الامام سحنون

776 م – 854 م

هو أبو سعيد عبد السلام سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي. من أشهر فقهاء المالكية بالمغرب العربي. ولد بمدينة القيروان سنة 160 هـ وتتلمذ لأكبر علمائها. رحل إلى المشرق طالبا للعلم سنة 188 هـ فزار مصر والشام والحجاز. عاد الإمام سحنون إلى القيروان سنة 191 هـ وعمل على نشر المذهب المالكي ليصبح بذلك المذهب الأكثر انتشارا في إفريقية والأندلس. تولّى القضاء سنة 234 هـ/848م حتى وفاته في رجب سنة 240 هـ، ودفن بالقيروان.

من أشهر مؤلفاته المدونة الكبرى التي جمع فيها مسائل الفقه على مذهب مالك بن أنس.

للإمام سحنون ضريح يقع بالقرب من مدينة القيروان.

ورد في "وفيات الأعيان" لابن خلكان:

" أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن حبيب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي الملقب سحنون الفقيه المالكي، قرأ على ابن القاسم وبن وهب وأشهب ثم انتهت الرياسة في العلم بالمغرب إليه، وكان يقول قبح الله الفقر، أدركنا مالكاً وقرأنا على ابن القاسم. كان أصله من الشام من مدينة حمص قدم به أبوه مع جند أهل حمص وولي القضاء بالقيروان وعلى قوله المعول بالمغرب. وصنف كتاب " المدونة " في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وأخذها عن ابن القاسم وكان أول من شرع في تصنيف " المدونة " أسد بن الفرات الفقيه المالكي بعد رجوعه من العراق وأصلها أسئلة سأل عنها ابن القاسم فأجابه عنها، وجاء بها أسد إلى القيروان وكتبها عنه سحنون، وكانت تسمى "الأسدية " ثم رحل بها سحنون إلى ابن القاسم في سنة ثمان وثمانين ومائة فعرضها عليه وأصلح فيها مسائل ورجع بها إلى القيروان في سنة إحدى وتسعين ومائة، وهي في التأليف على ما جمعه أسد ابن الفرات أولاً غير مرتبة المسائل ولا مرسمة التراجم، فرتب سحنون أكثرها وبوبه على ترتيب التصانيف واحتج لبعض مسائلها بالآثار من روايته من موطإ ابن وهب وغيره، وبقيت منها بقية لم يتمم فيها سحنون هذا العمل المذكور، ذكر هذا كله القاضي عياض وغيره.

وذكر لي بعض الفقهاء المالكية أن الشيخ جمال الدين أبا عمرو المعروف بابن الحاجب الفقيه المالكي النحوي -الآتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى واسمه عثمان - قال: إن أسد بن الفرات الفقيه المالكي جاء من الغرب إلى مصر وقرأ على ابن القاسم وأخذ عنه "المدونه " وكانت مسودة وعاد بها إلى بلاده فحضر إليه سحنون وطلبها منه لينقلها فبخل عليه بها فرحل سحنون إلى ابن القاسم وأخذ عنه " المدونة " وقد حررها ابن القاسم فدخل بها إلى الغرب وعلى يده كتاب ابن القاسم إلى أسد بن الفرات يقول فيه: تقابل نسختك بنسخة سحنون فالذي تتفق عليه النسختان يثبت والذي يقع فيه الاختلاف فالرجوع إلى نسخة سحنون، وتمحى نسخة ابن الفرات فهذه هي الصحيحة فلما وقف ابن الفرات على كتاب ابن القاسم عزم على العمل به، فقال له أصحابه: إن عملت هذا صار كتاب سحنون هو الأصل وبطل كتابك، وتكون أنت قد أخذته عن سحنون، فلم يعمل بكتاب ابن القاسم، فلما بلغ ابن القاسم الخبر قال: اللهم لا تنفع أحداً بابن الفرات ولا بكتابه، فهجره الناس لذلك، وهو الآن مهجور، وعلى كتاب سحنون يعتمد أهل القيروان.

وحصل له من الأصحاب والتلامذة ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك مثله وعنه انتشر علم مالك بالمغرب. وكانت ولادته أول ليلة من شهر رمضان سنة ستين ومائة، وتوفي في يوم الثلاثاء لتسع خلون من رجب سنة أربعين ومائتين، رحمه الله تعالى.

وسحنون: بفتح السين المهملة وضمها وسكون الحاء المهملة وضم النون وبعد الواو نون ثانية، وفي فتح السين وضمها كلام من جهة العربية يطول شرحه وليس هذا موضعه، وقد صنف فيه أبو محمد ابن السيد البطليوسي جزءاً وقفت عليه، وقد استوفى الكلام فيه كما ينبغي وهو مجيد في كل ما يصنعه، وقد تقدم ترجمته.ولقب سحنون باسم طائر حديد بالمغرب يسمونه سحنوناً لحدة ذهنه وذكائه، ذكر ذلك أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم القيرواني في كتاب " طبقات من كان بإفربقيه من العلماء "، والله أعلم.

وأما أسد بن الفرات فإنه أرسله زيادة الله بن الأغلب في جيش إلى جزيرة صقلية، ونزلوا على مدينة سرقوسة، ولم يزالوا محاصرين لها إلى أن مات ابن الفرات في رجب سنة ثلاث عشرة ومائتين، ودفن بمدينة بلرم من الجزيرة أيضاً، والله أعلم".

وجاء في "سير أعلام النبلاء" للذهبي:

" الإمام العلامة فقيه المغرب أبو سعيد عبد السلام بن حبيب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة بن عبد الله التنوخي الحمصي الأصل المغربي القيرواني المالكي قاضي القيروان وصاحب المدونة ويلقب بسحنون ارتحل وحج.

وسمع من سفيان بن عيينة والوليد بن مسلم وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم ووكيع بن الجراح وأشهب وطائفة.

ولم يتوسع في الحديث كما توسع في الفروع.

لازم ابن وهب وابن القاسم وأشهب حتى صار من نظرائهم وساد أهل المغرب في تحرير المذهب وانتهت إليه رئاسة العلم وعلى قوله المعول بتلك الناحية وتفقه به عدد كثير وكان قد تفقه أولاً بإفريقية على ابن غانم وغيره وكان ارتحاله في سنة ثمان وثمانين ومائة وكان موصوفاً بالعقل والديانة التامة والورع مشهوراً بالجود والبذل وافر الحرمة عديم النظير.

أخذ عنه: ولده محمد فقيه القيروان وأصبغ بن خليل القرطبي وبقي بن مخلد وسعيد بن نمر الغافقي الإلبيري الفقيه وعبد الله بن غافق التونسي ومحمد بن عبد الله بن عبدوس المغربي ووهب بن نافع فقيه قرطبة ويحيى بن القاسم بن هلال الزاهد ومطرف بن عبد الرحمن المرواني مولاهم ويحيى بن عمر الكناني الأندلسي وعيسى بن مسكين وحمديس وابن مغيث وابن الحداد وعدد كثير من الفقهاء.

فعن أشهب قال: ما قدم علينا أحد مثل سحنون.

وعن يونس بن عبد الأعلى قال: سحنون سيد أهل المغرب. وروي عن ابن عجلان الأندلسي قال: ما بورك لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه ما بورك لسحنون في أصحابه فإنهم كانوا في كل بلد أئمة.

وروي عن سحنون قال: من لم يعمل بعلمه لم ينفعه علمه بل يضره.

وقال سحنون: إذا أتى الرجل مجلس القاضي ثلاثة أيام متوالية بلا حاجة فينبغي أن لا تقبل شهادته.

وسئل سحنون: أيسع العالم أن يقول: لا أدري فيما يدري؟ قال: أما ما فيه كتاب أو سنة ثابتة فلا وأما ما كان من هذا الرأي فإنه يسعه ذلك لأنه لا يدري أمصيب هو أم مخطئ.

قال الحافظ أحمد بن خالد: كان محمد بن وضاح لا يفضل أحداً ممن لقي على سحنون في الفقه وبدقيق المسائل.

وعن سحنون قال: أكل بالمسكنة ولا أكل بالعلم محب الدنيا أعمى لم ينوره العلم ما أقبح بالعالم أن يأتي الأمراء والله ما دخلت على السلطان إلا وإذا خرجت حاسبت نفسي فوجدت عليها الدرك وأنتم ترون مخالفتي لهواه وما ألقاه به من الغلظة والله ما أخذت ولا لبست لهم ثوباً.

وعن سحنون قال: كان بعض من مضى يريد أن يتكلم بالكلمة ولو تكلم بها لانتفع بها خلق كثير فيحبسها ولا يتكلم بها مخافة المباهاة وكان إذا أعجبه الصمت تكلم ويقول: أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً.

وعنه قال: أنا أحفظ مسائل فيها ثمانية أقاويل من ثمانية أئمة فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب؟ وقيل: إن زيادة الله الأمير بعث يسأل سحنوناً عن مسألة فلم يجبه فقال له محمد بن عبدوس: أخرج من بلد القوم أمس ترجع عن الصلاة خلف قاضيهم واليوم لا تجيبهم؟!. قال: أفأجيب من يريد أن يتفكه يريد أن يأخذ قولي وقول غيري ولو كان شيئاً يقصد به الدين لأجبته.

وعنه قال: ما وجدت من باع آخرته بدنيا غيره إلا المفتي.

وعن عبد الجبار بن خالد قال: كنا نسمع من سحنون بقريته فصلى الصبح وخرج وعلى كتفه محراث وبين يديه زوج بقر فقال لنا: حم الغلام البارحة فأنا أحرث اليوم عنه وأجيئكم فقلت: أنا أحرث عنك فقرب إلي غداءه خبز شعير وزيتاً.

وعن إسماعيل بن إبراهيم قال: دخلت على سحنون وهو يومئذ قاض وفي عنقه تسبيح يسبح به.

وعن أبي داود العطار قال: باع حنون زيتوناً له بثمان مائة فدفعها إلي ففرقتها عنه صدقة.

وقيل: كان إذا قرئت عليه "مغازي" ابن وهب تسيل دموعه وإذا قرئ عليه الزهد لابن وهب يبكي.

وعن يحيى بن عون: قال: دخلت مع سحنون على ابن القصار وهو مريض فقال: ما هذا القلق؟ قال له: الموت والقدوم على الله قال له سحنون: ألست مصدقا بالرسل والبعث والحساب والجنة والنار وأن أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر والقرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يرى يوم القيامة وأنه على العرش استوى ولا تخرج على الأئمة بالسيف وإن جاروا قال: إي والله فقال: مت إذا شئت مت إذا شئت.

وعن سحنون قال: كبرنا وساءت أخلاقنا ويعلم الله ما أصيح عليكم إلا لأؤدبكم.

وعن سحنون قال: ما عميت علي مسألة إلا وجدت فرجها في كتب ابن وهب.

وقيل: إن طالباً قال: رأيت في النوم كأن سحنوناً يبني الكعبة قال: فغدوت إليه فوجدته يقرأ للناس مناسك الحج الذي جمعه.

وقيل: إنه سمع من حفص بن غياث وإسحاق الأزرق ووكيع ويحيى بن سليم الطائفي وعبد الله بن طليب المرادي وبهلول بن راشد وعلي بن زياد التونسي وعبد الله بن عمر بن غانم الرعيني وشعيب بن الليث المصري ومعن القزاز وأبي ضمرة الليثي ويزيد بن هارون وعدة.

قال أبو العرب عمن حدثه: كان الذين يحضرون مجلس سحنون من العباد أكثر من الطلبة كانوا يأتون إليه من أقطار الأرض ولما ولي سحنون القضاء بأخرة عوتب فقال: ما زلت في القضاء منذ أربعين سنة هل الفتيا إلا القضاء؟!.....

قيل: إن الرواة عن سحنون بلغوا تسع مائة. وأصل المدونة أسئلة سألها أسد بن الفرات لابن القاسم فلما ارتحل سحنون بها عرضها على ابن القاسم فأصلح فيها كثيراً وأسقط ثم رتبها سحنون وبوبها واحتج لكثير من مسائلها بالآثار من مروياته مع أن فيها أشياء لا ينهض دليلها بل رأي محض وحكوا أن سحنون في أواخر الأمر علم عليها وهم بإسقاطها وتهذيب المدونة فأدركته المنية رحمه الله فكبراء المالكية يعرفون تلك المسائل ويقررون منها ما قدروا عليه ويوهنون ما ضعف دليله فهي لها أسوة بغيرها من دوواين الفقه وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك إلا صاحبه ذاك القبر صلى الله عليه وسلم تسليماً فالعلم بحر بلا ساحل وهو مفرق في الأمة موجود لمن التمسه.

وتفسير سحنون بأنه اسم طائر بالمغرب يوصف بالفطنة والتحرز وهو بفتح السين وبضمها.

توفي الإمام سحنون في شهر رجب سنة أربعين ومائتين وله ثمانون سنة وخلفه ولده محمد.

قرأت في تاريخ القيروان لأبي بكر عبد الله بن محمد المالكي قال: قال أبو العرب: اجتمعت في سحنون خلال قلما اجتمعت في غيره: الفقه البارع والورع الصادق والصرامة في الحق والزهادة في الدنيا والتخشن في الملبس والمطعم والسماحة كان ربما وصل إخوانه بالثلاثين ديناراً وكان لا يقبل من أحد شيئاً ولم يكن يهاب سلطاناً في حق شديداً على أهل البدع انتشرت إمامته وأجمعوا على فضله قدم به أبوه مع جند الحمصيين وهو من تنوخ صليبة.

وعن سحنون قال: حججت زميل ابن وهب.

وقال عيسى بن مسكين: سحنون راهب هذه الأمة ولم يكن بين مالك وسحنون أحد أفقه من سحنون.

وعن سحنون قال: إني حفظت هذه الكتب حتى صارت في صدري كأم القرآن.

وعنه قال: إني لأخرج من الدنيا ولا يسألني الله عن مسألة قلت فيها برأيي وما أكثر ما لا أعرف.

وعنه: سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال".