باب الأسد والثور - مثل الناسك واللص والثعلب وامرأة الإسكاف

قال كليلة: زعموا أن ناسكاً أصاب من بعض الملوك كسوة فاخرة فبصُرَ به لص من اللصوص فرغب في الكسوة التي كسيها الناسك، فانطلق إليه قائلاً: إني أريد أن أصحبك وأتعلم منك وآخذ من أدبك. فصحبه متشبّهاً بالنساك. وكان يرفق بالناسك ويتلطف في خدمته ويوقره حتى أصاب منه غفلة فاحتمل تلك الكسوة فذهب بها. فلما فقد الناسك الرجل والثياب عرف أنه صاحبه، فطلبه في مظانّه حتى توجه في طلبه نحو مدينة من المدائن. فمرّ في طريقه على وعلين يتناطحان فطال انتطاحهما حتى سالت الدماء منهما. فجاء الثعلب يلغ في تلك الدماء. فبينما هو مكبّ عليها إذ التفّ عليه الوعلان ينطحانه وهو غافل فقتلاه.

ومضى الناسك حتى انتهى إلى المدينة فدخلها ممسياّ. ولم يجد مأوىً ولا مبيتاً إلا بيت امرأة أرملة فنزل بها. وكان لتلك المرأة عبد يتاجر بمالها، فعرفت أنه يخونها ويضرها فاضطغنت عليه واحتالت لقتله ليلة أضافت الناسك. فسقّت العبد من الخمر صرفاً حتى غلب فنام. فلما استثقل نوما عمدت المرأة إلى سمّ كانت قد هيّأته فجعلته في قصبة لتنفخه في أنفه. فوضعت إحدى طرفي القصبة في أنفه والطرف الآخر في فيها. فبدره من قبل أن تنفخ في القصبة عطاس خرج من أنفه فطار ذلك السم في حلق المرأة فوقعت ميتة، وذلك كله بعين الناسك. ثم أصبح غادياً في طلب ذلك اللص فأضافه رجل إسكاف وقال لامرأته: انظري هذا الناسك فكرّميه وأحسني القيام عليه فإنه قد دعاني بعض أصحابي إلى دعوة. فاطلق الإسكاف.

وكان بين المرأة وزوجة رجل حجّام صداقة فأرسلت إليها تدعوها إلى وليمة وتخبرها أن زوجها عند أصحابه، وأنه لا يرجع إلا سكران في منتصف الليل، فلهمي لنقضي بعض ساعات في القصف. إلا أن الإسكاف عاد بعد قليل وطلب العشاء وكانت امرأته تقاعدت عن تهيئته لتستعد لاستقبال صديقتها امرأة الحجّام. فاعتذرت له فلم يقبل عذرها فأقبل عليها وضربها ضرباً مبرحاً وأوثقها إلى سارية في البيت وذهب ونام لا يعقل.

ثم جاءت امرأة الحجام بعد ساعة لمسامرة صديقتها امرأة الإسكاف فوجدتها مربوطة، فقالت لها: إن زوجي عاد قبل أوانه وربطني بهذه السارية فإن شئت أن تحسني إليّ وتحليّني ربطتك مكاني حتى أعد الوليمة كما وعدتك. ففعلت امرأة الحجام ذلك. فاستيقظ الإسكاف قبل رجوع امرأته فناداها في الظلام مراراً باسمها فلم تجبه امرأة الحجام مخافة أن يعرف صوتها. ثم دعاها وسمّاها مراراً. كل ذلك وامرأة الحجّام لا تجيبه فازداد غضبا، وقام إليها بالسكين واحتزّ أنفها وقال لها: خذا هذا جزاء عنادك، وهو لا يشك في أنها امرأته.

ثم رجعت امرأة الإسكاف فرأت صنع زوجها بامرأة الحجام فساءها ذلك وحلت وثاقها وأوثقت نفسها مكانها وأخذت الأخرى أنفها وانطلقت إلى بيتها خائبة. كل ذلك بعين الناسك وسمعه.

ثم إن امرأة الإسكاف رفعت صوتها فدعت ربها وتضرعت إليه وجعلت تبتهل وتقول: اللهم إن كان زوجي قد ظلمني فأعي عليّ أنفي صحيحاً. فقال لها زوجها: ما هذا الكلام يا ساحرة. فقالت: قم أيها الظالم فانظر إلى عملك وتغيير الله عليك ورحمته إياي، فها قد عاد إلي أنفي صحيحاً. فقام وأوقد ناراً ونظر إلى امرأته فوجد أنفها صحيحاً فباء بالذنب إلى ربه واعتذر إلى امرأته وسألها ان ترضى عنه.

أما امرأة الحجام فلما انتهت إلى بيتها حارت في أمرها وقالت: ما عذري عند زوجي وعند الناس في جدع أنفي؟ فلما كان السَّحر استيقظ زوجها فناداها أن ائتيني بمتاعي فإني أريد أن أحجم بعض أشراف المدينة. فلم تأته من متاعه بشيء إلا بالموسى. فغضب الحجام فرماها بالموسى في الظلمة فرمت بنفسها إلى الأرض وصرخت وولولت: أنفي.. أنفي. فلم تزل تصيح حتى جاء أهلها وذو قرابتها فانطلقوا بزوجها إلى القاضي فقال له: ما حملك على جدع أنف امرأتك؟ فلم يكن له حجة يحتج بها فأمر القاضي بالحجام أن يعاقب.

فلما قدّم للعقوبة قام الناسك فتقدم إلى القاضي وقال له: لا يشتبهنّ عليك أيها القاضي، فإن اللص ليس هو من سرقني، وإن الثعلب ليس الوعلان قتلاه، وإن الأرملة ليس السم قتلها، وإن امرأة الحجام ليس زوجها جدعها، بل نحن جميعاً فعلنا ذلك بأنفسنا. فسأله القاضي عن تفسير ذلك فأخبره، فأمر القاضي بإطلاق الحجام.

قال كليلة لدمنة: وأنت أيضا فإنما فعلت ذلك بنفسك.

قال دمنة: قد سمعت هذا المثل وهو شبيه بأمري. ولعمري ما ضرني أحد سوى نفسي، ولكن ما الحيلة الآن؟

قال كليلة: أخبرني أنت عن رأيك في ذلك؟

قال دمنة: أما أنا فلست ألتمس اليوم إلا أن أعود إلى منزلي. فإن خلالاً ثلاثاُ للعاقل حقيق بالنظر فيها والاحتيال له: منها النظر فيما مضى من الضر والنفع فيحترس من الضر الذي أصابه أن يعود إليه ويعمل الطيب لالتماس النفع الذي مضى عليه ويحتال لاستقباله. ومنها النظر فيما هو مقيم عليه من المنافع والمضار فيعمل في تلك المنافع والاستثمار منها لئلا تزول عنه، والخروج من تلك المضار جهده. ومنها النظر في مستقبل ما يرجو من قبل النفع وما يتخوف من قبل الضر ثم التأني لما يرجو من ذلك والتوقي لما يخاف منه. وإنما نظرت في الأمر الذي أرجو أن تعود به منزلتي التي كنت عليها فلم أجد لذلك إلا الاحتيال على الثور حتى يفارق الحياة. فإن ذلك صالح لأمري، وعسى مع ذلك أن أكون خيراً للأسد منه، فإنه قد أفرط في أمر الثور إفراطاً قد هجّن رأيه فأضغن عليه عامة قرائبه.

قال دمنة: بلى إن الأسد قد أغرم بالثور إغراما شديدا حتى استخف بغيره من نصحائه وقطع عنهم منافعه. وإنما يؤتى السلطان من قبل ستة أشياء: منها الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخُرق. فأما الحرمان فإنه يحرم صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والأمانة، ويبعد من هو كذلك منهم. وأما الفتنة فهو يجر الناس إلى وقوع الفتن والحرب بينهم. وأما الهوى فالإغرام بالنساء والحديث أو بالشراب أو بالصيد وما أشبه ذلك. وأما الفظاظة فإفراط الحدة حتى يجمح اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من الشر والموتان والغربق ونقص الثمرات وأشباه ذلك. وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة. وغن الأسد قد أغرم بالثور إغراماً شديدا، وهو الذي ذكرت لك أنه خليق أن يشينه ويضره في أمره.

قال كليلة: وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد وأكثر أصدقاء.

قال دمنة: لا تنظرن إلى صغري وضعفي، فإن الأمور ليست تجري على القوة والشدة والضعف. وكم من صغير ضعيف قد بلغ بحيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عن الأسد. أولم يبلغك أن غراباً احتال لأسود حتى قتله برفقه ورأيه.

قال كليلة: وكيف كان ذلك؟