الفصل الأول مدخل إلى الهندوسية

 الفصل الأوّل

مدخل إلى الهندوسيّة

 

الهندوسيّة ليست ديانة موحّدة، بل هي مصطلحٌ جماعيّ لتيّارات دينيّة ومذاهب ومناهج وطرق خلاص مختلفة نشأت على مرّ الزمن ونمت في الهند. أهمّ مراحل تطوّر الهندوسيّة هي التاليّة:

 

الفيديّة هي الشكل القديم للهندوسيّة، وقد دخلت إلى الهند مع الآريّين حوالى سنة 1500 قبل المسيح. إنّ كتب الآريّين المقدّسة تدعى فيدا (المعرفة المقدّسة). وهي تتضمّن أناشيد للآلهة ونصوصًا لتقديم الذبائح، تعرّفنا عالم الثقافة، والتصوّرات عن الله، وصورة الإنسان وأشكال العبادة في زمن الفيدا.

 

عندما قامت أشكال مختلفة في طلب الخلاص وفي المجتمع الفيديّ وأصبح ما يقابلها من ممارسات العبادة أكثر تعقيدًا، تكوّنت طبقةٌ من خدّام العبادة المؤهَّلين تأهيلاً خاصًّا، كان شغلها الشاغل البحث عن علاقات الآلهة بظواهر الطبيعة وبأحداث الحياة البشريّة وبتكوين ممارسات العبادة الفعّالة المؤاتية وتفسيرها وتأسيسها نظريًّا. هؤلاء الكهنة الخبراء بالدين يُدعَون براهمة. ولذلك دُعيت تلك الحقبة التي تأثّرت بهم البراهمانيّة. مقابل هذا التركيز الشديد على الطقوس الدينيّة، ظهرت ردّات فعل من قِبَل طبقات صغيرة منغلقة راحت تبحث عن خلاصها في التأمّل والتنظير بدلاً من العبادة والطقوس. وقد رسا تعليمها السرّي في الأوبانيشادات القديمة.

 

المرحلة الثالثة شهدت تكوين الهندوسيّة. فنمت المناهج الفلسفيّة وطرق الخلاص الدينيّة المتنوّعة. ونشأت فرق قويّة حول آلهة خاصّة اكتسبت أهميّة كبرى وأزالت الآلهة الكثيرة الأخرى، مثل فيشنو وشيفا. كلّ هذه التيّارات الدينيّة والفرق والمناهج الفلسفيّة لا تزال إلى اليوم تسِم وجهَ أديان الهند.

 

أوّلاً: آلهة الهندوسيّة

إنّ الهندوسيّين، في مرحلة أولى من تطوّرهم الدينيّ، اختبروا الألوهة في أشكال ظهورها في الطبيعة، سواء ارتبطت أشكال الظهور هذه بالأرض أو بالسماء، بالنباتات أو بالحيوانات، بالإنسان نفسه أو أخيرًا بقوى مجرَّدة. هذه القوى عُدَّت قوى عُليا. وكان عملُها في معظم الأحيان مغلَّفًا بالأسرار، وردّاتُ فعلها خاضعة للنـزوات. ولكنّ الأساطير الهنديّة قد ذكرت آلهة الفيديّة، ووصفت أعمالهم الخارقة ومغامراتهم، وعرضت علاقاتهم بعضهم ببعض وبعالَم البشر.

 

1. آلهة الحقبة القديمة

1-1. إندرا

إندرا هو الإله القويّ الأعظم، يجسّد القدرة الخالقة، التي نظّمت العالم، وخلقت شروطَ الحياة. وهو يتغلّب بقدرته على كلّ الشياطين، وقوى الخواء والفوضى التي تقاوم نشأةَ عالَم منظَّم، وتعرّض للخطر باستمرار هذا النظام الكونيّ. وهو بنوع خاصّ يتسلّط على المطر والماء فيعزّز الحياةَ على الأرض. وهو إلهُ الحروب الوطنيّة، والمعين في الضيقات، يحمي الآلهة والبشر، ويمنح أتباعَه الأمان. إندرا هو إله النصر. ومن ثَمَّ فإنّ إندرا هو ملك البشر وصديقهم. وتدعوه نصوص العبادات "الأخ"، الذي يقبل الصلوات والقرابين، وهو قريبٌ من المصلّين.

1-2. رودرا

إذا كان إندرا هو الإله الصديق والصالح، فإنّ رودرا يمثّل الجانب الآخر من الألوهة، جانب الهول والقلق. لونُه الأحمر يذكّر بأنّه ينشر حوله الرعب. وغضبه يعبّر عنه أيضًا كونُه يقتل الناس بقوسه. فهو إذن سيّد الموت. إنّه يرسل المرضى والموت. ولكن بصفته سيّد الموت، فهو يحمي أيضًا من الموت، ومن ثَمَّ يُعَدّ طبيبًا وشافيًا.

1-3. أغني

أغني هو إله النار. نوره يتغلّب على الظلمة، وعلمه يحيط بكلّ أسرار العالَم والبشر. لمعانُه يُلهِم الرؤاة وينشّط النسّاك. هو الصدّيق الذي يحمي الناس من القوى الشريرة، ويقودهم إلى الطريق القويم ويمنحهم العونَ والسعادة. هو نار القرابين، يرافق الناس في المنـزل والعائلة، ويقوم بدور الوسيط بين مقدّمي القرابين والآلهة.

 

2. آلهة الهندوسيّة

في حقبة الهندوسيّة التي بدأت في القرن الرابع قبل المسيح، راح آلهة الفيديّة يفقدون أكثر فأكثر أهمّيتهم. واتّخذوا ملامحَ إنسانيّة مع كلّ ما يتضمّنه ذلك من فناء وضعف وتقلّص. إنّ تقلّصَ الآلهة الفيديّين قد رافقه ارتقاء لآلهة جدد، تركّز حولهم بوضوح متزايد اهتمام الهندوسيّين الدينيّ. وأهمّ هؤلاء الآلهة هم فيشنو وشيفا وبراهما.

 

2-1. فيشنو

كان فيشنو في الفيديّة إلهًا لا أهميّة له. أمّا في الهندوسيّة فيقوم بدور الخالق ووظيفة حارس العالَم التي كان يؤدّيها إندرا. على مرّ الزمن صار الإلهَ الأسمى، والسلطان القدير. وعُدَّ الظهورَ الشخصيّ للألوهة غير الشخصيّة، التي هي الأصل والكيان الأخير لكلّ الأفراد من الناس والأشياء. وقد صار فيشنو في تيّار الفيشنويّة الدينيّ محورَ عبادة متّسعة وتعليم عن الله متفرّع، نقتصر منه هنا على نقطتين.

 

2-1-1. التماهي بين فيشنو وكريشنا

يُعتبر كريشنا بطلاً أفضل أبعاد الحياة. وقد نقلت عنه البهاغافاد – جيتا الشهيرة (وهو جزء من ملحمة الشعب الهندوسيّة) تعليمًا عن الله يمكن إيجاز مضمونه على النحو التالي: الله هو مصدرُ كلّ الكائنات، وأساسُ كلّ الأشياء وحقيقتُها الباطنة. الله هو السيّد، وهو أوّلاً صديقُ البشر وهو في النهاية أيضًا غايتُهم. وهو يمنح الأمانَ والتحرّرَ والخلاص للذين يلتفتون إليه ويتمسّكون به.

 

وكريشنا نفسه، بصفة كونه إلهًا، عدَّه الهندوسيّون أيضًا الإله العطوف الذي يمنح الطمأنينة والحماية. ولذلك فهو إلى الآن محورُ كلّ اتجاه دينيّ يرتكز على المحبّة والعاطفة. وبالتالي فقد تجمّعت حول شخص كريشنا طائفة من الروايات الميثولوجيّة والحكايات التنظيريّة. وصار محورَ الإكرام والعبادة بالنسبة إلى شعب الرعاة وإلى أتباعه في الزمن اللاحق. وتنوّه الأسطورة بوجه خاصّ بما قام به كريشنا من ألعاب غراميّة واختبارات غراميّة مع الفتيات الراعيات. فقد صارت ألعاب العشق هذه صورة للبحث الصوفيّ عن الله، وصارت الاختبارات الغراميّة هدفًا لأتباع كريشنا. تتعلّق بهذه التصوّرات الأسطوريّة التنظيرات التي تعدُّ كريشنا تجسيدَ محبّة الله والطمانة الأكيدة للرضى الإلهيّ.

 

2-1-2. تجسّدات فيشنو

تعني ظهورات فيشنو أنّ الله يعمل بصلاحه لخير الإنسان ويتبيّن كمخلّص للعالَم والبشر، وهي تحدث باستمرار عندما يقع العالم والناس في حالة خطرة. ويبلغ عددها العشرة.

 

في العصر الذهبيّ لدورة العالم ظهر فيشنو كسمكة، لينقذَ الإنسان الأوّل من الطوفان ويرفعَ كتبَ فيدا المقدّسة من قعر البحر. ثمّ ظهر كسلحفاة ليعمل كسند لدى تحويل مياه البحر إلى زبدة، ويساعد بذلك الآلهة والشياطين للوصول إلى رتبة عدم الموت وإلى مختلف القيم. ثمّ ظهر فيشنو كخنـزير برّيّ ليُصعِد الأرضَ الغارقةَ في البحر. وأخيرًا اتّخذ شكلَ إنسان – أسد ليحرّرَ العالم من شيطان لم يتمّ التغلّب عليه إلى الآن.

بحسب هذا الدور الكونيّ ظهر فيشنو في حقبة العالم الثانية كوسيط في الخلق، فظهر أوّلاً كقزم لم يلبث أن تحوّل إلى جبّار يقيس بخطاه الواسعة الضخمة الكونَ كلّه ويُخضعه لسلطته. ثمّ عمل على إحلال النظام في المجتمع بشكل "راما" و"راما – شاندرا".

 

في نهاية حقبة العالَم الثالثة، التي تمثّل أعمقَ نقطة في الانحطاط، ظهر فيشنو في شكل بوذا. وفي نهاية الدورة الكاملة سيظهر في شكل المخلّص كالكي، ليكافئ الصدّيقين ويعاقبَ الأشرار ويُطلق دائرة جديدة من حقبات العالَم.

 

2 – 2. شيفا

- شيفا إله الموت والحياة: شيفا هو إلهٌ يثير في الناس الخوفَ والقلق. إنّه إله الموت والمرض والضيق. وهو يرسل في غضبه العاصفة والإبادة. وبصفة كونه إلهَ الموت، فهو أيضًا إله الماضي، وفي ما بعد صار متماهيًا مع الزمن (كالا). وتمّ تصويره إلهًا راقصًا، يرمز في رقصه الكونيّ إلى ماضي الكون، ويحدّد زوالَ العالم وصيرورةَ مسارات الطبيعة.

 

كما أنّ شيفا يستطيع أن يجلبَ الدمارَ والموت، فهو يستطيع أيضًا أن يصونَ منها، فيكون عنوان الحياة. ولذلك فهو يتمتّع بقدرة هائلة على الإنجاب، ورمزه هو القضيب الذكريّ (حجر لينغا). ويُصوَّر في رفقة ثور يرمز إلى القدرة على الإخصاب.

 

- شيفا الناسك: إنّ شيفا سيّدُ الغابات والعزلة، فهو معلّم الزهّاد المتجوّلين وصورة كلّ زهد ونسك. وهو نفسه الناسك الأكبر.

 

- شيفا الإله المتعالي على العالَم: على مرّ الزمن نُسِبت إلى شيفا بوضوح متزايد صفات تتجاوز هذا العالَم. فصار شيفا سيّد الكون المطلق المختصّ بخلق العالَم والحفاظ عليه وتدميره. ويفعل هذا في حركة منتظمة تعود باستمرار، وبها ترتبط أيضًا دورة الزمن. في هذا الدور الكونيّ يُصوَّر شيفا بثلاثة رؤوس أو ثلاث أعين (الخالق أو الحكمة، والمدمّر، والمحسن).

 

لقد تكوّنت حول شيفا حركة دينيّة، يقوم أيضًا في وسطها، إلى جانب طقوس فظّة، البحث النظريّ عن العلاقات بين الله ونظام العالَم. وفضلاً عن ذلك فقد نشأ، في العلاقة بالشيفاويّة، مذهبٌ يعترف بدور حاسم للمبدإ الأنثويّ في الألوهة. فزوجةُ شيفا هي رفيقتُه (شاكتي) التي هي تشخيص طاقته وقدرته. كما أنّ الإله نفسَه له أشكال أو أوجه متنوّعة، فزوجته تكون تارةً أليفة (شكل الأوما)، وتارة مدمّرة (شكل كالي، السوداء)، وتارةً متعالية على العالَم (شكل بارفاتي أو دورغا).

 

2 – 3. براهما

براهما ليس إله الجماهير الواسعة بقدر ما هو إله المثقّفين العاكفين على التنظيرات. صفاته تقوم في العلاقة بالخلق ونظام العالَم. إنّه سيّد الكون، وهو يراقب النظام العالَمي ويظهر كديّان.

 

على مرّ الزمن فقدَ براهما أكثر فأكثر أهميّته العمليّة. وتخلّى عن مكانته كإله أسمى لصالح آلهة أخرى. وفي ملحمة الشعب يظهر في مرتبة أدنى من مرتبة فيشنو. وإنّ نصوصًا لاحقة تجعله، بأمر من فيشنو أو شيفا، يبدأ كلّ مرّة دورة حقبات الزمن، ويستعيد نشاطَه كخالق.

 

وإنّ براهما، بصفة كونه إله الحكماء، يُعدّ الكارز بالمعرفة المقدّسة، الفيدا.

 

2 – 4. الله سيّد العالم

نتيجة مسيرة الهندوسيّة في توحيد عالَم الآلهة هي بروز إلـهَي الهندوسيّة الحديثة العظيمَين، فيشنو وشيفا. فهذان يعدّهما أتباعهما الإله الأسمى والأوحد، الذي يوحّد في ذاته جميع الصّفات الإلهيّة. ففي اعتقاد الفيشنويّين تقيم كلّ الألوهة في فيشنو، وكلّ الآلهة الأخرى ليست سوى وجوه من كيانه ولا تمثّل إلاّ وظائفه المتنوّعة. لا وجود لأيّ إله آخر إلى جانبه. لا شكّ أنّ النـزعة إلى التوحيد هي شبيهة عند الشيفاويّين. ومع ذلك فحصريّة إيمانهم بالله الواحد تبدو أقلّ شدّة. ويصف أتباع فيشنو وشيفا كلاًّ منهما بأنّه سيّد العالم (إشفارا).

 

وأهمّ صفاته ما يلي:

- سيّد العالم هو أيضًا سيّد الآلهة والبشر، كما أنّه سيّد الكون كلّه. وبذلك يظهر متفوّقًا على جميع الكائنات.

- سيّد العالم هو جوهر وحدة الكون. في شخصه تتوحّد جميع ظواهر العالم، إذ إنّه يمنحها جميعًا وحدةَ كيان أرفع في كيانه الخاصّ. وكذلك يتوحّد فيه نظام العالَم مع تنوّعه والقواعد الأخلاقيّة في تطبيقاتها المختلفة.

- سيّد العالم يشمل كلّ شيء بعلمه غير المحدود. فقد خلق العالَم بقدرته ووضع للكون نظامَه الثابت. وفي عنايته يهتمّ باستمرار خليقته. وهو من ثَمَّ يقوم في دائرة كيان تعلو على العالم، بمعنى أنّه لا يخضع لأيّ حدّ، وبنوع خاصّ لا يتعرّض للفناء.

- هذا يدلّ على تساميه. ولا يمكن إدراكه و وصفه في تساميه الخاصّ. فهو يقوم فوق المصطلحات والصفات كالكيان أو عدم الكيان. لا يمكن تحديده ولا قياسه، ولا حصره وبالتالي لا يمكن التعبير عنه. ولذلك يُدعى إله الآلهة.

- وإن كان هو نفسه لا يخضع لأيّ تغيير، فهو مع ذلك مصدر العالم المتغيّر. إنّه غير محدود، غير أنّه سيّد كلّ الكائنات المحدودة. إنّه مولود، إلاّ أنّ كلّ الكائنات وكلّ الأشكال التي تظهر فيها الحياة في العالم تولد منه. وفي نهاية الأمر فهو وحده يكوّن جوهرَ كلّ الكائنات.

- ومن ثَمَّ فسيّد العالَم هو كلّ شيء في الكلّ. إنّه نور الأجساد السماويّة، والطاقة والحياة في الكائنات الحيّة، والقدرة الباطنة الناشطة في النسّاك. إنّه أيضًا القاعدة العليا، والمرجع الأخلاقيّ الكامل، والديّان العادل.

- ويستطيع الإنسان أن يختبرَه في الاستسلام المحبّ (بهاكتي). فالإله المتسامي يظهر من ثَمَّ إلهًا قريبًا وصديقًا للإنسان، يفسح له في المجال ليصلَ إليه، وهو مستعدّ لإقامة علاقات صداقة ومحبّة مع البشر. من يستسلم للمحبّة يستطيع وحده أن يختبرَه في نقاوته الأخلاقيّة، وفي كماله، وفي مجده وبهائه، وفي نعمته ومحبّته المرهَفة.

 

3. الألوهة غير الشخصيّة (براهمن)

براهمن هو الألوهة المطلقة، الحقيقة المتسامية، والكائن الأعلى. وهو أيضًا خلاصة الكون. ولأنّ براهمن هو جوهر الألوهة، فهو يمتلك كلّ الصفات التي تعود لسيّد العالم، باستثناء تلك التي تُظهر في سيّد العالَم طابعًا شخصيًّا أو تفترضه، لأنّ براهمن هو الألوهة غير الشخصيّة.

3 – 1. صفات براهمن

- فبراهمن هو الأزليّ، المطلَق، والمتسامي الذي يستحيل التعبير عنه، لأنّه لا يمكن أن يُحدَّدَ بصفات أو مصطلحات. ولا يمكن الوصول إليه إلاّ بممارسة التأمّل والاستغراق.

- وبراهمن هو المصدر الأخير لكلّ الأشياء وكلّ الكائنات. وبما أنّه يُعتَبَر غيرَ شخصيّ، فإنّ نشأةَ العالَم لم تكن نتيجة عمل إرادة خلاّق منه، بل كانت بالحريّ عملاً آليًّا، وتدفّقًا مستمرًّا من كيانه نحو الخارج. ومن ثَمَّ فبراهمن هو جوهرُ كلّ الأشياء والكائنات الحيّة. إنّه يلج في داخلها كلّها، ويحرّكها ويحييها. وهو يُشبِه "الآتمان"، الأصلَ العميقَ لكلّ شيء ولكلّ إنسان. براهمن وآتمان لا يمكن الوصول إليهما بالتفكير المنطقيّ، بل فقط بالتأمّل العميق، بالغوص والمعرفة الحدسيّة.

- والبراهمن الذي من كيانه يخرج كلّ شيء، وهو الجوهر الأصليّ لكلّ الأشياء، هو أيضًا غايةُ كلّ الكائنات. وبما أنّه غير شخصيّ، فلا يُعَدّ حارسَ القيَم الأخلاقيّة والمرجعَ للتمييز بين الخير والشرّ. وليس هو موضوع العبادة والصلاة والإكرام الإنسانيّ. إنّه غاية البحث الروحاني، وموضوع المعرفة الحدسيّة والنقطة القصوى للاتّحاد الروحانيّ.

 

3 – 2. العلاقات بين براهمن وسيّد العالم

- براهمن، بالنسبة إلى أحد مذاهب الهندوسيّة، هو المتسامي الذي لا يمكن تجاوزه. هذا يعني أنّ الآلهةَ الشخصيّين وأسياد العالم الشخصيّين لا يُعدّون سوى أشكال شخصيّة لبراهمن. إنّهم دفقٌ من كيانه، وهم بذلك أشكال كيان منحطّة من تساميه الإلهيّ. فيهم ترتبط الألوهة المطلقة بالكون وبعالَم الإنسان. فهم درجة متوسّطة بين براهمن والعالم، الذي به يرتبطون وبالتالي يُحدِّدون. صحيح أنّ لهم قسط من التسامي، ولكنّ هذا التسامي هو نسبيّ. إنّ لهم حقيقة خاصّة، ولكنّها تُصلح فقط بالنسبة إلى الكون والبشر، لا بالنسبة إلى براهمن، المتسامي المطلق، الواحد الأصليّ، الذي هم أشكالُ ظهوره.

- براهمن نفسه هو على قدر كبير من التسامي وهو في ذاته الحقيقة الكاملة بحيث لا يقبل أن يكون ثَمَّةَ حقيقة أخرى (مطلقة) خارجًا عنه. براهمن، هذه الألوهة غير الشخصيّة، هو الألوهة الحقيقيّة. هو وحده الواحد المطلق، الذي لا صفة له، الذي لا يمكن تحديده، الذي يتجاوز كلّ كثرة وكلّ ثنائيّة.

إنّ يستحيل تصوّره أو التعبير عنه، إنّه المتعالي المطلق عن هذا الدهر، والسرّ الذي يفوق كلّ واقع في هذا العالم، وهو محتجبٌ فوق العالم والإنسان والألوهة.

براهمن ذلك المتسامي المطلق، هو، من خلال انبثاقاته، حاضرٌ في كلّ الكائنات بحيث لا يحصل أيّ منها على حقيقته إلاّ من خلال حقيقته. الأشياء والكائنات ليست لها حقيقة خاصّة بها. فهي تصدر عنه وتقيم فيه: هذه هي وحدة الوجود التامّة (الألوهة في الوجود كلّه). والأمر هو على هذا النحو بحيث إنّ براهمن هو وحده الموجود، وهو موجود في كلّ الكائنات: وهذا يعني أنّ الله وحده هو كلّ شيء.

 

ثانيًا: طرق الخلاص

إنّ تعاليم الخلاص المتنوّعة في الهندوسيّة وما تنطوي عليه من تصوّرات للخلاص ولطرق الخلاص لا تدّعي أيّة صلاحيّة عامّة لكلّ طبقات السكّان ولا للبشريّة كلّها. إنّ صلاحيّتها تقتصر على أتباعها من السكّان، وتعتنقها وتتبعها الفرَق المختلفة جنبًا إلى جنب.

 

1. طرق العبادة

1-1. أهداف العبادة

إنّ مطالب الخلاص الواقعيّة التي يسعى الهندوسيّ إلى تلبيتها من خلال هذه العبادة هي متنوّعة. منها النجاح والفلاح، وهذا يعني صدّ كلّ ما هو مضرّ وسلبيّ، والحماية من تأثيرات الكوارث الطبيعيّة والظواهر السماويّة غير العاديّة، والحماية من الأمراض والأوبئة، ومن الأعداء والخصوم والمناوئين. ويسعى الهندوسيّ، من خلال العبادة إلى الحصول على الصحّة والقوّة والعمر المديد والسعادة في الأسرة والجاه وازدياد الممتلكات والنفوذ في الجماعة، والأمان والوفاق والسلام، أو حتّى على الانتصار في المجتمع وفي العلاقات بسائر الشعوب. يُضاف إلى ذلك تأمين مسرى للنظام الكونيّ معتَق من البلبلة ودورة مؤاتية لأوقات السنة.

إلى جانب هذه الرغبات التي تُعرَض في ممارسات العبادة اليوميّة أو في الطقوس التي يُحتفل بها في مناسبات خاصّة، تحتوي الهندوسيّة على طقوس ترافق مراحلَ حياة الإنسان، ولذلك تدعى "أسرارًا". تحدّد هذه الطقوس بنوع خاصّ أوقات الأزمات في حياة الإنسان، أعني الأوقات التي تنتقل فيها الحياة من مرحلة إلى أخرى والتي لأجل ذلك تُعَدّ مليئة بالأخطار بالنسبة إلى مصير الفرد. ومن ثَمَّ لا بدّ من تأمين كلّ انتقال ليستطيع أن يكونَ ضمانةَ بركة وسعادة للمرحلة اللاحقة. الأسرار تحيط بظروف الحياة المرتبطة بحبَل المرأة وولادتها وقيامها. كما تحيط بزمن المراهقة والتنشئة، أي بتجاوز سنّ الطفولة والدخول في سنّ الرشد. وتتعلّق بنوع خاصّ باحتفالات الزواج وبتأسيس أسرة جديدة. وترافق أخيرًا الميتَ في مرحلة حياته القادمة في دورة الولادات المتجدّدة. إنّ أقصى رجاء الهندوسيّين يتركّز على التوقّف عن هذه الدورة وبلوغ الاستقرار في السماء.

 

1 – 2. فعاليّة شعائر العبادة

أمّا عن فعّاليّة هذه الطقوس وعن دور الآلهة والناس في تحقيق الرغبات المقصودة في العبادة، فقد نشأ في الهندوسيّة تصوّر متعدّد الجنبات.

- فحيث يُقبَل اختصاص مختلف الآلهة والقوى بالنسبة إلى سير العالَم، يسود الرأي بأنّ فعّاليّةَ العبادة والطقوس متعلّقة بنجاح الناس في نيل رضى هذه القوى. ولكن ثَمَّة أيضًا التصوّر بأنّ الكونَ كلَّه ليس سوى تحقيق وانتشار لمبدإ قديم لا يخلق أجزاءَ العالَم بل يُخرِجها من ذاته، ويُخرج إلى الوجود الشكلَ الواقعيّ للكون من خلال انبثاقٍ من ذاته الباطنة.

- ويرتبط بهذه العقيدة التصوّر الذي يرى أنّ مصدرَ الأشياء والكون كلّه هو ذبيحة، ذبيحة كائن قديم، وتجزئته لتكوين العالَم وتجهيزه. الآلهة أيضًا ليست سوى أشكال يظهر فيها هذا الكائن الواحد القديم. وهي لا تؤدّي بالتحديد أيّ دور حاسم في سير العالَم، فالفعّاليّة كلّها تنشأ من الذبيحة عينها. صحيحٌ أنّ الذبيحةَ تتوجّه إلى الآلهة، ولكن هؤلاء فضلاً عن هذا الدور ليس لهم أيّة قدرة على تلبية طلبات الناس. فهم أنفسهم يقدّمون الذبيحة ليحصلوا لذواتهم على القدرة والخلود. وبما أنّ فعّاليّةَ الذبيحة كامنةٌ في ذاتها، فلئلاّ تفقدَ الذبيحةُ فعلَها، أُثبِتت كلّ حركة بوجه محكَم، ونُقِلت كلّ كلمة في صيغة دقيقة جدًّا. والاتّباع المتقَن لمختلف الأحكام هو شرطٌ لا غنى عنه لنجاح الذبيحة. فالآلهة يُستدعَون والناس يقدّمون الذبيحة، ولكنّ الذبيحةَ نفسَها هي التي تُتمّ حتمًا فعلَها بفضل قوّتها الذاتيّة. ومن أجل اتّباع كلّ الطقوس بدون عائق، أُقيم كهنةٌ اختصاصيّون في أمور العبادة. وبذلك اكتسبت خدمة البراهمة أهميّة كبرى في الحياة الدينيّة.

 

1 – 3. نظام الميمانسا

إنّ هذه النظريّة في العبادة وفي مفهوم الذبيحة التي تعود إلى عصر البراهمة استمرّت في نظام الميمانسا الكلاسيكيّ. الهندوسيّة الكلاسيكيّة عرفت ستّة أنظمة رئيسيّة، فيها وجدت التنظيرات الفلسفيّة والعقائد وتصوّرات الخلاص في المدارس الدينيّة تعبيرَها، وتدعى دَرْشانا، أي آراء ونظرات وطرائق تقود إلى معرفة الواقع وإلى الحصول على الخلاص.

 

إنّ نظام الميمانسا هو أحد هذه الدَرْشانا. ومحور نظرته إلى الواقع هو كلمة الفيدا المقدّسة التي عليها ترتكز أهمية العبادة. فكلمة الفيدا هي أزليّة وتملك سلطتها المطلقة. كلمة الفيدا تخلق الواقع الذي تعبّر عنه. وبالتالي فكلمة الفيدا تضمن أيضًا فعاليّة الذبيحة.

الذبيحة والطقس لا يضمنان في طرق الخلاص الموصوف هنا رغائبَ الإنسان في هذا الدهر فحسب. فالهدف الأقصى يقود إلى ما وراء الأرضيّات، ويشير إلى التمتّع والفرح في سعادة السماء. ولا يستطيع الإنسان بلوغَ هذه السعادة إلاّ إذا تخلّص من وجوب الولادة مرّة أخرى في وجودٍ جديد مليء بالألم. وطريق التخلّص من دائرة الولادات المتجدّدة يبقى مرتبطًا بتتميم القواعد الفيديّة.

 

2. طريق الأعمال الصالحة

2-1. قانون الأخلاق

إنّ قانون الأخلاق يضمن الانسجام بين الكون وعالَم الإنسان. إنّه الطريق التي يجب اتّباعُها، لكي تبقى الحياة خالية من الاضطرابات ولكي يُتاحَ تعزيزها. من خلال قانون الأخلاق يعرف الهندوسيّ ما يتوجّب عليه أن يفعلَه ويجتنبَه، ويفكّر فيه ويقولَه، فهذا القانون هو قاعدة الخير. بتتميمه يبلغ الهندوسيّ إلى هويّته الخاصّة في الانسجام مع هويّة الآخرين، هويّة الجماعة وهويّة الكون كلّه.

الإرشادات الأخلاقيّة الواقعيّة تهدف إلى تحقيق الخير من قِبَل الناس في الفكر والقول والفعل. وهي تتعلّق بواجبات كلّ واحد. وتُبَلَّغ القواعد الأخلاقيّة بنوع خاصّ من خلال الطبقات التي يتكوّن منها المجتمع الهنديّ.

 

2-1-1. نظام الطبقات

إنّ نشأةَ الطبقات مرتبطةٌ بعوامل متعدّدة، نذكر منها ما يلي:

- عوامل ونشاطات مهنيّة وسياسيّة واقتصاديّة.

- انضمام أناس من مصادر مختلفة إلى فئة جديدة، سواء أكانت هذه الفئة مذهبًا جديدًا أم مهنةً جديدة.

- اهتمام الأفراد بالحفاظ على هويّتهم، وإيمانهم، وعوائدهم، وأعرافهم، وطقوسهم، وتقاليدهم الخاصّة.

- احترام أحكام المحرَّمات، ولا سيّما في ما يختصّ بمحرَّمات الطعام ومحرّمات الزواج.

- ويرتبط بهذا ما ينتج من عقيدة قانون مجازاة الأعمال وتصوّرات الطهارة وطقوس التطهير، وكذلك الآراء السحريّة في ما يتعلّق بممارسة بعض المهن.

- اجتهاد بعض الفئات، ولا سيّما الطبقات العليا، بتوثيق تفوّقها وإثباته.

فضلاً عن ذلك فقد عرفت الكتب المقدَّسة في الهندوسيّة أساسًا دينيًّا صرفًا لكيان الطبقات. فكيان الطبقات بحسب هذه الكتب هو نظامٌ اجتماعيّ لم يضعه البشر، بل حدّده الله نفسه. وعليه فإنّ ريغ- فيدا (12، 10: 90) مثلاً يذكر أنّ الخالق بوروشا قد كوّن الطبقات الأربع الرئيسيّة من أجزاء جسده الكونيّ: فمن فمه كوّن البراهمة، ومن يديه المحاربين، ومن فخذيه المزارعين والحرفيّين والتجّار، وأخيرًا من قدميه كوّن طبقةَ الخدّام. بناءً على هذا الأساس الدينيّ اكتسب كيان الطبقات في الهند تبريرًا وتثبيتًا جعلاه متأصّلاً بشكل راسخ في نظام الهند الاجتماعيّ.

 

إلى جانب هذه الطبقات ثَمَّة أيضًا في المجتمع الهنديّ الذين لا طبقة لهم، الذين لا يجوز مسّهم. فهؤلاء ليس لهم في المجتمع أيّ وطن، لأنّهم فقدوا الانتماء إلى طبقة، إمّا لأنّهم طُرِدوا منها لارتكابهم آثامًا ثقيلة، وإمّا لأنّهم نتيجة الخطيئة (الزواج المختلط)، وهم بالتالي خطر على النظام الكونيّ والاجتماعيّ. فأعضاء الطبقات الأخرى يتجنّبونهم، وهم يكسبون رزقَهم بالقيام بخدمات تتعلّق خصوصًا بالموت. فهم الجلاّدون، ومغسّلو الجثث، وقابضو الحيوانات، ومقطّعو اللحم، والعمّال في مصانع الجلد إلخ. إنّ المنبوذين والذين لا طبقة لهم، وإن كانوا مطرودين من المجتمع، غير أنّهم، إن مارسوا الزهد في حياتهم، قد يتمتّعون باعتبار كبير.

 

2-1-2. المسلك الأخلاقيّ

يعرض أدب الهندوسيّة الأخلاقيّ تصنيفًا للخطايا بين كبيرة وصغيرة. فالخطايا الصغيرة لا تكوّن أيّ انتهاك مميت ولا أيّ تهديد جدّي للنظام الكونيّ الاجتماعيّ. ومع ذلك فهي تنجّس فاعلها. فالخطايا الصغيرة هي على سبيل المثال قتل حيوانات، وسرقة كمّيًات ضئيلة إلخ. أكثر خطورةً هي المخالفات والجرائم الثقيلة كالقتل والإجهاض والزنى وسرقة المبالغ الكبيرة، والعلاقات الجنسيّة مع أعضاء من طبقات أدنى. مثل تلك الخطايا يعاقب عليها بشدّة رؤساء الطبقات المتنوّعة، ويمكن أن تصلَ العقوبة إلى الإقصاء من الطبقة، أي حتّى الموت الاجتماعيّ للخاطئ.

 

إنّ عواقبَ الخطايا يتمّ تداركها من خلال تتميم طقوس تكفير مناسبة. وأهمّ طقوس التكفير تقوم خصوصًا صلوات وذبائح.

 

2-2. قانون مجازاة الأعمال (قانون الكَرْمان)

بالنسبة إلى عامّة طبقات السكّان لم يكتسب قانون مجازاة الأعمال أهميّة إلاّ في الزمن الفيديّ المتأخّر. وقد ارتبط بعقيدة مجازاة الأعمال الشخصيّة واقعٌ جديد مفاده أنّ الإنسان نفسَه وعملَه الخاصّ قد احتلاّ من الآن فصاعدًا محورَ الاهتمام الدينيّ. فالقول الأساسيّ لقانون الكرمان يُثبِت أنّ أعمالَ الإنسان تحدّد مصيرَه.

 

كلّ عمل ينجم عنه كَرْمان، أيّ نتيجة يتحمّل تبعتَها، تبقى متعلّقة بالإنسان كمادّة رقيقة، حتّى بعد الموت. ومن ثَمَّ فكلّ وجود جديد هو نتيجة الوجود السابق ومحدَّد به.

 

وقانون المجازاة هذا يسير بصرف النظر عن تأثير الآلهة. إنّ ضرورتَه الباطنة تجعله نوعًا من عمل آليّ يقحِم الإنسان في دائرة لا نهاية لها من الولادات الجديدة، لا يستطيع أن يتخلّص منها بسهولة. فإذا فكّرنا في مدى الألم الذي يحيط بوجود الإنسان، يمكن أن نفهم أنّ الهندوسيّ يعُدّ بالضبط هذه السلسلة اللامتناهية من الوجودات الأرضيّة شرًّا مطلقًا يجب على الإنسان أن يتخلّص منه.

2-3. الخلاص بالأعمال الصالحة

إنّ الهندوسيّ يرى الخلاص الذي يسعى إليه من خلال الأعمال الصالحة في إنتاج كَرْمان صالح والحصول على المكافأة الصالحة في السماء. ولكن لا يصل إلى السماء إلاّ من جمّع قدْرًا كبيرًا من الكَرْمان الصالح، بحيث لا يعود يخضع لقانون الولادات الجديدة.

ولكي تكونَ الأعمال الصالحة من النوع الذي لا ينجم عنه أيّ كَرْمان يُرغِم على الولادة من جديد، يجب على الإنسان، بحسب تعليم البهاغافاد-جيتا، أن يتصرّف عن واجب، بدون رغبة، ولا هوى، ولا ميل إلى النتائج. على كلّ واحد أن يتقيّد بالدهارما (قانون الواجبات) المختصّ به وبالفضائل العامّة: الثبات، التسامح، ضبط النفس، الأمانة، الإخلاص. مثل هذا التتميم المتجرّد للواجب لا يُنشئ أيّ كَرْمان. هذا التعليم يُزيل التناقضَ بين الحياة العمليّة والزهد المتشدّد… وهو يقدّم لكلّ إنسان من عامّة الشعب ويعمل في المجتمع البشريّ أساسًا للحياة والعمل والنظرة إلى الخلاص.

 

3. طريق المعرفة الصوفيّة

كردّة فعل على طريق خلاص ممارسات العبادة الطقسيّة وعلى أولويّة الأخلاق وقانون واجبات النظام الاجتماعي، تطوّرت طريق خلاص ترتكز على المعرفة الصوفيّة للوحدة القائمة بين الله والعالَم والإنسان، ووجدت تعبيرَها الفلسفيّ في نظام الفيدانتا.

على مرّ الزمن تكوّنت أيضًا عقيدة مراحل الحياة كمحاولة لإيجاد تسوية بين طرق الخلاص المتنوّعة ووضعها كلّها في علاقة شاملة ودمجها بهذه الطريقة. بحسب هذه العقيدة، يتوجّب على كلّ إنسان من الطبقات الثلاث العليا أن يقطعَ في حياته أربعَ مراحل. هذه المراحل (أَشْرَما) هي: دراسة الفيدا (مدّة 12 سنة)، حالة ربّ البيت (25 سنة)، الزهد الممارَس في وسط العالَم (25 سنة)، الانقطاع التامّ عن العالَم والتجرّد الكامل (باقي الحياة). من يقطع هذه المراحل يحقّق مثالَ الحياة الإنسانيّة بحسب رأي الهندوسيّة.

 

3 – 1. الزهد

كلّ الكائنات في العالَم معرّضة للفناء وخاضعة لدورة الولادات الجديدة الدائمة. للتخلّص من هذا الوضع المؤلم، يتوجّب على الإنسان أن يتجرّد عن كلّ ما يعرّضه لقانون الفناء والولادة الجديد الصارم. ومن ثمّ ينبغي له أن ينقطع قدْر الإمكان عن كلّ نشاط ويتخلّى عن كلّ ميل إلى العالم وإلى الحياة. ولا يستطيع الزاهد أن يتغلّب على ألَم الوجود الأرضيّ إلاّ إذا عاش بدون رغبات وميول وأهواء ومارسَ اعتدال المزاج. علاوةً على ذلك يستطيع الحصولَ على الحريّة الباطنة والرفيعة التي يسعى إليها من خلال تجرّده.

للوصول إلى هذا اللانشاط والاطمئنان والحريّة، يأوي الزاهد إلى العزلة. وإلى جانب الفضائل المهمّة كاحترام الحياة، والعفّة، والطهارة، والفقر، ومحبّة الحقيقة، يمارس التمارين التي تسهّل له ضبطَ النفس والتجرّد عن العالم.

 

3-2. الخبرة الصوفيّة

إنّ أساس طريق خلاص المعرفة الصوفيّة نجده في الأوبانيشاد. فكلمة "أوبانيشاد" تعني "التعليم السرّيّ". ومن ثَمّ فالأوبانيشاد هي الكتابات التي تتجمّع فيها نظرات وأفكار معلّمين موهوبين بنوع خاصّ. إنّ فكرَ هؤلاء المعلّمين يدور خصوصًا حول سرّ الكون، وحول ما يقوم وراء تعدّد الظواهر من وحدة عميقة بين كلّ الكائنات: الأشياء والناس والإلهيّات.

 

3-2-1. وحدة الكيان

ترتكز عقيدة وحدة الكيان الأخيرة على العلاقة بين مصطلحين: الآتمان والبراهمان.

- الآتمان هو الذات، أساس وحدة الإنسان الفرد، هو الفاعل الذي تُنسَب إليه أحداث الحياة كلُّها، سواء جرت في الجسد أو في الروح، والذي مع ذلك يسجّل أحداثَ الحياة هذه من خلال وساطة الوعي. ويتكوّن الإنسان في نهاية الأمر من ثلاث طبقات: الجسد كجزء من العالَم المادّي، والميدان النفسيّ (الأحداث النفسيّة، النفس باعتبارها صاحبة القدرة النفسيّة، وموضع تجميع الكَرْمان)، والآتمان، أي الروح الصرف.

- البراهمان: القطب الثاني للوحدة الشاملة على صعيد الكون، العالَم الكبير، هو البراهمان. البراهمان هو الأزليّ والمطلق والمتسامي. إنّه يستحيل التعبير عنه، لأنّه غير محدود بمصطلحات أو بخواصّ يمكن وصفها. البراهمان هو المصدر الأخير لكلّ الأشياء وكلّ الكائنات. وبما أنّه غير شخصيّ، فإنّ نشأةَ العالَم منه ليست نتيجة عمل إرادة خلاّق، بل فيضٌ دائم من كيانه. البراهمان هو جوهر كلّ الأشياء وكلّ الكائنات الحيّة، التي نشأت كلّها عنه بالانبثاق.

- تنطلق طريق خلاص الأوبانيشادات من أنّ كلّ الكائنات تندرج في وحدة قصوى، وأنّ ذاتَ الإنسان الفرد من جهة والأساسَ الأصليّ لكيان الكون من جهة أخرى، أعني الآتمان والبراهمان، هما متماهيان. ومن ثَمّ يقوم الخلاص على معرفة هذه الوحدة الشاملة، واختبار تماهي الذات مع البراهمان. بيد أنّ هذا الاختبارَ هو حصيلة معرفة حَدْسيّة وليس نتيجة اعتبارات نظريّة أو براهين منطقيّة. وهو يتمّ عندما يعيش المتأمّل، بفضل كشف مفاجئ، امتدادًا لا حدّ له لوعيه، ويصل إلى نوع من رؤية للوحدة الشاملة، إلى معرفة حَدْسيّة بأنّه، وراء أشكال الظواهر وأحداث الحياة كلّها، لا وجود في الواقع إلاّ للإلهيّ، للبراهمان.

 

3-2-2. حصول الخلاص

هذا الحدْس هو بداية الخلاص النهائيّ. من يريد أن يبلغَ إليه يتوجّب عليه، فضلاً عن الكمال الخلقيّ وضبط النفس والتجرّد عن العالَم، أن يمارسَ التأمّل والتعمّق اللذين يساعدانه في ذلك. ولكن من يختبره بعد جهود متكرّرة لا يعود يُعير أهميّة لطرق الحياة في الوجود الأرضيّ، ولا للارتباطات بالعالم. فإنّ حقيقتَها تضمحلّ، ولا تعود سوى عناصر أو نواحٍ لعالَم ظاهر فارغ.

إنّ طريقَ هذا الحدْس تُفضي إلى الحريّة الباطنة. ويضمحلّ الخوف من شرّ الوجود الأرضيّ المليء بالألم. حتّى قانون الولادة الجديدة يفقد صرامَته. وبذلك يختبر المستغرق في التأمّل السعادةَ في الحياة الأرضيّة، والخلودَ بعد الموت، أي إنّه يتخلّص من دائرة الولادات الجديدة، ويبلغ إلى ميدان كيان الإلهيّ. وميدان كيان الإلهيّ هو إمّا سماء مملوءة غبطة أو العودة إلى الحقيقيّة الوحيدة، إلى الواحد الكلّي غير الشخصيّ، إلى البراهمان. ويتوقّف وجوده ككائن فرديّ، ويفنى نهائيًّا في الإلهيّ.

 

3-3. نظام الفيدانتا

إنّ نظام الفيدانتا وهو الصيغة الجذريّة للواحديّة، يرتكز على الرأي القائل بأنّ كلّ شيء في العالم ليس سوى مظاهر. فالواقع والحلم لا يختلف في الواقع أحدهما عن الآخر. ولا وجود في الحقيقة إلاّ لله أو للإلهيّ. البراهمان هو على هذا القدْر من التسامي، وهو في ذاته الواقعُ كلّه، بحيث لا يُفسح في المجال لأيّ شيء آخر حقيقيّ خارجًا عنه.

 

إن معلّم الفيدانتا الأكبر، شانكارا (788 – 820) قد حاول ان يدمجَ التصوّرات المتنوّعة التي تمّ التعبير عنها قبله في نظام جامع، دُعي "الكليّة الإلهيّة التخيليّة".

 

يعتقد شانكارا بنوع من نظريّة متدرّجة للحقيقة، يقوم بموجبها مستويان من الحقيقة والمعرفة. في الدرجة الدنيا يُفترَض أنّ الأشياء والكائنات في العالَم تملك حقيقةً خاصّة وقوامًا خاصًّا. غير أنّ المعرفة العليا تَعلَم أنّ الذات هي، على مستوى الإنسان، الحقيقة الوحيدة وراء أحداث الحياة. وأنّ العالم المادّي ليس سوى شكل يظهر فيه سيّد العالم. ذات الإنسان نفسها، التي هي جزءٌ مكوّن من هذا العالم، هي فيضٌ من سيّد العالم. ولكنّ سيّد العالم نفسَه ليس سوى انبثاق من البراهمان.

من يصل إلى هذه المعرفة يركّز جهدَه على من هو موجودٌ حقًّا، على الإلهيّ الأصليّ، ليكتشفَ ويجدَ في حقيقة البراهمان هويّته الخاصّة. فلا يبحث بعد عن السعادة السماويّة، يل يسعى للوصول إلى رؤية الحقيقة الوحيدة، إلى رؤية الوحدة الشاملة. بفضل هذه الرؤية، يستطيع أن يفنى في الأساس الأصليّ لكلّ كيان، في البراهمان. وهذا هو الخلاص الكامل.

 

4. طريق المعرفة النظريّة

تعتمد هذه الطريق على نظام سانكيا الفلسفيّ الذي يقول بالثنائيّة. ففي رأي طريق الخلاص هذه، يقوم العالم على مبدأين عالميّين: مادّة أولى نشيطة، ومجموعة من انفس غير نشيطة. فمن جوهر المادّة الأولى الأزليّة (أو الطبيعة الأولى)، يصدر العالم المادّي كلّه. وتأتي قوّته من تلك العناصر المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالجسد، كالقوى النفسيّة وأعمال الميدان النفسيّ. وبالتالي فإنّه يجد نوعًا من تجسيد قوّته الأصليّة في مختلف أشكال ظهور الوجود الأرضي. أمّا في ما يتعلّق بالأنفس الفرديّة غير النشيطة، فهي غير مرتبطة بالمادة الأولى ولا هي مرتبطة بعضها ببعض. وهي لا تصدر أيضًا عن روحٍ أولى ولا عن كائن إلهيّ أوّل. فهي في كيانها وعيٌ محض، يُدرك الأحداث في الإنسان وظواهر العالم المحيط به ويسجّلها بدون أن يشاركَ فيه، وبدون أن يتدخّل في أحداث الحياة. مثل هذه الروح ترتبط بجسد كلّما اجتمعت بالانبثاق من المادة الأولى عناصر وأعضاء وقوى، وتكوّن جسدًا يقدر أن ينالَ الروح. والروح، من خلال الارتباط بالجسد، وإنْ لم تشاركْ في أحداث الحياة، تعيش زمنًا من الأسر ووجودًا معرَّضًا لقانون الكَرْمان.

 

وبما أنّه، إلى جانب مبدأي العالَم هذين، المادّة الأولى والأنفس المنفردة، لا وجود لمبدإ على آخر، لا تتكلّم طريق الخلاص هذه على الله ولا على كائن إلهيّ. فلا حاجة هنا لأيّ براهمان. إنّ نظام العالم الأخلاقيّ وقانون مجازاة الأعمال يُعنَيان بالحفاظ على النظام في العالم. وما تدعوه المدارس الأخرى آلهة ليس سوى أنفس منفردة مخلَّصة قد جمعت كَرْمانًا صالحًا، وهي تستمرّ في الوجود في حالة سليمة مع مزايا خاصّة. وعليها أن تؤدّي دورًا إيجابيًّا في العلاقة بسير العالَم. ولكنّها لا تستطيع أن تقدّم للبشر أيّة مساعدة في سعيهم إلى الخلاص النهائيّ. وبالتالي فالذبائح وممارسات العبادة ليست أيضًا وسائل خلاص، لأنّها تساعد فقط على الحصول على أجر على هذه الأرض أو على مكافأة في سماء الآلهة، لا على التحرّر النهائيّ من الوجود البشريّ والعودة إلى حالة الروح المحض.

هذا الخلاص يمكن الحصول عليه بصورة تدريجيّة. فالإنسان، في أثناء وجوده على الأرض، يتّصف بخصال متنوّعة، إمّا صالحة وإمّا سيّئة: الفضيلة والرذيلة، المعرفة والجهل، التجرّد عن العالَم والتعلّق بالحياة إلخ. ويستطيع الإنسان، من خلال تعزيز خصاله الصالحة، أن يتحرّر تدريجيًّا من قيود الوجود الجسديّ ويبلغَ شيئًا فشيئًا إلى حالة الروح المحض. ويبلغ الدرجات الأولى من خلاصه عندما يكتشف أنّ روحَه لا تتماهى مع جسده، وأنّ ذاتَه لا تتماهى مع أعماله النفسيّة والجسديّة.

 

5. طريق التسليم المحبّ (البهاكتي)

إنّ انشغال القلب بالله يمكن أن يحدثَ بطرق متنوّعة وبكثافة مختلفة. والأساس المشترك بين كلّ هذه الأشكال هو الإيمان بإله شخصيّ والاعتقاد بأنّ الخلاصَ يتمّ من خلال التسليم لهذا الإله. فالخلاص ليس نتيجة إنجاز إنسانيّ، بل هو نعمة إلهيّة معطاة.

 

5-1. طريق البهاكتي الاعتياديّة توصي، كشرط للانشغال المثمر بالله، بممارسة الفضائل الأخلاقيّة كالرحمة وعدم العنف والتواضع والبساطة، وبعدم التوقّف عند الاعتبارات النظريّة المحض وعند النقاشات التي لا جدوى فيها. فما يجب أن يكونَ مهمًّا إنّما هو التفكير في الله والانشغال الحصريّ به.

 

وتفيد في ذلك الوسائل التالية: الحياة في جماعة أناس أتقياء، والإصغاء إلى معلّم عقيدة (غورو)، والحجّ إلى أماكن مقدّسة. وتنطوي على فعّاليّة خاصّة عبادة صورة الله (بوجا). وهي تقوم على معاملة صورة الله كما يعامَل الأمير: فيوقَظ الله بالترانيم والنغمات الموسيقيّة، ويُغسَّل ويُزيَّن بالزهور، ثمّ يعطى طعامًا ويبخَّر. ويمكن أيضًا حمل الصورة ومرافقتها إلى نزهة. في هذه المعاملة لصورة الله يعبّر المؤمن عن عبادته لله ومودّته ومحبّته وتسليمه له، وكذلك عن رغبته في الحياة في الشركة مع الله.

 

وهنا يملك أهميّة كبرى استدعاء اسم الله والترانيم والرقص إكرامًا لله. إنّ استدعاء اسم الله يُتيح الحياةَ في حضور الله الدائم، وبذلك التأكيدَ المستمرّ للتسليم له والارتباط به. مثل هذه الشركة مع الله هي كليّة القدرة. فهي لا تمنح مغفرةَ الخطايا وحسب، بل أيضًا النجاةَ من الشدّة والضيق. وهي تساعد على تجميع استحقاقات دينيّة كثيرة. وتحقّق خصوصًا الاتّحاد بالله، وهذا ما يعنيه في الواقع الخلاص. من يدعو الله يبلغ إلى السماء ويحصل على الخلاص النهائيّ. وتُستخدم مسبحة بمثابة وسيلة تساعد على هذا الاستدعاء الدائم لاسم الله. وكذلك فإنّ الطلبات التي يتذكّر فيها التقيّ مختلف أسماء الله وصفاته المتعدّدة تساعد على الوصول إلى كيان الله واختباره بصورة أعمق.

يستخدم التقيّ أيضًا الترنيمَ والرقص، حيث يكرَّر اسم الله أو تُرنَّم تراتيل وأناشيد روحيّة عاطفيّة. فالترنيم هو تأكيدٌ للكلام المنطوق به وتقويةٌ له. ومن ثَمَّ فالترنيم الدينيّ، وخصوصًا عندما يسانده الرقص ويكمّله، هو وسيلة فعّالة بنوع خاصّ لمضاعفة المشاعر وتعميق العلاقات العاطفيّة بالله وتكثيفها. إنّ التكرارَ التوقيعيّ للنغم والنصّ، فضلاً عن مغفرة الخطايا وتنقية القلب، يعمل على مضاعفة المشاعر لدى المشاركين في الترنيم والرقص، بحيث يقع البعض في نوع من حالة غيبوبة وحوادث انخطاف.

 

5-2. الطريق الأكمل، بحسب عقيدة ديانة البهاكتي، هي طريق الحبّ الجارف

من خلال تنمية مشاعر الحبّ والعلاقات العاطفيّة بألوهة شخصيّة، يرجو التقيّ الحصول على الاتّحاد بهذا الإله وعلى السعادة المرتبطة بذلك. العالَم وحياة الناس كلّها يُعدّان تعبيرًا عن عطفه الودود، وشكلاً تظهر فيه مغازلاته مع خليقته. فالله هو قدرة حبّ خلاّقة تبعث في نفس الإنسان كما في جسده رغبة في الحبّ واندفاعًا ونشوة، وتُنشئ بذلك الشرطَ للارتقاء إلى دائرة الكيان الإلهيّة.

 

في الأوساط التي تتوجّه إلى الإله فيشنو، يُعدّ كريشنا نموذج التقوى، ويُعرَض تصرّفه كمثال لطريق الحبّ الجارف. وتروي الأسطورة حياةَ كريشنا كراعٍ والأعمال العجيبة التي قام بها في صراعه ضدّ الشياطين والقوى الشريرة. وتُكرَّس هنا التفاتة خاصّة إلى المغازلات والاختبارات الغراميّة التي قام بها كرشينا مع الراعيات (غوبّي).

 

وبما أنّ هذه المغازلات بالضبط تُعَدّ مثالاً للسعي إلى الله، وبما أنّ ما يقابلها من اختبارات غراميّة تُعَدّ هدفًا للأتقياء، يتوجّب على معتنق ديانة البهاكتي أن يسعى إلى أن يتحوّل داخليًّا إلى راعية، أي أن يتماهى تماهيًا شديدًا مع راعية ويتصوّر باستفاضة وبشعور عميق مداعبات كريشنا الغراميّة مع حبيبته هذه، ليتاحَ له أن يعيش هو نفسه ما يماثلها من اختبارات. هذا الانشغال بكريشنا المفعم بالحبّ والمركّز يقود التقي إلى أن لا يفكّر من بعد إلا فيه. الله وحده يملأ قلبَه. وهو وحده يعيش مع حبيبه ويُقدِم على المغازلات الباطنة.

- داخل طريق الحبّ الجارف هذه يمكن التمييز بين اتجاهين. ثمّة أشكالٌ من دين الحبّ غراميّة إلى حدّ كبير ومتّسمة بشهوة عارمة. إلى جانب الاتجاه الشهواني الغراميّ، هناك في ديانة البهاكتي اتجاه الحبّ الصوفيّ الرقيق، الذي يُظهر غنًى كبيرًا في تعابيره وفي اختباراته العميقة.

- سواء اعتنق الإنسان هذا الاتجاه أم ذاك داخل طريق خلاص البهاكتي، فإنّ سعيَه يتركّز على الوصول إلى هدف الخلاص الذي يعطي كلَّ جهوده معناها. فالهدف هو الله نفسه والشركة معه. عندما تضع النفس الإنسانيّة هذا الهدف نصب عينيها، تتغلّب على التخبّط في شباك العالم وفي مختلف أحداث الحياة. وتبلغ إلى الإيمان بالله ومن خلال الإيمان إلى محبّته. وتصل بالارتقاء من درجة إلى درجة إلى الحبّ الكامل الذي يضمن لها سعادةَ الاتّحاد بالله.

- في سعادة المخلَّص هذه ثَمّة درجتان رئيسيَّتان: الأتقياء الذين يسلكون طريقَ البهاكتي الاعتياديّة يصلون إلى سماء فيشنو، وينعمون فيها بالبهاء الإلهيّ وبالنور الإلهيّ ويتمتّعون بسعادة لا توصف. - أتباع الطريق الأكمل يبلغون إلى سماء أرفع وإلى سعادة أكمل. فيحصلون على طريقة الكيان الإلهيّة ويصيرون مشابهين لله. هذا الاتّحاد بالله لا يعني أنّ الإنسان يفنى تمامًا في الله ويفقد هويّته البشريّة. إنّه ارتباطٌ وثيق به ومشابهة كيانيّة معه، ومشاركة في الحياة الإلهيّة تتضمّن السعادة القصوى.

 

6. طريق اليوغا

اليوغا تعني تجميع القوى وتركيزَها والتمارين العمليّة التي تؤدّي إلى الاتصال بين الروح والألوهة. وبما أنّ نظام اليوغا يضع التأمّل في محور تعليمه وممارسته فهو يرتدي أهميّة بالغة لكلّ طرق الخلاص التي ترتكز على التأمّل والاستغراق.

تهدف طريقة اليوغا إلى تنقية روح الإنسان المشبتكة في الظروف الماديّة والنفسيّة لوجوده الأرضيّ الفرديّ والملطّخة بها، وتطهيرها بحيث تبلغ إلى حالة النقاوة الكاملة، وتصل بذلك إلى الحقيقة القصوى من ذاتها الخاصّة. ولكنّ الخلاص لا يقوم فقط على تطهير الروح الدائم والإفساح في المجال بذلك لوجود أفضل وسعادة أكبر في الحياة اللاحقة. وكذلك لا يقوم الخلاص على قيادة الروح إلى معرفة ذاتها في شكلها الصّرف المختلف عن الوجود الواقعيّ (كما في طريق خلاص المعرفة النظريّة). الخلاص الذي يتمّ السعي إليه في اليوغا يعاش في ارتياح الروح التامّ، في تأمّل عميق لا يدع أيّ إمكان فعليّ للظلمة والاضطراب.

 

6-1. التمارين

ولكنّ الطريقَ إلى تلك الحالة طويلة وشاقّة. ولا يمكن السير فيها بنجاح إلاّ بقيادة معلّم خبير. فبعد إزاحة العوائق المختلفة يمارس المتأمّل التمارين التالية:

1. الحفاظ على الوصايا الخمس: ضبط النفس، قول الحقيقة، العفّة، عدم الاكتراث بالخيرات الأرضية.

2. القيام بالممارسات الخمس: الطهارة، والتجرّد عن العالم، الزهد، الانشغال بالنصوص الدينيّة، توجيه القلب إلى الله.

3. موقف جسديّ تسانده السيادة على الحواس، وإراحة القلب وتركيز الروح.

4. انتظام النَفس الذي يعزّز تجميع قوى الروح، فيما هو يقاوم التشتّت الناجم عن التأثيرات الخارجيّة.

5. إنّ تراجعَ الحواس يوقف مدّ التأثيرات الخارجيّة ويساعد الروح على التركيز على موضوع تأمّلها.

6. تركيز الروح: بتثبيت النظر على نقظة، مثلاً على طرف الأنف، أو بالانشغال الشديد بموضوع أو بالله نفسه، يمكن الروح أن تتركّز بحيث تدرك إدراكًا دومًا أقلّ نشاطَها الباطن ومضامين الوعي الناتجة منه.

7. التأمّل يمنح الروح تطهيرًا عميقًا، ويساعد في الحفاظ على الوعي فارغًا من المضامين والتأثيرات، وفي التوجّه التام إلى موضوع تأمّله. وبذلك يتمّ الوصول إلى تماهٍ مع هذا الموضوع يبعث في الروح معارفَ واختبارات تقرّبها من معرفة واختبار ذاتها في الحالة الصافية.

8. التامّل العميق هو هدف التمرين. بذلك تصل الروح إلى التركيز العميق والكامل، وإلى معرفة ذاتها الحَدْسيّة معرفةً عميقة وكاملة، وإلى عيش الحقيقة القصوى عيشًا عميقًا وكاملاً، أعني إلى كيانها الخاصّ وكيان الواقع الروحيّ. في هذه المرحلة تتغلّب الروح على حالتها الأرضيّة وتصل إلى دائرة كيان أرفع. إنّ التبصّر في الحقيقة الأخيرة، ومعرفَة الحقيقة القصوى، وعيش الواقع الواحد، كلّ هذا يعني بداية الخلاص ويمنح تذوّقًا مسبقًا للخلاص النهائيّ.

 

6-2. محتوى الخلاص

يقوم الخلاص النهائيّ على الوصول إلى تطهير الروح تطهيرًا كاملاً من كلّ الأدناس الأرضيّة، بحيث تكتشف ذاتَها في شكلها الصافي أو توضع في حالة تمكّنها من أن تعيشَ هويّتها مع المطلق وتصل إلى الاتحاد بالله. هذه الاستعادة لوحدة الروح وهذا الاتحاد الباطن بالله يتضمّنان السعادة القصوى، إذ إنّهما يوسّعان الروح إلى ما لا نهاية، ويرفعانها إلى دائرة الكيان القصوى. هذه الحالة بالضبط التي تتجاوز الوجود الأرضيّ تجاوزًا لامتناهيًا تعجز الكلمات البشريّة عن وصفها. حيث يتمّ الوصول إلى الوحدة الكاملة لميدان الكيان بأجمعه، لا يعود مكانٌ للكلمات، وحيث يتمّ الوصول إلى اتّحاد المحبّة الكامل بالله، يختفي الواقع الأرضيّ الذي يمكن التعبير عنه ووصفه، ولا يبقى بعد إلاّ الكيان الإلهيّ.

 

7. طريق التانتريّة

ابتداء من سنة 500 بعد المسيح نشأت في الهندوسيّة حركة دينيّة أنمت نظامًا معقّدًا من ممارسات طقسيّة وتصوّرات صوفيّة وتمارين مختلفة. هذه الحركة المسمّاة تانتريّة ترتكز على الاعتراف بوحدة الحياة التي تشمل الله والعالم والإنسان وتربط بعضهم ببعض برباط وثيق. الكون (العالَم الأكبر) والإنسان (العالم الأصغر) يكوّنان وحدةً لا تنفصم، مجموعةً واحدة، يمكن أن يكونَ لكلّ جزء منها، ولا سيّما الإنسان، تأثيرٌ حاسم في المجموعة. ومن ثَمّ يمكن أيضًا أن يحصل الإنسان من خلال ممارسات وتمارين مثبتة بدقّة على قوّة تكاد تكون غير محدودة على الكون كلّه.

 

7-1. الدرجات السبع

- الدرجة الأولى هي طريق العبادات والقيام بالواجبات الأخلاقيّة والاجتماعيّة.

- الدرجة الثانية هي طريق البهاكتي، طريقة تصرّف أتباع الإله فيشنو. ففيما تتبنّى التانتريّة تمارين البهاكتي، تحوّلها وفقًا لعقيدتها الخاصّة في الخلاص. فتجعلها أكثر تعقيدًا وتضيف إليها عناصر تجعل من ممارسات طريقة الخلاص السابقة هذه تمارين مباشرة لطريق خلاص التانتريّة وتُدرجها بالتالي في مجمع نظام التانتريّة.

- الدرجة الثالثة هي طريقة تصرّف أتباع الإله شيفا، الذين يملكون علاوة على الإيمان وعلى الاستسلام لله، الإرادة الحازمة والجهد الشديد للخلاص الذي يسعون إليه عن طريق المعرفة. وبذلك يجمعون بين العلم والإرادة والعمل.

- في الدرجة الرابعة تبدأ التانتريّة الحقيقيّة. في هذه الدرجة يملك السالك كلّ الصفات التي ورد ذكرها في الدرجات الثلاث الأولى: الإيمان والتسليم، والطاقة والمعرفة. ثمّ يسير في التيّار إلى الوراء والعودة، من خلال استرجاع القوى، إلى المصدر الإلهيّ. ولذلك يوقف انتشار طاقاته الفيّاضة ويحملها إلى أقصى التركيز. ومن خلال التسامي بها يحوّلها إلى قوى تفتح له السبيلَ إلى الكينونة الشاملة. هذا التسامي يحدث من خلال التطهير وضبط النفس واختبار الذات الخاصّة. هذه الدرجة تدعى درجة طريقة تصرّف الجانب الأيمن (تانتريّة اليد اليمنى).

- الدرجة الخامسة هي طريق تصرّف الجانب الأيسر (تانتريّة اليد اليسرى). هنا يتقدّم استخدام القوى حتّى التنحية التامّة لطاقات الحياة وحتّى إزالة احداث الحياة. وتُلغى كلّ قيود الحياة (الشهوات والشفقة والشعور بالحياء)، وكلّ الرباطات العائليّة، وكلّ العوائد والتقاليد الاجتماعيّة، وكلّ رسوم الطبقات، وذلك بواسطة ممارسات مناسبة ومن خلال تأمّل مركّز.

- ما تمّ التوصّل إليه في الدرجة الخامسة يرتفع في الدرجة السادسة، في "طريقة التصرّف بالتوافق مع التعليم النهائيّ". ويظهر بوضوح أكثر التحرّر الباطن من العمى والشهوات وحلّ كلّ الرباطات الخاصّة والعائليّة والاجتماعيّة. والتقيّ، بمساندة مختلف التمارين، يتوغّل في سرّ الكون.

- الدرجة السابعة هي الدرجة الأخيرة والقصوى. إنّها طريقة تصرّف الإنسان الذي قطع كلّ الدرجات السابقة. وها هو الآن قد بلغ النطاق الإلهيّ. والأمّ الكبرى، التي هي ظهور الله الأنثوي وطاقة الله، تستقرّ الآن فيه، وقد اكتسب معرفة الإلهيّ القصوى. وبما أنّه قد بلغ إلى الخلاص الإلهيّ، فهو يدعى "المخلَّص الحيّ. وحياته على الأرض تفيد لتعليم الناس وإنقاذهم.

 

7-2. تمارين التانتريّة وممارساتها

إنّ الجسد الإنساني يملك، في نظر التانتريّة، بين قمّة الرأس وأعضاء التناسل، ستّة دوائر أو مراكز بشكل اللوتُس (النيلوفر). وموضع هذه المراكز هو عند الوريد الكبير "سوشومنا" الذي يقع في العمود الفقريّ ويجتاز الجسم كلّه. لهذه الدوائر أهميّة كونيّة، إذ إنّها تقابل القوى الكونيّة، ولذلك لها أيضًا قيمة نظريّة وصوفيّة. ومن ثَمّ يمكن من خلال الجسد الولوج إلى سرّ الكون، وكذلك إلى الدائرة الأزليّة لكيان الألوهة.

فإذا كان الكون، باعتباره مجموعة كاملة من القدرات المتنوّعة والقوى المهمّة للحياة، يمكن تنشيطه والسيطرة عليه من خلال طقوس وممارسات صوفيّة وبفضل وساطة الجسم الإنسانيّ، فلا بدّ إذن من إعطاء شكل للتمارين بحيث تصل إلى هدفها وتحقّق فعّاليتها بصورة أكيدة. ويفيد لذلك أيضًا، فضلاً عمّا ورد من موقف الجسم، وتنظيم التنفّس، والتقنيّات الجسديّة الأخرى، استخدام صوَر الآلهة والاهتمام الشديد بالنصوص الدينيّة.

 

8. طريق الشاكتيّة

تعني لفظة شاكتي القوّة والطاقة. الشاكتي هي إلاهة أنثويّة، وهي تُعَدّ رفيقةَ إله ذكريّ وزوجة له. وتنسب الشاكتية إلى هذه الإلاهة دورًا خاصًّا في مسيرة العالم، وتركّز عبادتَها وتمارينها الدينيّة على الشاكتي المناسبة. الشاكتية قريبة جدًّا من التانتريّة.

إنّ العبادة الشاكتيّة تسعى إلى الخلاص في اختبار الوحدة التامّة للإلهيّ المحتجب، وذلك عن طريق اختبار وحدة مظاهره. وهذا يعني أنّ الإنسان، من خلال اختبار تكامل وجوده الإنساني كجسد ونفس، يسعى للوصول إلى اختبار وحدة الكون المندمج، وفضلاً عن ذلك إلى اختبار الإلهيّ المندمج.

وبتعبير آخر: إنّ المتعبّد للشاكتي ينطلق من جسده، ويتماهى مع ما هو حسّي ويستخدم الجنسَ للبلوغ إلى الوجه المتكامل للإله الذكريّ والأنثويّ، فإنّ طاقة الله، أعني ظهورَه وعمله في الخارج، إنّما هي المبدأ الأنثويّ، الشاكتي.

وبما أنّ ما هو جسديّ والغذاء والجنس يمكن اعتبارها وسائل خلاص، فيجب القيام بالأكل والعمل الجنسيّ في إطار عمل عبادة في شكل طقسيّ. إن الطقس، فضلاً عن وظيفته في المراقبة والتنظيم، يستطيع أن يجعلَ الوظائف الجسديّة وسيلةً للمشاركة في الأحداث الكونيّة ولاختبار المتسامي.

لاكتساب رضى الشاكتي الثمين والتعمّق في سرّ القدرة الإلهيّة والوجود الإلهيّ، يلجأ المرء، إلى جانب الذبيحة (وفي القديم حتّى الذبائح البشريّة)، إلى رتبة العناصر الخمسة، التي ترد فيها العناصر التالية: شرابٌ مسكرٌ كوسيلة للخلاص وكمصدر لانشراح الصدر والفرح، - السمك لتقوية قوى الإنجاب، - اللحم لتشديد القوى العقليّة والجسديّة، - حبوبٌ مشويّة كموضع لقوى الأرض والجوّ والسماء، - التمتّع بأعمال الجنس باعتبارها الأساس الأصليّ للكون والحافظ له.

لاتّقاء خطر الممارسة الشاذّة لهذه الشعائر، فُرض أنّه لا يجوز أن يشاركَ فيها إلاّ الذين تحرروا من الأهواء والشهوات، وبالتالي المتقدّمون على طريق الخلاص وحدهم.

يجب أن نذكرَ أيضًا هنا تأويلاً رمزيًّا وتطبيقًا رمزيًّا للعبادة الشاكتيّة. فهي تجتنب تحويل العبادة إلى عمل غراميّ، بمعنى أنّها تتيح فقط الإتمام الرمزيّ للعمل الجنسيّ وتمنع المبالغات الفظّة التي تحدث في الذبيحة الدمويّة وفي البغاء المقدّس.

 

ملاحظة ختاميّة

بين كلّ طرق الخلاص والأديان هذه، التي أوجزناها في إطار مصطلح الهندوسيّة العام، ثمّة أمرٌ ثابت مشترك: وهو أنّه يجب اعتبار الإنسان جزءًا من وحدة حياة شاملة تضمّ الإنسان والعالم والله. ووحدة الحياة هذه يجب عدم تحطيمها. وكلّ تغرّب يعانيه الإنسان عن العالم وعن الله يكوّن خطرًا بالنسبة إليه، ويمنعه من تأمين حياته وتنميتها وإيصالها إلى اكتمالها الأخير. الإنسان هو في سعي دائم إلى الله. فبدون الله لا يمكن البلوغ إلى حياة مكتملة.

 

جدول زمني

حوالي 2600 – 1600 ق.م. : الثقافة القديمة قبل الهندوسيّة

حوالى 1200 ق.م. : دخول القبائل الآريّة إلى الهند

وبدء تطوّر النصوص

حوالى 600 – 300 ق.م. : الأوبانيشادات القديمة

حوالى 500 ق.م.-500 ب.م. : نشأة البراهمانيّة والهندوسيّة والمذاهب الستّة الأساسيّة

حوالي 400 ق.م.-200 ب.م. : تطوّر ملحمة رامايانا

حوالي 400 ق.م.-400 ب.م. : نشأة ملحمة مهابهارتا

حوالي 200 ق.م. : نشيد بهاغافاد غيتا

القرن الثاني ق.م. - القرن الثاني ب.م. : انتشار الهندوسيّة في جنوبي شرقي آسيا وأندونيسيا

بعد المسيح

القرن السابع : انتشار إكرام الإله فيشنو. وبدء نشأة الفيدانتا شنكرا

اعتبارًا من 700 : قمّة انتشار إكرام شيفا في كشمير

من القرن الحادي عشر : ازدياد انتشار منهاج البهاكتي

1193 – 1362 : انتشار الإسلام في مقاطعات الهند

منذ حوالي 1400 : نهضة تيّار البهاكتي

1498 : وصول باسكو دي غاما إلى الهند

1526 : بدء عهد المغول

1757 : تأسيس سلطة البريطانيّين

1869 – 1948 : مهاتما غاندي

1947 : استقلال الهند السياسيّ

 

مراجع

 

H. von Glasenapp, Der Hinduismus, München 1922.

-, Die fünf groen Religionen, Teil I: Der Brahmanismus oder Hinduismus, Düsseldorf 1952, 7-78.

J. Gonda, Die Religionen Indiens:

I. Veda und älterer Hinduismus (Die Religionen der Menschheit, 11), Stuttgart 1960, ²1978.

II. Der jüngere Hinduismus (Die Religionen der Menschheit, 12), Stuttgart 1963, ²1978.

W. Kirfel, Symbolik des Hinduismus und des Jainismus (Symbolik der Religionen, IV), Stuttgart 1959.

K. Klostermaier, Hinduismus, Köln 1965.

K. Meisig, De Hinduismus, 3ème éd., Freiburg 2003