باب الأسد والثور - مثل القرد والنجار

زعموا أن قرداً رأى نجاراً يشق خشبة بوتدين له راكباً عليها كالأسوار على الفرس، وأنه كلما أوتد وتداً نزع وتداً فقدمه. ثم إن النجار قام لبعض أموره فانطلق القرد يتكلف ما ليس من صنعته ولا من شأنه، فركب الخشبة وجعل ظهره قبل الوتد فتدلى ذنبه في ذلك الشق وعالج الوتد لينزعه. فلما انتزع انضمت الخشبة على ذنبه فخرّ مغشياً عليه. فلم يزل على تلك الحالة حتى جاء النجار فكان ما لقي القرد من صاحبه من الضرب والعذاب أشد من ذلك. 

قال دمنة: قد سمعت مثلك وفهمته ولكن اعلم أنه ليس كل من دنا من الملوك إنما يدنو منهم لبطنه، إنما البطن يحشى بكل مكان، ولكن ليلتمس الرفعة والمنزل الذي يسر الصديق ويسوء العدو. وإن أدنى الناس وضعفاءهم القليلة مروءتهم هم الذين يرضون بالدون ويفرحون به، كالكلب الذي يصيب عظماً يابساً فيفرح به. فأما أهل المروءة والوفاء فلا يغنيهم القليل ولا يرضون بالدون حتى يسموا إلى ما هم له أهل، كالأسد الذي يفترس الأرنب. فإذا رأى الإتان ترك الأرنب وطلب الأتان. ألا ترى أن الكلب يبصبص بذنبه كثيراً حتى تلقى له الكسرة. أما الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قدّم إليه علفه لم يأكله حتى يمسح ويملّق. فمن عاش غير خامل المنزلة ذا فضل على نفسه وأصحابه فهو، وإن قل عمره، طويل العمر. ومن عاش في وحدة وضيق وقلة خير على نفسه وأصحابه فهو، وغن طال عمره، قصير العمر. وقد كان يقال: البائس من طال عمره في ضر. ويقال: ليعدّ من البقر والغنم من لم يكن له همّ إلا بطنه.

قال كليلة: قد عرفت مقالتك فراجع عقلك واعلم أن لكل إنسان منزلة وقدراً. فإذا كان في منزلته متماسك الحال في أهل طبقته كان حقيقاً أن يقنع ويرضى. وليست لنا من المنزلة ما نحط به حالنا التي نحن عليها.

قال دمنة: إن المنازل مشتركة، فذو المروءة ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المننزلة الرفيعة، والذي لا مروءة له هو يحط نفسه من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة. والارتفاع من صغر المنازل إلى أشرفها شديد. ومؤونة الانحطاط من الشرف إلى الضعة سهل. وإنما مثل ذلك مثل الحجر الثقيل الذي رفعه من الأرض إلى العاتق عسير وطرحه من العاتق إلى الأرض يسير. فنحن أخوان نروم ما فوقنا من المنازل طاقتنا ونلتمس ذلك بمروءتنا، ولا نقيم على مرتبتنا هذه ونحن نستطيع ذلك.

قال كليلة: فما الذي أنت فيه الآن مجمع؟

قال دمنة: أريد أن أتعرّض للأسد عند هذه الوهلة. فإن الأسد ضعيف الرأي، وقد التبس عليه وعلى جنوده أمرهم. ولعلي على هذا الحال أدنو من الأسد بنصيحة فأصيب عنده منزلة وجاهاً.

قال كليلة: فما الذي أنت فيه الآن مجمع؟

قال دمنة: أريد أن أتعرّض للأسد عند هذه الوهلة. فإن الأسد ضعيف الرأي، وقد التبس عليه وعلى جنوده أمرهم. ولعلي على هذا الحال أدنو من الأسد بنصيحة فأصيب عنده منزلة وجاها.

قال كليلة: وما يدريك أن الأسد قد التبس عليه أمره؟

قال دمنة: أعرف ذلك بالرأي والحرص، فإن ذا الرأي ربما عرف باطن أمر صاحبه بما يظهر منه، حتى ربما عرف ذلك في هيئته وشكله.

قال كليلة: كيف ترجو المكانة عند الأسد ولست صاحب سلطان ولا لك علم بخدمة السلاطين ومعاشرتهم وآدابهم.

قال دمنة: إن الرجل القوي الشديد البطش لا يعيبه الحمل الثقيل، والضعيف لا تغني عنه الحيلة شيئاً ولا تضر العاقل الغربة، ولا يمتنع من المتواضع اللين الجانب أحد.

قال كليلة: فإن السلطان لا يتوخى بكرامته أفضل من بحضرته ولكنه يؤثر بذلك من دنا منه. ويقال إن مثل السلطان في ذلك مثل الكرم الذي لا يتعلق بأكرم الشجر، إنما يتعلق بمن دنا منه. فكيف ترجو المنزلة من الأسد ولست تدنو منه؟

قال دمنة: لقد فهمت ما ذكرت وأنت صادق. ولكني أعلم أن الذين هم أقرب إلى السلطان منا قد كانوا وليست لهم منازلهم. ثم دنوا منه بعد البعد فبلغوا المنازل. فأنا ملتمس بلوغ منازلهم ومكانهم جهدي بالدنو منه. وقد كان يقال إنه لا يواظب على باب السلطان أحد فيلقي عنه الأنفة ويحتمل الأذى ويكظم الغيظ ويرفق بالناس إلا وصل إلى أعلى درجة من السلطان.

قال كليلة: قد فهمت: فهبك قد وصلت إلى الأسد، فما توفيقك الذي ترجو أن تنال به المنزلة عنده والحظوة لديه؟

قال دمنة: لو قد دنوت منه عرفت أخلاقه ثم انحططت في هواه ورفقت بمتابعته وقلة الخلاف عليه. فإذا أراد أمراً هو في نفسي صواب زينته له وبصّرته ما فيه وشجعته له حتى يزداد به سروراً. وإذا أراد أمراً أخاف عليه ضرره وشَيْنَه بصّرته ما فيه من الضرر والشين، وما في تركه من النفع والزين، ودخلت عليه بالرفق واللين. فأنا أرجو أن يزداد لي الأسد بذلك خيراً وأن يرى في ذلك مني ما لم ير من غيري. فإن الرجل الأديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقاً ويحق باطلاً أحياناً لفعل، كالمصور الماهر الذي يصور في الجدار تصاوير فترى كأنها خارجة من الجدار وليست بخارجه، وأخرى تراها كأنها داخلة وليست بداخلة فيه. فإذا أبصر الأسد فضلي وعرفه وعرف ما عندي كان هو أحرص على كرامتي وتقربي منه.

 

قال كليلة: أما إذا كان هذا رأيك فإني أحذرك صحبة السلطان فإن صحبته خطر عظيم. وقد قالت العلماء: في أمور ثلاثة لا يجتزئ عليها إلا الأهوج ولا يسلم منها إلا القليل؛ منها صحبة السلطان، ومنها شرب السم للتجربة، ومنا ائتمان النساء على الأسرار. وإنما شبّهت العلماء السلطان بالجبل الوعر الصعب المسلك الذي فيه كل ثمرة طيبة، وهو معدن النمور والأسد والذئاب وكل سبع مخوف، والارتقاء إليه شديد والمقام فيه أخوف.

قال دمنة: صدقت فيما وصفت غير أنه من لم يركب الأهوال لم يدرك الرغائب، ومن ترك الذي لعله يبلغ فيه حاجته هيبة له ومخافة لما لعله يتوقى فليس ببالغ جسيماً. وقد قيل في أعمال ثلاثة لا يستطيعها أحد إلا بمعونة من ارتفاع الهمة وعظم الخطر: منها صحبة السلطان ومنها تجارة البحر ومنها مناجزة العدو. وقد قالت العلماء في الرجل الفاضل المروءة إنه لا ينبغي أن يُرى في مكانين ولا يليق به غيرهما، إما مع الملوك مكرّما وإما مع النساك متبتّلاً، كالفيل إنما يرغب ببقائه وجماله في مكانين، إما في بريةٍ وحشياً وإما مركباً للملوك.

قال كليلة: فخار الله لك فيما عزمت عليه. وأما أنا فإني مخالفك برأيك هذا.

ثم إن دمنة انطلق حتى دخل على الأسد وسلّم عليه. فقال الأسد لمن عنده: من هذا؟ قالوا: هذا فلان بن فلان. فقال الأسد: قد كنت أعرف أباه. فأدناه الأسد ثم قال له: أين كنت؟ فقال دمنة: لم أزل مرابطاً بباب الملك رجاء أن يحضر أمرٌ أعين الملك فيه. فقد تكثر عنده الأمور التي ربما احتيج فيها إلى من لا يؤبه له، فإنه لا يكاد يخلو أحد، وإن كان صغير القدر والمنزلة، أن يكون عنده منفعة وإن صغرت. فإن العود المنثور في الأرض ربما انتفع به المنتفع تأكله أذنه فيحكها به. فالحيوان العالم بالضر أحرى أن يُنتفع به.

فلما سمع الأسد كلام دمنة أعجبه وظنّ أن عنده نصيحة ورأيا، فأقبل على قرابته فقال لهم: إن الرجل ذا المروءة والعلم يكون خامل المنزلة غامض الأمر، ثم تأبى مروءته وعقله ألا يتبين ويعرف كالشعلة من النار التي يصونها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً.

فلما عرف دمنة أن الأسد قد أعجب به قال: أيها الملك إن رعيتك ومن بحضرتك حذروا أن يرفعوا ما عندهم إليك، ولا تنزلهم منازلهم إلى بذلك كالزرع المدفون في الأرض من الحنطة والشعير وسائر الأنواع لا يدري أحد ما أجناسها حتى تكون هي التي تخرج وتظهر. وحقٌ على السلطان أن يبلّغ كل امرئ مرتبته على قدر نصيحته ورأيه وما يجد عنده من المنفعة والأدب. فإنه كان يقال: في أمرين لا ينبغي لأحد، وإن كان ملكا، أن يضع واحداً منهما في غير موضعه ولا يزيله في منزلته، وهما حلية الرجلين وحلية الرأس. ومن ضبّب الياقوت واللؤلؤ بالرصاص فليس ذلك مما يصغّر باللؤلؤ والياقوت ولكنها تعد جهالة ممن فعل ذلك. وكذلك يقال: لا يصحبنّ الرجل صاحباً لا يعرف ليمينه من شماله موضعاً. وإنما يستخرج ما عند الرجال ولاتها وما عند الجند قادتها وما في الدين وتأويله وعلماؤه وفقهاؤه. وقد قيل: إن أشياء ثلاثةً فضل ما بينها متضارب وإن كان يجمعها اسم واحد: فضل المقاتل على المقاتل، والعالم على العالم، والمتكلم على المتكلم. وإن كثرة الأعوان إذا لم يكونوا متحيزين مضرّة في العمل. وجاء العمل بصالح الأعوان لا بكثرتهم، كالرجل الذي يحمل الياقوت فلا يثقل عليه حمله وهو واجد به حاجته. وكذلك العمل الذي بلوغه بالرفق لا يصلحه العنف وإن استظهر به. والوالي حقيق ألا يحتقر مروءة رجل وإن صغرت منزلته. وإن الصغير ربما عظم فعظّم كالعصب يؤخذ من الميتة فيستعمل في القوس فيصير إلى حد كرامة عند الملك لحاجته إليه في القوة والبأس، ويستعمل في السروج فيصير مركباً للملوك والأشراف.

وأحب دمنة أن ينال المنزلة والكرامة من الملك وأن يعلم القوم أن ذلك ليس من قبل معرفة الأسد إياه ولكن لمروءته في نفسه ورأيه فقط، فقال: إن السلطان لا يقرّب الرجال لقرب آبائهم منه، ولا يباعدهم لبعدهم ولكنه ينزلهم على قدر ما عند كل امرئ منهم من المنافع. فإنه ليس شيء أقرب إلى الرجل من جسده فيعتل عليه بعضه فلا يدفع عنه تلك العلة إلا بدواء يؤتى به من بعد. والجرذ في البيت جار مجاور، فلما صار مؤذياً عوديَ ونفيَ. والبازيّ وحشيّ فلما صار نافعاّ اقتني واتخذ حتى أن الملك يحمله على يده.

فلما فرغ دمنة من كلامه هذا ازداد به الأسد عجباً وأحسن عليه الرد والثناء وقال لجلسائه: إنه لا ينبغي للوالي أن يلحّ في تضييع حق ذي الحق ووضع ذي المنزلة عن منزلته، بل ينبغي للوالي أن يستدرك ما مضى من تفريطه في ذلك ولا يغترّ برضا المفعول به وإقراره بذلك. فإن الناس في ذلك رجلان: رجل أصل طباعه الشراسة، فهو كالحية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه لم يكن جديراً أن يغرّه ذلك فيعود إلى وطئها فلتدغه.

ورجل أصل طباعه السهولة، فهو كالصندل البارد الذي إذا أفرط في حكه عاد حاراً مؤذيا.

ثم إن دمنة لما استأنس بالأسد خلا به وقال له: إني قد رأيت الملك أقام بمكانه هذا زمنا لا يبرح منه فأنى ذلك؟

قال الأسد وكره أن يعلم دمنة أن ذلك منه جبن: لم يكن ذلك ليأس.

فبينما هما يتحاوران إذ خار الثور خواراً شديداً هيّج روح الأسد حتى أخبر دمنة بما في نفسه، فقال: هذا الصوت الذي أصمع لا أدري ما هو. غير أني أظن أن جثة صاحبه على قدر صوته، وأن قوته على قدر جثته. فإن كان ذلك كذلك فليس لنا هنا مكان ولا قرار.

قال دمنة: فهل راب الملك شيء غير هذا الصوت؟ 

قال الأسد: لم يريني شيء غيره.

قال دمنة: فليس الملك بحقيق أن يبلغ منه هذا الصوت إلى أن يدع مكانه. فإنه يقال: إن السكرَ الضعيف آفته الماء، وإن العقل آفته الصلف، والمروءة آفتها النميمة، والقلب الضعيف آفته الصوت الشديد والجلبة. وإن في بعض الأمثال بياناً من أن ليس كل الأصوات تُهاب. 

قال الأسد: فما هذا المثل؟