمع البيتين شهق شهقةً شديدة وأغمي عليه، فمكث على ذلك ساعةً، ونضحوا الماء على وجهه "حتى أفاق" وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه حتى بلغ منه كل مبلغ.

خطبته لليلى واختيارها عليه وشعره في ذلك أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم عن هشام بن محمد بن موسى المكي عن محمد بن سعيد المخزومي عن أبي الهيثم العقيلي قال: لما شهر أمر المجنون وليلى وتناشد الناس شعره فيها، خطبها وبذل لها خمسين ناقةً حمراء، وخطبها ورد بن محمد العقيلي وبذل لها عشراً من الإبل وراعيها، فقال أهلها: نحن مخيروها بينكما، فمن اختارت تزوجته، ودخلوا إليها فقالوا: والله لئن لم تختاري ورداً لنمثلن بك، فقال المجنون:

ألا يا ليل إن ملكت فـينـا

 

خيارك فانظري لمن الخيار

ولا تستبدلـي مـنـي دنـياً

 

ولا برماً إذا حب القـتـار

يهرول في الصغير إذا رآه

 

وتعجزه ملمـاتٌ كـبـار

فمثل تأيم مـنـه نـكـاحٌ

 

ومثل تمؤلٍ منه افتـقـار

فاختارت ورداً فتزوجته على كرهٍ منها.

حكاية أبيه عن جنونه بليلى وأخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا: حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة بن حريم المري قال: خرجت إلى أرض بني عامر لألقى المجنون، فدللت عليه وعلى محلته، فلقيت أباه شيخاً كبيراً وحوله إخوةٌ للمجنون مع أبيهم رجالاً؛ فسألتهم عنه فبكوه، وقال الشيخ: أما والله لهو كان آثر عندي من هؤلاء جميعاً، وإنه عشق امرأةً من قومه والله ما كانت تطمع في مثله، فلما فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجه إياها بعد ما ظهر من أمرهما، فزوجها غيره، وكان أول ما كلف بها يجلس إليها في نفرٍ من قومها فيتحدثون كما يتحدث الفتيان، وكان أجملهم وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب، فيفيضون في الحديث فيكون أحسنهم فيه إفاضةً، فتعرض عنه وتقبل على غيره، وقد وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فظنت به ما هو عليه من حبها، فأقبلت عليه يوماً وقد خلت فقالت:

صوت

كلانا مظهرٌ للناس بغضـاً

 

وكل عند صاحبه مـكـين

وأسرار الملاحظ ليس تخفي

 

إذا نطقت بما تخفي العيون

غنت في الأول عريب خفيف رملٍ، وقيل: إن هذا الغناء لشارية، والبيت الأخير ليس من شعره - قال: فخر مغشياً عليه ثم أفاق فاقداً عقله، فكان لا يلبس ثوباً إلا خرقه ولا يمشي إلا عارياً ويلعب بالتراب ويجمع العظام حوله، فإذا ذكرت له ليلى أنشأ يحدث عنها عاقلاً ولا يخطىء حرفاً، وترك الصلاة، فإذا قيل له: ما لك لا تصلي! لم يرد حرفاً، وكنا نحبسه ونقيده، فيعض لسانه وشفته، حتى خشينا عليه فخلينا سبيله فهو يهيم.

قصته مع عمر بن عبد الرحمن بن عوف: قال الهيثم؛ فولى مروان بن الحكم عمر بن عبد الرحمن بن عوف صدقات بني كعب وقشير وجعدة، والحريش وحبيب وعبد الله، فنظر إلى المجنون قبل أن يستحكم جنونه فكلمه وأنشده فأعجب به، فسأله أن يخرج معه، فأجابه إلى ذلك، فلما أراد الرواح جاءه قومه فأخبروه خبره وخبر ليلى، وأن أهلها استعدوا السلطان عليه، فأهدر دمه إن أتاهم، فأضرب عما وعده وأمر له بقلائص، فلما علم بذلك وأتي بالقلائص ردها عليه وانصرف. وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم عن جماعة من الرواة: أن المجنون هو الذي سأل عمر بن عبد الرحمن أن يخرج به، قال له: أكون معك في هذا الجمع الذي تجمعه غداً، فأرى في أصحابك، وأتجمل في عشيرتي بك، وأفخر بقربك، فجاءه رهطٌ من رهط ليلى وأخبروه بقصته، وأنه لا يريد التجمل به، وإنما يريد أن يدخل عليهم بيوتهم ويفضحهم في امرأة منهم يهواها، وأنهم قد شكوه إلى السلطان فأهدر دمه إن دخل عليهم، فأعرض عما أجابه إليه من أخذه معه وأمر له بقلائص، فردها وقال "في ذلك":

رددت قلائص القرشي لما

 

بدا لي النقض منه للعهود

وراحوا مقصرين وخلفوني

 

إلى حزنٍ أعالجه شـديد

قال: ورجع آيساً فعاد إلى حاله الأولى، قال: فلم تزل تلك حاله، إلا أنه غير مستوحشٍ، إنما يكون في جنبات الحي منفرداً عارياً لا يلبس ثوباً إلا خرقه، ويهذي ويخطط في الأرض ويلعب بالتراب والحجارة، ولا يجيب أحداً سأله عن شيء، فإذا أحبوا أن يتكلم أو يثوب عقله ذكروا له ليلى، فيقول: بأبي هي وأمي، ثم يرجع إليه عقله فيخاطبونه ويجيبهم، ويأتيه أحداث الحي فيحدثونه عنها وينشدونه الشعر الغزل، فيجيبهم جواباً صحيحاً وينشدهم أشعاراً قالها، حتى سعى عليهم في السنة الثانية بعد عمر بن عبد الرحمن نوفل بن مساحق، فنزل مجمعاً من تلك المجامع فرآه يلعب بالتراب وهو عريان، فقال لغلام له: يا غلام، هات ثوباً، فأتاه به، فقال لبعضهم: خذ هذا الثوب فألقه على ذلك الرجل، فقال له: أتعرفه جعلت فداك؟ قال: لا، قال: هذا ابن سيد الحي، لا والله ما يلبس الثياب ولا يزيد على ما تراه يفعله الآن، وإذا طرح عليه شيء خرقه، ولو كان يلبس ثوباً لكان في مال أبيه ما يكفيه، وحدثه عن أمره، فدعا به وكلمه، فجعل لا يعقل شيئاً يكلمه به، فقال له قومه: إن أردت أن يجيبك جواباً صحيحاً فاذكر له ليلى، فذكرها له وسأله عن حبه إياها، فأقبل عليه يحدثه بحديثها ويشكو إليه حبه إياها وينشده شعره فيها، فقال له نوفل: الحب صيرك إلى ما أرى؟ قال نعم، وسينتهي بي إلى ما هو أشد مما ترى، فعجب منه وقال له: أتحب أن أزوجكها؟ قال: نعم، وهل إلى ذلك من سبيلٍ؟ قال: انطلق معي حتى أقدم على أهلها بك وأخطبها عليك وأرغبهم في المهر لها، قال: أتراك فاعلاً؟ قال: نعم، قال: انظر ما تقول! قال: لك علي أن أفعل بك ذلك، ودعا له بثياب فألبسه إياها، وراح معه المجنون كأصح أصحابه يحدثه وينشده، فبلغ ذلك رهطها فتلقوه في السلاح، وقالوا له: يابن مساحقٍ لا والله لا يدخل المجنون منازلنا أبداً أو يموت، فقد أهدر لنا السلطان دمه، فأقبل بهم وأدبر، فأبوا، فلما رأى ذلك قال للمجنون: انصرف، فقال له المجنون: والله ما وفيت لي بالعهد، قال له: انصرافك بعد أن آيسني القوم من إجابتك أصلح من سفك الدماء، فقال المجنون:

صوت

أيا ويح من أمسى تخلس عقلـه

 

فاصبح مذهوباً به كل مذهـب

خلياً من الخـلان إلا مـعـذراً

 

يضاحكني من كان يهوى تجنبي

الغناء للحسين بن محرز ثقيلٌ أول بالوسطى من جامع أغانيه:

إذا ذكرت ليلى عقلـت وراجـعـت

 

روائع عقلي من هوىً متـشـعـب

وقالوا صحيحٌ ما بـه طـيف جـنةٍ

 

ولا الهم إلا بافـتـراء الـتـكـذب

وشاهد وجدي دمع عيني وحـبـهـا

 

برى اللحم عن أحناء عظمي ومنكبي

صوت

تجنبت ليلى أن يلج بك الـهـوى

 

وهيهات كان الحب قبل التجنـب

ألا إنمـا غـادرت يا أم مـالـكٍ

 

صدىً أينما تذهب به الريح يذهب

الغناء لإسحاق خفيف ثقيلٍ أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وفيه لابن جامعٍ هزجٌ من رواية الهشامي وهي قصيدة طويلة.

ومما يغنى فيه منها قوله:

صوت

فلم أرى ليلى بعد موقـف سـاعةٍ

 

بخيف منىً ترمي جمار المحصب

ويبدي الحصى منها إذا قذفت بـه

 

من البرد أطراف البنان المخضب

فأصبحت من ليلى الغداة كناظـرٍ

 

مع الصبح في أعقاب نجمٍ مغرب

ألا إنمـا غـادرت يا أم مـالـكٍ

 

صدىً إينما تذهب به الريح يذهب

فيه ثقيلٌ أول مطلقٌ باستهلال، ذكر ابن المكي أنه لأبيه يحيى، وذكر الهشامي أنه للواثق، وذكر حبش أنه لابن محرز، وهو في جامع أغاني سليمان منسوبٌ إليه


أنشدني الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب للمجنون

فواللـه ثـم الـلـه إنـي لـدائبٌ

 

أفكر ما ذنبي إليهـا وأعـجـب

ووالله ما أدري علام قتلـتـنـي

 

وأي أموري فيك يا ليل أركـب

أأقطع حبل الوصل فالموت دونه

 

أم أشرب رنقاً منكم ليس يشرب

أم أهرب حتى لا أرى لي مجاوراً

 

أم أصنع ماذا أم أبوح فأغـلـب

فأيهما يا ليل مـا تـرتـضـينـه

 

فإني لمظلوم وإنى لـمـعـتـب

حجه مع أبيه إلى مكة لسلوان ليلى ودعوته هو استزادة حبها ودوامه :

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: ذكر هشام بن الكلبي ووافقه في روايته أبو نصر أحمد بن حاتم وأخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني علي ابن الصباح عن هشام ابن الكلبي عن أبيه: أن أبا المجنون وأمه ورجال عشيرته اجتمعوا إلى ليلى فوعظوه وناشدوه الله والرحم، وقالوا له: إن هذا الرجل لهالكٌ، وقبل ذلك ففي أقبح من الهلاك بذهاب عقله، وإنك فاجعٌ به أباه وأهله، فنشدناك الله والرحم أن تفعل ذلك، فوالله ما هي أشرف منه، ولا لك مثل مال أبيه، وقد حكمك في المهر، وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل، فأبى وحلف بالله وبطلاق أمها إنه لا يزوجه إياها أبداً، وقال: أفضح نفسي وعشيرتي وآتي ما لم يأته أحدٌ من العرب، واسم ابنتي بميسم فضيحة فانصرفوا عنه، وخالفهم لوقته فزوجها رجلاً من قومها وأدخلها إليه، فما أمسى إلا وقد بنى بها، وبلغه الخبر فأيس منها حينئذٍ وزال عقله جملةً، فقال الحي لأبيه: أحجج به إلى مكة وادع الله عز وجل له، ومره أن يتعلق بأستار الكعبة، فيسأل الله يعافيه مما به ويبغضها إليه، فلعل الله أن يخلصه من هذا البلاء، فحج به أبوه، فلما صاروا بمنى سمع صائحاً في الليل يصيح: يا ليلى، فصرخ صرخةً ظنوا أن نفسه قد تلفت وسقط مغشياً عليه، فلم يزل كذلك حتى أصبح ثم أفاق حائل اللوان ذاهلاً، فأنشأ يقول:

صوت

عرضت على قلبي العزاء فقال لـي

 

من الآن فاياس لا أعزك من صبـر

إذا بان من تهـوى وأصـبـح نـائياً

 

فلا شيء أجدى من حلولك في القبر

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منـىً

 

فهيج أطراب الـفـؤاد ومـا يدري

دعا باسم ليلى غيرهـا فـكـأنـمـا

 

أطار بليلى طائراً كان في صـدري

دعا باسم ليلى ظلل الـلـه سـعـيه

 

وليلى بأرضٍ عنه نـازحةٍ قـفـر

الغناء لعريب خفيف ثقيلٍ - ثم قال له أبوه: تعلق بأستار الكعبة واسأل الله أن يعافيك من حب ليلى، فتعلق بأستار الكعبة. وقال: اللهم زدني لليلى حباً وبها كلفاً ولا تنسني ذكرها أبداً، فهام حينئذٍ واختلط فلم يضبط. قالوا: فكان يهيم في البرية مع الوحش ولا يأكل إلا ما ينبت في البرية من بقل ولا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها، وطال شعر جسده ورأسه وألفته الظباء والوحوش فكانت لا تنفر منه، وجعل يهيم حتى يبلغ حدود الشأم، فإذا ثاب إليه عقله سأل من يمر به من أحياء العرب عن نجدٍ، فيقال له: وأين أنت من نجد! قد شارفت الشأم! أنت في موضع كذا، فيقول: فأروني وجهة الطريق، فيرحمونه ويعرضون عليه أن يحملوه وأن يكسوه فيأبى، فيدلونه على طريق نجد فيتوجه نحوه.


أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي وأخبرنا حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم بن عدي عن أبي مسكين قال: خرج منا فتىً حتى إذا كان ببئر ميمونٍ إذا جماعة فوق بعض تلك الجبال، وإذا معهم فتىً أبيض طوال جعد كأحسن من رأيت من الرجال على هزالٍ منه وصفرةٍ، وإذا هم متعلقون به، فسألته عنه، فقيل لي: هذا قيسٌ المجنون خرج به أبوه يستجير له بالبيت، وهو على أن يأتي به قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو له هناك لعله يكشف ما به، فإنه يصنع بنفسه صنيعاً يرحمه منه عدوه، يقول: أخرجوني لعلني أتنسم صبا نجدٍ، فيخرجونه فيتوجهون به نحو نجدٍ، ونحن مع ذلك نخاف أن يلقي نفسه من الجبل، فإن شئت الأجر دنوت منه فأخبرته أنك أقبلت من نجدٍ، فدنوت منه وأقبلوا عليه فقالوا له: يا أبا المهدي، هذا الفتى أقبل من نجد، فتنفس تنفسةٍ ظننت أن كبده قد انصدعت، ثم جعل يسألني عن وادٍ وادٍ وموضعٍ موضعٍ، وأنا أخبره وهو يبكي أحر بكاءٍ وأوجعه للقلب، ثم أنشأ يقول:

ألا ليت شعري عن عوارضتي قناً

 

لطول الليالي هل تغيرتا بـعـدي

وهل جارتانا بالبتيل إلى الحـمـى

 

على عهدنا أم لم تدوما على العهد

وعن علويات الـرياح إذا جـرت

 

بريح الخزامى هل تهب على نجد

وعن أقحوان الرمل ما هو فاعـلٌ

 

إذا هو أسرى ليلةً بثرىً جـعـد

وهل أنفضن الدهر أفنان لمـتـى

 

على لاحق المتنين مندلق الوخـد

وهل أسمعن الدهر أصوات هجمةٍ

 

تحدر من نشزٍ خصيبٍ إلى وهـد

سؤاله زوج ليلى عن عشرته معها: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي والعتبي قالا: مر المجنون بزوج ليلى وهو جالسٌ يضطلي في يومٍ شاتٍ، وقد أتى ابن عم له في حي المجنون لحاجةٍ، فوقف عليه ثم أنشأ يقول:

صوت

بربك هل ضممت إليك ليلى

 

قبيل الصبح أو قبلت فاهـا

وهل رفت عليك قرون ليلى

 

رفيف الأقحوانة في نداها

فقال: اللهم إذ حلفتني فنعم، قال: فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر، فما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه، وسقط الجمر مع لحم راحتيه، وعض على شفته فقطعها، فقام زوج ليلى مغموماً بفعله متعجباً منه فمضى.

غنى في البيتين المذكورين في هذا الخبر الحسين بن محرزٍ، ولحنه رمل بالوسطى عن الهشامي.

مروره بجبلي نعمان وشعره في ذلك:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال قال محمد بن الحكم عن عوانة: إنه حدثه ووافقه ابن نصر وابن حبيب قالوا: إن أهل المجنون خرجوا به معهم إلى وادي القرى قبل توحشه ليمتاروا خوفاً عليه "من" أن يضيع أو يهلك، فمروا في طريقهم بجبلي نعمان، فقال له بعض فتيان الحي: هذان جبلا نعمان، وقد كانت ليلى تنزل بهما، قال: فأي الرياح يأتي من ناحيتهما؟ قالوا: الصبا، قال: فوالله لا أريم هذا الموضع حتى تهب الصبا، فأقام ومضوا فامتاروا لأنفسهم، ثم أتوا عليه فأقاموا معه ثلاثة أيام حتى هبت الصبا، ثم انطلق معهم فأنشأ يقول:

صوت

أيا جبلي نعمان بـالـلـه خـلـيا

 

سبيل الصبا يخلص إلي نسيمهـا

أجد بردها أو تشف مني حـرارةً

 

على كبدٍ لم يبق إلا صميمـهـا

فإن الصبا ريحٌ إذا ما تنسـمـت

 

على نفس محزونٍ تجلت همومها

ارتحال أهل ليلى وما قاله في ذلك:

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسين بن الحرون قال حدثني الكسروي عن جماعةٍ من الرواة قال: لما منع أبو ليلى المجنون وعشيرته من تزويجه بها، كان لا يزال يغشى بيوتهم ويهجم عليهم، فشكوه إلى السلطان فأهدر دمه لهم، فأخبروه بذلك فلم يرعه وقال: الموت أروح لي فليتهم قتلوني، فلما علموا بذلك وعرفوا أنه لا يزال يطلب غرةً منهم حتى إذا تفرقوا دخل دورهم، فارتحلوا عنها وأبعدوا، وجاء المجنون عشيةً فأشرف على دورهم فإذا هي منهم بلاقع، فقصد منزل ليلى الذي كان بيتها فيه، فألصق صدره به وجعل يمرغ خديه على ترابه "ويبكي"، ثم أنشأ يقول، - وذكر هذه الأبيات ابن حبيب وأبو نصر له "بغير خبر" -:

أيا حرجات الحي حيث تحملوا

 

بذي سلمٍ لا جادكـن ربـيع

وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى

 

بلين بلىً لم تبـلـن ربـوع

ندمت على ما كان مني نـدامةً

 

كما يندم المغبـون حـين يبـيع

فقدتك من نفسٍ شعاعٍ فإنـنـي

 

نهيتك عن هذا وأنت جـمـيع

فقربت لي غير القريب وأشرفت

 

إليك ثنايا ما لـهـن طـلـوع

حديثه مع نسوة فيهن ليلى:

وذكر خالد بن جميل وخالد بن كلثوم في أخبارهما التي صنعاها أن ليلى وعدته قبل أن يختلط أن تستزيره ليلةً إذا وجدت فرصةً لذلك، فمكث مدةً يراسلها في الوفاء وهي تعده وتسوفه، فأتى أهلها ذات يوم والحي خلوفٌ، فجلس إلى نسوة من أهلها حجرةً منها بحيث تسمع كلامه، فحادثهنّ طويلاً ثم قال: ألا أنشدكن أبياتاً أحدثها في هذه الأيام؟ قلن: بلى، فأنشدهن:

صوت

يا للرجال لهـم بـات يعـرونـي

 

مستطرفٍ وقديمٍ كـاد يبـلـينـي

من عاذري من غريم غير ذي عسرٍ

 

يأبى فيمطلنـي دينـي ويلـوينـي

لا يبعد النقد من حقي فـينـكـره

 

ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي

وما كشكرى شكرٌ لو يوافـقـنـي

 

ولا مناي سـواه لـو يوافـينـي

أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم

 

في أمره وهواه وهو يعصـينـي

قال: فقلن له: ما أنصفك هذا الغريم الذي ذكرته! وجعلن يتضاحكم وهو يبكي، فاستحيت ليلى منهن ورقت له حتى بكت، وقامت فدخلت بيتها وانصرف هو.

- في الثلاثة الأبيات الأولى من هذه الأبيات هزجٌ طنبوري للمسدود - قالا في خبرهما هذا: وكان للمجنون ابنا عم يأتيانه فيحدثانه ويسليانه ويؤانسانه، فوقف عليهما يوماً وهما جالسان، فقالا له: يا أبا المهدي ألا تجلس؟ قال: لا، بل أمضي إلى منزل ليلى فاترسمه وأرى آثارها فيه، فأشفي بعض ما في صدري بها، فقالا له: فنحن معك، فقال: إذا فعلتما أكرمتما وأحسنتما، فقاما معه حتى أتى دار ليلى، فوقف بها طويلاً يتتبع آثارها ويبكي ويقف في موضعٍ موضعٍ منها ويبكي ثم قال:

صوت

يا صاحبي ألما بـي بـمـنـزلة

 

قد مر حينٌ عليهـا إيمـا حـين

إني أرى رجعات الحب تقتلـنـي

 

وكان في بدئها ما كان يكفـينـي

لا خير في الحب ليست فيه قارعةٌ

 

كأن صاحبها في نزع مـوتـون

إن قال عذاله مهلاً فـلان لـهـم

 

قال الهوى غير هذا القول يعنيني

ألقى من اليأس تاراتٍ فتقتلـنـي

 

وللرجاء بشاشاتٌ فـتـحـيينـي

الغناء لإبراهيم خفيف ثقيلٍ من جامع غنائه وقال هشام بن الكلبي عن أبي مسكين: إن جماعة من بني عامر حدثوه قالوا: كان رجل من بني عامر ابن عقيلٍ يقال له: قيس بن معاذ، وكان يدعى المجنون، وكان صاحب غزلٍ ومجالسةٍ للنساء، فخرج على ناقة له يسير، فمر بامرأة من بني عقيلٍ يقال لها: كريمة، وكانت جميلةً عاقلةً، معها نسوة فعرفنه ودعونه إلى النزول والحديث، وعليه حلتان له فاخرتان وطيلسانٌ وقلنسوةٌ، فنزل فظل يحدثهن وينشدهن وهن أعجب شيءٍ به فيما يرى، فلما أعجبه ذلك منهن عقر لهن ناقته، وقمن إليها فجعلن يشوين ويأكلن إلى أن أمسى، فأقبل غلامٌ شابٌ حسن الوجه من حيهن فجلس إليهن، فأقبلن عليه بوجوههن يقلن له: كيف ظللت يا منازل اليوم؟ فلما رأى ذلك من فعلهن غضب، فقام وتركهن وهو يقول:

أأعقر من جـرا كـريمة نـاقـتـي

 

ووصلي مفروشٌ لوصل مـنـازل

إذا جاء قعقن الحـلـي ولـم أكـن

 

إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل

قال: فقال له الفتى: هلم نتصارع أو نتناضل، فقال له: إن شئت ذلك فقم إلى حيث لا تراهن ولا يرينك، ثم ما شئت فافعل، وقال:

إذا ما انتضلنا في الخلاء نضلتـه

 

وإن يرم رشقاً عندها فهو ناضلي

وقال ابن الكلبي في هذا الخبر: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقته ومضى متعرضاً لهن، فالفى ليلى جالسةً بفناء بيتها، وكانت معهن يومئذٍ جالسةً، وقد علق بقلبها وهويته، وعندها جويرياتٌ يحدثنها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره؟ قال: إي لعمري، فنزل وفعل فعلته بالأمس، فأرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعةً بعد ساعةٍ وتحدث غيره، وقد كان علق حبها بقلبه وشغفه واستملحها، فبينا هي تحدثه إذ أقبل فتى من الحي فدعته فسارته سراراً طويلاً ثم قالت له انصرف، فانصرف، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وامتقع وشق عليه ما فعلت، فأنشأت تقول:

كلانا مظهرٌ للناس بغضاً

 

وكلٌ عند صاحبه مكـين

تبلغنا العيون مقالـتـينـا

 

وفي القلبين ثم هوىً دفين

"قد نسبت هذا الشعر متقدماً " فلما سمع هذين البيتين شهق شهقةً عظيمةً وأغمي عليه فمكث "كذلك" ساعةً، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق، وتمكن حب كل واحدٍ منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ.

حدثني عمي عن عبد الله بن أبي سعد عن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل القرشي قال حدثنا أبو العالية عن أبي ثمامة الجعدي قال: لا يعرف فينا مجنونٌ إلا قيس بن الملوح.

حديث اتصاله بليلى في صباه:

قال: وحدثني بعض العشيرة قال: قلت لقيس بن الملوح قبل أن يخالط: ما أعجب شيء أصابك في وجدك بليلى؟ قال: طرقنا ذات ليلةٍ أضيافٌ ولم يكن عندنا لهم أدمٌ، فبعثني أبي منزل أبي ليلى وقال لي: اطلب لنا وقال لي: اطلب لنا منه أدماً، فأتيته فوقفت على خبائه فصحت به، فقال: ما تشاء؟ فقلت: طرقنا ضيفان ولا أدم عندنا لهم فأرسلني أبي نطلب منك أدماً، فقال: يا ليلى، أخرجي إليك ذلك النحي، فاملئن له إناءه من السمن، فأخرجته ومعي قعبٌ، فجعلت تصب السمن فيه ونتحدث، فألهانا الحديث وهي تصب السمن وقد امتلأ القعب ولا نعلم جميعاً، وهو يسيل استنقعت أرجلنا في السمن، قال: فأتيتهم ليلةً ثانيةً أطلب ناراً، وأنا متلفعٌ ببردٍ لي، فأخرجت لي ناراً في عطبةٍ فأعطتنيها ووقفنا نتحدث، فلما احترقت العطبة خرقت من بردي خرقةً وجعلت النار فيها، فكلما احترقت خرقت أخرى وأذكيت بها النار حتى لم يبق علي من البرد إلا ما وارى عورتي، وما أعقل ما أصنع، وأنشدني:

أمستقبلي نفح الصبا ثم شـائقـي

 

ببردٍ ثنـايا أم حـسـان شـائق

كأن على أنيابها الخمر شجـهـا

 

بماء الندى من آخر الليل عاتق

وما شمته إلا بعيني تـفـرسـاً

 

كما شيم في أعلى السحابة بارق

ومن الناس من يروي هذه الأبيات لنصيبٍ، ولكن هكذا روي في هذا الخبر.

شيء من أوصافه

أخبرني أحمد بن عمر بن موسى بن زكويه القطان إجازةً قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال أخبرني عبد الجبار بن سليمان بن نوفل بن مساحقٍ عن أبيه عن جده قال: أنا رأيت مجنون بني عامر، وكان جميل الوجه أبيض اللون قد علاه شحوبٌ، واستنشدته فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:

تذكرت ليلى والسنين الخوالـيا

 

وأيام لا أعدي على اللهو عادياً

أخبرني محمد بن الحسن الكندي خطيب مسجد القادسية قال حدثنا الرياشي قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: سمعت معاذاً وبشر بن المفضل جميعاً ينشدان هذين البيتين وينسبانهما لمجنون بني عامر:

طمعت بليلى أن تريع وإنمـا

 

تقطع أعناق الرجال المطامع

ودانيت ليلى في خلاءٍ ولم يكن

 

شهودٌ على ليلى عدولٌ مقانع

وحدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو خليفة "الفضل بن الحباب" عن ابن سلام قال: قضى عبيد الله الحسن بن الحصين بن أبي الحر العنبري على رجل من قومه قضيةً أوجبها الحكم عليه، وظن العنبري أنه تحامل عليه وانصرف مغضباً، ثم لقيه في طريق، فأخذ بلجام بغلته وكان شديداً أيداً، ثم قال له: إيه يا عبيد الله!

طمعت بليلى أن تريع وإنمـا

 

تقطع أعناق الرجل المطامع

فقال عبيد الله:

وبايعت ليلى في خلاءٍ ولم يكن

 

شهودٌ عدولٌ عند ليلى مقانـع

خل عن البغلة. قال الصولي في خبره هذا: والبيتان للبعيث هكذا، قال: فلا أدري أمن قوله هو أم حكاية عن أبي خليفة!.

سبب تسميته المجنون واختلاف الرواة في ذلك

أخبرني الحسن بن علي "قال حدثنا محمد بن طاهر" القرشي عن ابن عائشة قال: إنما سمي المجنون بقوله:

ما بال قلبك يا مجنون قد خـلـعـا

 

في حب من لا ترى في نيله طمعا

الحب والود نيطا بالـفـؤاد لـهـا

 

فأصبحا في فؤادي ثابتـين مـعـا

حدثنا وكيعٌ عن ابن يونس قال قال الأصمعي: لم يكن المجنون، إنما جننه العشق، وأنشد له:

يسمونني المجنون حين يرونني

 

نعم بي من ليلى الغداة جنـون

ليالي يزهى بي شبابٌ وشـرةٌ

 

وإذ بي من خفض المعيشة لين

أخبرني محمد بن المرزبان عن إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني علي بن سهل عن المدائني: أنه ذكر عنده مجنون بني عامر فقال: لم يكن مجنوناً، وإنما قيل له المجنون بقوله:

وإني لمجنونٌ بلـيلـى مـوكـلٌ

 

ولست عزوفاً عن هواها ولا جلدا

إذا ذكرت ليلى بكـيت صـبـابةً

 

لتذكارها حتى يبل البكا الـخـدا

أخبرني عمر بن جميلٍ العتكي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عون بن عبد الله العامري أنه قال: ما كان والله المجنون الذي تعزونه إلينا مجنوناً، إنما كانت به لوثةٌ وسهوٌ أحدثهما به حب ليلى، وأنشد له:

وبي من هوى ليلى الذي لو أبـثـه

 

جماعة أعدائي بكت لي عيونـهـا

أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني

 

فقد جن من وجدي بليلى جنونـهـا

أخبرني ابن المرزبان قال قال العتبي: إنما سمي المجنون بقوله:

يقول أناسٌ عل مجنـون عـامـرٍ

 

يروم سلواً قلت أنى لـمـا بـيا

وقد لامني في حب ليلى أقاربـي

 

أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا

يقولون ليلى أهـل بـيت عـداوةٍ

 

بنفسي ليلى من عـدو ومـالـيا

ولو كان في ليلى شذاً من خصومةٍ

 

للويت أعناق المطي الـمـلاويا

أخبرني هاشم "بن محمد" الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل قال قال ابن سلام: لو حلفت أن مجنون بني عامرٍ لم يكن مجنوناً لصدقت، ولكن توله لما زوجت ليلى وأيقن اليأس منها، ألم تسمع إلى قوله:

أيا ويح من أمسى تخلس عقلـه

 

فأصبح مذهوباً به كل مذهـب

خليعاً من الخلان إلا مجـامـلا

 

يساعدني من كان يهوى تجنبي

إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت

 

عوزاب قلبي من هوىً متشعب

"أخبرني به الحسن بن علي عن دينار بن عامر التغلبي عن مسعود بن سعد عن ابن سلام ونحوه.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أنشدني صالح بن سعيد قال أنشدني يعقوب بن السكيت للمجنون.

يسمونني المجنون حين يرونني

 

نعم بي من ليلى الغداة جنون"

قال: وأنشدنا له أيضاً:

صوت

وشغلت عن فهم الحديث سوى

 

ما كان فيك فإنه شـغـلـي

وأديم لحظ محـدثـي لـيرى

 

أن قد فهمت وعندكم عقلـي

 

جنونه بليلى وهيامه على وجهه من أجلها

أخبرني هاشمٌ الخزاعي عن "العباس بن الفرج" الرياشي قال: ذكر العتبي عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى ويألفها ويأنس بها ثم غيبت عن ناظره، فكان أهله يعزونه عنها ويقولون: نزوجك أنفس جاريةٍ في عشيرتك، فيأبى إلا ليلى ويهذي بها ويذكرها "فكان ربما استراح إلى أمانيهم وركن إلى قولهم"، وكان ربما هاج عليه الحزن والهم فلا يملك مما هو فيه أن يهيم على وجهه، وذلك قبل أن يتوحش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه ويعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة والعذل يوماً فقال:

صوت

يا للرجال لهـمٍّ بـت يعـرونـي

 

مستطرفٍ وقديمٍ كان يعـنـينـي

على غريم مليء غـير ذي عـدم

 

يأبى فيمطلني دينـي ويلـوينـي

لا يذكر البعض من ديني فينكـره

 

ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي

وما كشكري شكرٌ لو يوافـقـنـي

 

ولا منىً كمـنـاه إذ يمـنـينـي

أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم

 

في أمره ثم يأبى فهو يعصـينـي

خيري لمن يبتغي خيري ويأمـلـه

 

من دون شري وشري غير مأمون

وما أشارك في رأيي أخاً ضعـفٍ

 

ولا أقول أخي مـن لا يواتـينـي

في هذه الأبيات هزجٌ طنبوري للمسدود من جامعه.

وقال أبو عمرو الشيباني: حدثني رباح العامري قال: كان المجنون أول ما علق ليلى كثير الذكر لها والإتيان بالليل إليها، والعرب ترى ذلك غير منكرٍ أن يتحدث الفتيان إلى الفتيات، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها وتقدموا إليه، فذهب لذلك عقله ويئس منه قومه واعتنوا بأمره، واجتمعوا إليه ولاموه وعذلوه على ما يصنع بنفسه، وقالوا: والله ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلاً، فقال لما سمع مقالتهم وقد غلب عليه البكاء:

صوت

فواكبدا من حب من لا يحبنـي

 

ومن زفراتٍ ما لهـن فـنـاء

أريتك إن لم أعطك الحب عن يدٍ

 

ولم يك عنـدي إذ أبـيت إبـاء

أتاركتي للموت أنـت فـمـيتٌ

 

وما للنفوس الخائفـات بـقـاء

ثم أقبل على القوم فقال: إن الذي بي ليس بهينٍ، فاقلوا من ملامكم فلست بسامعٍ فيها ولا مطيعٍ لقول قائلٍ.
قصة حبه ليلى برواية رباح العامري أخبرني عمي ومحمد بن حبيب وابن المرزبان عن عبد الله بن أبي سعد عن عبد العزيز صالح عن أبيه عن ابن دأبٍ عن رباح بن حبيب العامري: أنه سأله عن حال المجنون وليلى، فقال: كانت ليلى من بني الحريش وهي بنت مهدي بن سعيد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسماً وعقلاً وأفضلهن أدباً وأملحهن شكلاً، وكان المجنون كلفاً بمحادثة النساء صباً بهن، فبلغه خبرها ونعتت له، فصبا إليها وعزم على زيارتها، فتأهب لذلك ولبس أفضل ثيابه ورجل جمته ومس طيباً كان عنده، وارتحل ناقةً له كريمةً برحلٍ حسنٍ وتقلد سيفه وأتاها، فسلم فردت عليه السلام وتحفت في المسئلة، وجلس إليها فحادثته وحادثها فأكثرا، وكل واحد منهما مقبلٌ على صاحبه معجبٌ به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا، فانصرف إلى أهله فبات بأطول ليلةٍ شوقاً إليها، حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى، ثم انصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى واجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:

نهاري نهار الناس حتى إذا بـدا

 

لي الليل هزتني إليك المضاجع

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى

 

ويجمعني والهم بالليل جامـع

لقد ثبتت في القلب منك محـبةٌ

 

كما ثبتت في الراحتين الأصابع

- عروضه من الطويل، والغناء لإبراهيم الموصلي رملٌ بالوسطى عن عمرو - قال: وأدام زيارتها وترك من يأتيه فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها في كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى انصرف، فخرج ذات يومٍ يريد زيارتها فلما قرب من منزلها لقيته جاريةٌ عسراء فتطير منها، وأنشأ يقول:

وكيف يرجى وصل ليلى وقد جـرى

 

بجد القوى والوصل أعسر حاسـر

صديع العصا صعب المرام إذا انتحى

 

لوصل امرىءٍ جدت عليه الأواصر

ثم سار إليها في غدٍ فحدثها بقصته وطيرته ممن لقيه، وأنه يخاف تغير عهدها وانتكاثه وبكى، فقالت: لا ترع، حاش لله من تغير عهدي، لا يكون والله ذلك أبداً إن شاء الله، فلم يزل عندها يحادثها بقية يومه، ووقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فجاءها يوماً كما كان يجيء، وأقبل يحدثها فأعرضت عنه، وأقبلت على غيره بحديثها، تريد بذلك محنته وأن تعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك جزع جزعاً شديداً حتى بان في وجهه وعرف فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمسرة إليه فقالت:

كلانا مظهرٌ للناس بغضنا

 

وكل عند صاحبه مكين

فسري عنه وعلم ما في قلبها، فقالت له: إنما أردت أن أمتحنك والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأعطي الله عهداً إن جالست بعد يومي هذا رجلاً سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، قال: فانصرفت عنه وهو من أشد الناس سروراً وأقرهم عيناً، وقال:

أظن هواها تاركي بـمـضـلةٍ

 

من الأرض لا مالٌ لدي ولا أهل

ولا أحدٌ أفضي إلـيه وصـيتـي

 

ولا صاحبٌ إلا المطية والرحل

محا حبها حب الألى كن قبلـهـا

 

وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل

شعره بعد أن تزوجت وأيس منها أخبرني جعفر بن قدامة عن أبي العيناء عن العتبي قال: لما حجبت ليلى عن المجنون خطبها جماعةٌ فلم يرضهم أهلها، وخطبها رجل من ثقيف موسرٌ فزوجوه وأخفوا ذلك عن المجنون ثم نمي إليه طرفٌ منه لم يتحققه، فقال:

دعوت إلهي دعوةً ما جهلتـهـا

 

وربي بما تخفي الصدور بصير

لئن كنت تهدي برد أنيابها العـلا

 

لأفقر مني إنـنـي لـفـقـيرٌ

فقد شاعت الأخبار أن قد تزوجت

 

فهل يأتيني بالطـلاق بـشـير

وقال أيضاً:

ألا تلك ليلى العامرية أصبـحـت

 

تقطع إلا من ثقيفٍ حـبـالـهـا

هم حبسوها محبس البدن وابتغـى

 

بها المال أقوامٌ ألا قل مـالـهـا

إذا التفتت والعيس صعرٌ من البرى

 

بنخلة جلت عبرة العين حالـهـا

قال: وجعل يمر بيتها فلا يسأل عنها ولا يلتفت إليه، ويقول إذا جاوزه:

صوت

ألا أيها البيت الـذي لا أزوره

 

وإن حله شخصٌ إلي حبـيب

هجرتك إشفاقاً وزرتك خائفـاً

 

وفيك علي الدهر منك رقيب

سأستعتب الأيام فيك لعلـهـا

 

بيوم سرورٍ في الزمان تؤوب

الغناء لعريب ثاني ثقيلٍ بالوسطى. قال: وبلغه أن أهلها يريدون نقلها إلى الثقفي فقال:

صوت

كأن القلب ليلة قيل يغدى

 

بليلى العامرية أو يراح

قطاةٌ عزها شركٌ فباتت

 

تجاذبه وقد علق الجناح

- عروضه من الوافر. الغناء لابن المكي خفيفٌ ثقيلٍ "أول" بالوسطى في مجراها عن إسحاق، وفيه خفيف ثقيلٍ آخر لسليمان مطلقٌ في مجرى البنصر، وفيه لإبراهيم رملٌ بالوسطى في مجراها عن الهشامي - قال: فلما نقلت "ليلى" إلى الثقفي قال:

قصيدته العينية

طربت وشاقتك الحمول الـدوافـع

 

غداة دعا بالبـين أسـفـع نـازع

شحا فاه نعباً بـالـفـراق كـأنـه

 

حريبٌ سليبٌ نازح الـدار جـازع

فقلت ألا قد بين الأمر فانـصـرف

 

فقد راعنا بالبـين قـبـلـك رائع

سقيت سموماً من غراب فأنـنـي

 

تبينت ما خبرت مـذ أنـت واقـع

ألم تر أنـي لا مـحـب ألـومـه

 

ولا ببديلٍ بعـدهـم أنـا قـانـع

"ألم تر دار الحي في رونق الضحى

 

بحيث انحنت للهضبتين الأجـارع"

وقد يتناءى الإلف من بـعـد ألـفةٍ

 

ويصدع ما بين الخليطـين صـادع

وكم من هوى أو جيرةٍ قد ألفتـهـم

 

زماناً فلم يمنعهم الـبـين مـانـع

كأني غداة الـبـين مـيت جـوبةٍ

 

أخو ظمأ سدت عليه المـشـارع

تخلس من أوشـال مـاءٍ صـبـابةً

 

فلا الشرب مبذولٌ ولا هو نـاقـع

وبيضٍ تطلى بالعـبـير كـأنـهـا

 

نعاج الملا جيبت عليها البـراقـع

تحملن من وادي الأراك فأومضـت

 

لهن بأطراف العيون الـمـدامـع

فما رمن ربع الدار حتى تشابهـت

 

هجائنها والجون منها الخـواضـع

وحتى حلمن الحور من كل جانـب

 

وخاضت سدول الرقم منها الأكارع

فلما استوت تحت الخدور وقد جرى

 

عبيرٌ ومسكٌ بالـعـرانـين رادع

أشرن بأن حثوا الجمال فـقـد بـدا

 

من الصيف يومٌ لافحٌ الحر ماتـع

فلما لحقنا بالحمـول تـبـاشـرت

 

بنا مقصراتٌ غاب عنها المطامـع

يعرضن بالدل الـمـلـيح وإن يرد

 

جناهن مشغوفٌ فهـن مـوانـع

فقلت لأصحابي ودمعي مـسـبـلٌ

 

وقد صدع الشمل المشتت صـادع

أليلى بأبواب الخدور تـعـرضـت

 

لعيني أم قرنٌ من الشمس طالـع

سبب ذهاب عقله: أخبرني عمي عن "عبد الله" بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: لما قال المجنون:

خليلي لا واللـه لا أمـلـك الـذي

 

قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا

قضاها لغيري وابتلاني بحـبـهـا

 

فهلا بشيءٍ غير ليلى ابـتـلانـيا

سلب عقله.

وحدثني جحظة عن ميمون بن هارون عن إسحاق الموصلي أنه لما قالهما برص.

خبر شيخ من بني مرة لقيه ميتاً في واد:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم ابن عدي عن عثمان بن عمارة، وأخبرني عثمان عن الكراني عن العمري عن لقيط، وحدثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قال ذكر الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة، وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأبو مسلم المستملي عن ابن الأعرابي - يزيد بعضهم على بعض -أن عثمان بن عمارة المري أخبرهم أن شيخاً منهم من بني مرة حدثه أنه خرج إلى أرض بني عامر ليلقى المجنون، قال: فدللت على محلته فأتيتها، فإذا أبوه شيخ كبيرٌ وإخوةٌ له رجال، وإذا نعمٌ كثيرٌ وخيرٌ ظاهرٌ، فسألتهم عنه فاستعبروا جميعاً، وقال الشيخ: والله لهو كان آثر في نفسي من هؤلاء وأحبهم إلي! وإنه هوي امرأةً من قومه، والله ما كانت تطمع في مثله، فلما أن فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجها منه بعد ظهور الخبر فزوجها من غيره، فذهب عقل ابني ولحقه خبلٌ وهام في الفيافي وجداً عليها، فحبسناه وقيدناه، فجعل يعض لسانه وشفتيه حتى خفنا "عليه" أن يقطعها فخلينا سبيله، فهو يهيم في "هذه" الفيافي مع الوحوش يذهب إليه كل يوم بطعامه فيوضع له حيث يراه، فإذا تنموا عنه جاء فأكل منه. قال: فسألتهم أن يدلوني عليه، فدلوني على فتىً من الحي صديقاً له وقالوا: إنه لا يأنس إلا به ولا يأخذ أشعاره عنه غيره، فأتيته فسألته أن يدلني عليه؛ فقال: إن كنت تريد شعره فكل شعرٍ قاله إلى أمس عندي، وأنا ذاهبٌ إليه غداً فإن قال شيئاً أتيتك به؛ فقلت: بل "أريد أن" تدلني عليه لآتيه؛ فقال لي: إنه إن نفر منك نفر مني فيذهب شعره، فأبيت إلا أن يدلني عليه؛ فقال اطلبه في هذه الصحاري "إذا رأيته" فادن "منه" مستأنساً ولا تره أنك تهابه، فإنه يتهددك ويتوعدك أن يرميك بشيء، فلا يروعنك واجلس صارفاً بصرك عنه والحظه أحياناً، فإذا رأيته قد سكن من نفاره فأنشده شعراً غزلاً، وإن كنت تروي من شعر قيس بن ذريح شيئاً فأنشده إياه فإنه معجبٌ به؛ فخرجت فطلبته يومي إلى العصر فوجدته جالساً على رمل قد خط فيه بأصبعه خطوطاً، فدنوت منه غير منقبضٍ، فنفر مني نفور الوحش من الإنس، وإلى جانبه أحجارٌ فتناول حجراً فأعرضت عنه، فمكث ساعةً كأنه نافرٌ يريد القيام، فلما طال جلوسي سكن وأقبل يخط بأصبعه، فأقبلت عليه وقلت: أحسن والله قيس بن ذريحٍ حيث يقول:

ألا يا غراب البين ويحك نبني

 

بعلمك في لبنى وأنت خبير

فإن أنت لم تخبر بشيءٍ لمته

 

فلا طرت إلا والجناح كسير

ودرت بأعداءٍ حبيبك فـيهـم

 

كما قد تراني بالحبيب أدور

فأقبل علي وهو يبكي فقال: أحسن والله، وأنا أحسن منه قولاً حيث أقول:

كأن القلب ليلة قيل يغدى

 

بليلى العامرية أو يراح

قطاةٌ عزها شركٌ فباتت

 

تجاذبه وقد علق الجناح

فأمسكت عنه هنيهةً، ثم أقبلت عليه فقلت: وأحسن الله قيس بن ذريح حيث يقول:

وإني لمفنٍ دمع عيني بالبـكـا

 

حذاراً لما قد كان أو هو كائن

وقالوا غداً أو بعد ذاك بـلـيلةٍ

 

فراق حبيبٍ لم يبن وهو بـائن

وما كنت أخشى أن تكون منيتي

 

بكفيك إلا أن من حان حـائن

قال: فبكى - والله - حتى ظننت أن نفسه قد فاضت، وقد رأيت دموعه قد بلت الرمل الذي بين يديه، ثم قال: أحسن لعمر الله، وأنا والله أشعر منه حيث أقول:

صوت

وأدنيتني حتى إذا ما سبيتـنـي

 

بقولٍ يحل العصم سهل الأباطح

تناءيت عني حين لا لي حـيلةٌ

 

وخلفت ما خلفت بين الجوانـح

- ويروى: "وغادرت ما غادرت..." - ثم سنحت له ظبيةٌ فوثب يعدو خلفها حتى غاب عني وانصرفت، وعدت من غدٍ فطلبته فلم أجده، وجاءت امرأةٌ كانت تصنع له طعامه إلى الطعام فوجدته بحاله، فلما كان في اليوم الثالث غدوت وجاء أهله معي فطلبناه يومنا فلم نجده، وغدونا في اليوم الرابع نستقري أثره حتى وجدناه في وادٍ كثير الحجارة خشنٍ، وهو ميتٌ بين تلك الحجارة، فاحتمله أهله فغسلوه وكفنوه ودفنوه.

ندم أبي ليلى على عدم تزويجه بها

قال الهيثم: فحدثني جماعةٌ من بني عامر: أنه لم تبق فتاةٌ من بني جعدة ولا بني الحريش إلا خرجت حاسرةً صارخةً عليه تندبه؛ واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أحر بكاء، وينشجون عليه أشد نشيج، وحضرهم حي ليلى معزين وأبوها معهم فكان أشد القوم جزعاً وبكاءً عليه، وجعل يقول: ما علمنا أن الأمر يبلغ كل هذا، ولكني كنت امرأ عربياً أخاف من العار وقبح الأحدوثة ما يخافه مثلي، فزوجتها وخرجت عن يدي، ولو علمت أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده ولا احتملت ما كان علي في ذلك. قال: فما رئي يومٌ كان أكثر باكيةً وباكياً على ميتٍ من يومئذٍ.

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني منها الصوت الذي أوله:

ألا يا غراب البين ويحك نبني

 

بعلمك في لبنى وأنت خبير

الغناء لابن محرز ثقيلٌ أول بالوسطى عن الهشامي، وذكر إبراهيم أن فيه لحناً لحكمٍ. وفي رواية ابن الأعرابي أنه أنشده مكان:

ألا يا عراب البين ويحك نبني

 

بعلمك في لبنى وأنت خبير

صوت

ألا يا غراب البين هل أنت مخبـري

 

بخيرٍ كما خبرت بالنـأي والـشـر

وخبرت أن قد جد بـينٌ وقـربـوا

 

جمالاً لبينٍ مثقلاتٍ مـن الـغـدر

وهجت قذى عينٍ بلبنـى مـريضةٍ

 

إذا ذكرت فاضت مدامعها تجـري

وقلت كذاك الدهر مازال فاجـعـاً

 

صدقت وهل شيءٌ بباقٍ على الدهر

الشعر لقيس بن ذريح، والغناء لابن جامع، ثقيلٌ أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لبحرٍ ثقيلٌ أول بالوسطى عن عمرو. وفيه لدحمان ثاني ثقيل عن الهشامي وعبد الله بن موسى.

ومنها الصوت الذي أوله.

كأن القلب ليلة قيل يغدى

 

بليلي العامرية أو يراح

ومنها الصوت الذي أوله:

وأدنيتني حتى إذا ما سبيتـنـي

 

بقولٍ يحل العصم سهل الأباطح

الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيلٍ بالوسطى عن الهشامي.

المرجع: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

من قصائده:..