الفرزدق

الفرزدق

641 - 732م

هو همّام بن غالب بن صعصعة، من بني دارم، لُقِّب بالفرزدق، أي قطعة العجين أو الرّغيف الضخم لضخامة وجهه وعبوسه. ولد في البصرة ونشأ فيها. قال الشّعر يافعًا ومال إلى البذاءة والتّهتك. غضب عليه زياد بن أبيه، والي البصرة، فهرب لاجئًا إلى المدينة، ولكن واليها مروان بن الحكم طرده منها.

عاش حياته متنقّلاً بين الأمراء والولاة، يمدح واحدهم ثم يهجوه ثم يمدحه. كان يتشيّع في شعره، ولكن ذلك لم يمنعه من الإتّصال بالأموييّن ومدحهم.

إلتحَم الهجاء بينه وبين جرير طيلة نصف قرن حتى وافته منيّته.

عمّر نيفًا وتسعين سنة قضى معظمها في الفسق والفجور، فتكشّفت له نواحي الحياة بحلْوها ومرّها، وأقبل على الدنيا يتّمتع بملذّاتها حتى في أواخر أيامه. وإذا مرّت به لمحاتٌ سريعةٌ من الزّهد فإنه لا يلبث أن يعود بعدها إلى غوايته، كما حصل له حين هجا إبليس.

هو واحد من ثلاثةٍ قام على مناكبهم صَرح الشعر العربي في عصر بني أميّة. لم يدع فناً من فنون الشعر المعروفة إلا نظم فيه، غير أن الفخر كان أغلب ما وافق طبعه، يليه في ذلك فن الهجاء ثم المديح.

شكّل الفرزدق مع الأخطل وجرير ما عرف بـ "المُثلث الأموي".

أروع مدائحه قصيدته في مدح زين العابدين بن علي، يقال إنه ارتجلها، ومن أبياتها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته                   والبيت يعرفه والحل والحرمُ

هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله                 بجدّه أنبياءُ الله قد ختموا

وليس قولك: من هذا بضائرهِ                    العُربُ تعرفُ من أنكرتَ والعجمُ

امتاز شعر الفرزدق بمتانة التركيب واستخدام الألفاظ البدوية حتى قيل: "حفظ شعر الفرزدق ثلثيّ اللغة من الضياع". وقيل في مجال المقارنة بينه وبين جرير: "جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر".

وفي تفوّقه على خصمه العنيد جرير في الفخر، قيل:

ذهب الفرزدق بالفِخَارِ                  وإنّما حُلوُ الكلامِ ومُرُّهُ لجريرِ

ورد عن الفرزدق في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني: الفرزدق لقب غلب عليه، وتفسيره الرغيف الضخم الذي يجففه النساء للفتوت، وقيل: بل هو القطعة من العجين التي تبسط، فيخبز منها الرغيف، شبه وجهه بذلك؛ لأنه كان غليظاً جهماً. واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم.

قال أبو عبيدة: اسم دارم بحر، واسم أبيه مالك عوف ويقال عرف. وسمى دارم دارماً لأن قوماً أتوا أباه مالكاً في حمالة فقال له: قم يا بحر فأتني بالخريطة - يعني خريطة كان له فيها مال - فحملها يدرم عنها ثقلاً، والدرمان: تقارب الخطو، فقال لهم: جاءكم يدرم بها، فسمى دارماً، وسمي أبوه مالك عرفاً لجوده.

وأم غالب ليلى بنت حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع.

وكان للفرزدق أخ يقال له هميم، ويلقب الأخطل، ليست له نباهة، فأعقب ابنا يقال له محمد، فمات والفرزدق حي فرثاه، وخبره يأتي بعد. وكان للفرزدق من الولد خبطة ولبطة وسبطة، وهؤلاء المعروفون، وكان له غيرهم فماتوا، ولم يعرفوا. وكان له بنات خمس أو ست. وأم الفرزدق - فيما ذكر أبو عبيدة - لينة بنت قرظة الضبية.

جده محيي الموءودات: وكان يقال لصعصعة محي الموءودات؛ وذلك أنه كان مر برجل من قومه، وهوي حفر بئراً، وامرأته تبكي، فقال لها صعصعة: ما يبكيك؟ قالت: يريد أن يئد ابنتي هذه، فقال له: ما حملتك على هذا؟ قال: الفقر. قال: إني اشتريها منك بناقتين يتبعهما أولادهما، تعيشون بألبانهما، ولا تئد الصبية، قال: قد فعلت، فأعطاه الناقتين وجملاً كان تحته فحلاً، وقال في نفسه: إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فجعل على نفسه ألا يسمع بموءودة إلا فداها، فجاء الإسلام وقد فدى ثلثمائة موءودة، وقيل: أربعمائة.

أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي، عن دماذ، عن أبي عبيدة.

وأخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا: حدثنا أبو سعيد السكري، عن محمد بن حبيب، عن أبي عبيدة عن عقال بن شبة قال: قال صعصعة: خرجت باغياً ناقتين لي فارقتين - والفارق: التي تفرق إذا ضربها المخاض فتندّ على وجهها، حتى تنتج - فرفعت لي نار فسرت نحوها، وهممت بالنزول، فجعلت النار تضئ مرة، وتخبو أخرى، فلم تزل تفعل ذلك حتى قلت: اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار ألا أجد أهلها يوقدون لكربة يقدر أحد من الناس أن يفرجها إلا فرجتها عنهم، قال: فلم أسر إلا قليلاً حتى أيتها، فإذا حي من بني أنمار بن الهجيم بن عمرو بن تميم، وإذا أنا بشيخ حادر أشعر يوقدها في مقدم بيته، والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض، قد حبستهن ثلاث ليال. فسلمت فقال الشيخ: من أنت؟ فقلت أنا صعصعة بن ناجية بن عقال، قال: مرحباً بسيدنا، ففيم أنت يا بن أخي؟ فقلت: في بغاء ناقتين لي فارقتين عمي علي أثرهما، فقال: قد وجدتهما بعد أن أحيا الله بهما أهل بيت من قومك، وقد نتجناهما، وعطفت إحداهما على الأخرى، وهما تانك في أدنى الإبل. قال: قلت: ففيم توقد نارك منذ الليلة؟ قال: أوقدها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال، وتكلمت النساء فقلن: قد جاء الولد، فقال الشيخ: إن كان غلاماً فوالله ما أدري ما أصنع به، وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها - أي اقتلها - فقلت: يا هذا ذرها فإنها ابنتك، ورزقها على الله، فقال: اقتلنها، فقلت: أنشدك الله، فقال: إني أراك بها حفياً، فاشترها مني، فقلت: إني أستريها منك، فقال: ما تعطيني؟ قلت: أعطيك إحدى ناقتي قال: لا، قلت: فأزيدك الأخرى، فنظر إلى جملي الذي تحتي، فقال: لا، إلا أن تزيدني جملك هذا، فإني أراه حسن اللون شاب السن، فقلت: هو لك والناقتان على أن تبلغني أهلي عليه، قال: قد فعلت، فابتعتها منه بلقوحين وجمل، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت، حتى تبين منه، أو يدركها الموت، فلما برزت من عنده حدثتني نفسي وقلت: إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فآليت ألا يئد أحد بنتاً له إلا اشتريتها منه بلقوحين وجمل، فبعث الله عز وجل محمداً عليه السلام، وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعاً، ولم يشاركني في ذلك أحد، حتى أنزل اله تحريمه في القرآن، وقد فخر بذلك الفرزدق في عدة قصائد من شعره، ومنها قصيدته التي أولها:

أبي أحد الغيثين صعصعة الـذي

 

متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر

أجار بنات الوائدين ومـن يجـر

 

على الفقر يعلم أنه غير مخفـر

على حين لا تحيا البنات وإذ هـم

 

عكوف على الأصنام حو المدور

المدور: يعني الدوار الذي حول الصنم، وهو طوافهم .

أنا ابن الذي رد المنية فـضـلـه

 

فما حسب دافعت عنه بمـعـور

وفارق ليل من نسـاء أتـت أبـي

 

تمارس ريحاً ليلها غير مقـمـر

فقالت: أجر لي ما ولدت فإنـنـي

 

أتيتك من هزلي الحمولة مقـتـر

هجف من العثو الرؤوس إذا بـدت

 

له ابنة عام يحطم العظم منـكـر

رأس الأرض منها راحة فرمى بها

 

إلى خدد منها إلى شر مـخـفـر

فقال لها: فيئي فإنـي بـذمـتـي

 

لبنتك جار من أبيهـا الـقـنـور

إسلام أبيه على يد الرسول: ووفد غالب بن صعصعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وقد كان وفده أبوه صعصعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بفعله في الموءودات، فاستحسنه وسأله: هل له في ذلك من أجر؟ قال: نعم فأسلم وعمر غالب، حتى لحق أمير المؤمنين علياً صلوات الله عليه بالبصرة، وأدخل إليه الفرزدق، وأظنه مات في إمارة زياد وملك معاوية.

أخبرني محمد بن الحسين الكندي وهاشم بن محمد الخزاعي، وعبد العزيز بن أحمد عم أبي قالوا: حدثنا الرياشي قال: حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية، قال: حدثني عقال بن كسيب أبو الخنساء العنبري، قال: حدثني الطفيل بن عمرو الربعي، عن ربيعة بن مالك بن حنظلة، عن صعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض علي الإسلام، فأسلمت، وعلمني آيات من القرآن، فقلت: يا رسول الله إني عملت أعمالاً في الجاهلية هل لي فيها من أجر؟ فقال: وما عملت؟ فقلت: إني أضللت ناقتين لي عشراوين، فخرجت أبغيهما على جمل، فرفع لي بيتان في فضاء من الأرض، فقصدت قصدهما، فوجدت في أحدهما شيخاً كبيراً، فقلت له: هل أحسست من ناقتين عشراوين؟ قال: وما نارهما؟ - يعني السمة - فقلت: ميسم بني دارم، فقال: قد أصبت ناقتيك ونتجناهما، وظأرتا على أولادهما ونعش الله بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر، فبينا هو يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر: قد ولدت، فقال: وما ولدت؟ إن كان غلاماً فقد شركنا في قوتنا، وإن كانت جارية فادفنوها، فقالت: هي جارية: أفأئدها؟ فقلت: وما هذا المولود؟ قالت: بنت لي، فقلت: إني أشتريها منك، فقال: يا أخا بني تميم، أتقول لي: أتبيعني ابنتك وقد أخبرتك أني من العرب من مضر؟ فقلت: إني لا أشتري منك رقبتها، إنما أشتري دمها لئلا تقتلها، فقال: وبم تشتريها؟ فقلت: بناقتي هاتين وولديهما. قال: لا حتى تزيدني هذا البعير الذي تركبه: قلت: نعم، على أن ترسل معي رسولاً فإذا بلغت أهلي رددت إليك البعير ففعل، فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير، فلما كان في بعض الليل فكرت في نفسي فقلت: إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فظهر الإسلام وقد أحييت ثلثمائة وستين موءودة، أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: هذا باب من البر، ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام، قال عباد: ومصداق ذلك قول الفرزدق:

وجدي الذي منع الوائدات

 

وأحيا الوئيد فـلـم يوأد

أخبرني محمد بن يحيى، عن الغلابي، عن العباس بن بكار، عن أبي بكر الهذلي قال: وفد صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد من تميم، وكان صعصعة قد منع الوئيد في الجاهلية، فلم يدع تميماً تئد، وهو يقدر على ذلك، فجاء الإسلام وقد فدى أربعمائة جارية، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، فقال: أوصيك بأمك وأبيك وأخيك وأختك وإمائك، قال: زدني، قال: احفظ ما بين لحييك، وما بين رجليك.

ثم قال له عليه السلام: ما شيء بلغني عنك فعلته؟ قال: يا رسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه، ولم أدر أين الوجه، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه، ورأيتهم يئدون بناتهم، فعلمت أن ربهم لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم يئدون، وفديت من قدرت عليه.

وروى أبو عبيدة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني حملت حمالات في الجاهلية والإسلام، وعلي منها ألف بعير، فأديت من ذلك سبعمائة، فقال له: إن الإسلام أمر بالوفاء، ونهى عن الغدر، فقال: حسبي حسبي، ووفى بها.

وروي أنه إنما قال هذا القول لعمر بن الخطاب، وقد وفد إليه في خلافته.

وكان صعصعة شاعراً وهو الذي يقول: أنشدنيه محمد بن يحيى له:

إذا المرء عادى من يودك صدره

 

وكان لمن عاداك خدنا مصافـيا

فلا تسألن عمـا لـديه فـإنـه

 

هو الداء لا يخفي بذلك خافـيا

أبوه يعطي دون أن يسأل: أخبرني محمد بن يحيى، عن محمد بن زكريا؛ عن عبد الله بن الضحاك، عن الهيثم بن عدي، عن عوانة قال:  تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم وبكر نفراً ليسائلوهم، فأيهم أعطى، ولم يسألهم عن نسبهم من هم؟ فهو أفضلهم، فاختار كل رجل منهم رجلاً؛ والذين اختيروا عمير بن السليك، بن قيس بن مسعود الشيباني، وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري، وغالب بن صعصعة المجاشعي أبو الفرزدق، فأتوا ابن السليك فسألوه مائة ناقة، فقال: من أنتم؟ فانصرفوا عنه.

ثم أتوا طلبة بن قيس، فقال لهم مثل قول الشيباني، فأتوا غالباً، فسألوه، فأعطاهم مائة ناقة وراعيها، ولم يسألهم من هم فساروا بها ليلة، ثم ردوها، وأخذ صاحب غالب الرهن، وفي ذلك يقول الفرزدق:

وإذا ناحبت كلب على الناس أيهم

 

أحق بتاج الماجد المـتـكـرم

على نفرهم من نزار ذوي العلا

 

وأهل الجراثيم التي لم تـهـدم

فلم يجز عن أحسابهم غير غالب

 

جرى بعنان كل أبيض خضرم

سحيم يعجز عن مباراة أبيه في كرمه: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن جهم السليطي، عن إياس بن شبة، عن عقال بن صعصعة، قال: أجدبت بلاد تميم، وأصابت بن يحنظلة سنة في خلافة عثمان، فبلغهم خصب عن بلاد كلب بن وبرة، فانتجعتها بنو حنظلة، فنزلوا أقصى الوادي، وتسرع غالب بن صعصعة فيهم وحده دون بني مالك بن حنظلة، ولم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب، فنحر ناقته فأطعمهم إياها، فلما وردت إبل سحيم بن وثيل الرياحي حبس منها ناقة، فنحرها من غد، فقيل لغالب: إنما نحر سحيم مواءمة لك - أي مساواة لك - فضحك غالب، وقال: كلا، ولكنه امرؤ كريم، وسوف أنظر في ذلك، فلما وردت إبل غالب حبس منها ناقتين، فنحرهما، فأطعمهما بني يربوع، فعقر سحيم ناقتين، فقال غالب: الآن علمت أنه يوائمني، فقعر غالب عشراً، فأطعمها بني يربوع فعقر سحيم عشراً، فلما بلغ غالباً فعله ضحك، وكانت إبله ترد لخمس، فلما وردت عقرها كلها عن آخرها، فالمكثر يقول: كانت أربعمائة، والمقل يقول: كانت مائة، فأمسك سحيم حينئذ؛ ثم إنه عقر في خلافة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بكناسة الكوفة مائتي ناقة وبعير، فخرج الناس بالزنابيل والأطباق والحبال لأخذ اللحم، ورآهم علي رضي الله عنه، فقال: أيها الناس لا يحل لكم ، إنما أهل بها لغير الله عز وجل. قال: فحدثني من حضر ذلك قال: كان الفرزدق يومئذ مع أبيه وهو غلام، فجعل غالب يقول: يا بني، اردد علي، والفرزدق يردها عليه، ويقول له: يا أبت اعقر، قال جهم: فلم يغن عن سحيم فعله، ولم يجعل كغالب إذا لم يطق فعله.

يقيد نفسه حتى يحفظ القرآن: حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن القاسم - يعني أبا العيناء - عن أبي زيد النحوي، عن أبي عمرو قال: جاء غالب أبو الفرزدق إلى علي بن إبي طالب صلوات الله عليه بالفرزدق بعد الجمل بالبصرة، فقال: إن ابني هذا من شعراء مضر فاسمع منه، قال: علمه القرآن، فكان ذلك في نفس الفرزدق، فقيد نفسه في وقت، وآلى: لا يحل قيده حتى يحفظ القرآن.

عريق في قرض الشعر: قال محمد بن يحيى: فقد صح لنا أن الفرزدق كان شاعراً موصوفاً أربعاً وسبعين سنة، وندع ما قبل ذلك، لأن مجيئه به بعد الجمل - على الاستظهار - كان في سنة ست وثلاثين، وتوفي الفرزدق في سنة عشر ومائة في أول خلافة هشام هو وجرير والحسن البصري وابن سيرين في ستة أشهر، وحكي ذلك عن جماعة، منهم الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه.

أخبرني محمد بن يحيى الصولي عن الغلابي، عن ابن عائشة أيضاً، عن أبيه قال: قال الفرزدق أيضاً: كنت أجيد الهجاء في أيام عثمان، قال: ومات غالب أبو الفرزدق في أول أيام معاوية ودفن بكاظمة فقال الفرزدق يرثيه:

لقد ضمت الأكـفـان مـن آل دارم

 

فتى فائض الكفين محض الضرائب

أيهما أشعر، هو أو جرير؟: أخبرني حبيب المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عمران الضبي، قال: حدثني جعفر بن محمد العنبري، عن خالد بن أم كلثوم، قال: قيل للمفضل الضبي: الفرزدق أشعر أم جرير؟ قال الفرزدق: قال: قلت: ولم؟ قال: لأنه قال بيتاً هجا فيه قبيلتين ومدح فيه قبيلتين وأحسن في ذلك فقال:

عجبت لعجل إذ تهاجي عبيدها

 

كما آل يربوع هجوا آل دارم

فقيل له: قد قال جرير:

إن الفرزدق والبعيث وأمه

 

وأبا البعيث لشر ما إستار

فقال: واي شيء أهون من أن يقول إنسان: فلان وفلان وفلان والناس كلهم بنو الفاعلة!.

أخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: حدثني موسى بن طلحة، قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان الشعراء في الجاهلية من قيس، وليس في الإسلام مثل حظ تميم في الشعر، وأشعر تميم جرير والفرزدق، ومن بني تغلب الأخطل.

قال يونس بن حبيب: ما ذكر جرير والفرزدق في مجلس شهدته قط فاتفق المجلس على أحدهما، قال: وكان يونس فردقياً.

يغتصب بيتين لابن ميادة: أخبرني عمي، عن محمد بن رستم الطبري، عن أبي عثمان المازني قال: مر الفرزدق بابن ميادة الرماح والناس حوله وهو ينشد:

لو أن جميع الناس كانوا بربوة

 

وجئت بجدي ظالم وابن ظالم

لظلت رقاب الناس خاضعة لنا

 

سجوداً على أقدامنا بالجماجم

فسمعه الفرزدق، فقال: أما والله يا بن الفارسية لتدعنه لي أو لنبشن أمك من قبرها، فقال له ابن ميادة: خذه لا بارك الله لك فيه، فقال الفرزدق:

لو أن جميع الناس كانوا بربوة

 

وجئت بجدي دارم وابن دارم

لظلت رقاب الناس خاضعة لنا

 

سجوداً على أقدامنا بالجماجم

عود إليه هو وجرير: أخبرني عمي، عن الكراني، عن أبي فراس الهيثم بن فراس، قال: حدثني ورقة بن معروف، عن حماد الرواية قال: دخل جرير والفرزدق على يزيد بن عبد الملك وعنده بنية له يشمها فقال جرير: ما هذه يا أمير المؤمنين عندك؟ قال: بنية لي، قال: بارك الله لأمير المؤمنين فيها. فقال الفرزدق: إن يكن دارم يضرب فيها فهي أكرم العرب، ثم أقبل يزيد على جرير فقال: مالك والفرزدق؟ قال: إنه يظلمني ويبغي علي، فقال الفرزدق: وجدت آبائي يظلمون آباءه فسرت فيه بسيرتهم، قال جرير: وأما والله لتردن الكبائر على أسافلها سائر اليوم، فقال الفرزدق: أما بك يا حمار بني كليب فلا، ولكن إن شاء صاحب السرير، فلا والله ما لي كفء غيره، فجعل يزيد يضحك.

أخبرنا عبد الله بن مالك، عن محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي، عن حماد الراوية قال: أنشدني الفرزدق يوماً شعراً له ثم قال لي: أتيت الكلب - يعني جريراً - قلت: نعم، قال: أفأنا أشعر أم هو؟ قلت: أنت في بعض وهو في بعض، قال: لم تناصحني، قال: قلت: هو أشعر منك إذا أرخي من خناقة، وأنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت، قال: قضيت لي والله عليه وهل الشعر إلا في الخبر والشر.

قال: رورى عن أبي الزناد عن أبيه قال: قال لي جرير: يا أبا عبد الرحمن: أنا شعر أم هذا الخبيث - يعني الفرزدق - وناشدني لأخبرنه، فقلت: لا والله ما يشاركك ولا يتعلق بك في النسيب قال: أوه قضيت والله له علي، أنا والله أخبرك: ما دهاني، إلا أني هاجيت كذا وكذا شاعراً، فسمى عدداً كثيراً، وأنه تفرد لي وحدي.

خبره مع النوار: أخبرني عبد الله قال: قال المازني: قال أبو علي الحرمازي: كان من خبر الفرزدق والنوار ابنة أعين بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي - وكانت ابنة عمه - أنه خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيته، وكان الفرزدق وليها، فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل، فقال لا أفعل أو تشهديني أنك قد رضيت بمن زجتك، ففعلت، فلما توثق منها، قال: أرسلي إلى القوم فليأتوا، فجاءت بنو عبد الله بن دارم فشحنوا مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها، وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة نقاة حمراء سوداء الحدقة. فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى ابن الزبير حين أعياها أهل البصرة ألا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود، وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء الفرزدق، وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعي له بالخلافة - فلم تجد من يحملها، وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة بن أد، يقال لهم بنو أم السير، فسألتهم برحم تجمعهم وإياها - وكانت بينها وبينهم قرابة - فأقسمت عليهم أمها: ليحملنها، فحملوها، فبلغ ذلك الفرزدق، فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه، وأوقروا له عدة من الإبل، وأعين بنفقة، فتبع النوار، وقال:

أطاعت بني أم السير فأصبحـت

 

على شارف ورقاء صعب ذلولها

وإن الذي أمسى يخبب زوجتي

 

كماش إلى أسد الشرى يستبيلها

فأدركها وقد قدمت مكة، فاستجارت بخولة بنت منظور بن زيان بن سيار الفزاري، وكانت عند عبد الله بن الزبير، فلما قدم الفرزدق مكة اشرأب الناس إليه، ونزل على بني عبد الله بن الزبير، فاستنشدوه، واستحدثوه ثم شفعوا له إلى أبيهم، فجعل يشفعهم في الظاهر، حتى إذا صار إلى خولة قلبته عن رأيه، فمال إلى النوار، فقال الفرزدق في ذلك: صوت

أما بنوه فلم تقبل شفاعتـهـم

 

وشفعت بنت منظور بن زبانا

ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً

 

مثل الشفيع الذي يأتيك عرياناً

لعريب في هذا البيت خفيف رمل.

قال: وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة، فاصطلحا على أن يرجعا إلى البصرة، ولا يجمعهما ظل ولاكن حتى يجمعا في أمرهما ذلك بني تميم، ويصيرا على حكمهم. ففعلا، فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها.

قال: وقال غير الحرمازي: إن ابن الزبير قال للفرزدق: جئني بصداقها وإلا فرقت بينكما، فقال الفرزدق: أنا في بلاد غربة فكيف أصنع؟ قالوا له: عليك بسلم بن زياد، فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال، فأتاه فقص عليه قصته قال: كم صداقها؟ قال: أربعة آلاف درهم، فأمر له بها وبألفين للنفقة، فقال الفرزدق:

دعي مغلقي الأبواب دون فعالهمولكن تمشي بي هبلت إلى سلم

 

إلى من يرى المعروف سهلاً سبيله

 

ويفـعـل أفـعـال الـرجـال الـتـي تـــنـــمـــي

قال: فدفعها غليه ابن الزبير، فقال الفرزدق:

هلمي لابن عمك لا تكونـي

 

كمختار على الفرس الحمارا

قال: فجاء بها إلى البصرة - وقد أحبلها - فقال جرير في ذلك:

ألا تلكم عرس الفرزدق جامحـاً

 

ولو رضيت رمح استه لاستقرت

فأجابه الفرزدق، وقال:

وأمك لو لاقيتـهـا بـطـمـرة

 

وجاءت بها جوف استها لاستقرت

وقال الفرزدق وهو يخاسم النوار:

تخاصمني وقد أولجت فـيهـا

 

كرأس الضب يلتمس الجراداا

قال الحرمازي: ومكثت النوار عنده زماناً، ترضى عنه أحياناً، وتخاصمه أحياناً، وكانت النوار إمرأة صالحة، فلم تزل تشمشئز منه، وتقول له: ويحك! أنت تعلم أنك إنما تزوجت بي ضغطة وعلى خدعة، ثم لا تزال في كل ذلك، حتى حلفت بيمين مؤثة، ثم حنثت. وتجنبت فراشه، فتزوج عليها امرأة يقال لها جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد بن ضبيعة وأمها الخميصة من بني الحارث بن عباد، فنافرته الخميصة، واستعدت عليه فأنكرها الفرزدق، وقال: إنها مني بريء طالق وطلق ابنتها، وقال:

إن الخميصة كانت لي ولابنتها

 

مثل الهراسة بين النعل والقدم

إذا أتت أهلها مني مطـلـقة

 

فلن أرد عليها زفرة الـنـدم

جعل يأتي النوار وبه ردع الخلوق وعليه الأثر فقالت له النوار: هل تزوجتها إلا هدادية - تعني حياً من أزد عمان - فقال الفرزدق في ذلك:

تريك نجوم الليل والشمس حـية

 

كرام بنات الحارث بن عـبـاد

أبوها الذي قاد النعامة بعـدمـا

 

أبت وائل في الحرب غير تماد

نساء أبوهن الأعز ولـم تـكـن

 

من الأزد في جاراتهـا وهـداد

ولم يك في الحي الغموض محلها

 

ولا في العمانـيين رهـط زياد

عدلت بها ميل النوار فأصبحـت

 

وقد رضيت بالنصف بعد بعـاد

قال: فلم تزل النوار ترققه، وتستعطفه، حتى أجابها إلى طلاقها، وأخذ عليها ألا تفارقه ولا تبرح من منزله، ولا تتزوج رجلاً بعده، ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له، وأخذت عليه أن يشهد الحسن البصري على طلاقها، ففعل ذلك.

قال المازني: وحدثني محمد بن روح العدوي عن أبي شفقل راوية الفرزدق قال: ما استصحب الفرزدق أحداً غيري وغير راوية آخر، وقد صحب النوار رجال كثيرة، إلا أنهم كانوا يلوذون بالسواري خوفاً من أن يراهم الفرزدق، فأتيا الحسن فقال له الفرزدق: يا أبا سعيد، قال له الحسن: ما تشاء؟ قال: أشهد أن النوار طالق ثلاثاً، فقال الحسن: قد شهدنا، فلما انصرفنا قال: يا أبا شفقل، قد ندمت، فقلت له: والله إني لأظن أن دمك يترقرق، أتدري من أشهدت؟ والله لئن رجعت لترجمن بأحجارك، فمضى وهو يقول:

ندمت ندامة الكسعي لـمـا

 

غدت مني مطلـقة نـوار

ولو أني ملكت يدي وقلبـي

 

لكان علي للقدر الـخـيار

وكانت جنتي فخرجت منها

 

كآدم حين أخرجه الضرار

وكنت كفاقئ عينيه عمـداً

 

فأصبح ما يضيء له النهار

يخاصم كل من يمد يده لمساعدة النوار: وأخبرني بخبره مع النوار أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني محمد بن يحيى، عن أبيه يحيى بن علي بن حميد: أن النار لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري ليمنعوها فقال الفرزدق فيهم:

بني عاصم لا تجبوها فإنكـم

 

ملاجئ للسوآت دسم العمائم

بَني عاصمٍ لو كان حَيّا أبوكـم

 

للام بنيه اليوم قيس بن عاصم

فبلغهم ذلك الشعر، فقالوا: والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة، وخلوه والنوار وأرادت منافرته إلى ابن الزبير، فلم يقدر أحدٌ على أن يكريها خوفاً منه. ثم إن قوماً من بني عدي يقال لهم بنو أم النسير أكروها، فقال الفرزدق:

ولولا أن يقول بنو عدي

 

ألم تك أم حنظلة النوار

أتتكم يا بني ملكان عني

 

قواف لا تقسمها التجار

وقال فيهم أيضاً:

لعمري لقد أردى النوار وسـاقـهـا

 

إلى البور أحلام خفاف عقـولـهـا

أطاعت بني أم السير فأصـبـحـت

 

على قتب يعلو الـفـلاة دلـيلـهـا

وقد سخطت مني النوار الذي ارتضى

 

به قبلها الأزواج خاب رحـيلـهـا

وإن امرأ أمسى يخبـت زوجـتـي

 

كساع إلى أسد الشرى يستبـيلـهـا

ومن دون أبـواب الأسـود بـسـالة

 

وبسطة أيد يمنع الضيم طـولـهـا

وإن أمير الـمـؤمـنـين لـعـالـم

 

بتأويل ما وصى العباد رسـولـهـا

فدونكها يا بـن الـزبـير فـإنـهـا

 

مولعة يوهي الحجـارة قـيلـهـا

وما جادل الأقوام من ذي خصـومة

 

كورهاء مشنوء إليها حـلـيلـهـا

فلما قدمت مكة نزلت على تماضر بنت منظور بن زيان زوجة عبد الله بن الزبير، ونزل الفرزدق بحمزة بن عبد الله بن الزبير، ومدحه بقوله:

أمسيت قد نزلت بحمزة حاجـتـي

 

إن المنوه باسـمـه الـمـوثـوق

بأبي عمارة خير من وطئ الححصا

 

وجرت له في الصالحين عـروق

بين الحـواري الأعـز وهـاشـم

 

ثم الخلـيفة بـعـد والـصـديق

غنى في هذه الأبيات ابن سريج رملاً بالبنصر.

قال: فجعل أمر النوار يقوى، وأمر الفرزدق يضعف، فقال:

أما بنوه فلم تقبل شفاعتـهـم

 

وشفعت بنت منظور بن زبانا

وجاء أيضاً في "الأغاني": لأن أخباره كثيرة جداً، فكرهت أن أثبتها ها هنا في غناء مشكوك فيه، فذكرت نسبه وخبره في هذا الشعر خاصة، وأخباره تأتي بعد هذا في موضع مفرد يتسع لطول أحاديثه نسبه: الفرزدق لقبٌ غلب عليه. واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.

هو وجرير والأخطل أشعر طبقات الإسلاميين والمقدم في الطبقة الأولى منهم. وأخباره تذكر مفردةً في موضع آخر يتسع لها، ونذكر ها هنا في هذا المعنى. فأخبرني خبره في ذلك جماعة. فممن أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة، وأخبرني به أبو خليفة إجازةً عن محمد بن سلام، وأخبرني به محمد بن العباس اليزيدي عن السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وابن الأعرابي، قال عمر بن شبة خاصة في خبره حدثني محمد بن يحيى قال حدثني أبي: حديث الفرزدق والنوار وذمه بني قيس وزهيراً وبني أم النسير لمعاونتهم إياها: أن عبد الله بن الزبير تزوج تماضر بنت منظور بن زبان، وأمها مليكة بنت خارجة بن سنان بن أبي حارثة، فخاصم الفرزدق امرأته النوار إلى ابن الزبير. هكذا ذكر محمد بن يحيى ولم يذكر السبب في الخصومة، وذكرها عمر بن شبة ولم يروها عن أحد، وذكرها ابن حبيب عن أصحابه، وذكرها أبو غسان دماذٌ عن أبي عبيدة: أن رجلاً من بني أمية خطب النوار بنت أعين المجاشعية، فرضيته وجعلت أمرها إلى الفرزدق. فقال: أشهدي لي بذلك على نفسك شهوداً ففعلت، واجتمع الناس لذلك. فتكلم الفرزدق ثم قال: اشهدوا أني قد تزوجتها وأصدقتها كذا وكذا، فأنا ابن عمها وأحق بها. فبلغ ذلك النوار فأبته واستترت من الفرزدق وجزعت ولجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري. فقال فيها:

بني عاصمٍ لا تلجئوها فإنكـم

 

ملاجئ للسوءات دسم العمائم

بني عاصمٍ لولا كان حياً أبوكم

 

للام بنيه اليوم قيس بن عاصم

فقالوا: والله لئن زدت على هذين البيتين لتقتلنك غيلةً. فنافرته إلى عبد الله بن الزبير وأرادت الخروج إليه؛ فتحامى الناس كراءها. ثم إن رجلاً من بني عدي يقال له زهير بن ثعلبة وقوماً يعرفون ببني أم النسير أكروها؛ فقال الفرزدق:

ولولا أن تقول بني عدي

 

أليست أم حنظلة النوار

أتتكم يابني ملكان عنـي

 

قوافٍ لا تقسمها التجار

يعني بالنوار ها هنا بنت جل بن عدي بن عبد مناة وهي أم حنظلة بن مالك بن زيد مناة وهي إحدى جداته. وقال فيها أيضاً:

سرى بالنوار عوهجيٌ يسـوقـه

 

عبيدٌ قصير الشبر نائي الأقارب

تؤم بلاد الأمـن دائبة الـسـرى

 

إلى خير والٍ من لؤي بن غالب

فدونك عرسي تبتغي نقض عقدتي

 

وإبطال حقي باليمين الـكـواذب

وقال أيضاً:

ولولا أن أمـي مـن عـديٍ

 

وأني كارهٌ سخط الربـاب

إذاً لأتى الدواهي من قريبٍ

 

جزاءً غير منصرف العقاب

وصلت على بني ملكان مني

 

بجيش غير منتظـر الإياب

وقال لزهير أيضاً:

لبئس العبء يحمله زهيرٌ

 

على أعجاز صرمته نوار

لقد أهدت وليدتنا إلـيكـم

 

عوائر لا تقسمها التجـار

وقال لبني أم النسير:

لعمري لقد أردى النوار وسـاقـهـا

 

إلى الغور أحلامٌ خفافٌ عقولـهـا

أطاعت بني أم النسير فأصـبـحـت

 

على قتبٍ يعلو الـفـلاة دلـيلـهـا

وقد سخطت مني النوار الذي ارتضى

 

به قبلها الأزواج خاب رحـيلـهـا

وإن امرأً أمسى تحبـب زوجـتـي

 

كماش إلى أسد الشرى يستبـيلـهـا

ومن دون أبـوال الأسـود بـسـالةٌ

 

وبسطة أيدٍ يمنع الضيم طـولـهـا

وإن أمير الـمـؤمـنـين لـعـالـمٌ

 

بتأويل ما أوصى العباد رسـولـهـا

فدونكها يابـن الـزبـير فـإنـهـا

 

مولعةٌ يوهي الحجـارة قـيلـهـا

استشفعت النوار إلى ابن الزبير امرأته فاستشفع هو بابنه حمزة: فلما قدمت مكة نزلت على بنت منظور بن زبان، واستشفعت بها إلى زوجها عبد الله. وانضم الفرزدق إلى حمزة بن عبد الله بن الزبير وأمه بنت منظورٍ هذه، ومدحه فقال:

أصبحت قد نزلت بحمزة حاجتي

 

إن المنوه باسمه الـمـوثـوق

الأبيات. وقال فيه أيضاً:

يا حمز هل لك في ذي حاجة غرضت

 

أنضاؤه بمكـانٍ غـير مـمـطـور

فأنت أحرى قريشٍ أن تكـون لـهـا

 

وأنت بين أبي بـكـر ومـنـظـور

بين الحواري والصديق في شـعـبٍ

 

نبتنا في طـيب الإسـلام والـخـير

هذه الأبيات كلها من رواية أبي زيد خاصةً. قالوا جميعاً: وقال في النوار:

هلمي لابن عمك لا تكونـي

 

كمختارٍ على الفرس الحمارا

وقال فيها ايضاً:

تخاصمني النوار وغاب فيها

 

كرأس الضب يلتمس الجرادا

قال أبو زيد في خبره خاصة: فجعل أمر الفرزدق يضعف وأمر النوار يقوى. وقال الفرزدق:

أما بنوه فلم تقبل شفاعتـهـم

 

وشفعت بنت منظور بن زبانا

صوت

ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً

 

مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

- غنت في هذا البيت عريب خفيف ثقيلٍ أول بالبنصر - فبلغ ابن الزبير هذا فدعا النوار فقال: إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا يهجونا أبداً، وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو. فقالت: ما أريد واحدةً منهما. قال: فإنه ابن عمك وهو فيك راغب، أفأزوجه إياك؟ قالت نعم. فزوجه إياها. فكان الفرزدق يقول: خرجنا متباغضين فرجعنا متحابين.


المرجع: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني


من قصائده: ..