ابن جامع

هو أبو القاسم إسماعيل بن جامع؛ عربيّ الأصل. وُلِد في مكّـةالمكرّمة.

 

كان في بادئ نشأته يتعلّم الفقه، وقد حفظ القرآن الكريم. إلاّ أنّ أباه توفّي وهو صغير السّن، فتزوّجت أمّه المُغنّي سياط فتتلمذ عليه، وأخذ الغناء أيضًا عن يحيى المكّي.

 

نفاه الخليفة المهدي إلى مكّة المكرمة. ولمّا توفي المهدي، دعاه الخليفة الهادي إلى بغداد وأجزل عليه العطايا وكافأه بثلاثين ألف دينارٍ. ثم حدثت منافساتٌ بينه وبين إبراهيم الموصلي في خلافة المأمون، إلاّ أنّ حزب إبراهيم الموصلي كان أرجح من حزبه.

 

كان مُغنيًّا ماهرًا ومُلحّنًا بارعًا. سأل الخليفة هارون الرّشيد يومًا أحد الموسيقييّن، واسمه برصوم، عن ابن جامع، فقال: "وما أقول في العسل؟".

 

وجاء في "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني: هو إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة بن سعيد، سعد بن سهم بن عمرو، بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب.

 

أخبرني الطوسي عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب، وأخبرنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق قالا جميعاً: مات ضبيرة السهمي وله مائة سنة ولم يظهر في رأسه ولا لحيته شيب. فقال بعض شعراء قريش يرثيه:

حجاج بيت الله إن ض

 

بيرة السهمي مـاتـا

سبقت منيته المشـي

 

ب وكان ميتته افتلاتا

فتزودوا لا تهلـكـوا

 

من دون أهلكم خفاتا

 

ويكنى ابن جامع أبا القاسم. وأمه امرأة من بني سهم وتزوجت بعد أبيه رجلاً من أهل اليمن.

 

فذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن حماد عن أبيه عن بعض أصحابه عن عون حاجب معن بن زائدة قال: رأيت أم ابن جامع وابن جامع معها عند معن بن زائدة وهو ضعيف يتبعها ويطأ ذيلها وكانت من قريش، ومعن يومئذ على اليمن.

 

فقالت: أصلح الأمير، إن عمي زوجني زوجاً ليس بكفء ففرق بيني وبينه.

 

قال: من هو؟ قالت: ابن ذي مناجب. قال: علي به. قال: فدخل أقبح من خلق الله وأشوهه خلقاً. قال: من هذه منك؟ قال: امرأتي. قال: خل سبيلها، ففعل. فأطرق مغن ساعة ثم رفع رأسه فقال:

لعمري لقد أصبحت غير محبـب

 

ولا حسن في عينها ذا منـاجـب

فما لمتها لما تبـينـت وجـهـه

 

وعيناً له حوصاء من تحت حاجب

وأنفاً كأنف البكر يقـطـر دائبـاً

 

على لحية عصلاء شابت وشارب

أتيت بها مثل المهاة تسـوقـهـا

 

فيا حسن مجلوب ويا قبحجالـب

 

وأمر لها بمائتي دينار وقال لها: تجهزي بها إلى بلادك.

 

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني حماد عن أبيه: أن الرشيد سأل ابن جامع يوماً عن نسبه وقال له: أي بني الإنس ولدك يا إسماعيل؟ قال: لا أدري، ولكن سل ابن أخي يعني إسحاق - وكان يماظ إبراهيم الموصلي ويميل إلى ابنه إسحاق قال إسحاق: ثم التفت إلي ابن جامع فقال: أخبره يا بن أخي بنسب عمك. فقال له الرشيد: قبحك الله شيخاً من قريش! تجهل نسبك حتى يخبرك به غيرك وهو رجل من العجم!.

 

قال هارون حدثني عبد الله بن عمرو قال حدثني أبو هشام محمد بن عبد الملك المخزومي قال أخبرني محمد بن عبد الله بن أبي فروة بن أبي قراد المخزومي قال: كان ابن جامع من أحفظ خلق الله لكتاب الله وأعلمه بما يحتاج إليه، كان يخرج من منزله مع الفجر يوم الجمعة فيصلي الصبح ثم يصف قدميه حتى تطلع الشمس، ولا يصلي الناس الجمعة حتى يختم القران ثم ينصرف إلى منزله.

 

قال هارون وحدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني صالح بن علي بن عطية وغيره من رجال أهل العسكر قالوا: قدم ابن جامع قدمة له من مكة على الرشيد، وكان ابن جامع حسن السمت كثير الصلاة قد أخذ السجود جبهته، وكان يعتم بعمامة سوداء على قلنسوة طويلة، ويلبس لباس الفقهاء، ويركب حماراً مريسياً في زي أهل الحجاز. فبينا هو واقف على باب يحيى بن خالد يلتمس الإذن عليه، فوقف على ما كان يقف الناس عليه في القديم حتى يأذن لهم أو يصرفهم، أقبل أبو يوسف القاضي بأصحابه أهل القلانس؛ فلما هجم على الباب نظر إلى رجل يقف إلى جانبه ويحادثه، فوقعت عينه على ابن جامع فرأى سمته وحلاوة هيئته، فجاء فوقف إلى جانبه ثم قال له: أمتع الله بك، توسمت فيك الحجازية القرشية؛ قال: أصبت. قال: فمن أي قريش أنت؟ قال: من بني سهم. قال: فأي الحرمين منزلك؟ قال: مكة. قال: ومن لقيت من فقهائهم؟ قال: سل عمن شئت.

 

ففاتحه الفقه والحديث فوجد عنده ما أحب فاعجب به. ونظر الناس إليهما فقالوا: هذا القاضي قد أقبل على المغني، وأبو يوسف لا يعلم أنه ابن جامع. فقال أصحابه: لو أخبرناه عنه! ثم قالوا: لا، لعله لا يعود إلى مواقفته بعد اليوم، فلم نغمه. فلما كان الإذن الثاني ليحيى غدا عليه الناس وغدا عليه أبو يوسف، فنظر يطلب ابن جامع فرآه، فذهب فوقف إلى جانبه فحادثه طويلاً كما فعل في المرة الأولى. فلما انصرف قال له بعض أصحابه: أيها القاضي، أتعرف هذا الذي تواقف وتحادث؟ قال: نعم، رجل من قريش من أهل مكة من الفقهاء. قالوا: هذا ابن جامع المغني؛ قال: إنا لله!. قالوا: إن الناس قد شهروك بمواقفته وأنكروا ذلك من فعلك. فلما كان الإذن الثالث جاء أبو يوسف ونظر إليه فتنكبه، وعرف ابن جامع أنه قد أنذر به، فجاء فوقف فسلم عليه، فرد السلام عليه أبو يوسف بغير ذلك الوجه الذي كان يلقاه به ثم انحرف عنه. فدنا منه ابن جامع، وعرف الناس القصة، وكان ابن جامع جهيراً فرفع صوته ثم قال: يا أبا يوسف، ما لك تنحرف عني؟ أي شيء أنكرت؟ قالوا لك: إني ابن جامع المغني فكرهت مواقفتي لك! أسألك عن مسألة ثم اصنع ما شئت؛ ومال الناس فأقبلوا نحوهما يستمعون.

 

فقال: يا أبا يوسف، لو أن أعرابيا جلفا وقف بين يديك فأنشدك بجفاء وغلظة من لسانه وقال:

يا دار مية بالعلياء فالـسـنـد

 

أقوت وطال عليها سالف الأبد

 

أكنت ترى بذلك بأسا؟ قال: لا، قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر قول، وروى في الحديث. فال ابن جامع: فإن قلت أنا هكذا، ثم اندفع يتغنى فيه حتى أتى عليه؛ ثم قال: يا أبا يوسف، رأيتني زدت فيه أو نقصت منه؟ قال: عافاك الله، أعفنا من ذلك. قال: يا أبا يوسف، أنت صاحب فتيا، ما زدته على أن حسنته بألفاظي فحسن في السماع ووصل إلى القلب.

 

ثم تنحى عنه ابن جامع.

 

قال: وحدثني عبد الله بن شبيب قال حدثني إبراهيم بن المنذر عن سفيان بن عيينة، ومر به ابن جامع يسحب الخز، فقال لبعض أصحابه: بلغني أن هذا القرشي أصاب مالاً من بعض الخلفاء، فبأي شيء أصابه؟ قالوا: بالغناء. قال: فمن منكم يذكر بعض ذلك؟ فأنشد بعض أصحابه ما يغني فيه:

وأصحب بالليل أهل الطواف

 

وأرفع من مئزري المسبل

 

قال: أحسن، هيه! قال:

وأسجد بالليل حتى الصباح

 

وأتلو من المحكم المنزل

 

قال: أحسن، هيه! قال:

عسى فارج الكرب عن يوسف

 

يسخر لي ربة المـحـمـل

 

قال: أما هذا فدعه.

 

وحدثني محمد بن الحسن العتابي قال حدثني جعفر بن محمد الكاتب قال حدثني طيب بن عبد الرحمن قال: كان ابن جامع يعد صيحة الصوت قبل أن يصنع عمود اللحن.

 

وحدث محمد بن الحسن قال حدثني أبو حارثة بن عبد الرحمن بن سعيد بن سلم عن أخيه أبي معاوية بن عبد الرحمن قال: قال لي ابن جامع: لولا أن القمار وحب الكلاب قد شغلاني لتركت المغنين لا يأكلون الخبز.

 

أخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال: أهدى رجل إلى ابن جامع كلباً فقال: ما اسمه؟ فقال: لا أدري، فدعا بدفتر فيه أسماء الكلاب فجعل يدعوه بكل اسم فيه حتى أجابه الكلب.

 

قال هارون بن محمد حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثتني حولاء مولاة ابن جامع قالت: انتبه مولاي يوماً من قائلته فقال: علي بهشام يعني ابنه ادعوه لي عجلوه، فجاء مسرعاً. فقال: أي بني، خذ العود، فإن رجلاً من الجن ألقى علي في قائلتي صوتاً فأخاف أن أنساه. أخذ هشام العود وتغنى ابن جامع عليه رملاً لم أسمع له رملاً أحسن منه، وهو:

أمست رسوم الديار غـيرهـا

 

هوج الرياح الزعازع العصف

 

وكل حنانة لـهـا زجـل

   

مثل حنين الروائم الشغف

           

 

فأخذه عنه هشام، فكان بعد ذلك يتغناه وينسبه إلى الجن. وفي هذا الصوت للهذلي لحن من الثقيل الثاني بالخنصر في مجرى الوسطى. وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو، وقيل: إن هذا اللحن لعبادل. وفيه لابن جامع الرمل المذكور.

 

وحدثني أحمد بن بشر بن عبد الوهاب قال حدثني محمد بن موسى بن فليح الخزاعي قال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد المكي قال: قال لي ابن جامع: أخذت من هارون ببيتين غنيته بهما عشرة آلاف دينار:

لا بد للعاشق مـن وقـفة

 

تكون بين الوصل والصرم

يعتب أحياناً وفي عـتـبـه

 

إظهار ما يخفي من السقم

إشفاقه داع إلـى ظـنـه

 

وظنه داع إلى الـظـلـم

حتى إذا ما مضه هجـره

 

راجع من يهوى على رغم

 

هكذا رويته الشعر للعباس بن الأحنف. والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى.

 



مكة
هارون الرشيد