باب الأسد والثور - مثل السمكات الثلاث

قال دمنة: زعموا أن غديراً كان فيه ثلاث سمكات عظام، وكان ذلك الغدير بفجوة من الأرض لا يقربها أحد. فلما كان ذات يوم اجتاز من هناك صيادان فأبصرا الغدير فتواعدا أن يرجعا بشبكتهما فيصيدا تلك السمكات الثلاث التي فيه. فسمعت السمكات قولهما. وإن سمكة منهن كانت أعقلهن ارتابت وتخوّفت وحاولت الأخذ بالحزم فخرجت من مدخل الماء الذي كان يخرج من الغدير إلى النهر فتحوّلت إلى مكان غيره. وأما الثانية التي كانت دونها في العقل فإنها تأخرت في معالجة الحزم حتى جاء الصيادان فقالت: قد فرّطت وهذه عاقبة التفريط. فرأتهما وعرفت ما يريدان فوجدتهما قد سدّا ذلك المخرج فقالت: قد فرّطت فكيف الحيلة على هذا الحال للخلاص، وقلما تنجح حيلة العجلة والإرهاق. ولكن لا نقنط على حال ولا ندع ألوان الطلب. ثم إنها، للحيلة، تماوتت فطفت على الماء منقلبة على ظهرها فأخذها الصيادان يحسبان أنها ميتة فوضعاها على شفير النهر الذي يصب في الغدير فوثبت في النهر فنجت من الصيادين. وأما العاجزة فلم تزل في إقبال وإدبار حتى صيدت.

وأنا أرى أيها الملك معالجة الحزم في الحيلة كأنك تراه رأي العين فتحسم الداء قبل أن تُبتلى به وتدفع الأمر قبل نزوله.

قال الأسد: قد فهمت مثلك ولكني لا أظن الثور يغشّني ولا يبتغي لي الغوائل بعد حسن بلائي عنده وصنيعي إليه، وإنه لا يستطيع أن يتذكر مني سيئة أتيتها إليه ولا حسنة رددتها عنه.

قال دمنة: إنه لم يفسد عقله عليك إلا فضل إكرامك إياه حتى بلغ في نفسه ما طمع في مرتبتك. فإن اللئيم العاجز لا يزال مناصحاً نافعاً حتى يُرفع إلى المنزلة التي ليس هو لها بأهل، فإذا بلغها رغب عنها ومنته نفسه وما فوقها بالغش والخيانة. وإن اللئيم الكفور لا يخدم السلطان ولا ينصح له إلا عن فرق أو حاجة. فإذ استغنى وأمن وعاد إلى جوهره وأصله كذنب الكلب الأعقف الذي يُربط ليقوّم لا يزال مستقيماً ما دام مربوطاً. فإذا أطلق عاد لانحنائه وعوجه.

واعلم أيها الملك أن من لم يقبل من نصحائه ما يثقل عليه في ما ينصحون له فيه لم يحمد غبّ رأيه، وكان كالمريض الذي يدع ما تنعت له الأطباء ويعمد لشهوة نفسه. وإن من الحق على وزير السلطان الإبلاغ في التحضيض له على ما يشتهيه ويريده والكف عما يضره ويشينه. وخير الإخوان والأعوان أقلهم مصانعة في النصيحة. وخير الأعمال أجملها عاقبة. وخير النساء الموافقة لبعلها. وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار. وخير الأصدقاء من لا يخاصم. وخير الأغنياء من لا يكون للحرص أسيرا. ثم قال: لو أن امرأً توسد الحيات وافترش النار كان أخلق لأن يهنئه النوم منه إذا أحس من صاحبه عداوة يريد بها نفسه يغدو بها عليه ويروح. وأعجز الملوك آخذهم بالهويناء. وأقلهم نظراً في الأمور أشبههم بالفيل الهائج الذي لا يلتفت إلى شيء، فإن حدث به أمر تهاون به.

قال الأسد: لقد أغلظت في القول، وقول الناصح مقبول وإن غلظ. ولكن شتربة وإن كان عدوا كما تقول فليس يستطيع لي ضراً. وكيف يستطيع ذلك وهو آكل عشب وأنا آكل لحم؟ وإنما هو لي طعام ولست أرى علي منه خوفاً ولا أجد إلى الغدر به سبيلا بعد الأمان الذي جعلت له، وبعد حرمة النصيحة وما كان من إكرامي إياه وحسن ثنائي عليه عند جميع جندي. فإني إذا فعلت ذلك جهّلت نفسي وغدرت بذمتي.

قال دمنة: لا تغترنّ بقولك "هو لي طعام". فإن النور إن لم يستطعك بنفسه احتال لك بغيره. وقد كان يقال: إن أضافك ضيف ساعة وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك أن يصل إليك منه أو في سببه شرّ كما أصاب القملة في ضيافة البرغوت.

قال الأسد: وما أصاب القملة؟