أبو العتاهية

747 - 826م

هو أبو إسحق إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان العنزي بالولاء العيني المعروف بأبي العتاهية الشاعر المشهور.

ولد بعين النمر، وهي قرية بالحجاز قرب المدينة وقيل إنها من أعمال سقي الفرات، وقيل إنها قرب الأنبار.

نشأ بالكوفة وسكن بغداد وكان مبدأ أمره يبيع الجرار فقيل له الجرار واشتهر بمحبة عتبة جارية أمير المؤمنين المهدي وأكثر نسيبه فيها.

أبو العتاهية شاعر مكثر، سريع الخاطر، مبدع في شعره. وكان ينظم المئة والخمسين بيتًا في يومٍ واحدٍ. ويعدّ أبو العتاهية من متقدمي المولدين الشعراء، من طبقة بشار بن برد وأبي نواس وأمثالهما.

وجاء في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني: أبو العتاهية لقب غلب عليه. واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، مولى عنزة، وكنيته أبو إسحاق، وأمه أم زيد بنت زياد المحاربي مولى بني زهرة؛ وفي ذلك يقول أبو قابوس النصراني وقد بلغه أن أبا العتاهية فضل عليه العتابي:  

قل للمكني نفـسـه

 

متخيراً بعتـاهـية

والمرسل الكلم القبي

 

ح وعته أذن واعية

إن كنت سرا سؤتني

 

أو كان ذاك علانية

فعليك لعنة ذي الجلا

 

ل وأم زيد زانـية

مناحيه الشعرية

ومنشؤه بالكوفة. وكان في أول أمره يتخنث ويحمل زاملة المخنثين، ثم كان يبيع الفخار بالكوفة، ثم قال الشعر فبرع فيه وتقدم. ويقال: أطبع الناس بشار والسيد أبو العتاهية. وما قدر أحد على جمع شعر هؤلاء الثلاثة لكثرته. وكان غزير البحر، لطيف المعاني، سهل الألفاظ، كثير الافتتان، قليل التكلف، إلا إنه كثير الساقط المرذول مع ذلك. وأكثر شعره في الزهد والأمثال. وكان قوم من أهل عصره ينسبونه إلى الوقل بمذهب الفاسفة ممن لا يؤمن بالبعث، ويحتجون بأن شعره إنما هو في ذكر الموت والفناس دون ذكر النشور والمعاد. وله أوزان طريفة قالها مما لم يتقدمه الأوائل فيها. وكان أبخل الناس مع يساره وكثرة ما جمعه من الأموال.

سبب كنيته

حدثني محمد بن يحيى الصولي قال أخبرني محمد بن موسى بن حماد قال: قال المهدي بن يحيى الصولي قال أخبرني محمد بن موسى بن حماد قال: قال المهدي يوما" لأبي العتاهية: أنت إنسان متحذلق مهته. فاستوت له من ذلك كنية غلبت عليه دون اسمه وكنيته، وسارت له في الناس. قال: ويقال للرجل المتحذلق: عتاهية، كما يقال للرجل الطويل: شناحية. ويقال: أبو عتاهية، بإسقاط الألف واللام.

قال محمد بن يحيى وأخبرني محمد بن موسى قال أخبرني ميمون بن هارون عن بعض مشايخه قال: كني بأبي العتاهية إن كان يحب الشهرة والمجون والتعته.

وبلده الكوفة وبلد آبائه وبها مولده ومنشؤه وباديته

يقول ابنه إنها من عنزة: قال محمد بن سلامك: وكان محمد بن أبي العتاهية يذكر أن أصلهم من عنزة، وأن جدهم كيسان كان من أهل عين التمر، فلما غزاها خالد نب الوليد كان كيسان جدهم هذا يتيما" صغيرا" يكفله قرابة له من نعنزة، فسباه خالد مع جماعة صبيان من أهلها، فوجه بهم إلى أبي بكر، فوصلوا إليه وبحضرته عباد بن رفاعة العنزي بن أسد بن ربيعة بن نزار، فجعل أبو بكر رضي الله عنه يسأل الصبيان عن أنسابهم فيخبره كل واحد بمبلغ معرفته، حتى سأل كيسان، فذكر له أنهخ من عنزة. فلما سمعه عبد يقول ذلك استوهبه من أبي بكر رضي الله عنه، وقد كان خالصا" له، فوهبه له؛ فأعتقه، فتولى عنزة.

استعداؤه مندل بن علي وأخاه علي سبه بأنه نبطي: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن الحجاج الجلاني الكوفي قال حدثني أبو دذيل مصعب بن دؤيل الجلاني، قال: لم أر قط مندل بن علي العنزي وأخاه حيان بن علي غضبا من شيء قط إلا يوما" واحدا"، دخل عليهما أبو العتاهية وهو مضمخ بالدماء. فقالا له: ويحك ما بالك؟ فقال لهما: من أنا؟ فقالا له: أنت أخونا وابن عمنا ومولانا. فقال: إن فلانا" الجزار قتلني وضربني وزعم أني نبطي، فإن كنت نبطيا" هربت على وجهي، وإلا فقوما فخذا لي بحقي. فقام معه مندل بن علي وما تعلق نعله غضبا"؛ وقال له: والله لو كان حقك على عيسى بن موسى لأخذته لك منه؛ ومر معه حافيا" حتى أخذ له بحقه.

أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى عن الحسن بن علي عن عمر بن معاوية عن جبارة بن المغلي الحماني قال: أبو العتاهية مولى عطاء بن محجن العنزي.

أبو العتاهية وصنعة أهله أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال قال أبو عون أحمد بن المنجم أخبرني خيار الكاتب قال: كان أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي من أهل المذار جميعا"، وكان أبو العتاهية وأهله يعملون الجرار الخضر، فقدما إلى بغداد ثم افترقا؛ فنزل إبراهيم الموصلي ببغداد، ونزل أبو العتاهية الحيرة. وذكر عن الرياشي أنه قال مثل ذلك، وأن أبا العتاهية نقله إلى الكوفة.

قال محمد بن موسى: فولاء أبي العتاهية من قبل أبيه لعنزة، ومن قبل أمه لبني زهرة، ثم لمحمد بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكانت أمه مولاة لهم، ثقال لها أم زيد.

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن مهروية؛ قال قال الخليل بن أسد: كان أبو العتاهية يأتينا فيستأذن ويقول: أبو إسحاق الخزاف. وكان أبوه حجاما" من أهل ورجة؛ ولذلك يقول أبو العتاهية:

ألا إنما التقوى هو العز والـكـرم

 

وحبك للدنيا هو الفقـر والـعـدم

وليس على عبد قـتـي تـقـيصة

 

إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم

آراؤه الدينية

حدثني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى عن أحمد بن حرب قال: كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد، وأن الله خلق جوهرين متضادين لامن شيء، ثم إنه بني العالم هذه البنية منهما، وأن العالم حديث العين والصنعه لامحدث له إلا الله. وكان يزعم أن الله سيرد كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعا". وكان يذهب إلى أن المعارف واقعة بقدر الفكر والاستدلال والبحث طباعا". وكان يقول بالوعيد وبتحريم المكاسب، ويتشيع بمذهب الزيدية البترية المبتدعة، لا ينتقص أحدا" ولا يرى مع ذلك الخروج على السلطان. وكان مجبرا" مناظرته لثمامة بن أشرس في العقائد بين يدي المأمون: قال الصولي: فحدثني يموت بن المزرع قال حدثني الجاحظ قال قال أبو العتاهية لثمامة بين يدي المأمون وكان كثيرا" ما يعارضه بقوله في الإجبار-: أسألك عن مسالة. فقال له المأمون: عليك بشعرك. فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في مسألته ويأمره بإجابتي! فقال له: أجبه إذا سألك. فقال: أنا أقول: إن كل ما فعله العباد من خير وشر فهو من الله، وأنت تأبى ذلك، فمن حرك يدي هذه؟ وجعل أبو العتاهية يحركها. فقال له ثمامة: حركها من أمه زانية. فقال: شتمني والله يا أمير المؤمنين. فقال ثمامة: ناقض الماص بظر أمه والله يا أمير المؤمنين! فضحك المأمون وقال له: ألم أقل لك أن تشتغل بشعرك وتدع ما ليس من عملك! قال ثمامة: فلقيني بعد ذلك فقال لي: يا أبا معن، أما أغناك الجواب عن السفه؟! فقلت: إن من أتم الكلام ما قطع الحجة، وعاقب على الإساءة وشفى من الغيظ، وانتصر من الجاهل.

قال محمد بن يحيى وحدثني عون بن محمد الكندي قال: سمعت العباس بن رستم يقول: كان أبو العتاهية مذبذبا" في مذهبه: يعتقد شيئا"، فإذا سمع طاعنا" عليه ترك اعتقاده إياه وأخذ غيره خبره مع المخنثين حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني ابن أبي الدنيا قال حدثني الحسين بن عبد ربه قال حدثني علي بن عبيدة الريحاني قال حدثني أبو الشمقمق: أنه رأس أبا العتاهية يحمل زاملة المخنثين، فقلت له: أمثلك يضع نفسه هذا الموضع مع سنك وشعرك وقدرك؟ فقال له: أريد أن أتعلم كيادهم، وأتحفظ كلامهم.

محاورته بشر بن المعتمر أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: ذكر أحمد بن إبراهيم ين إسماعيل أن بشر بن المعتمر قال يوما" لأبي العتاهية: بلغني أنك لما نسكت جلست تحجم اليتامى والفقراء للسبيل، أكذلك كان؟ قال نعم. قال له: فما أردت بذلك؟ قال: أردت أن أضع من نفسي حسبما رفعتني الدنيا، وأضع منها ليسقط عنها الكبر، واكتسب بما فعلته الثواب، وكنت أحجم اليتامى والفقراء خاصة. فقال له بشر: دعني من تذليلك نفسي بالحجامة؛ فإنه ليس بحجة لك أن تؤديها وتصلحها لما لعلك تفسد به أمر غيرك؛ أحب أن تخبرني هل كنت تعرف الوقت الذي كان يحتاج فيه من تحدجمه إلى إخراج الدم؟ قال: لا. قال: هل كنت تعرف مقدار ما يحتاج كل واحد منهم إلى أن يخرجه على قدر طبعه، مما إذا زدت فيه أو نقصت منه ضر المحجوم؟ قال لا. قال: فما أراك إلا أردت أن تتعلم الحجامة على أقفاء اليتامى والمساكين! أراد حمدوية صاحب الزنادقة أخذه فتستر بالحجامة: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو ذكوان قال حدثنا العباس بن رستم قال: كان حمدوية صاحب الزنادقة قد أراد أن يأخذ أبا العتاهية، ففزع من ذلك وقعد حجاما".أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال قال أبو دعامة علي بن يزيد: أخبر يحيى بن خالد أن أبا العتاهية قد نسك، وأنه جلس بحجم الناس للأجر تواضعا" بذلك. فقال: ألم يكن يبيع الجرار قبل ذلك؟ فقيل له بلى. فقال: أما في بيع الجرار من الذل ما يكفيه يستغني به عن الحجامة! سئل عن خلق القرآن فأجاب أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني شيخ من مشايخنا قال حدثني أبو شعيب صاحب ابن أبي دواد قال: قلت لأبي العتاهية: القرآن عندك مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: أسألتني عن الله أم عن غير الله؟ قلت: عن غير الله، فأمسك. وأعدت عليه فأجابني هذا الجواب، حتى فعل ذلك مرارا". فقلت له: مالك لا تجيبني؟ قال: قد أجبتك ولكنك حمار

أوصافه وصناعته

أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا شيخ من مشايخنا قال حدثني محمد بن موسى قال: كان أبو العتاهية قضيفا"، أبيض اللون، أسود الشعر، له وفرة جعدة، وهيئة حسنة ولباقة وحصافة، وكان له عبيد من السودان، ولأخيه زيد أيضا" عبيد منهم يعملون الخزف في أتون لهم؛ فإذا اجتمع منه شيء ألقوه على أجبر لهم يقال له أبو عباد اليزيد من أهل طاق الجرار بالكوفة، فيبيعه على يديه ويرد فضله إليهم. وقيل: بل كان يفعل ذلك أخوه زيد لا هو؛ وشئل عن ذلك فقال: أنا جرار القوافي، وأخي جرار التجارة.

قال محمد بن موسى: وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثني عبد الحميد بن سريع مولى بن عجل قال: أنا رأيت أبا العتاهية وهو جرار يأتيه الأحداث والمتأدبون فينشدهم أشعاره، فيأخذون ما تكسر من الخزف فيكتبونها فيها.

كان يشتم أبا قابوس ويفضل عليه العتابي

حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال: لما هاجى أبو قابوس النصراني كلثوم بن عمرو العتابي، جعل أبو العتاهية يشتم أبا قابوس وضع منه؛ ويفضل العتابي عليه؛ فبلغه ذلك فقال فيه:

قل للكنى نـفـسـه

 

متخيرا" بعتـاهـية

والمرسل الكلم القبي

 

ح وعته أذن واعية

إن كنت سرا" سؤتني

 

أو كان ذاك علانيه

فعليك لعنة ذي الجلا

 

ل وأم زيد زانـية

-يعني أم أبي العتاهية، وهي أم زيد بنت زياد-فقيل له: أشتم مسلما"؟ فقال: لم أشتمه، وإنما قلت:

فعليك لعنة ذي الجلا

 

ل ومن عنينا زانية

هجاء والية بن الحباب: قال: وفيه يقول والية بن الحباب وكان يهاجي:

كان فينا يكنى أبا إسـحـاق

 

وبها الركب سار في الآفاق

فتكنى معتوهنـا بـعـتـاه

 

يالها كنية أنت بـاتـفـاق

خلق الله لحـية لـك لاتـن

 

فك معقودة بداء الـحـلاق

 

قصته مع النوشجاني

أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا النوشجاني قال: أتاني البواب يوما" فقال لي: أبو إسحاق الخزاف بالباب؛ فقلت: ائذن له، فإذا أبو العتاهية قد دخل. فوضعت بين يديه قنو موز؛ فقال: قد صرت تقتل العلماء بالموز، قتلت أبا عبيدة بالموز، وتريد أن تقتلني به لا والله لا أذوقه. قال: فحدثني عروة بن وسف الثقفي قال: رأيت أبا عبيده قد خرج من دار النوشجاني في شق محمل مسجى، إلا أنه حي، وعند رأسه قنو موز وعند رجليه قنو موز آخر، يذهب به إلى أهله. فقال النوشجاني وغيره: لما دخلنا عليه نعوده قلنا: ما سبب علتك؟ قال: هذا النوشجاني جاءني بموز كأنه أيور المساكين، فأكثرت منه، فكان سبب علتي. قال: ومات في تلك العلة.

رأي مصعب بن عبد الله في شعره

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال: سمعت مصعب بن عبد الله يقول: أبو العتاهية أشعر الناس. فقلت له: بأي شيء استحق ذلك عندك؟ فقال: بقوله:

تعلـقـت بـآمـال

 

طوال أي آمــال

وأقبلت على الدنـيا

 

ملحـا أي إقـبـال

أيا هذا تجـهـز ل

 

فراق الأهل والمال

فلا بد من المـوت

 

على حال من الحال

ثم قال مصعب: هذا كلام سهل حق لا حشو فيه ولا نقصان، يعرفه العاقل ويقر به الجاهل.

استحسان الأصمعي لشعره أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال: سمعت الأصمعي يستحسن قول أبي العتاهية:

أنت ما استغنيت عن صا

 

حبك الـدهـر أخـوه

فإذا احـتـجـت إلـيه

 

ساعة" مـجـك فـوه.

قول سلم الخاسر هو أشعر الجن والإنس حدثنا محمد بن العباس اليزيدي إملاء قال حدثني عمي الفضل بن محمد قال حدثني موسى بن صالح الشهرزوري قال: أتيت سلما الخاسر فقلت له: أنشدني لنفسك. قال: ولكن أنشدك لأشعر الجن والإنس، لأبي العتاهية، ثم أنشدني قوله: صوت

سكن يبقى له سـكـن

 

ما بهذا يؤذن الزمـن

نحن في دار يخبرنـا

 

ببلاها ناطق لـسـن

دار سوء لم يدم فـرح

 

لامرئٍ فيها ولا حزن

في سبيل الله أنفسـنـا

 

كلتا بالموت مرتهـن

كل نفس عند ميتتهـا

 

حظها من مالها الكفن

إن مال المرء ليس له

 

منه إلا ذكره الحسن

فأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني رجل من أهل البصرة أنسيت اسمه، قال حدثني حمدون بن زيد قال حدثني رجاء بن مسلمة قال: قلت لسلم الخاسر: من أشعر الناس؟ فقال: إن شئت أخبرتك بأشعر الجن والإنس. فقلت: إنما أسألك عن الإنس، فإن زدتني الجن فقد أحسنت. فقال: أشعرهم الذي يقول:

سكن يبقى له سكن

 

ما بهذا يؤذن الزمن

قال: والشعر لأبي العتاهية.

ثناء جعفر بن يحيى على شعره حدثني اليزيدي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني جعفر بن النصر الواسطي الضرير قال حدثني محمد بن شيرويه الأنماطي قال: قلت لداود بن زيد بن زرين الشاعر: من أشعر هل زمانه؟ قال: أبو نواس. قلت: فما تقول في أبي العتاهية؟ فقال: أبو العتاهية أشعر الأنس والجن.

أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال قال الزبير بن بكار: أخبرني إبراهيم بن المنذر عن الضحاك، قال: قال عبد الله بن عبد العزيز العمري: أشعر الناس أبو العتاهية حيث يقول:

ماضر من جعل التراب مهاده

 

ألا ينام على الحرير إذا قنع

صدق والله وأحسن.

مهارته في الشعر وحديثه عن نفسه في ذلك حدثني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني أحمد بن حرب قال حدثني المعلى بن عثمان قال: قيل لأبي العتاهية: كيف تقول الشعر؟ قال: ما أردته قط إلا مثل لي، فأقول ما أريد وأترك ما لا أريد.

أخبرني ابن عمار قال حدثني ابن مهروية قال حدثني روح بن الفرج الرمازي قال: جلست إلى أبي العتاهية فسمعته يقول: لو شئت أن أجعل كلامي كله شعرا" لفعلت.

حدثنا الصولي قال حدثنا العنزي قال حدثنا أبو عكرمة قال: قال محمد بن أبي العتاهية: سئل أبي: هل تعرف العروض؟ فقال: أنات أكبر من العروض. وله أوزان لا تدخل في العروض.

نظم شعرا" للرشيد وهو مريض فأبلغه الفضل وقر به الرشيد: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا العنزي. قال حدثنا أبو عكرمة قال: حم الرشيد، فصار أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع برقعة فيها:

لو عـلـم الـنـاس كـيف أنـت لـــهـــم

 

ماتـوا إذا مـا ألـمـت أجـمــعـــهـــم

خليفة الله أنت ترجح بالناس إذا ما وزنت أنت وهم

 

 

قد علم الناس أن وجهك يس

 

تغـنـي إذا مـا رآه مـعـــدمـــهـــم

فأنشدها الفضل بن الربيع الرشيد؛ فأمر بإحضار أبي العتاهية، فمازال يسامره ويحدثه إلى أن برى، ووصل إليه بذلك السبب مال جليل.

إعجاب ابن الأعرابي به وإفحامه من تنقص شعره: قال: ولم؟ قال: لأنه شعر ضعيف. فقال ابن الأعرابي - وكان أحد الناس-: الضعيف والله عقلك لا شعر أبي العتاهية، ألأبي العتاهية تقول: إنه ضعيف الشعر! فوا لله ما رأيت شاعرا" قط أطبع ولا أقدر على بيت منه، وما أحسب مذهبه إلا ضربا" من السحر، ثم أنشد له:

قطعت مـنـك حـبـائل الآمـال

 

وحططت عن ظهر المطي رحالي

 

ووجدت برد اليأس بين جوانـحـي

 

فأرحت من حل ومـن تـرحـال

 

يأيها البطر الـذي هـو مـن غـد

 

في قبره مـتـمـزق الأوصـال

 

حذف المنى عنه المشمر في الهى

 

وأرى مـنـاك طــويلة الأذيال

 

حيل ابن آدم في الأمـور كـثـيرة

 

و الوقت يقطع حيلة المـحـتـال

 

قست السؤال فكان أعظم قيمة"

 

من كل عافه جرت بسـؤال

 

فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا"

 

فابذله للمتكرم المـفـضـال

 

وإذا خشيت تعذرا" في بـلـدة

 

فاشدد يديك بعاجل الترحـال

 

واصبر على غير الزمان فإنما

 

فرج الشدائد فقال حل عقال.

 

 

 

ثم قال للرجل: هل تعرف أحدا" يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟ فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، جعلني الله فداءك! إني لم أردد عليك ما قلت، ولكن الزهد مذهب أبي العتاهية، وشعره في المديح ليس كشعره في الزهد. فقال: أفليس الذي يقول في المديح:

وهارون ماء المزن يشفي به الصدى

 

إذا ما لصدى بالريق غصت حناجره

وأوسط بيت في قـريش لـبـيتـه

 

وأول عـز فـي قـريش وآخـره

وزحف له تحكي البروق سـيوفـه

 

وتحكي الرعود القاصفات حوافـره

إذا حميت شمس النهار تضاحـكـت

 

إلى الشمس فيه بيضة ومغـافـره

إذا نكب الإسـلام يومـا" بـنـكـبة

 

فهارون من بـين الـبـرية ثـائره

ومن ذا يفوت الموت والموت مدرك

 

كذا لم يفت هارون ضـد ينـافـره

قال: فتخلص الرجل من شر ابن الأعرابي بأن قال له: القول كما قلت، وما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين، وكتبهما عنه.

قال أبو نواس لست أشعر الناس وهو حي حدثني محمد قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني ابن الأعرابي المنجم قال حدثني هارون بن سعدان بن الحارث مولى عبد قال: حضرت أبا نواس في مجلس وأنشد شعرا". فقال له: من حضر في المجلس: أن أشعر الناس. قال: أما والشيخ حي فلا. (يعني أبا العتاهية)

حبسه الرشيد ثم عفا عنه وأجازه

حدثني عمرو قال حدثني علي بن محمد الهشامي عن جده ابن حمدون قال أخبرني مخارق قال: لما تنسك أبو العتاهية ولبس الصوف، أمره الرشيد أن يقول شعرا" في الغزل، فامتنع؛ فضربه الرشيد ستين عصا"، وحلف ألا يخرج من حبسه حتى يقول شعرا" في الغزل. فلما رفعت المقارع عنه قال أبو العتاهية: كل مملوك له حر وامرأته طالق إن تكلم سنة أو بلا إله إلا الله محمد رسول الله. فكأن الرشيد تحزن مما فعله، فأمر أن يحبس في دار ويوسع عليه، ولايمنع من دخول من يريد إليه، قال مخارق: وكانت الحال بينه وبين إبراهيم الموصلي لطيفة، فكان يبعثني إليه في الأيام أتعرف خبره. فإذا دخلت وجدت بين يديه ظهرا" ودواة، فيكتب إلي مايريد، وأكلمه. فمكث هكذا سنة. واتفق أن إبراهيم صنع صوته:

صوت

أعرفت دار الحي بالحجر

 

فشدوريان فقنة الغمـر

وهجرتنا وألفت رسم بلى

 

والرسم كان أحق بالهجر

-لحن إبراهيم في هذا الشعر خفيف رمل بالوسطى. وفيه لإسحاق رمل بالوسطى -قال مخارق: فقال لي إبراهيم: اذهب إلى أبي العتاهية حتى تغنيه هذا الصوت. فأتيته في اليوم الذي انقضت فيه يمينه، فغنيته إياه. فكتب إلي بعد أن غنيته: هذا اليوم تنقضي فيه يميني، فأحب أن تقيم عندي إلى الليل؛ فأقمت عنده نهاري كله، حتى إذا أذن الناس المغرب كلمني، فقال: يامخارق. قلت: لبيك. قال: قل لصاحبك: يابن الزانية! أما والله لقد أبقيت للناس فتنة إلى يوم القيامة، فانظر أين أنت من الله غدا"! قال مخارق: فكنت أول من أفطر على كلامه؛ فقلت: دعني من هذا، هل قلت شييئا" للتخلص من هذا الموضع؟ فقال: نعم، وقد قلت في امرأتي شعرا". قلت: هاته؛ فأنشدني

صوت

من لقلب مـيتـم مـشـتـاق

 

شفه شوقه وطول الـفـراق

طال شوقي إلى قعيدة بـيتـي

 

ليت شعري فهل لنا من تلاقي

هي حظي قد اقتصرت عليها

 

من ذوات العقود والأطـواق

جمع الله عاجلا"بك شمـلـي

 

عن قريب وفكني من وثاقـي

قال: فكتبتها وصرت إلى إبراهيم؛ فصنع فيها لحنا"، ودخل بها على الرشيد؛ فكان أول صوت غناه إياه في ذلك المجلس؛ وسأله: لمن الشعر والغناء؟ فقال إبارهيم: أما الغناء فلي، وأما الشعر فلسيرك أبي العتاهية. فقال: أو قد فعل؟ قال: نعم قد كان كذلك. فدعابه، ثم قال لمسرور الخادم: كم ضربنا أبا العتاهية؟ قال: ستين عصا"، فأمر له بستين ألف درهم وخلع عليه وأطلقه.

غضب عليه الرشيد وترضاه له الفضل نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى: حدثني علي بن مهدي قال حدثنا الحسين بن أبي السري قال: قال لي الفضل بن العباس: وجد الرشيد وهو بالرقة على أبي العتاهية وهو بمدينة السلام، فكان أبو العتاهية يرجو أن يتكلم الفضل بن الربيع في أمره، فأبطأ عليه بذلك؛ فكتب إليه أبو العتاهية:

أجفوتني فيمن جـفـانـي

 

وجعلت شأنك غيرشأنـي

ولطالـمـا أمـنـتـنـي

 

ممـا أرى كـل الأمـان

حتى إذا انقلـب الـزمـا

 

ن علي صرت مع الزمان

فكلم الفضل فيه الرشيد فرضي عنه. وأرسل إليه الفضل يأمره بالشخوص. ويذكر له أن أمير المؤمنين قد رضي عنه؛ فشخص إليه. فلما دخل إلى الفضل أنشده قوله فيه:

قد دعوناه نائيا" فوجدنـا

 

ه على نأيه قريبا" سميعا

فأدخله إلى الرشيد، فرجع إلى حالته الأولى

كان يزيد بن منصور يحبه ويقربه فرثاه عند موته:

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني الحسين بن أبي السري قال: كان يزيد بن منصور خال المهدي يتعصب لأبي العتاهية؛ لأنه كان يمدح اليمانية أخوال المهدي فس شعره؛ فمن ذلك قوله:

صوت

سقيت الغيث ياقصر السلام

 

فنعم محلةو الملك الهمام

لقد نشر الإله عليك نـورا"

 

وحفك بالملائكة الكـرام

سأشكر نعمة المهدي حتى

 

تدور علي دائرة الحمـام

له بيتان بـيت تـبـعـي

 

وبيت حل بالبلد الـحـرام

قال: وكان أبو العتاهية طول حياة يزيد بن منصور يدعي أنه مولى لليمن وينتفي من عنزة؛ فلما مات يزيد رجع إلى ولائه الأول. فحدثني الفضل بن العباس قال: قلت له: ألم تكن تزعم أن ولاءك لليمن؟! قال: ذلك شيء احتجنا إليه في ذلك الزمن، ومافي واحد ممن انتميت إليه خير، ولكن الحق أحق أن يتبع. وكان ادعى ولاء اللخميين. قال: وكان يزيد بن منصور من أكرم الناس وأحفظهم لحرمة، وأرعاهم لعهدٍ، وكان بارا" بأبي العتاهية، كثيرا" فضله عليه؛ وكان أبو العتاهية منه في منعة وحصن حصين مع كثرة مايدفعه إليه ويمنعه من المكاره. فلما مات قال أبو العتاهية يرثيه:

أنعى يزيد بن منصور إلى البـشـر

 

أنعى يزيد لأهل البدو و الحـضـر

ياساكن الحفرة المهجور ساكـنـهـا

 

بعد الماقصر والأبواب والحـجـر

وجدت فقدك في مالي وفي نشـبـي

 

وجدت فقدك في شعري وفي بشري

فلست أدري جزاك اللـه صـالـحة

 

أمنظري اليوم أسوأ فيك أم خبـري

أخبار متفرقة

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني الحسين ين يحيى الصوليّ قال حدّثني عبد الله بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع قال: رآني الرشيد مشغوفاً بالغناء في شعر أبي العتاهية:

صوت

أحـمـدٌ قـال لـــي ولـــم يدر مـــا بـــي

 

أتـحـبّ الـغـــداة عـــتـــبة حـــقًّـــا

فتنفّست ثم قلت نعم حببًّا جرى في العروق عرقاً فعرقا

 

 

لو تجسّين يا عتيبة قلبي

 

لوجـدت الـفـؤاد قــرحـــاً تـــفـــقًّـــا

قد لعمري ملّ الطبيب وملّ الأهل منّي مما أقاسي وألقى

 

 

ليتني متّ فاسترحت فإنّي

 

أبـداً مـا حـييت مـنـهـــا مـــلـــقًّـــى

ولا سيما من مخارق، وكان يغنّي فيه رملاً لإبراهيم أخذه عنه. وفيه لحنٌ لفريدة رمل. هكذا قال الصّولي: " فريدة " بالياء، وغيره يقول: " فرندة " بالنون.

حدّثني الصّولي قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثنا محمد بن صالح العدويّ قال أخبرني أبو العتاهية قال: كان الرشيد مما يعجبه غناء الملاّحين في الزّلاّلات إذا ركبها، وكان يتأذّى بفساد كلامهم ولحنهم، فقال: قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعراً يغنّون فيه. قيل له: ليس أحدٌ أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس. قال: فوجّه إليّ الرشيد: قل شعراً حتّى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقي؛ فغاظني ذلك فقلت: والله لأقولنّ شعراً يحزنه ولايسرّ به، فعملت شعراً ودفعته إلى من حفّظه الملاّحين. فلمّا ركب الحرّاقة سمعه، وهو:

خانـك الـطّـرف الـطّـمـــوح

 

أيّهـا الـقـلـب الـجــمـــوح

لدواعي الخير والشّرّ دنـوٌّ ونـزوح

 

 

هل لمطلوبٍ بذنبٍ

 

توبةٌ مــنـــه نـــصـــوح

كيف إصـــلاح قـــلــــوبٍ

 

إنّـــمـــا هـــنّ قـــروح

أحسن الله بنا أنّ الخطـايا لا تـفـوح

 

 

فإذا المستور منّا

 

بين ثــوبـــيه نـــضـــوح

كم رأينـــا مـــن عـــــزيزٍ

 

طويت عـنـه الـكـــشـــوح

صاح مــنـــه بـــرحـــيلٍ

 

صائح الـدّهـر الـــصّـــدوح

موت بـعـض الـنـاس فــي الأر

 

ض عـلـى قــومٍ فـــتـــوح

سيصـير الـــمـــرء يومـــاً

 

جســـداً مـــا فــــيه روح

بين عــينـــي كـــلّ حـــيٍّ

 

علــم الـــمـــوت يلـــوح

كلّـنـا فـــي غـــفـــلةٍ وال

 

موت يغــــــــــدو ويروح

لبـنـي الـدّنــيا مـــن الـــدّن

 

يا غــبـــوقٌ وصـــبـــوح

رحـن فـي الـوشـى وأصـبـــح

 

ن عـلـيهـنّ الــمـــســـوح

كلّ نــطّـــاحٍ مـــن الـــدّه

 

ر لـــه يومٌ نـــطـــــوح

نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح

 

 

لتموتنّ وإن عمّرت

 

ما عـــمّـــر نـــــــوح

قال: فلمّا سمع ذلك الرشيد جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعاً في وقت الموعظة، وأشدّهم عسفاً في وقت الغضب والغلظة. فلمّا رأى الفضل بن الرّبيع كثرة بكائه، أومأ إلى الملاّحين أن يسكتوا.

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسن بن جابر كاتب الحسن بن رجاء قال: لمّا حبس الرشيد أبا العتاهية دفعه إلى منجابٍ، فكان يعنف به؛ فقال أبو العتاهية:

منجاب مـات بـدائه

 

فاعجل لـه بـدوائه

إنّ الإمـام أعـلّـه

 

ظلماً بحدّ شـقـائه

لا تعنفـنّ سـياقـه

 

ما كلّ ذاك بـرائه

ما شمت هذا في مخا

 

يل بارقات سمـائه

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني أحمد بن معاوية القرشيّ قال: لمّا عقد الرشيد ولاية العهد لبنيه الثلاثة: الأمين، والمأمون، والمؤتمن، قال أبو العتاهية:

رحلت عن الرّبع المحيل قعـودي

 

إلى ذي زحوفٍ جـمّةٍ وجـنـود

وراع يراعي اللّيل في حفـظ أمّةٍ

 

يدافع عنها الشـرّ غـير رقـود

بألويةٍ جـبـريل يقـدم أهـلـهـا

 

ورايات نصرٍ حـولـه وبـنـود

تجافى عن الدّنـيا وأيقـن أنّـهـا

 

مفارقةٌ لـيسـت بـدار خـلـود

وشدّ عرا الإسلام منـه بـفـتـيةٍ

 

ثلاثة أمـلاكٍ ولاة عـهـــود

هم خير أولادٍ، لهـم خـير والـدٍ

 

له خير أبـاءٍ مـضـت وجـدود

بنو المصطفى هارون حول سريره

 

فخـير قـيامٍ حـولـه وقـعـود

تقلّب ألحاظ المـهـابة بـينـهـم

 

عيون ظباءٍ في قـلـوب أسـود

جدودهم شمسٌ أتـت فـي أهـلّةٍ

 

تبدّت لراءٍ في نـجـوم سـعـود

قال: فوصله الرشيد بصلةٍ ما وصل بمثلها شاعراً قطّ.

ذكر لملك الروم فالتمسه من الرشيد فاستعفى هو، فكتب من شعره في مجلسه وعلى باب مدينته:

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الأسديّ إجازةً قال حدّثنا الرّياشيّ قال: قدم رسول لملك الرّوم إلى الرشيد، فسأل عن أبي العتاهية وأنشده شيئاً من شعره، وكان يحسن العربيّة، فمضى إلى ملك الرّوم وذكره له؛ فكتب ملك الرّوم إليه، وردّ سوله يسأل الرشيد أن يوجّه بأبي العتاهية ويأخذ فيه رهائن من أراد، وألحّ في ذلك. فكلّم الرشيد أبا العتاهية في ذلك، فاستعفى منه وأباه. واتّصل بالرشيد أنّ ملك الرّوم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه وباب مدينته، وهما:

صوت

ما اختلف اللّيل والنّهـار ولا

 

دارت نجوم السماء في الفلك

إلاّ لنقل السّلطان عن مـلـكٍ

 

قد انقضى ملكه إلى ملـك

مع الرشيد

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدّثنا الرّبيع بن محمد الختّليّ الورّاق قال اخبرني ابن أبي العتاهية: أنّ الرشيد لمّا أطلق أباه من الحبس، لزم بيته وقطع الناس؛ فذكره الرشيد فعرّف خبره، فقال: قولوا له: صرت زير نساء وحلس بيت؛ فكتب إليه أبو العتاهية:

برمت بالنّاس وأخلاقهـم

 

فصرت أستأنس بالوحده

ما أكثر النّاس لعمري وما

 

أقلّهم في منتهى العـدّه

ثم قال: لا ينبغي أن يمضي شعر إلى أمير المؤمنين ليس فيه مدحٌ له، فقرن هذين البيتين بأربعة أبيات مدحه فيها، وهي:

صوت

عاد لي من ذكرها نصب

 

فدموع العين تنسـكـب

وكذاك الحبّ صاحـبـه

 

يعتريه الهمّ والوصـب

خير من يرجى ومن يهب

 

ملكٌ دانت له الـعـرب

وحـقـيقٌ أن يدان لـه

 

من أبوه للـنّـبـيّ أب

أمره الرشيد أن يعظه فقال شعراً فبكى حدّثنا الصّوليّ قال حدّثنا عون بن محمد قال حدّثنا محمد بن أبي العتاهية قال: قال الرشيد لأبي: عظني؛ فقال له: أخافك. فقال له: أنت آمن. فأنشده:

لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفس

 

إذا تستّرت بالأبواب والـحـرس

واعلم بأنّ سهام الموت قـاصـدةٌ

 

لكلّ مـدّرعٍ مـنّـا ومـتّـرس

ترجو النجاة ولم تسلك طريقتـهـا

 

إنّ السفينة لا تجري على اليبـس

قال: فبكى الرشيد حتى بل كمّه.

تناظر ابن أبي فنن وابن خاقان فيه وفي أبي نواس، ثم حكما ابن الضحاك ففضله:

حّدثني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال: قال لي أحمد بن أبي فننٍ: تناظرت أنا والفتح بن خاقان في منزله: أيّما " الرجلين " أشعر: أبو نواس أم أبو العتاهية. فقال الفتح: أبو نواس، وقلت: أبو العتاهية. ثم قلت: لو وضعت أشعار العرب كلّها بإزاء شعر أبي العتاهية لفضلها، وليس بيننا خلافٌ في أنّ له في كلّ قصيدة جيّداً ووسطاً وضعيفاً، فإذا جمع جيّده كان أكثر من جيّد كلّ مجوّد. " ثم " قلت له: بمن ترضى؟ قال: بالحسين بن الضحّاك. فما انقطع كلامنا حتّى دخل الحسين بن الضحّاك؛ فقلت: ما تقول في رجلين تشاجرا، فضّل أحدهما أبا نواس وفضّل الآخر أبا العتاهية؟ فقال الحسين: أمّ من فضّل أبا نواسٍ على أبي العتاهية زانيةٌ؛ فخجل الفتح حتى تبيّن ذلك فيه، ثمّ لم يعاودني في شيءٍ من ذكرهما حتّى افترقنا.

مع مخارق

وقد حدّثني الحسن بن محمد بهذا الخبر على خلاف ما ذكره إبراهيم بن المهديّ فيما تقدّم، فقال: حدّثني هارون بن مخارق قال حدّثني أبي قال: جاءني أبو العتاهية فقال: قد عزمت على أن أتزوّد منك يوماً تهبه لي، فمتى تنشط؟ فقلت: متى شئت. فقال: أخاف أن تقطع بي فقلت: والله لا فعلت وإن طلبني الخليفة. فقال: يكون ذلك في غدٍ. فقلت: أفعل. فلمّا كان من غدٍ باكرني رسوله فجئته، فأدخلني بيتاً له نظيفاً فيه فرشٌ نظيفٌ، ثم دعا بمائدة عليها خبز سميذٍ وخلٌّ وبقلٌ وملحٌ وجديٌ مشويّ فأكلنا منه، ثم دعا بسمكٍ مشويّ فأصبنا منه حتى اكتفينا، ثم دعا بحلواء فأصبنا منها وغسلنا أيدينا، وجاؤونا بفاكهةٍ وريحان وألوانٍ من الأنبذة، فقال: اختر ما يصلح لك منّها؛ فاخترت وشربت؛ وصبّ قدحاً ثم قال: غنّني في قولي:

أحمدٌ قال لي ولم يدر ما بي

 

أتحبّ الغداة عتبة حـقًّـا

فغّنيته، فشرب قدحاً وهو يبكي أحرّ بكاء. ثم قال: غنّني في قولي:

ليس لمن ليست له حيلةٌ

 

موجودةٌ خيرٌ من الصّبر

فغنّيته وهو يبكي وينشج، ثم شرب قدحاً آخر ثم قال: غنّني، فديتك، في قولي:

خليليّ ما لي لا تزال مضّرتـي

 

تكون من الأقدار حتماً من الحتم

فغنّيته إيّاه. وما زال يقترح عليّ كلّ صوت غنّي به في شعره فأغنّيه ويشرب ويبكي حتى صار العتمة. فقال: أحبّ أن تصبر حتّى ترى ما أصنع فجلست. فأمر ابنه وغلامه فكسرا كلّ ما بين أيدينا من النبيذ وآلته والملاهي، ثم أمر بإخراج كلّ ما في بيته من النّبيذ وآلته، فأخرج جميعه، فما زال يكسره ويصبّ النبيذ وهو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيءٌ، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثيأبا بيضاً من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: السلام عليك يا حبيببي وفرحي من الناس كلّهم سلام الفراق الذي لا لقاء بعده؛ وجعل يبكي، وقال: هذا آخر عهدي بك في حال تعاشر أهل الدنيا؛ فظننت أنّها بعض حماقاته، فانصرفت، وما لقيته زماناً. ثم تشوّقته فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت، فإذا هو قد أخذ قوصرتين وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص، وثقب الأخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السّراويل. فلمّا رأيته نسيت كلّ ما كان عندي من الغمّ عليه والوحشة لعشرته، وضحكت والله ضحكاً ما ضحكت مثله قطّ. فقال: من أيّ شيءٍ تضحك؟ فقلت: أسخن الله عينك! هذا أيّ شيء هو؟ من بلغك عنه أنّه فعل مثل هذا من الأنبياء والزهّاد والصحابة والمجانين، انزع عنك هذا يا سخين العين! فكأنه أستحيا منّي. ثم بلغني أنّه جلس حجّاماً، فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره. ثم مرض، فبلغني أنه اشتهى أن أغنّيه، فأتيته عائداً، فخرج إليّ رسوله يقول: إن دخلت إليّ جدّدت لي حزناً وتاقت نفسي من سماعك إلى ما قد غلبتها عليه، وأنا أستودعك الله وأعتذر إليك من ترك الالتقاء، ثم كان آخر عهدي به.

تمنى عند موته أن يجيء مخارق فيغنيه حدّثني جحظة قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: قيل لأبي العتاهية عند الموت: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن يجيء مخارق فيضع فمه على أذني ثم يغنّيني.

سيعرض عن ذكري وتنسى مودّتي

 

ويحدث بعدي للخـلـيل خـلـيل

إذا ما انقضت عنّي من الدّهر مدّتي

 

فإنّ غنـاء الـبـاكـيات قـلـيل

وأخبرني به أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا محمد بن صالح " بن " النطّاح قال: قال بشر بن الوليد لأبي العتاهية عند الموت: ما تشتهي؟ فذكر مثل الأوّل.

وأخبرني به ابن عمّار أبو العبّاس عن ابن أبي سعد عن محمد بن صالح: أنّ بشراً قال ذلك لأبي العتاهية عند الموت، فأجابه بهذا الجواب.

آخر شعر قاله في مرضه الذي مات فيه

نسخت من كتاب هارون بن عليٍّ: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني عبد الله بن عطيّة قال حدّثني محمد بن أبي العتاهية قال: آخر شعرٍ قاله أبي في مرضه الذي مات فيه:

إلهي لا تعـذّبـنـي فـإنّـي

 

مقرٌّ بالّذي قـد كـان مـنّـي

فمـا لـي حـيلةٌ إلاّ رجـائي

 

لعفوك إن عفوت وحسن ظنّي

وكم من زلةٍ لي في الخطـايا

 

وأنت عليّ ذو فضـلٍ ومـنّ

إذا فكّرت في ندمي عـلـيهـا

 

عضضت أناملي وقرعت سنّي

أجنّ بزهرة الدّنـيا جـنـونـا

 

وأقطع طول عمري بالتمنّـي

ولو أنّي صدقت الزّهد عنـهـا

 

قلبت لأهلها ظهر الـمـجـنّ

يظنّ الناس بـي خـيراً وإنّـي

 

لشرّ الخلق إن لم تعف عنّـي

أمر بنته أن تندبه بشعر له

أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل قال حدّثني أحمد بن حمزة الضّبعيّ قال أخبرني أبو محمد المؤدّب قال: قال أبو العتاهية لابنته رقيّة في علّته التي مات فيها: قومي يا بنيّة فاندبي أباك بهذه الأبيات؛ فقامت فندبته بقوله:

لعب البلى بمعالمي ورسومي

 

وقبرت حيًّا تحت ردم همومي

لزم البلى جسمي فأوهن قوّتي

 

إن البلى لموكّلٌ بـلـزومـي

تاريخ وفاته ومدفنه أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمّار قال حدّثنا محمد بن داود بن الجرّاح قال حدّثني عليّ بن محمد قال حدّثني مخارق المغني قال: توفّي أبو العتاهية، وإبراهيم الموصليّ، وأبو عمروا الشّيباني عبد السلام في يومٍ واحد في خلافة المأمون، وذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين.

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه عن أحمد بن يوسف عن أحمد بن الخليل عن إسماعيل بن أبي قتيبة قال: مات أبو العتاهية، وراشدٌ الخناق، وهشيمة الخمّارة في يومٍ واحدٍ سنة تسع ومائتين.

وذكر الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن سعد كاتب الواقديّ: أنّ أبا العتاهية مات في يوم الاثنين لثمانٍ خلون من جمادى الأولى سنة إحدى عشرة ومائتين، ودفن حيال قنطرة الزيّاتين في الجانب الغربيّ ببغداد.

أخبرني الصّوليّ عن محمد بن موسى عن أبي محمد الشّيباني عن محمد بن أبي العتاهية: أنّ أباه توفّي سنة عشرٍ ومائتين.

الشعر الذي أمر أن يكتب على قبره أخبرني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن موسى عن محمد بن القاسم عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن إسحاق بن عبد الله بن شعيب قال: أمر أبو العتاهية أن يكتب على قبره:

أذن حيٍّ تـسـمّـعـي

 

اسمعي ثمّ عي وعـي

أنا رهنٌ بمضجـعـي

 

فاحذري مثل مصرعي

عشت تسعـين حـجّةً

 

أسلمتني لمضجـعـي

كم ترى الحيّ ثـابـتـاً

 

في ديار التـزعـزع

ليس زادٌ سوى التّقـى

 

فخذي منـه أو دعـي

رثاه ابنه بشعر أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: لمّا مات أبو العتاهية رثاه ابنه محمد بن أبي العتاهية فقال:

يا أبي ضمّك الثّـرى

 

وطوى الموت أجمعك

ليتني يوم مـتّ صـر

 

ت إلى حفرةٍ معـك

رحم الله مصـرعـك

 

برّد الله مضجـعـك

أنكر ابنه أنه أوصى بذلك أخبرني الحسن قال حدّثني أحمد بن زهير قال: قال محمد بن أبي العتاهية: لقيني محمد بن أبي محمد اليزيديّ فقال: أنشدني الأبيات التي أوصى أبوك أن تكتب على قبره؛ فأنشأت أقول له:

كذبت على أخٍ لك في مماته

 

وكم كذبٍ فشا لك في حياته

وأكذب ما تكون على صديقٍ

 

كذبت عليه حيًّا في مماتـه

فخجل وانصرف. قال: والنّاس يقولون: إنّه أوصى أن يكتب على قبره شعرٌ له، وكان ابنه ينكر ذلك.

وذكر هارون بن عليّ بن مهديّ عن عبد الرحمن بن الفضل أنّه قرأ الأبيات العينيّة التي أوّلها:

أذن حيٍّ تسمّعي

على حجرٍ عند قبر أبي العتاهية.

 من أبرز قصائده..: