جميل معمر

تـو. 701م

شاعرٌ حجازيٌ من قبيلة عذرة، يُدعى جميل بن معمر. نشأ في وادي القرى على مقربةٍ من المدينة، في أسرةٍ ذات سعة، وبيئةٍ تعيش على البداوة، وتستدرّ رزقها من الأرض والمواشي، وتحيا محافظةً على الشّرف ومنعة العرض وتقاليد الوفاء والعهود.

أحبّ جميل ابنة عمٍّ له تُدعى "بثينة" منذ كانا صغيرين يرعيان الإبل والماشية، وذلك حين ضرَبَت بُثينة إبَلاً صغارًا له، وسبّته فَحَلا في سمعه سبابها. وفي هذه الحادثة يقول:

وأوّل ما قاد المودّة بيننـا بوادي           بفيضٍ يا بُثَينَ سَبابُ

فقُلْنا لها قولاً فجاءت بمثله               لكلّ سـؤال يا بثَيْنَ جوابُ

كان ذلك بداية غرامٍ نَما في قلب جميل، فلما بلغ أشدّه، خطبها إلى أهلها، وكان قد شبّب بها، فرفض أهلها تزويجها منه، على عادة العرب، مخافة أن يظنّ الناس أن تصريحه بحبها في شعره كان لصلةٍ بها قبل الزّواج، فيلحق بهم العار.

اشتدّ الوله بجميل، وأصرّ على قول الشّعر ببثينة، فلامه النّاس، فلم ينفع معه اللّوم، فما كان من أهل بثينة إلاّ أن زفوها إلى رجلٍ آخر. ازدادت بذلك آلام جميل، وظلّ على شغفه بها، يذكُرُها في شعره ويتردّد إلى ديارها، فشكاه أهلها إلى والي المدينة مروان بن الحكم الذّي أهدر دمه. فمضى الشّاعر هاربًا يطوي النّفس على جرحٍ من الحبّ، وخوفٍ من شرّ الوالي.

وفي آخر حياته، سافر إلى مصر حيث مات سنة 82 هـ- وهو على حبّه القديم، حتى ارتبط اسمه باسم حبيبته فعُرِفَ بأنه: جميل بثينة.

وجميل بثينة يُعتبَر من مشاهير الشّعراء العُذرييّن الذين عُرِفوا بالغزل العفيف القائم على نوعٍ من الحبّ الرّوحي البعيد عن رغبات الجسد، ويمتاز بالإخلاص لمحبوبةٍ واحدةٍ. ولعلّ خير ما يعبّر عن هذا النوع من الحبّ قولُ جميل:

يموتُ الهوى منّي إذا ما لقيتُها         ويحيا إذا فارقتُها فيعودُ 

وجاء في "وفيات الأعيان" لابن خلكان: هو أبو عمر وجميل بن عبد الله بن معمر بن صباح - بضم الصاد المهملة - ابن ظبيان بن حن - بضم الحاء المهملة وتشديد النون - ابن ربيعة بن حرام بن صبة ابن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد بن هديم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم ابن الحاف بن قضاعة الشاعر المشهور؛ صاحب بثينة أحد عشاق العرب، عشقها وعو غلام، لما كبر خطبها فرد عنها فقال الشعر فيها، وكان يأتيها سراً ومنزلهما وادي القرى، وديوان شعره مشهور فلا حاجة إلى ذكر شيء منه.

ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق وقال: قيل له: لو قرأت القرآن كا أعود عليك من الشعر، فقال: هذا أنس بن مالك رضي الله عنه أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشعر لحكمة.

وجميل وبثينة كلاهما من بني عذرة، وكانت بثينة تكنى أم عبد الملك، والجمال والعشق في بني عذرة كثير؛ قيل لأعرابي من العذريين: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث كما ينماث الملح في الماء؟ أما تتجلدون؟ فقال: إنا ننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها، وقيل لآخر: ممن أنت؟ فقال: أنا من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته: هذا عذري ورب الكعبة.

وذكر صاحب اغاني أن كثير عزة كان راوية جيمل، وجميل كان راوية هدبة بن خشرم وهدبة راويةالحطيئة، والحطيئة راوية زهير بن أبي سلمى وابنه كعب بن زهير.

ومن شعر جميل من جملة أبيات

وخبرتمانـي أن تـيمـاء مـنـزل

 

لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا

فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت

 

فما النوى ترمي بليلى المـرامـيا

ومن الناس من يدخل هذه الأبيات في قصيدة مجنون ليلى، وليست له وتيماء خاصة: منزل لبني عذرة، وفي هذه القصيدة يقول جميل:  

وما زلتم يابثن حتى لـو انـنـي

 

من الشوق استبكي الحمام بكى ليا

ومازادني الواشون إلا صـبـابة

 

ولا كثرة الناهـين إلا تـمـاديا

وما أحدث النأي المفرق بـينـنـا

 

سلوا ولا طول الليالي تـقـالـيا

ألم تعلمي ياعذبة الـريق أنـنـي

 

أظل إذا لم ألق وجهـك صـاديا

لقد خفن ان أقى المنـية بـغـتة

 

وفي النفس حاجات إليك كما هيا

وكان كثير عزة يقول: جميل والله أشعر العرب حيث يقول:  

وخبرتماني أن تـيمـاء مـنـزل

 

لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا

ومن شعره:  

إني لأحفظ سركم ويسرنـي

 

لو تعلمين بصالح أن تذكري

ويكون يوم لا أرى لك مرسلا

 

أو نلتقي فيه علي كأشهـر

ياليتني أقلى المنـية بـغـتة

 

إن كان يوم لقائكم لم يقـدر

ومنها:

يهواك ماعشت الفؤاد وإن أمت

 

يتبع صداي صداك بين الأقبر

ومنها:  

إني إليك بما وعدت لـنـاظـر

 

نظر الفقير إلى الغي المكثـر

يقضي الديون وليس ينجز موعداً

 

هذا الغريم لنا وليس بمعـسـر

ما أنت والوعد الذي تعدينـنـي

 

إلا كبرق سحابة لم تـمـطـر

زمن شعره من جملة قصيدة:  

إذا قلت ما بي يا بثـينة قـاتـلـي

 

من الوجد قـالـت ثـابـت ويزيد

وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به

 

بثينة قالـت ذاك مـنـك بـعـيد

ومن شعره أيضاً:  

وإني لأرضى من بثـينة بـالـذي

 

لواستيقن الواشي لقرت بلابـلـه

بلا وبألا أستطـيع وبـالـمـنـى

 

وبالأمل المرجو قد خاب آمـلـه

و بالنظرة العجلى وبالحول تنقضي

 

أوآخره لا نـلـتـقـي وأوائلـه

وله أيضاً:  

وإني لأستحيي من النـاس أن أرى

 

رديفاً لوصـل أو عـلـي رديف

وأشرب رنقا منـك بـعـد مـودة

 

وأرضى بوصل منك وهو ضعيف

وإني للماء المخـالـط لـلـقـذى

 

إذا كـثـرت وراده لـعــيوف

وله م أبيات أيضاً  

بعيد على من ليس يطلب حاجةً

 

وأما على ذي حاجة فقـريب

بثينة قالت يا جميل أريتـنـي

 

فقلت كلانا يابـثـين مـريب

وأريبنـا مـن لا يؤدي أمـانة

 

ولا يحفظ الأسرار حين يغيب

وقال كثير عزة: لقيني مرة جميل بثينة فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من عند أبي الحبيبة، يعني بثينة، فقال: وإلى أين تمضي؟ قلت إلى الحبيبة، يعني عزة، فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتتخذ لي موعداً من بثينة، فقلت: عهدي بها الساعة، وأنا أستحيي أن أرجع، فقال لابد من ذلك، فقلت: متى عهدك ببثينة؟ فقال: من أول الصيف، وقعت سحابة بأسفل وادي الدوم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابا، فلما أبصرتني أنكرلاتني، فضربت يدها إلى الثوب في الماء بالتحفت به، وعرفتني الجاريةفأعادت الثوب إلى الماء، وتحدثنا ساعة حتى غابت الشمس، فسألتها الموعد فقالت: أهلي سائرون، ولا لقيتها بعد ذلك، ولا وجدت أحدا آمنه فأرسله إليها، فقال له كثير: فهل لك أن آتي الحي فأتعرض بأبيات شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخوة بها؟ قال: وذاك الصواب، فخرج كثير جتى أناخ بهم، فقال له أبوها: ماردك يا ابن أخي؟ قال: قلت أبياتاعرضت فأحببت أن أعرضها عليك، قال: هاتها، فأنشدته وبثينة تسمع::  

فقلت لها ياعز أرسل صاحبـي

 

إليك رسولاً والرسول موكـل

بأن تجعلي بيني وبينك مـوعـداً

 

وأن تأمريني بالذي فيه أفعـل

آخرى عهدي منك يوم لقيتـنـي

 

بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل

قال: فضربت بثينة جانب خدرها وقالت: أخسأ اخسأ، فقال لها أبوها: مهيم بابثينة؟ فقالت كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية، ثم قالت للجارية: ابغينا من الدومات حطبا لنذبح لكثير شاة ونشويها له، فقال كثير: أنا أعجل من ذلك، وراح إلى جميل فأخبره، فقال جميل: الموعد الدومات.

وخرجت بثينة وصواحبها إلى الدومات، وجاء جميل وكثير إليهن، فما برحوا حتى برق الصبح، فكان كثير يقول: مارأيت مجلسا قط أحسن من ذلك المجلس، ولا مثل علم أحدهما بضمير الأخر، ما أدري أيهما كان أفهم.

وقال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في تاريخه الكبير: قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: أنشدني أبي هذه الأبيات لجميل بن معمرقال: وتروى لغيره أيضاً، وهي:  

مازلت أبغي الحي أتبع فلـهـم

 

حتى دفعت إلى ربـيبة هـودج

فدنوت مختفـيا ألـم بـيتـهـا

 

حتى ولجت إلى خفي المولـج

فتناولت رأسي لتعرف مـسـه

 

بمخضب الأطراف غير مشنـج

قالت: وعيش أخي ونعمة والدي

 

لأنبهن القوم إن لـم تـخـرج

فخرجت خيفة قولها فتبسـمـت

 

فعلمت أن يمينها لم تـلـجـج

فلثمت فاهاً آخذاً بـقـرونـهـا

 

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

قال هارون بن عبد الله القاضي: قدم جميل بن معمر مصر على عبد العزيز ابن مروان ممتدحاً له، فأذن له وسمع مدائحه وأحسن جائزته، وسأله عن حبه بثينة فذكر وجدا كثيراً، فوعده فيأمرها وأمره بالمقام وأمر له بمنزل وما يصلحه، فما أقام إلا قليلاً حتى مات هناك في سنة اثنتين وثمانين.

وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي قال: بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لك في جميل فإنه يعتل نعوده؟ فدخلناعليه وهو يجود بنفسه، فنظر إلي وقال: يا ابن سهل، ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق يشهد أن ىإله إلا الله؟ قلت: أظنه قد نجا وأرجوا له الجنة، فمن هذا الرجل؟ قال: أنا، قلت له: والله ما أحسبك سلمت وأنت تشبب منذ عشرين سنة ببثينة، قال: لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وإني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها لريبة، فما برحنا حتى مات.

وقال محمد بن أحمد بن جعفر الأهوازي: مرض جميل بمصر مرضه الذي مات فيه، رحمه الله تعالى، فدخل عيه العباس بن سهل الساعدي، وذكر هذه الحكاية، والله أعلم بالصواب.

وذكر في الأغاني عن الأصمعي قال: حدثني رجل شهد جميلاً لما حضرته الوفاة بمصر أنه دعا به فقال له: هل لك أن أعطك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئاً أعهده إليك؟ قال: فقلت: اللهم نعم، فقال: إذا أنامت فخذ حلتي هذه واعزلها جانباً، وكل شيء سواها لك، وارحل إلى رهط بثينة، فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه وركبها، ثم ألبس حلتي هذه واشققها، ثم اعل على شرف وصح بهذه الأبيات وخلاك ذم:  

صرخ النعي وما كنى بجمـيل

 

وثوى بمصر ثواء غير قفـول

ولقد أجر البرد في وادي القرى

 

نشوان بين مزارع وتـخـيل

قومي بثينة فاند بـي بـعـويل

 

وابكي خليلك دون كل خلـيل

 قال: ففعلت ما أمرني به جميل، فما استتمت الأبيات حتى برزت بثينة كأنها بدر قد بدا في دجنة وهي تتثنى في مرطها حتى أتتني وقالت: يا هذا، والله إن كنت صادقا لقد قتلتني، وإن كنت كاذبا لقد فضحتني، قلت: والله ما أنا إلا صادق، وأخرجت حلته، فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت. فمكثت مغشيا عليها ساعة ثم قامت وهي تقول:  

وإن سلوي عن جمـيل لـسـاعة

 

من الدهر ما حانت ولاحان حينها

سواء علينا يا جميل بن معـمـر

 

إذا مت بأساء الحياة ولـينـهـا

وقد تقدم ذكر هذين البيتين في ترجمة الحافظ أبي طاهر أحمد السلفي، قال الرجل: فما رأيت أكثر باكياً ولا باكية من يومئذ. 

المرجع: وفيات الأعيان لابن خلكان

من قصائده: ..