العباس بن الأحنف

توفي 192 هـ

الشاعر العباسي العباس أبو الفضل، بن الأحنف بن الأسود بن طلحة بن جدان بن كلده من بني عدي بن حنيفة اليمامي. وفي رواية علي بن سليمان الأخفش: أن العباس بن الأحنف كان من عرب خراسان، ومنشؤه ببغداد. وحدث أبو بكر الصولي فقال: "رأيت العباس بن الأحنف ببغداد بعد موت الرشيد، وكان منزله بباب الشام وكان لي صديقا ومات وسنه أقل من ستين سنة".

خالف الشعراء في طريقتهم فلم يتكسب بالشعر، وكان أكثر شعره بالغزل (شعر) والنسيب والوصف، ولم يتجاوزه إلى المديح والهجاء، وأشاد به المبرد في كتاب الروضة وفضله على نظرائه حين قال: وكان العباس من الظرفاء، ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلا ولم يكن فاسقا، وكان ظاهر النعمة ملوكي المذهب، شديد الترف، وذلك بين في شعره، وكان قصده الغزل وشغله النسيب، وكان حلو مقبولا غزلا غزير الفكر واسع الكلام كثير التصرف في الغزل وحده.

ورد في كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان:

" أبو الفضل العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة بن جردان بن كلدة ابن خريم بن شهاب بن سالم بن حية بن كليب بن عبد الله بن عدي بن حنيفة بن لجيم الحنفي اليمامي الشاعر المشهور؛ كان رقيق الحاشية لطيف الطباع، جميع شعره في الغزل، لا يوجد في ديوانه مديح، ومن رقيق شعره قوله من جملة قصيدة:

يا أيها الرجل المعذب نفـسـه

 

أقصر فإن شفاءك الإقصـار

نزف البكاء دموع عينك فاستعر

 

عيناً يعينك دمعها الـمـدرار

من ذا يعيرك عينه تبكي بـهـا

 

أرأيت عيناً للبـكـاء تـعـار

 

ذكر أبو علي القالي في كتاب " الأمالي " قال: قال بشار بن برد: ما زال غلام من بني حنيفة يدخل نفسه فينا ويخرجها منا حتى قال هذه الأبيات.


ومن شعره أيضاً من جملة أبيات، وينسبان إلى بشار بن برد أيضاً والله أعلم:

 

أبكي الذين أذاقوني مودتـهـم

 

حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا

واستنهضوني فلما قمت منتصباً

 

بثقل ما حملوني منهم قعـدوا

 

ويحكى أن الرشيد كان يهوى جاريته ماردة هوى شديداً، فتغاضبا مرة ودام بينهما الغضب، فأمر جعفر البرمكي العباس بن الأحنف أن يعمل في ذلك شيئاً فعمل:

 

راجع أحبتك الذين هجرتهم

 

إذ المتيم قلما يتـجـنـب

إن التجانب إن تطاول منكما

 

دب السلو له ففر المطلب

 

وأمر إبراهيم الموصلي فغنى بهما، فلما سمعه الرشيد بادر إلى ماردة فترضاها، فسألت عن السبب في ذلك فقيل لها، فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم وأمرت الرشيد أن يكافئهما فأمر لهما بأربعين ألف درهم ".


وله أيضاً:

تعب يطول مع الرجاء لذي الهوى

 

خير له من راحةٍ فـي الـيأس

لولا محبتكم لما عـاتـبـتـكـم

 

ولكنتم عندي كبعـض الـنـاس

 

وله أيضاً:

وحدثتني يا سعد عنها فزدتـنـي

 

جنوناً فزدني من حديثك يا سعـد

هواها هوًى لم يعرف القلب غيره

 

فليس له قبلٌ وليس لـه بـعـد

 

وله أيضاً:

إذا أنت لم تعطفك إلا شفـاعةٌ

 

فلا خير في ودٍ يكون بشافع

فأقسم ما تركي عتابك عن قلًى

 

ولكن لعلمي أنه غير نـافـع

وإني إذا لم ألزم الصبر طائعاً

 

فلا بد منه مكرهاً غير طائع

 

"قيل أنه أنشد الرشيد يوماً قوله:

 

طاف الهوى في عباد الله كلهم

 

حتى إذا مر بي من بينهم وقفا

 

قال له الرشيد: ما الذي رأى فيك حتى وقف عليك؟ قال: سألني عن وجود أمير المؤمنين فأخبرته، فاستحسن الرشيد جوابه ووصله.


قيل إن الرشيد عمل في الليل بيتاً ورام أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه، فقال: علي بالعباس، فلما طرق عليه ذعر وفزع أهله، فلما وقف بين يدي الرشيد قال له: وجهت إليك بسبب بيت قلته ورمت أن أشفعه بمثله فامتنع القول علي، فقال: يا أمير المؤمنين، دعني حتى ترجع إلي نفسي فإني تركت عيالي على حال من القلق عظيمة، ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف؛ فانتظر هنيهة ثم أنشده:

 

جنانٌ قد رأيناهـا

 

ولم نر مثلها بشرا

 

فقال العباس بن الأحنف:

 

يزيدك وجهها حسناً

 

إذا ما زدته نظرا

 

فقال: زدني، فقال:

 

إذ ا ما الليل سال علي

 

ك بالإظلام واعتكرا

ودج فلم تر قـمـراً

 

فأبرزها تر قـمـرا

 

فقال له الرشيد: قد ذعرناك وأفزعنا عيالك وأقل الواجب أن نعطيك ديتك، وأمر له بعشرة آلاف درهم.

 

وله - أعني الرشيد -:

 

إن تشق عيني بها فقد سعـدت

 

عينا رسولي وفزت بالخـبـر

وكلما جاءني الرسـول لـهـا

 

رددت عمداً في عينه نظـري

خذ مقلتـي يارسـول عـاريةً

 

فانظر بها واحتكم على بصري

 

وأخذ المأمون هذا المعنى بعينه فقال:

 

بعثتك مرتاداً ففـزت بـنـظـرةٍ

 

وأغفلتني حتى أسأت بك الظـنـا

فناجيت من أهوى وكنت مباعـداً

 

فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى

أرى أثراً منها بـعـينـك بـينـاً

 

لقد أخذت عيناك من عينها حسنـاً

 

وللعباس أيضاً:

أغـيب عـنـك بـودٍ لا يغـيره

 

نأي المحل ولا صرفٌ من الزمن

فإن أعش فلعل الدهر يجمـعـنـا

 

وإن أمت فبطول الهم والـحـزن

قد حسن الحب في عيني ما صنعت

 

حتى أرى حسناً ما ليس بالحسـن

تعتل بالشغل عنا لا تـكـلـمـنـا

 

الشغل للقلب ليس الشغل للـبـدن

 

قال الزبير بن بكار: لا أعلم شيئاً من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بنصف هذا البيت الأخير.


وله أيضاً:

قد كنت أبكي وأنـت راضـيةٌ

 

حذار هذا الصدود والغضـب

إن تم ذا الهجر يا ظـلـوم ولا

 

تم فما لي في العيش من أرب

وله أيضاً:

أحرم منكم بما أقـول وقـد

 

نال به العاشقون من عشقوا

صرت كأني ذبالةٌ نصبـت

 

تضيء للناس وهي تحترق

قال الرياشي: لو لم يقل من الشعر إلا هذين البيتين لكفياه.

وقال أبو بكر الصولي: كنت عند القاسم بن إسماعيل فقال: انشدني عمك إبراهيم بن العباس لخاله العباس بن الأحنف:  

قد سحب الناس أذيال الظنون بنا

 

وفرق الناس فينا قولهم فرقـا

فكاذبٌ قد رمى بالظن غيركـم

 

وصادقٌ ليس يدري أنه صدقا

 

قال عبد الله بن المعتز: لو قيل لي: ما أحسن شيء تعرفه؟ لقلت: بيتا العباس بن الأحنف، وأنشد هذين البيتين.

 

وله أيضاً:

 

اليوم آخـر أيام الـسـرور بـه

 

والـيوم أول يومٍ فـيه أكـتـئب

ما كنت أحسب أن الحزن ينزل بي

 

بعد السرور فقد جاءت به العقب

 

وله ايضاً:

خيالك حين أرقد نصب عينـي

 

إلى وقت انتبـاهـي لا يزول

وليس يزورني صلةً ولـكـن

 

حديث النفس عنك به الوصول

 

وله أيضاً:

يا ذا الذي أنكـرنـي طـرفـه

 

إن ذاب جسمي وعلاني الشحوب

ما مسنـي ضـرٌ ولـكـنـنـي

 

جفوت نفسي إذ جفاني الحبـيب

 

وله أيضاً:

أرى الطريق قريباً حين أسلكـه

 

إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف "

 

وشعره كله جيد، وهو خال إبراهيم بن العباس الصولي - وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته في حرف الهمزة.


وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة ببغداد.


وحكى عمر بن شبة قال: مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف وهشيمة الخمارة، فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا الأول؟ فقالوا: إبراهيم الموصلي، فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف، فقدم فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر؟ فأنشد:

 

وسعى بها ناس فقالوا: إنها

 

لهي التي تشقى بها وتكابد

فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم

 

إني ليعجبني المحب الجاحد

 

ثم قال: أتحفظهما؟ فقلت: نعم، وأنشدته، فقال لي المأمون: أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة؟ فقلت: بلى والله يا سيدي.


قلت: وهذه الحكاية تخالف ما يأتي في ترجمة الكسائي، لأنه مات بالري على الخلاف في تاريخ وفاته. وقيل إن العباس توفي سنة اثنتين وتسعين ومائة، وقال أبو بكر الصولي: حدثني عون بن محمد قال: حدثني أبي قال: رأيت العباس بن الأحنف ببغداد بعد موت الرشيد، وكان منزله بباب الشام، وكان لي صديقاً، ومات وسنه أقل من ستين سنة. قال الصولي: وهذا يدل على أنه مات بعد سنة اثنتين وتسعين، لأن الرشيد ملت ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة بمدينة طوس.


وكانت وفاة الأحنف والد العباس المذكور سنة خمسين ومائة، ودفن بالبصرة، رحمه الله تعالى.


وحكى المسعودي في كتاب " مروج الذهب " عن جماعة من أهل البصرة قالوا: خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق إذا غلام واقف على المحجة وهو ينادي: أيها الناس هل فيكم أحد من أهل البصرة؟ قال: فعدلنا إليه وقلنا له: ما تريد؟ قال: إن مولاي لما به يريد أن يوصيكم، فملنا معه، فإذا بشخصٍ ملقى على بعد من الطريق تحت شجرة لا يحير جواباً، فجلسنا حوله، فأحس بنا فرفع طرفه وهو لايكاد يرفعه ضعفاً، وأنشأ يقول:

 

يا غريب الدار عن وطنه

 

مفرداُ يبكي على شجنه

كلما جد الـبـكـاء بـه

 

دبت الأسقام في بدنـه

 

ثم أغمي عليه طويلاً ونحن جلوس حوله، إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة وجعل يغرد ففتح عينيه وجعل يسمع تغريد الطائر، ثم أنشأ الفتى يقول:

 

ولقد زاد الفؤاد شجًى

 

طائر يبكي على فننه

شفه ما شفني فبكـى

 

كلنا يبكي على سكنه

قال: ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه منه، فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولينا الصلاة عليه، فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه، فقال: هذا العباس بن الأحنف، رحمه الله تعالى؛ والله أعلم أي ذالك كان.

 والحنفي: بفتح الحاء المهملة والنون وبعدها فاء، هذه النسبة إلى بني حنيفة ابن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وهي قبيلة كبيرة مشهورة، واسم حنيفة أثال - بضم الهمزة وبعدها ثاء مثلثة وبعد الألف لام - وإنما قيل له حنيفة لأنه جرى بينه وبين الأحزن بن عوف العبدي مفاوضة في قصة يطول شرحها فضرب حنيفة الأحزن المذكور بالسيف، فجذمه فسمي جذيمة، وضرب الأحزن حنيفة على رجله فحنفها، فسمي حنيفة وحنيفة، أخو عجل.

واليمامي: بفتح الياء المثناة من تحتها والميم وبعد الألف ميم ثانية، هذه النسبة إلى اليمامة، وهي بلدة بالحجاز في البادية أكثر أهلها بنو حنيفة وبها تنبأ مسيلمة الكذاب وقتل، وقصته مشهورة".