علية بنت المهدي

777 - 825 م
للمغنّيات في تاريخ الموسيقى العربية دور بارزٌ في إغناء وإثراء الحياة الموسيقية العربية. وعلى مرّ هذا التاريخ، كان إبداع تلك المغنّيات لايقل أهميةً وقيمةً عن إبداع أعلام الغناء العربي من الرّجال، إن لم يكن يتفوّق عليه في بعض المراحل، إضافةً الى تمتّعهن بقدرٍ وافرٍ من الثقافة الفنّية والأدبية، أهَّلهنّ لأن يتبوّأْن مكانةً مرموقةً في تاريخ الفن الموسيقي والغنائي العربييّن.

 

كانت علية بنت المهدي واحدةً من أشهر المُغنّيات. وُلِدت في بغداد وعاشت طفولتها في قصور الخلافة وفيها تذوّقت ثمار الفنون والآداب المختلفة، حيث نشأت نشأةً تليق بها كأميرة، وبدأت في تثقيف نفسها وهي التي كانت تتمتّع بموهبةٍ فنّيةٍ وأدبيّة لامثيل لها. فبدأت مُبكرًا بقول الشّعر وصياغة الألحان، التّي كانت تأتيها غالبًا عفو الخاطر، فتقوم بغناء تلك الألحان بصوتٍ رائعٍ يسحر الألباب.

 

ومن أوائل الأصوات التّي لحّنتها علية بنت المهدي كان صوتٌ قالته شعرًا أيضًا في غلام من خدم هارون الرّشيد، ويُدعى "طلّ"؛ كانت تهواه وتراسله شعرًا بشكلٍ مستمرٍّ، وهو:

 

ياربّ إنّي قد غرضت بهجرها فإليك أشكو ذاك يا ربّاه

 

وقدكانت ألحانها تلقى دائمًا الإهتمام والتّقدير من الجميع، خصوصًا في قصور الخلفاء والأمراء، حتى إنّها كانت تُفَضَّل في بعض الأحيان على ألحان أخيها، الأمير إبراهيم بن المهدي، وهو الموسيقار القدير صاحب المدرسة التّجديدية في الموسيقى العربية. وفي ذلك قيل: "ما اجتمع في الإسلام قط أخ وأخت أحسن غناء من ابراهيم بن المهدي وأخته علية حتى كانت علية يقدّمونها على ابراهيم.

 

عندما مات الرّشيد جزعت علية كثيراً على فقدانه، وتركت الغناء وقرض الشّعر حزنًا وتأسفًا على رحيل أخيها الرّشيد.

 

أمّا الأمير إبراهيم بن المهدي فقد كان يأخذ عن أخته علية العديد من الألحان التي كانت تسكبها حبًا وحنانًا وفنًا أصيلاً لاينسى.

 

توفّيت هذه الفنّانة الأميرة في بغداد بعد أن تركت لتاريخ الغناء العربي ثروةً فنّيةً لاتُضاهى وألحانًا سكبتها حُبًا وألفًا وإبداعًا. وقيل إنّ سبب وفاتها أنّ المأمون ضمّها إليه وجعل يقبّل رأسها، وكان وجهها مُغطّى فشرقت من ذلك وسعلت، ثم أتتها الحمى على أثر ذلك، فما لبثت أن ماتت.

 

وجاء في "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني: أمها مكنونة أم ولد اشتريت للمهدي في حياة أبيه: علية بنت المهدي أمها أم ولد مغنيةٌ يقال لها مكنونة، كانت من جواري المروانية المغنية.

 

بعض صفاتها: أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن عمه قال: كانت علية بنت المهدي من أحسن الناس وأظرفهم تقول الشعر الجيد وتصوغ فيه الألحان الحسنة، وكان بها عيب، كان في جبينها فضل سعةٍ حتى تمسج ، فاتخذت العصائب المكللة بالجوهر لتستر بها جبينها، فأحدثت والله شيئاً ما رأيت فيما ابتدعته النساء وأحدثته أحسن منه.

 

كانت حسنة الدين ولا تشرب ولا تغني إلا أيام حيضها: أخبرني الحسين بن يحيى ووكيع قالا حدثنا حماد بن إسحاق قال سمعت إبراهيم بن إسماعيل الكاتب يقول: كانت علية حسنة الدين، وكانت لا تغني ولا تشرب النبيذ إلا إذا كانت معتزلة الصلاة، فإذا طهرت أقبلت على الصلاة والقرآن وقراءة الكتب، فلا تلذ بشيءٍ غير قول الشعر في الأحيان، إلا أن يدعوها الخليفة إلى شيءٍ فلا تقدر على خلافه. وكانت تقول: ما حرم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما حلل منه عوضاً، فبأي شيءٍ يحتج عاصيه والمنتهك لحرماته وكانت تقول: لا غفر الله لي فتاحشةً ارتكبتها قط، ولا أقول في شعري إلا عبثاً.

 

لم يجتمع في الإسلام أخ وأخت أحسن غناء منها ومن أخيها: أخبرني أحمد بن يحيى قال حدثني عون بن محمد الكندي قال سمعت عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يقول: ما اجتمع في الإسلام قط أخ وأخت أحسن غناءً من إبراهيم بن المهدي وأخته علية، وكانت تقدم عليه.

 

كانت تحب المكاتبة بالشعر وكاتبت طلاً فمنعها الرشيد: أخبرني محمد قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال حدثنا سعيد بن إبراهيم قال: كانت علية تحب أن تراسل بالأشعار من تختصه، فاختصت خادماً يقال له " طل " من خدم الرشيد، فكانت تراسله بالشعر، فلم تره أياماً، فمشت على ميزابٍ وحدثته وقالت في ذلك:

قد كان ما كلفتـه زمـنـاً

 

يا طل من جدٍ بكم يكفـي

حتى أتيتك زائراً عـجـلاً

 

أمشي على حتفٍ إلى حتف

 

فحلف عليها الرشيد ألا تكلم طلاً ولا تسميه باسمه، فضمنت له ذلك. واستمع عليها يوماً وهي تدرس آخر سورة البقرة حتى بلغت إلى قوله عز وجل: " فإن لم يصبها زابل فطلٌ " وأرادت أن تقول: " فطلٌ " فقالت: فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين. فدخل فقبل رأسها وقال: وهبت لك طلاً، ولا أمنعك بعد هذا من شيء تريدينه. ولها في طلٍ هذا عدة أشعارٍ فيها لها صنعة. منها: صوت

يا رب إني قد غرضت بهجرها

 

فإليك أشـكـو ذاك يا ربـاه

 

مولاة سوءٍ تستهين بعـبـدهـا

 

نعم الغلام وبئست الـمـولاه

 

" طلٌ " ولكني حرمت نعيمـه

 

ووصاله إن لم يغثنـي الـلـه

 

يا رب إن كانت حياتي هكذا

 

ضراً علي فما أريد حـياه

           

 

الشعر والغناء لها خفيف ثقيلٍ مطلق في مجرى الوسطى. وقد ذكر ابن خرداذبه أن الشعر والغناء لنبيهٍ الكوفي، وأنه هوي جارية تغني، فتعلم الغناء من أجلها وقال الشعر، ولم يزل يتوصل إليها بذلك حتى صار مقدماً في المغنين، وأن هذا الشعر له فيها والصنعة أيضاً.

 

حجب عنها طل فقالت فيه شعراً وصحفت اسمه: أخبرني أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي قال حدثني محمد بن صالح بن شيخ بن عمير عن أبيه قال: حجب طلٌ عن علية فقالت وصحفت اسمه في أول بيت:

أيا سروة البستان طال تشـوقـي

 

فهل لي إلى ظلٍ لـديك سـبـيل

متى يلتقي من ليس يقضى خروجه

 

وليس لمن يهـوى إلـيه دخـول

عسى الله أن نرتاح من كربةٍ لنـا

 

فيلقى اغتباطـاً خـلةٌوخـلـيل

 

عروضه من الطويل. الشعر والغناء لعلية خفيف رملٍ. كذا ذكر ميمون بن هارون، وذكر عمرو بن بانة أنه لسلسل خفيف رملٍ بالوسطى. وأول الصوت:

متى يلتقي من ليس يقضى خروجه

 

وذكر حبشٌ أنه للهذلي خفيف رملٍ بالبنصر.

 

طارحت أخاها إبراهيم الغناء وسمعها من في مجلس المأمون: خبرني عمي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال قال لي ينشو المغني حدثني أبو أحمد بن الرشيد قال: كنت يوماً عند المأمون وإلى جانبي منصور وإبراهيم عماي، فجاء ياسر دخلة فسار المأمون. فقال المأمون لإبراهيم: إن شئت يا إبراهيم: إن شئت يا إبراهيم فانهض، فنهض. فنظرت إلى ستر قد رفع مما يلي دار الحرم، فما كان بأسرع من أن سمعت شيئاً أقلقني. فنظر إلي المأمون وأنا أميل فقال لي: يا أبا أحمد ما لك تميل؟ فقلت: إني سمعت شيئاً ما سمعت بمثله. فقال: هذه عمتك علية تطارح عمك إبراهيم:

ما لي أرى الأبصار بي جافيه

 

نسبة هذا الصوت: صوت

ما لي أرى الأبصار بي جافيه

 

لم تلتفت مني إلى نـاحـيه

لا ينظر الناس إلى المبتـلـى

 

وإنما الناس مع الـعـافـية

صحبي سلوا ربكم العـافـيه

 

فقد دهتني بعـدكـم داهـيه

صارمني بـعـدكـم سـيدي

 

فالعين من هجرانهبـاكـيه

 

الشعر لأبي العتاهية، وذكر ابن المعتز أنه لعلية وأن اللحن لها خفيف رملٍ. وذكر أنه لغيرها خفيف رمل مطلق، ولحن علية مزمومٌ.

 

أرسلت إلى الرشيد ومنصور شراباً مع خلوب وغنمتها بلحن لها: أخبرني عمي قال حدثني أبو العباس أن بشراً المرثدي قال قالت له ريق: كنت يوماً بين يدي الرشيد وعنده أخوه منصور وهما يشربان، فدخلت إليه خلوب " جارية لعلية " ومعها كأسان مملوءتان وتحيتان، ومع خادم يتبعها عودٌ، فغنتها قائمة والكأسان في أيديهما والتحيتان بين أيديهما: صوت

حيا كما الله خـلـيلـيا

 

إن ميتاً كنت وإن حيا

إن قلتما خيراً فخيرٌ لكم

 

أو قلتما غياً فلا غـيا

 

فشربا. ثم دفعت إليهما رقعةً فإذا فيها: " صنعت يا سيدي أختكما هذا اللحن اليوم، وألقته على الجواري، واصطبحت فبعثت لكما به، وبعثت من شرابي إليكما ومن تحياتي وأحذق جواري لتغنيكما. هنأكما الله وسركما وأطاب عيشكما وعيشي بكما ".

 

دعا إبراهيم بن المهدي إسحاق وأبا دلف وغنتهم جاريته لحناً لها: أخبرني عمي قال حدثني بنحوٍ من هذا أبو عبد الله المرزبان قال حدثني إبراهيم بن أبي دلف العجلي قال: كنا مع المعتصم بالقاطول ، وكان إبراهيم بن المهدي في حراقته بالجانب الغربي، وأبي وإسحاق بن إبراهيم الموصلي في حراقتيهما بالجانب الشرقي. فدعاهما في يوم جمعة، فعبرا إليه من زلال وأنا معهما وأنا صغير، علي أقبيةٌ ومنطقةٌ فلما دنونا من حراقة إبراهيم فرآنا نهض ونهضت بنهوضه صبيةٌ له يقال لها " غضة " وإذا في يديها كأسان وفي يده كأس. فلما صعد إليه اندفع فغنى:

حيا كما الله خلـيلـيا

 

إن ميتاً كنت وإن حيا

إن قلتما خيراً فأهلاً به

 

أو قلتما غياً فلا غـيا

 

ثم ناول كل واحدٍ منهما كأساً، وأخذ هو الكأس الثالث الذي في يد الجارية وقال: هلم نشرب على ريقنا قدحاً ثم دعا بالطعام فأكلنا، ووضع النبيذ فشربنا، وغنياه وغناهما وضربا معه وضرب معهما، وغنت الصبية، فطرب أبي وقال لها: أحسنت أحسنت !. فقال له إبراهيم: إن كانت أحسنت فخذها، فما أخرجتها إلا لك.

 

شكت إليها أم جعفر انقطاع الرشيد فقالت شعراً وغنت به فرجع إليها: أخبرني علي بن صالح بن الهيثم وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا أبو هفان قال: أهديت إلى الرشيد جاريةٌ في غاية الجمال والكمال، فخلا معها يوماً وأخرج كل قينة في داره واصطبح، فكان جميع من حضره من جواريه المغنيات والخدمة في الشراب زهاء ألفي جارية في أحسن زيٍ من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر. واتصل الخبر بأم جعفر فغلط عليها ذلك، فأرسلت إلى علية تشكو إليها. فأرسلت إليها علية: لا يهولنك هذا، فوالله لأردنه إليك، قد عزمت أن أصنع شعراً وأصوغ فيه لحناً وأطرحه على جواري، فلا تبقى عندك جاريةٌ إلا بعثت بها إلي وألبسيهن ألوان الثياب ليأخذن الصوت مع جواري، ففعلت أم جعفر ما أمرتها به علية. فلما جاء وقت صلاة العصر لم يشعر الرشيد إلا وعلية قد خرجت عليه من حجرتها، وأم جعفر من حجرتها معها زهاء ألفي جاريةٍ من جواريها وسائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس، وكلهن في لحنٍ واحد هزجٍ صنعته علية: صوت

منفصلٌ عني وما

 

قلبي عنه منفصل

 

يا قاطعي اليوم لمـن

نويت بعدي أن تصل

 
           

 

فطرب الرشيد وقام على رجليه حتى استقبل أم جعفر وعلية هو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قط. يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهماً إلا نثرته. فكان مبلغ ما نثره يومئذٍ ستة آلاف ألف درهم، وما سمع بمثل ذلك اليوم قط.

 

كانت تحب لحن الرمل: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: كانت علية تقول: من لم يطربه الرمل لم يطربه شيء. وكانت تقول: من أصبح وعنده طباهجةٌ باردةٌ ولم يصطبح فعليه لعنة الله.

 

أمرها الرشيد بالغناء فغنته من وراء ستار وكان معه جعفر فعرفه بها: أخبرني عبد الله بن الربيع الربيعي قال حدثني أحمد بن إسماعيل عن محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد قال: شهدت أبي جعفراً وأنا صغيرٌ وهو يحدث يحيى بن خالد جدي في بعض ما كان يخبره به من خلواته مع الرشيد، قال: يا أبت، أخذ بيدي أمير المؤمنين ثم أقبل على حجرة يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة ففتحت له، ثم رجع من كان معنا من الخدم، ثم صرنا إلى حجرة مغلقة ففتحها بيده ودخلنا جميعاً وأغلقها من داخلٍ بيده، ثم صرنا إلى رواقٍ ففتحه وفي صدره مجلس مغلق فقعد على باب المجلس، فنقر هارون الباب بيده نقراتٍ فسمعنا حساً، ثم أعاد النقر فسمعنا صوت عود، ثم أعاد النقر ثالثةً فغنت جاريةٌ ما ظننت والله أن الله خلق مثلها في حسن الغناء وجودة الضرب. فقال لها أمير المؤمنين بعد أن غنت أصواتاً: غني صوتي، فغنت صوته، وهو: صوت

ومخنثٍ شهد الزفاف وقبلـه

 

غنى الجواري حاسراً ومنقبا

لبس الدلال وقام ينقـر دفـه

 

نقراً أقر به العيون وأطربا

إن النساء رأينه فعشـقـنـه

 

فشكون شدة ما بهن فأكذبـا

 

- في هذا اللحن خفيف رملٍ نسبه يحيى المكي إلى ابن سريج ولم يصح له، وفيه خفيف ثقيل في كتاب علية أنه لها، وذكر عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزيات أنه لريق. واللحن مأخوذٌ من:

إن الرجال لهم إليك وسيلةٌ

 

وهو خفيف ثقيلٍ للهذلي، ويقال إنه لابن سريج، وهو يأتي في موضع آخر - قال: فطربت والله طرباً هممت معه أن أنطح برأسي الحائط. ثم قال غني:

طال تكذيبي وتصديقي

 

فغنت: صوت

طال تكذيبي وتصديقـي

 

لم أجد عهداً لمخـلـوق

إن ناساً في الهوى غدروا

 

أحدثوا نقض المواثـيق

لا تراني بعـدهـم أبـداً

 

أشتكي عشقاً لمعشـوق

 

طلب الرشيد أختها ولم يطلبها فقالت شعراً وبعثت من غناه له فأحضرها: قال: وقالت للرشيد أيضاً وقد طلب أختها ولم يطلبها.

 

صوت

ما لي نسيت وقد نودي بأصحابي

 

وكنت والذكر عندي رائحٌ غادي

أنا التي لا أطيق الدهر فرقتكـم

 

فرق لي يا أخي من طولإبعاد

 

قال: وغنت فيه لحناً من الثقيل الثاني، وبعثت من غناه للرشيد، فبعث فأحضرها.

 

حجت وتأخرت فتكدر الرشيد فنظمت شعراً وغنته فرضي عنها: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني عون بن محمد قال حدثني زرزور الكبير غلام جعفر بن موسى الهادي: أن علية حجت في أيام الرشيد، فلما انصرفت أقامت بطيزناباذ أياماً، فانتهى ذلك إلى الرشيد فغضب. فقالت علية: صوت

أي ذنبٍ أذنبتـه أي ذنـب

 

أي ذنبٍ لولا رجائي لربي

بمقامي بطيزنابـاذ يومـاً

 

بعده ليلةٌ على غير شرب

ثم باكرتها عقاراً شمـولاً

 

تفتن الناسك الحليم وتصبي

قرقفاً قهوةً تراها جهـولاً

 

ذات حلم فراجةً كل كرب

 

قال: وصنعت في البيتين الأولين لحناً خفيف الثقيل، وفي البيتين الأخيرين لحناً من الرمل. فلما جاءت وسمع الشعر واللحنين رضي عنا.

 

اشتاقها الرشيد وهو بالرقة فطلبها فجاءت وقالت شعراً وعملت فيه لحناً: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني عبد الله بن المعتز قال حدثني عبد الله بن إبراهيم بن المهدي قال: اشتاق الرشيد إلى عمتي علية بالرقة، فكتب إلى خالها يزيد بن منصور في إخراجها إليه فأخرجها. فقالت في طريقها: صوت

اشرب وغن على صوت النواعير

 

ما كنت أعرفها لولا ابن منصور

لولا الرجاء لمن أملـت رؤيتـه

 

ما جزت بغداد في خوف وتغرير

 

وعملت فيه لحناً في طريقة الثقيل الأول.

 

كانت مع الرشيد في الري فحنت إلى العراق بشعر فردها: أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الهشامي أبو عبد الله قال: لما خرج الرشيد إلى الري أخذ أخته علية معه. فلما صار بالمرج عملت شعراً وصاغت فيه لحناً في طريقة الرمل وغنت به، وهو: صوت

ومغتربٍ بالمرج يبكي لـشـجـوه

 

وقد غاب عنه المسعدون على الحب

إذا ما أتاه الركب من نحـو أرضـه

 

تنشق يستشفي بـرائحةالـركـب

 

فلما سمع الصوت علم أنها قد اشتاقت إلى العراق وأهلها به فردها.

 

غنت الرشيد في يوم فطر: ونسخت من كتاب هارون بن محمد الزيات حدثني بعض موالي أبي عيسى بن الرشيد عن أبي عيسى: أن علية غنت الرشيد في يوم فطر: صوت

طالت علي ليالي الصوم واتصلت

 

حتى لقد خلتها زادت على الأبد

شوقاً إلى مجلس يزهى بصاحبه

 

أعيذه بجلال الواحدالـصـمـد

 

الغناء لعلية ثاني ثقيلٍ لا يشك فيه، وذكر بعض الناس أنه للواثق، وذكر آخرون أنه لعبد الله بن العباس الربيعي. والصحيح أنه لعلية. وفيه لعريب ثقيلٌ أول غنته المعتمد يوم فطر فأمر لها بثلاثين ألف درهم.

 

ضربت وكيلها سباعاً وحبسته لخيانته فشفع فيه جيرانه فقالت شعراً: وقال ميمون بن هارون حدثني أحمد بن يوسف أبو الجهم قال: كان لعلية وكيل يقال له سباعٌ، فوقفت على خيانته فضربته وحبسته، فاجتمع جيرانه إليها فعرفوها جميل مذهبه وكثرة صدقه، وكتبوا بذلك رقعة، فوقعت فيها:

ألا أيهذا الراكب العيس بلغـن

 

سباعاً وقل انضم داركم السفر

أتسلبني مالي وإن جـاء سـائلٌ

 

رققت له إن حطه نحوك الفقر

كشافيه المرضى بعائدة الزنـا

 

تؤمل أجراً حيث ليس لهاأجر

 

تركت الغناء لموت الرشيد فألح عليها الأمين فغنته: أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني علم السمراء جارية عبد الله بن موسى الهادي أنها شهدت علية غنت الأمين في شعر لها، وهو آخر شعر قالته فيه، وطريقته من الثقيل الثاني. وكانت لما مات الرشيد جزعت جزعاً شديداً وتركت النبيذ والغناء. فلم يزل بها الأمين حتى عادت فيهما على كرهٍ. والشعر: صوت

أطلت عاذلتي لومـي وتـفـنـيدي

 

وأنت جاهلةٌ شوقي وتـسـهـيدي

لا تشرب الراح بين المسمعات وزر

 

ظبياً غريراً نقي الخـد والـجـيد

قد رنحته شمولٌ فهـو مـنـجـدلٌ

 

يحكي بوجنته مـاء الـعـنـاقـيد

قام الأمين فأغنى النـاس كـلـهـم

 

فما فقيرٌ ولا حـالبـمـوجـود

 

لحن علية في هذا الشعر ثاني ثقيل. ولعريب فيه هزجٌ، وقيل إن الهزج لإبراهيم بن المهدي.

 

وقال ميمون بن هارون حدثني محمد بن أبي عون قال حدثتني عريب أن علية قالت في لبانة بنت أخيها علي بن المهدي شعراً وغنت فيه من الثقيل الأول: صوت

وحدثني عن مجلس كنت زينـه

 

رسولٌ أمينٌ والنساء شـهـود

فقلت له كر الحديث الذي مضى

 

وذكرك من ذاك الحـديث أريد

 

وقد ذكر الهشامي أن هذا اللحن لإسحاق غناه بالرقة. وليس ذلك بصحيح.

 

سمعها إسماعيل بن الهادي تغني مستترةعند المأمون فأذهله غناؤها: أخبرني محمد بن يحيى عن عون بن محمد عن أبي أحمد بن الرشيد. ونسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن الحسن عن عون بن محمد عن أبي أحمد بن الرشيد واللفظ له قال: دخل يوماً إسماعيل بن الهادي إلى المأمون، فسمع غناءً أذهله. فقال له المأمون: ما لك؟ قال: قد سمعت ما أذهلني، وكنت أكذب بأن الأرغن الرومي يقتل طرباً، وقد صدقت الآن بذلك. قال: أو لا تدري ما هذا؟ قال: لا والله ! قال: هذه عمتك علية تلقي على عمك إبراهيم صوتاً من غنائها. إلى ها هنا رواية محمد بن يحيى. وفي رواية محمد بن الحسن قال: هذه عمتك تلقي على عمك إبراهيم صوتاً استحسنه من غنائها. فأصغيت إليه فإذا هي تلقي عليه: صوت

ليس خطب الهوى بخطبٍ يسير

 

ليس ينبيك عنه مثل حـبـير

ليس أمر الهوى يدبر بـالـرأ

 

ي ولا بالقياسوالتـفـكـير

 

اللحن في هذا لعليه ثقيلٌ أول. وفيه لإبراهيم بن المهدي ثاني ثقيلٍ عن الهشامي.

 

توفيت ولها خمسون سنة، وسبب وفاتها: أخبرني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه: أن علية بنت المهدي ولدت سنة ستين ومائة، وتوفيت سنة عشر ومائتين ولها خمسون سنة. وكانت عند موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وأخبرني محمد بن يحيى عن عون بن محمد قال حدثني محمد بن علي بن عثمان قال: ماتت علية سنة تسع ومائتين، وصلى عليها المأمون. وكان سبب وفاتها أن المأمون ضمها إليه وجعل يقبل رأسها، وكان وجهها مغطىً، فشرقت من ذلك وسعلت ثم حمت بعقب هذا أياماً يسيرةً وماتت.