بشر الحافي

150- 226 هـ

ورد في "وفيات الأعيان" لابن خلكان:

" أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، وكان اسم عبد الله بعبور، وأسلم على يد علي أبي طالب رضي الله عنه، المروزي المعروف بالحافي، أحد رجال الطريقة رضي الله عنهم؛ كان من كبار الصالحين، وأعيان الأتقياء المتورعين، أصله من مرو من قرية من قراها يقال لها مابرسام، وسكن بغداد، وكان من أولاد الرؤساء والكتاب.

وسبب توبته أنه أصاب في الطريق ورقة وفيها اسم الله تعالى مكتوب، وقد وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدراهم كانت معه غاليةً فطيب بها الورقة وجعلها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلاً يقول له: يابشر، طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة، فلما تنبه من نومه تاب.

ويحكى أنه أتى باب المعافى بن عمران، فدق عليه الحلقة، فقيل: من؟ فقال: بشر الحافي، فقالت بنت من داخل الدار: لو اشتريت نعلا بدانقين لذهب عنك اسم الحافي.

وإنما لقب بالحافي لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعاً لإحدى نعليه، وكان قد انقطع، فقال الإسكاف: ما أكثر كلفتكم على الناس! فألقى النعل من يده والأخرى من رجله، وحلف لا يلبس نعلاً بعدها.

وقيل لبشر: بأي شيء تأكل الخبز؟ فقال: أذكر العافية فأجعلها إداماً.

ومن دعائه: اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبه عني. ومن كلامه: عقوبة العالم في الدنيا أن يعمى بصر قلبه. وقال: من طلب الدنيا فليتهيأ للذل. وقال بعضهم: سمعت بشراً يقول لأصحاب الحديث: أدوا زكاة هذا الحديث، قالوا: وما زكاته؟ قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث. وروى عنه سري السقطي وجماعة من الصالحين، رضي الله تعالى عنهم. قال الجوهري: سمعت بشر بن الحارث يقول في جنازة أخته: إن العبد اذا قصر في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه. وقال بشر: كنت في طلب صديق لي ثلاثين سنة فلم أظفر به، فمررت في بعض الجبال بأقوام مرضىوزمني وعمي وبكم، فسألتهم، فقالوا: في هذا الكهف رجل يمسح عليهم بيديه فيبرأون بإذن الله تعالى وبركة دعائه، قال: فقعدت أنتظر فخرج شيخ عليه جبة صوف فلمسهم ودعا لهم، فكانوا يبرأون من عللهم بمشيئة الله تعالى؛ قال: غأخذت ذيله فاقل: خل عني ياسري، يراك تأنس بغيره فتسقط من عينه، ثم تركني ومضى.

وكان مولده سنة خمسين ومائة، وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين، وقيل: سبع وعشرين ومائتين، وقيل: يوم الأربعاء عاشر المحرم، وقيل: في رمضان بمدينة بغداد، وقيل: بمرو، رحمه الله تعالى.

وكان لبشر ثلاث أخوات، وهن مضغة، ومخة، وزبدة، وكن زاهدات عابدات ورعات، وأكبرهن مضغة ماتت قبل موت أخيها بشر، فحزن عليها بشر حزناً شديداً، وبكى بكاء كثيراً، فقيل له في ذلك، فقال: قرأت في بعض الكتب أن العبد إذا قصر في خدة ربه سلبه أنيسه، وهذه أختي مضغة كانت أنيستي في الدنيا.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: دخلت امرأة على أبي فقالت له: يا أبا عبد الله، إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفىء السراج فأغزل على ضوء القمر، فهل علي أن أبين غزل السراج من غزل القمر؟ فقال لها أبي: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك، فقالت له: يا أبا عبد الله أنين المريض هل هو شكوى؟ فقال لها: إني أرجو أن لا يكون شكوى، ولكن هو اشتكاء إلى الله تعالى، ثم انصرفت؛ قال عبد الله: فقال لي أبي: يا بني ما سمعت إنساناً قط يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة، اتبعها؛ قال عبد الله: فتبعتها إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرفت أنها أخت بشر، فأتيت أبي فقلت له: إن المرأة أخت بشر الحافي، فقال أبي: هذا والله هو الصحيح، محال أن تكون هذه المرأة إلا أخت بشر الحافي.

وقال عبد الله أيضاً: جاءت مخة أخت بشر الحافي إلى أبي فقالت: يا أبا عبد الله، رأس مالي دانقان أشتري بهما قطنا فأغزله وأبيعه بنصف درهم، فأنفق دانقاً من الجمعة إلى الجمعة، وقد مر الطائف ليلة وعه مشعل فاغتنمت ضوء المشعل وغزلت طاقين في ضوئه، فعلمت أن الله سبحانه وتعالى في مطالبة، فخلصني من هذا خلصك الله تعالى، فقال أبي: تخرجين الدانقين ثم تبقين بلا رأس مال حتى يعوضك الله خيرا منه؛ قال عبد الله: فقلت لأبي: لو قلت لها حتى تخرج رأس مالها، فقال: يابني سؤالها لا يتحمل التأويل، فمن هذه المرأة؟ فقلت هي مخة أخت بشر الحافي، فقال أبي: من ههنا أتيت.

وقال بشر الحافي: تعلمت الزهد من اختي فإنها كانت تجتهد أن لا تأكل ما لمخلوق فيه صنع."

وورد في كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير:

" وهو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، المروزي، أبو نصر، الزاهد المعروف: بالحافي، نزل بغداد.

قال ابن خلكان: وكان اسم جده: عبد الله الغيور، أسلم على يدي علي بن أبي طالب.

قلت: وكان مولده ببغداد سنة خمسين ومائة، وسمع بها شيئا كثيرا من: حماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وابن مهدي، ومالك، وأبي بكر بن عياش، وغيرهم.

وعنه جماعة منهم: أبو خيثمة، وزهير بن حرب، وسري السقطي، والعباس بن عبد العظيم، ومحمد بن حاتم.

قال محمد بن سعيد: سمع بشرا كثيرا ثم اشتغل بالعبادة واعتزل الناس ولم يحدث.

وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة في عبادته وزهادته وورعه ونسكه وتقشفه.

قال الإمام أحمد يوم بلغه موته: لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس، ولو تزوج لتم أمره.

وفي رواية عنه أنه قال: ما ترك بعده مثله.

وقال إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتم عقلا منه، ولا أحفظ للسانه منه، ما عرف له غيبة لمسلم، وكان في كل شعرة منه عقل، ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء.

وذكر غير واحد أن بشرا كان شاطرا في بدء أمره، وأن سبب توبته أنه وجد رقعة فيها اسم الله عز وجل في أتون حمام فرفعها ورفع طرفه إلى السماء وقال: سيدي اسمك ههنا ملقى يداس !

ثم ذهب إلى عطار فاشترى بدرهم غالية وضمخ تلك الرقعة منها ووضعها حيث لا تنال، فأحيى الله قلبه وألهمه رشده وصار إلى ما صار إليه من العبادة والزهادة.

من كلامه: من أحب الدنيا فليتهيأ للذل.

وكان بشر يأكل الخبز وحده، فقيل له: أما لك أدم؟

فقال: بلى ! أذكر العافية فأجعلها أدما.

وكان لا يلبس نعلا بل يمشي حافيا، فجاء يوما إلى باب فطرقه فقيل: من ذا؟

فقال: بشر الحافي.

فقالت له جارية صغيرة: لو اشترى نعلا بدرهم لذهب عنه اسم الحافي.

قالوا: وكان سبب تركه النعل أنه جاء مرة إلى حذّاء فطلب منه شراكا لنعله فقال: ما أكثر كلفتكم يا فقراء على الناس؟!

فطرح النعل من يده وخلع الأخرى من رجله وحلف لا يلبس نعلا أبدا.

قال ابن خلكان: وكانت وفاته يوم عاشوراء.

وقيل: في رمضان ببغداد.

وقيل: بمرو.

قلت: الصحيح ببغداد في هذه السنة.

وقيل: في سنة ست وعشرين.

والأول أصح، والله أعلم.

وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم، فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة.

وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلا صوته في الجنازة: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.

وقد روي أن الجن كانت تنوح عليه في بيته الذي كان يسكنه.

وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟

فقال: غفر لي ولكل من أحبني إلى يوم القيامة.

وذكر الخطيب أنه كان له أخوات ثلاث وهن: مخة، ومضغة، وزبدة.

وكلهن عابدات زاهدات مثله، وأشد ورعا أيضا.

ذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد بن حنبل فقالت: إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر فهل عليَّ عند البيع أن أميز هذا من هذا؟

فقال: إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري.

وقالت له مرة إحداهن: ربما تمرُّ بنا مشاعل بني طاهر في الليل ونحن نغزل فنغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصني من ذلك.

فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار.

وسألته عن أنين المريض: أفيه شكوى؟

قال: لا ! إنما هو شكوى إلى الله عز وجل.

ثم خرجت فقال لابنه عبد الله: يا بني ! اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة؟

قال عبد الله: فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته مخة.

وروى الخطيب أيضا عن زبدة قالت: جاء ليلة أخي بشر فدخل برجله في الدار وبقيت الأخرى خارج الدار، فاستمر كذلك ليلته حتى أصبح.

فقيل له: فيم تفكرت ليلتك؟

فقال: تفكرت في بشر النصراني، وبشر اليهودي، وبشر المجوسي، وفي نفسي، لأن اسمي بشر، فقلت في نفسي: ما الذي سبق لي من الله حتى خصني بالإسلام من بينهم؟ فتفكرت في فضل الله عليَّ وحمدته أن هداني للإسلام، وجعلني ممن خصه به، وألبسني لباس أحبابه.

وقد ترجمه ابن عساكر فأطنب وأطيب وأطال من غير ملال، وقد ذكر له أشعارا حسنة، وذكر أنه كان يتمثل بهذه الأبيات:

تعاف القذى في الماء لا تستطيعه * وتكرع من حوض الذنوب فتشرب

وتؤثر من أكل الطعام ألذه * ولا تذكر المختار من أين يكسب

وترقد يا مسكين فوق نمارق * وفي حشوها نار عليك تلهب

فحتى متى لا تستفيق جهالة * وأنت ابن سبعين بدينك تلعب