باب الأسد والثور - مثل الذئب والغراب وابن آوى والجمل

قال الثور: زعموا أن أسداً كان في أجمة مجاورة طريقاً من طرق الناس له أصحاب ثلاثة: ذئب وابن آوى وغراب. وأن أناساً من التجار مروا في ذلك الطريق فتخلف عنهم جمل لهم فدخل الأجمة حتى انتهى إلى الأسد فقال له الأسد: من أين أقبلت؟ فأخبره بشأنه. فقال له: ما تريد؟ قال: أريد صحبة الملك. قال: فإن أردت صحبتي فاصحبني في الأمن والخصب والسعة.

فأقام الجمل مع الأسد حتى إذا كان يوم توجّه الأسد في طلب الصيد فلقي فيلاً فقاتله قتالاً شديدا. ثم أقبل الأسد تسيل دماؤه مما جرحه الفيل بنابه فوقع مثخناً لا يستطيع صيداً. فلبث الذئب وابن آوى والغراب أياماً لا يصيبون شيئاً مما كانوا يعيشون به من فضول الأسد، وأصابهم جوع وهزال شديد فعرف الأسد ذلك منهم، فقال: جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون. فقالوا: ليس همّنا أنفسنا ونحن نرى بالملك ما نرى ولسنا نجد للملك بعض ما يصلحه.

قال الأسد: ما اشك في مودتكم وصحبتكم ولكن إن استطعتم فانتشروا فعسى أن تصيبوا صيداً فتأتوني به. ولعلي أكسبكم ونفسي خيراً. فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد، فتنحوا ناحية وائتمروا بينهم وقالوا: ما لنا ولهذا الجمل الآكل العشب الذي ليس شأنه شأننا ولا رأيه رأينا؟ ألا نزيّننّ للأسد أن يأكله ويعطعمنا من لحمه؟ قال ابن آوى: هذا ما لا تستطيعان ذكره للأسد، فإنه قد أمّن الجمل وجعل له ذمة. قال الغراب: اقيما مكانكما ودعاني والأسد.

فانطلق الغراب إلى الأسد. فلما رآه قال له الأسد: هل حصّلتم شيئاً. قال له الغراب: إنما يجد من به ابتغاء ويبصر من به نظر. أما نحن فقد ذهب منا البصر والنظر لما أصابنا من الجوع. ولكن قد نظرنا إلى أمر واتفق عليه رأينا، فإن وافقتنا عليه فنحن مخصبون.

قال الأسد: ما ذلك الأمر؟ قال الغراب. هذا الجمل الآكل العشب المتمرغ بيننا في غير صنعة..

فغضب الأسد وقال: ويلك ما أخطأ مقالتك وأعجز رأيك وأبعدك من الوفاء والرحمة. وما كنت حقيقاّ أن تستقبلني بهذه المقالة. ألم تعلم أني أمّنت الجمل وجعلت له ذمة؟ ألم يبلغتك أنه لم يتصدق المتصدق بصدقة أعظم من أن يجير نفساً خائفة وأن يحقن دما؟ وقد أجَرْت الجمل ولست غادراً به. قال الغراب: إني لأعرف ما قال الملك. ولكن النفس الواحدة يُفتدى بها أهل البيت، وأهل البيت يفتدى بهم القبيلة، والقبيلة يفتدى بها المصر، والمصر فدى الملك إذا نزلت به الحاجة. وإني جاعل للملك من ذمته مخرجاً فلا يتكلف الأسد أن يتولى غدراً ولا يأمر به، ولكنا محتالون حيلة فيها وفاء للملك بذمته وظفر لنا بحاجتنا. فسكت الأسد. فأتى الغراب أصحابه فقال: إني قد كلّمت الأسد حتى أقرّ بكذا وكذا، فكيف الحيلة للجمل إذا أبى الأسد أني يليَ قتله بنفسه أو أن يأمر به؟ قال صاحباه: برفقك ورأيك نرجو ذلك.

قال الغراب: الرأي أن نجتمع والأسد والجمل ونذكر حال الأسد وما أصابه من الجوع والجهد، ونقول: لقد كان إلينا محسنا ولنا مكرما فإن لم ير منا اليوم خيراً وقد نزل به ما نزل اهتماماً بأمره وحرصاً على صلاحه أنزل ذلك منا على لؤم الأخلاق وكفر الإحسان. ولكن هلموا فتقدموا إلى الأسد فنذكر له حسن بلائه عندنا وما كنا نعيش به في جاهه، وأنه قد احتاج إلى شكرنا ووفائنا. وأنا لو كنا نقدر له على فائدة نأتيه بها لم ندّخر ذلك عنه. فإن لم نقدر على ذلك بأنفسنا له مبذولة. ثم ليعرض عليه كل واحد منا نفسه وليقل: كلني أيها الملك ولا تمت جوعا. فإذا قال ذلك قائل أجابه الآخرون وردّوا عليه مقالته بشيء يكون له فيه عذر فيسلم وتسلمون إلا الجمل، ونكون قد قضينا ذمام الأسد.

ففعلوا ذلك ودعوا الجمل إلى نادي الأسد، ثم تقدموا إليه فبدأ الغراب وقال: أحق أن تطيب أنفسنا لك، فإنا بك كنا نعيش وبك نرجو عيش من بعدنا من أعقابنا. وإن أنت هلكت ليس لأحد منا بعدك بقاء ولا لنا في الحياة خير. فأنا أحب أن تأكلني، فما أطيب نفسي لك بذلك. فأجابه الذئب والجمل وابن آوى أن اسكت فما أنت وما في أكلك شبع للملك. قال ابن آوى: أنا مشبع الملك. قال الذئب والجمل والغراب: أنت منتن البطن خبيث اللحم فنخاف إن أكلك الملك أن يقتله خبث لحمك. قال الذئب: لكني لست كذلك فليأكلني الملك. قال الغراب وابن آوى والجمل: قد قالت الأطباء: من أراد قتل نفسه فليأكل لحم الذئب فإنه يأخذه منه الخناق. وظن الجمل أنه إذا قال مثل ذلك يلتمسون له مخرجاً كما صنعوا بأنفسهم ويسلم ويرضى الأسد. قال الجمل: لكن أيها الملك لحمي طيب ومريء وفيه شبع للملك. فقال الذئب وابن آوى: صدقت وتكرمت وقلت ما نعرف. فوثبوا عليه فمزقوه.

وإنما ضربت لك هذا المثل عن الأسد وأصحابه لعلمي بأنهم إن اجتمعوا على هلاكي لم أمتنع منهم. ولو كان رأي الأسد فيّ غير ما هو عليه لم يكن في نفسه إلا الخير. فإنه قد قيل: إن خير السلطان من أشبه النسر حوله الجيف لا من أشبه الجيف حولها النسور. ولو أن الأسد لم يكن في نفسه إلا الرحمة والحب لم تلبس عليه الأقاويل إذا إذا كثرت فتذهب برقته ورحمته حتى يستبدلهما بالشرارة والغلظة. ألا ترى أن الماء ألين من القول وأن الحجر أشد من القلب، وليس يلبث الماء إذا طال تحدره على الحجر الصلد أن يؤثر فيه.

قال دمنة: فماذا تريد أن تصنع؟

قال شتربة: ما إن أرى إلا أن أجاهده. فإنه ليس للمصلي في صلاته الدهر ولا أرى للمتصدق في صدقته ولا للورع في ورعه مثل الجهاد إذا جاهدوا على الحق. فإنه من جاهد عن نفسه ودافع عنها كان أجره في ذلك عظيماً وذكره رفيعاً إن ظفر أو ظُفر به.

قال دمنة: لا أرى ذلك، فإنه لت ينبغي القتال مع الأعداء إلا بعد ذهاب الحيل وانقطاعها. فإن معالجة القتال قبل الاستعداد بغيٌ وخفة. وقد قيل: لا تحقرنّ عدواً وإن كان حقيراً ضعيفاً مهيناً، ولا سيما إذا كان ذا حيلة يقدر على أعوان، فكيف بالأسد مع جرأته وشدته، فإنه من احتقر ضعيفاً لضعفه أصابه ما أصاب المتوكل بالبحر مع الطيطوى.

قال شتربة: وكيف كان ذلك؟