إخوان الصـفاء

في النّصف الثاني من القرن الرّابع الهجري (العاشر الميلادي) ظهرت جماعةٌ سياسيةٌ دينيةٌ ذات نزعات شيعيّة متطرفة، وربما كانت إسماعيلية على وجهٍ أصح. وأعضاء هذه الجماعة التّي اتّخذت البصرة مقرًا لها، كانوا يطلقون على أنفسهم "إخوان الصّفاء" لأن غاية مقاصدهم إنّما كانت السّعي إلى سعادة نفوسهم الخالدة، بتضافرهم فيما بينهم، وبغير ذلك من الطّرق، وخاصة العلوم التي تُطهّر النّفس. ولسنا نعرف شيئًا عن نشاطهم السّياسي. أمّا جهودهم في التّهذيب النظري، فقد أُنتِجَت سلسلةٌ من الرّسائل رُتبِّت ترتيبًا جامعًا لشِتَات العلوم، متمشّيًا مع الأغراض التي قامت من أجلها الجماعة. ويقال عادةً إنّ هذه الرّسائل قد جُمِعَت ونُشِرَت في أواسط القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) تقريبًا. وهي تبلغ 52 رسالة (تشمل طبعة بومباي 52 رسالة، وهي في هذا تتّفق مع ما وُرِدَ في فهرس الموضوعات المُثبّت في أوّلها، كما تتّفق مع آخر ما وُرِدَ في الرّسالة الأولى منها، ولكنّنا نستدلّ من الرّسائل الأخيرة من القسم الرابع منها أنَّ عددها 51 رسالة فقط). ويُذكَر من مُؤلّفيها: أبو سليمان محمد بن مشير البستي المشهور بالمقدسي، وأبو الحسن علي ابن هارون الزّنجاني، ومحمد بن أحمد النّهرجوري، والعوفي، وزيد بن رفاعة. ولا نستطيع أن نعرف الآن شيئًا أكثر من هذا، لأن إخوان الصّفاء كانوا يميليون إلى التّعبير عما يجول في نفوسهم بأسلوبٍ غير صريح. والآراء التي تضمّنتها هذه الرسائل – على قدر ما أمكننا تحقيقه– مستمدّة من مؤلفات القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. ونزعتهم الفلسفية هي نزعة قدماء مُترجمي الحكمة اليونانية والفارسية والهندية وجامعيها. وتتردّد في هذه الرسائل أسماء هرمس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون أكثر من أرسطوطاليس. وهذا الأخير يعتبرونه منطقيًا ومؤلّفًا لكتاب "أثولوجيا" الأفلاطوني و"كتاب التّفاحة". ولا نجد في رسائل إخوان الصّفاء أثراً للفلسفة المشائية الحقيقية التي بدأت بظهور الكَندي. ومن خصائص نزعتهم الفلسفية أنهم لم يأخذوا شيئًا من الكَندي، ولو أنهم أخذوا من أحد تلاميذه الذين انحرفوا عن مذهبه، وهو المنجم البهرج أبو معشر المتوفّي عام 272هـ(885م). وليس معنى ذلك أنّهم لم يكونوا على درايةٍ بمصنّفات الكندي ومدرسته. وتدلّنا الترجمة اللاتينية التي كُتِبَت في القرون الوسطى للرّسالة الثالثة عشرة أنها من تأليف "محمد تلميذ الكندي".

أُخِذَت هذه الرّسائل من كل مذهبٍ فلسفيّ بطرف. والمحور الذي تدور عليه هو فكرة الأصل السّماوي للأنفس وعودتها إلى الله. وقد صَدَر العالم عن الله، كما يصدر الكلام عن المُتكلّم أو الضوء عن الشمس؛ ففاض عن وحدة الله بالتّدرج: العقل، ومن العقل النّفس ثم المادة الأولى، ثم عالم الطّبائع، ثم الأجسام، ثم عالم الأفلاك، ثم العناصر، ثم ما يتركّب منها وهي المعادن والنّبات والحيوان. والمادة في هذا الفيض تبدو أساسًا للتّشخص ولكلّ شرّ ونقص. وليست النفوس الفردية إلاّ أجزاء من النّفس الكلية، تعود إليها مطهّرة بعد الموت، كما ترجع النفس الكلية إلى الله ثانيةً يوم المعاد. والموت، عند إخوان الصّفاء، يُسمّى البعث الأصغر؛ بينما تُسمّى عودة النفس الكليّة إلى بارئها البعث الأكبر.

يذهب إخوان الصّفاء إلى أنّ الأديان كلّها، في جميع العصور وعند جميع النّاس، يجب أن تتّفق وهذه الحكمة. وغرض كلّ فلسفة وكلّ دين هو أنّ تتشبّه النّفس بالله بقدر ما يستطيعه الإنسان. وقد أوّلوا القرآن تأويلاً رمزيًا لكيّ يتمشّى مع هذا التّصور الرّوحي للأديان. كما أوّلوا بعض القصص غير الدّينية تأويلاً رمزيًا مثل قصص كتاب "كليلة ودمنة". وقد بيّن "جولد سيهر" كيف أن إسم "إخوان الصّفاء" قد أُخِذَ من قصّة (الحمامة المطوّقة) التّي تذهب إلى أن الحيوانات إذا صفت أخوتها وتبادلت المعونة فيما بينها تستطيع الفكاك من شباك الصّياد وغيرها من المخاطر.

قد كُتِبَت هذه الرّسائل الإثنتان والخمسون في أسلوبٍ مُسهِبٍ، فيه تكرار وحض على الفضيلة. وهذه الرّسائل تشبه في الظاهر موسوعةً في العلوم المُختلفة. والجزء الأوّل من هذه الرّسائل يحتوي على أربع عشرة رسالة تعالج مبادىء الرّياضيات والمنطق. بينما يُعالج الجزء الثاني الذي يحتوي على سبع عشرة رسالةٍ العلوم الطّبيعية بما فيها علم النّفس. أمّا الرّسائل العشر التي يتضمّنها الجزء الثالث فتبحث، فيما بعد، الطّبيعة. وتتناول الرّسائل الإحدى عشرة الأخيرة التّصوف والتّنجيم والسِّحر. وقد فُصِلَ الكلام في الرّسالة الخامسة والأربعين من الجزء الرّابع عن نظام هذه الجماعة وطبيعة تكوينها.



كليلة ودمنة