المتنبي

المتنبّـي

303-350هـ

هو أبو الطّيب المتنّبي، الشّاعر الأشهر. اسمه أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصّمد الجُعفي الكِنْدي الكوفي. سُمّي "المتنبّي" لأنه، على ما قيل، ادّعى النّبوة في بادية السّماوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم. فخرج إليه لؤلؤ، أمير حمص نائب الإخشيديّة، فأسره وتفرّق أصحابه، وحبسه طويلاً ثم استتابه وأطلقه. وكان قد قرأ على البوادي كلامًا ذكر فيه أنّه قرآن أُنزِلَ عليه، ومن ذلك: "والنّجم السّيار، والفلك الدّوار، واللّيل والنّهار، أن الكافر لفي أخطار؛ امضِ على سُنّتِك، واقف أثر مَن كان قبلك من المُرسلين، فإن اللّه قامعٌ بك زيغ مَن ألحدَ في الدّين وضلّ عن السّبيل".

وكان إذا جلس في مجلس سيف الدولة وأخبروه عن هذا الكلام أنكره وجحده. ولما أُطلِقَ من السّجن، التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان ثم فارقه. ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة، ومدح كافور الإخشيدي، وقصد بلاد فارس ومدح عضد الدّولة بن بويه الدّيلمي، فأجزل صلته. ولما رجع من عنده عرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في عدّةٍ من أصحابه، فقاتله فقُتِل المتنبي وابنه مجسد وغلامه مفلح بالقرب من النّعمانية في موضعٍ يُقال له الصّافية، من الجانب الغربي من سواد بغداد. نشأ المتنبي في أسرةٍ فقيرةٍ. أبوه سقّاء ماء، فشبّ متمردًا على واقعه، وغلت في عروقه دماءُ الشّباب، فأُصيب بداء الغرور وجنون العَظَمة، ورأى نفسه مدار الكون مُعتقدًا انّ الدّنيا خادم مطيع لطموحاته. وهو القائل:

وكلّ ماخلق الله وما لم يخلق               مُحتَقَرٌ في هِمتي كشعرةٍ في مفرقي

بعد فشل المتنبّي في النّبوة، راح يسعى وراء الملك، مدفوعًا بشعورٍ قوميٍّ عربيٍّ جعله ينقم على أمراء عصره كونهم من الأعاجم. فراح ينتقل من مكانٍ إلى آخر، حتى التقى سيف الدولة الحمداني، أمير حلب، فاستقرّ عنده تسع سنوات، وقال فيه أجمل مدائحه وأصدقها لأنه رأى فيه القائد العربيّ الذي يقارع بجيشه الصّغير جيوش الرّوم وينتصر عليهم في معارك كثيرةٍ.

عالج أبو الطّيب في شعره معظم المواضيع المعروفة، لكن المديح يحتل ثلث ديوانه، وأجمله وأكثره ما جاء في مدح سيف الدّولة. وفي الهجاء، بَرَع في هجاء كافور، وبخاصّة في قصيدته التّي مطلعها:

عيد بأيّة حال عُدْتَ ياعيدُ                   بما مضى أم لأمرٍ فيكَ تجديد

وأشهر ما فيها قوله:

لا تشترِ العبدَ إلاّ والعصا معه                   إنّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ

وأمّا حكمة المتنبي فقد سارت على كلّ شفةٍ ولسان، وهْي، وإن لم تكن قائمة في قصائد مستقلّةٍ، لكنها جاءت ضُمن أشعاره؛ غير أنها جاءت معبّرةً عن حقائق النّفس الإنسانية وما يعترضها في مختلف مراحل الحياة، حتى قيل في صاحبها: "ما اجتمع اثنان يتحدّثان إلاّ كان المتنبي ثالثهما".

أبدع المتنبّي في وصف المعارك، فلامس فيها الفنّ الملحمي. وأشهر قصائده الملحمية "ميميّته" في سيف الدولة، يمتدحه في انتصاره على الرّوم، في موقعة القلعة. ومطلعها:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم                وتأتي على قدر الكرامِ المَكارمُ

وحَسبُ المتنبي يقال فيه: "مالئ الدّنيا وشاغل النّاس".

وورد في "وفيات الأعيان" لابن خلكان: هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور، وقيل: هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار، والله أعلم.

هو من أهل الكوفة، وقدم الشام في صباه وجال في أقطاره، واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها، وكان من الكثيرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر، حتى قيل: إن الشيخ أبا علي الفارسي، صاحب الإيضاح والتكملة، قال له يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعلي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال علي أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً، فلم أجد. وحسبك من يقول في حقه أبو علي هذه المقالة. وحجلى: جمع حجل، وهو: الطائر الذي يسمى القبج.

والظربي: جمع ظربان - على مثال قطران - وهي دويبة منتنة الرائحة.

وأما شعره فهو في النهاية، ولا حاجة إلى ذكر شيء منه لشهرته، لكن الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله كان يروي له بيتين لايوجدان في ديوانه وكانت روايته لهما بالإسناد الصحيح المتصل به، فأحببت ذكرهما لغرابتهما، وهما:

أبيعين مفتقر إليك نظرتنـي

 

فأهنتني وقد فتني من حالق

لست الملوم أنا الملوم لأنني

 

أنزلت آمالي بغير الخالـق

ولما كان بمصر مرض، وكان له صديق يغشاه في علته، فلما أبل أنقطع عنه، فكتب إليه: وصلتني وصلك الله معتلاً، وقطعتني مبلاً، فإن رأيت أن لاتحبب العلة إلي، ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله تعالى.

والناس في شعره على طبقات: فمنهم من يرجحه على ابي تمام ومن بعده، ومنهم من يرجح أبا تمام عليه، وقال أبو العباس أحمد بن محمد النامي الشاعر الآتي ذكره عقيب هذا: كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي، وكنت أشتهي أن أكون قد سبقته إلى معنيين قالهما ماسبق إليهما، أحدهما قوله:  

رماني الدهر بالأرزاء حتـى

 

فؤادي في غشاء من نـبـال

فصرت إذا أصابتني سـهـام

 

تكسرت النصال على النصال

والآخر قوله:

في جحفل ستر العيون غباره

 

فكأنما يبـصـرن بـالآذان

واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه، وقال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم: وقفت له على أكثر من أربعين شرحاً ما بين مطولات ومختصرات، ولم يفعل هذا بديوان غيره، ولاشك أنه كان رجلاً مسعوداً، ورزق في شعره السعادة التامة.

وإنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيدية فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلاً ثم استتابه وأطلقه، وقيل غير ذلك، وهذا أصح، وقيل: إنه قال: أنا أول من تنبأ بالشعر.

ثم التحق بالمير سيف الدولة بن حمدان في سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلثمائة، ومدح كافوراً الإخشيدي وأنوجور ابن الإخشيد، وكان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسط سيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلثمائة، ووجه كافور خلفه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق، وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه خافه، وعوتب فيه فقال: ياقوم، من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أما يدعي المملكة مع كافور؟ فحسبكم.

قال أبو الفتح ابن جني النحوي: كنت قرأت ديوان أبي الطيب المتنبي عليه، فقرأت عليه قوله في كافور القصيدة التي أولها:  

أغالب فيك الشوق والشـوق أغـلـب

 

وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب

حتى بلغت إلى قوله:  

ألا ليت شعري هل أقول قصيدة

 

ولا اشتكي فيها ولاأتـعـتـب

وبي ما يذود الشعر عني أقله

 

ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب

فقلت له: يعز عليي، كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة؟ فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع، ألست القائل فيه: 

أخا الجود، أعط الناس ما أنت مالك

 

ولاتعطين النـاس مـا أنـاقـائل

فهو الذي أعطاني كافوراً بسوء تدبيره وقلة تمييزه.

وكان لسيف الدولة مجلس يحضره العلماء كل ليلة فيتكلمون بحضرته، فوقعبين المتنبي وبين ابن خالويه النحوي كلام، فوثب ابن خالويه على المتنبي فضرب وجهه بمفتاح كان معه، فشجه وخرج ودمه يسيل على ثيابه، فغضب وخر إلى مصر وامتدح كافوراً.

ثم رحل عنه وقصد بلاد فارس، ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي، فأجزل جائزته، ولما رجع من عنده قاصداً إلى بغداد ثم إلى الكوفة في شعبان لثمان خلون منه عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدة من اصحابه، وكان مع المتنبي أيضاً جماعة من أصحابه، فقاتلوهم، فقتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية، في موضع يقال له الصافية، وقيل حيال الصافية، من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهمامسافة ميلين.

وذكر ابن رشيق في كتاب العمدة في باب منافع الشعر ومضاره أن أبا الطيب لما فر حين رأى الغلبة قال له غلامه: لايتحدث الناس عنك بالفرار أبدا وأنت القائل:  

فالخيل والليل والبيداء تـعـرفـنـي

 

والحرب والضرب والقرطاس والقلم

فكر راجعاً حتى قتل، وكان سبب قتله هذا البيت، وذلك يوم الأربعاء ليست بقين - وقيل: لثلاث بقين، وقيل: لليلتين بقيتا - من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وقيل: إن قتله كان يوم الاثنين لثمان بقين من شهر رمضان، وقيل: لخمس بقين من شهر رمضان من السنة المذكورة.

ومولده في سنة ثلاث وثلثمائة بالكوفة في محلة تسمى كندة فنسب إليها، وليس هو من كندة التي هي قبيلة، بل هو جعفي القبيلة - بضم الجيم وسكون العين المهملة وبعدها فاء - وهو جعفي بن سعد العشيرة بن مذحج، واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وإنما قيل له سعد العشيرة لأنه كان يركب - فيما قيل - في ثلثمائة من ولده وولد ولده، فإذا قيل له: من هؤلاء؟ قال: عشيرتي، مخافة العين عليهم.

ويقال: إن أبا المتنبي كان سقاء بالكوفة، ثم انتقل إلى الشام بولده، ونشأ ولده بالشام، وإلى هذا أشار بعض الشعراء في هجو المتنبي حيث قال:

أي فضل لشاعر يطلب الفض

 

ل من الناس بكرة وعـشـيا

عاش حيناً يبيع في الكوفة الما

 

ء، وحيناً يبيع ماء المـحـيا

وسيأتي في حرف الحاء نظير هذا المعنى لابن المعذل في أبي تمام حبيببن أوس الشاعر المشهور.

ولما قتل المتنبي رثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بقوله:

لارعى الله سرب هذا الزمان

 

إذ دهانا في مثل ذاك اللسان

مارأى الناس ثاني المتنـبـي

 

أي ثان يرى لبكر الـزمـان

كان من نفسه الكبيرة فيجـي

 

ش وفي كبرياء ذي سلطـان

هو في شعره نبي، ولـكـن

 

ظهرت معجزاته في المعاني

والطبسي - بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وبعدها سبن مهملة - هذه النسبة إلى مدينة في البرية بين نيسابور وإصبهان وكرمان يقال لها طبس.

ويحكى أن المعتمد بن عباد اللخمي صاحب قرطبة وإشبيلية أنشد يوماً في مجلسه بيت المتنبي، وهو من جملة قصيدته المشهورة:  

إذا ظفرت منك العيون بنظـرة

 

أثاب بها معيي المطي ورازمه

وجعل يردده استحساناً له، وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الأندلسي، فأنشد ارتجالاً:  

لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما

 

تجيد العطايا واللها تفتح اللها

تنبأ عجبا بالقريض ولـو درى

 

بأنك تروي شعره لتـألـهـا

وذكر الإفليلي أن المتنبي أنشد سيف الدولة بن حمدان في الميدان قصيدته التي أولها:  

لكل امرىء من دهره مـا تـعـودا

 

وعادات سيف الدولة الطعن في العدا

فلما عاد سيف الدولة إلى داره استعاده إياها، فأنشدها قاعداً، فقال بعض الحاضرين - يريد أن يكيد أبا الطيب - لو أنشدها قائماً لأسمع، فإن أكثر الناس لايسمعون، فقال أبو الطيب: أما سمعت أولها:  

لكل امرىء من دهره ماتعودا

من قصائده...